"الزمان مكان سائل،
والمكان زمان متجمد"
ابن عربي
لا شيء.. لا شيء.. لا شيء أبدا، غير الخواء المُمِضّ المريع يطوف من حولي مالئا فضاء الغرفة. لكأني بالأشياء تخطو إلى نقطة واحدة: الخواء.. الخـ.. و.. ا.. ء. ومهما أفعل، أجده يزداد إيغالا.. يلوك الروح عنوة، يقضمها في تأنٍّ، ويلون بالعتمة ما تبقى من أحاسيس مشوشة، تنذر بصقيع تتجمد معه أطراف الليل وال
أذرَع الغرفة، كلَّ البيت، بل مسارب مجهولة تتيه في قفر كينونتي المُعطّلة، ولا ألوي على شيء بعينه. ألتفت ذات اليمين وذات الشمال، إلى الأعلى ثم إلى الأسفل، وأحدق ملء عيني، كل الأثاث والأشياء حيث وضعتها ورتبتها من قبل.. ولا تزال الجدران كما هي، منتصبة تحمل السقف وترتكز بأعمدة على الأرضية. إنما تبدو لبرهة رخوة مائلة، وأنا أقف تارة وأسير أخرى. أسيرةَ هواجس تتملكني وتستبد بي..
لماذا كل هذا؟ ولماذا الآن بالضبط؟ تراه من باب الصدفة، أم من قبيل التآمر؟؟ لكن تآمر على من ولماذا؟؟ تراني المقصودة أيضا في قول الأعرابي ".. والله ما المقصود إلا أنا!" وفي شعور بالأشياء بدأ يختل ويضيع.
أخذت ألمسني علني أحس بجسمي، وضعت يدي فالْتسعَت وولَّت هاربة إليّ. عيناي اللتان لم يصل إليهما الجمود بعد، استقرتا على أصابع يدي. كانت ملتهبة قانية عند الأطراف. وشيئا فشيئا، اِنعدم إحساسي بأي شيء. أضغط بكل قوتي على أصابعي وعلى أطرافي من غير جدوى، ومن غير أي رد فعل طبيعي..
اِلتبس علي الأمر، وشككت في قدرة إدراكي، وقلت في نفسي هي أضغاث يقظة ليس غير. أنا لست في تمام الصحو، فرُحْت أقرصني علني أشعر بشيء ينقذني من هول الموقف. يا إلهي! دائما لا شيء.. صرخت بأعلى صوتي لم أسمع شيئا.. ولا من مجيب.
ذهبت إلى المرآة، حدقت مليا حد الهوس والجنون، تراقص عليها وجه شاحب، وصور باهتة تتماوج ساخرة مني في علو وهبوط؛ وعلى الحافة هناك.. أجل هناك.. مقصلة تتأهب لقطع رؤوس فكرة لم تينع بعد. وضعت يدي أخفي وجهي وما تراه عيناي من رعب وضياع سحيق على المرآة.
ولّيت راجعة إلى المطبخ، أردت أن أجرب مدى تحمل أعضائي وهي تحترق. ومن غير تردد، أدرت زر الموقد، أشعلت النار ووضعت يدي قريبا من اللهب. أخذت يدي في الاحمرار، وبدأت تحترق.. ومع كل هذا، لم أحس بأنني فعلا أتألم أو أنه يجب إبعاد يدي عن النار. ولقد ذهبت في التيه بعيدا. إذ أخذت سكينا، تهيأ لي أن أوخِز به أي منطقة من جسدي لأرى مدى استجابتي. ضغطت أكثر فأكثر.. لكن عبثا!
خفت أن يتسرب هذا اللاإحساس إلى قدرة تمييزي وإدراكي للأشياء. لكن قلت في نفسي، ما دمت أستغرب ما يقع فهناك أمل ما في تجاوز الموقف.
راودتني فكرة أن أكمل قراءة كتاب، أخذته، تفرست في صفحاته، فبدت لي الأفكار باهتة غريبة عما كانت عليه وأنا أقرأه لأول مرة. حتى أن منطق تسلسل العبارات والأفكار وتطور الأحداث لم يكن هو نفسه. قرأت كثيرا كي أفند شكي باليقين. أردت التأكد من شيء حيرني، هل الكتاب ما تغير أم أنا من تغير؟ هل تغير منطق الأشياء من حولي، أم تراه منطقي الذي تسربت إليه العدوى؟؟ عدوى اللاإحساس.. وَجِلْت وأرعبتني الفكرة!. كيف سأستمر هكذا من غير إحساس؟
ألقيت بالكتاب جانبا. أخذت أنظر إليه في استغراب وأخذ ينظر إلي في آخر، وكأني بلسان حاله يقول: ما بك؟
- بي انعدام الإحساس ألا ترى؟
- قد تكون حالتك عرضية وستمرق على خير بعد وقت.. خذيني بهدوء على راحتيك وحاولي ثانية.
- ليتني أستطيع، لم أعد أعرف كيف أقرأك... أجدني في حاجة ماسة إلى شيء مازلت أجهله، يأخذني مني، من كل شيء. من وجودي العليل. شيء يعيد لي إحساسي المنعدم من كل شيء. شيء يعيدني إليّ.. أين أضعتُني؟ في منعطف يا ترى؟ أم في فكرة مجنونة؟ أم في كتاب؟ وأين أجدني؟ وكيف؟ أنا لم أعد تلك التي أعرف، وتلك التي أعرف الآن لم تعد أنا. هي وأنا لا نعرف بعضنا ولم نعد نعرف معا شيئا..!
بقي ينظر إلي بالاستغراب نفسه ولم يضف شيئا.
تركته مبتعدة. ألقيت بجسمي على السرير. اِنسدل الليل ثقيلا من حولي. أطلت التحديق في صور تتشكل بتلقائية، وتتناسخ بسرعة على سقفه وجدرانه؛ إلى صمته وصراخه أعرت السمع، إلى سكونه المتأهب للانفجار، وإلى انفجاره الساكن سكون القبور آويتُ. داهمتني آلاف الهموم، وبالقلب الواهن نبضات أسمعها من حين إلى آخر، تُحْدِث في أذني طنينا لا يحتمل. وما زلت أستبشر خيرا، إذ لم أفقد إحساسي تماما.
أخذتني الأفكار بعيدا.. أحسستني بلا وزن بلا هوية بلا جنس بلا شكل وبلا هدف. جسم هلامي فقد الملامح والأبعاد. وأجدني عن غير رغبة أضحك من اللاوجود الذي صار يفكر محاولا أن يعي ذاته. وأسألني كيف ستكون تلك الأفكار الآتية من العدم؟ وهل هناك عدم فعلا؟ أليس الإقرار بالعدم إقرار بوجوده؟ وأن هذا الوجود العدمي يشبه كثيرا وجودنا، وأن لكل وجود علة، وأن ليس للعدم وجود بالمفهوم المادي المتعارف عليه. وما هو إلا وجه آخر لوجودنا...؟؟
يميد مني منطق سويٌّ معقول لكل ما يجري. هذا ما استعطت استجلاءه بالقليل من الإحساس المتزن الذي أظنه بقي معي وفي حوزتي.
هاربة من ظلي المنكسر الساقط مني، ومن عجزي الحتمي، ومن جبني الذريع في مواجهة كل التغيرات الغامضة والتحولات الحاصلة فيّ وفيما يطوف من حولي، فيأخذني الإمعان في الهروب إلى مغادرة السرير. وبتفكير العاجزِ المُشوَّش، جلست أمام شاشة الحاسوب.
مادام يرفضني المكان والزمان والواقع، وما تفتأ روحانية الأشياء تتلاشى مني، والإحساس بشكل طبيعي، أصبح عند الحاجة متعذرا على مستوى إدراكي واتزان رؤيتي، فكرت بتلقائية أن أطرق عوالم افتراضية قد تنسينى علتي. أو عساني أن أقيس، كمحاولة أخيرة مني، درجة التشوه أو المسخ الذي أصاب منطقة الشعور لدي.
كتبت "البسودونيم" و"المو دو باس"، انفتحت الصفحة. على لوح الميسنجر، يظهر عماد متاحا "أون لاين"، فلم أتردد في مخاطبته:
- سناء: أهلا عماد، مساء الخير
- عماد: أهلا بك سناء كيف حالك؟ اشتقت إليك كثيرا..
- سناء: شكرا لك، أنا بخير لكنني لست متأكدة من ذلك تماما.
- عماد: ما بك عزيزتي هل أنت مريضة؟
- سناء: لا ليس تماما. أحس بوجع في رأسي فقط.
- عماد: خذي أي مهدئ وسوف ترتاحين.
- سناء: سأفعل ذلك عماد.
- عماد: حبيبتي ألم تشتاقي إلي كما أنا مشتاق إليك دائما؟
- سناء: حبيبتك؟!
- عماد: نعم حبيبتي، أيساورك الشك في ذلك؟
- سناء: ليست مسألة شك عماد، إنما أنا لست حبيبة لأحد، وليس لدي أي حبيب هنا.. أنا لدي أصدقاء وصديقات فحسب. ولا أفكر بحب نِتّي أو أحاسيس عشق افتراضية، ولو أراد ذلك أن يحصل لي، فأنا أفضل أن أعيشه واقعا ملموسا وليس على نافذة إلكترونية تكاد تكون وهمية...
- عماد: حبيبتي، ما بيننا ليس نتِّيا فقط، إنما للضرورة أحكام.. ثم نحن في عالم يحرق المسافات.
- سناء: ويحرق المشاعر أكثر.
- عماد: لا بل يتيح لها فضاء كي تتألق وتحيا في انتظار تحققها على أرض الواقع..
- سناء: ومن يدريك أنها ستتحقق؟
- عماد: لم لا؟ ثم يكفي أننا عشناها بالشكل المتاح، ونسينا بالحب للحظات كل العراقيل القائمة..
- سناء: ههههههه حب؟ ترهات وعطالة وجودية ليس غير. لك قناعاتك الخاصة وليس من المفروض أن أفكر مثلك..
- عماد: لكنك حبيبتي تحسين بي، والحب أقوى من كل القناعات. خذيني بين ذراعيك وفي حضنك ودعينا نسكر عشقا ونرشف شهدا، نحطم الحواجز ومرارة الوحدة، نستبق الأيام.. نقرب البعد. خذيني سناء.. خذيني حبيبتي يا ألله.. ما أحلاك..ما..
- سناء: كُفَّ عماد وإلا سأغلق النافذة وأغادر.. توقف أرجوك.
- عماد: ما بك حبيبتي؟ ما الذي غيرك؟؟ لم تكوني هكذا أبدا!
- سناء: أنا لم أتغير عماد، وكل ما أعرفه أنني.. أنني لا أعرف شيئا..
- عماد: أنا أيضا لست أدري ما الذي حل بك. حبيبتي، يبدو أنك جد متعبة، خذي حبة مهدئ ونامي الآن لترتاحي وملتقانا غدا.
- سناء: حاضر عماد، ليلتك طيبة.
- عماد: وليلتك حبيبتي أتمنى أن تتحسني بسرعة.
- سناء: مع السلامة.
- عماد: مع ألف سلامة حبيبتي.
أغلقت النافذة والجهاز، وانغلقت بدوري على حيرة مدمرة. يا إلهي! من هذا العِمادُ الذي يدعي أنني حبيبته؟ إذا كان ما يقوله صحيحا، فالسلام على ذاكرتي، ثم يجب أن أسلم بأن ما يفتك بجسدي منذ قليل، قد حل بقواي العقلية أيضا، وأنه بعد لحظات يسيرة، سينعدم تمييزي وقوة عقلي كما انعدم إحساسي.
كيف أنسل مما يداهمني من أفكار؟ كيف أجلو عني أشباح من فراغ تطاردني؟ كيف أفك خيوط أفقي المتداخلة؟ وماذا أقول لزوجي حين يعود حالَما يسألني عما جرى ويجري لي؟
لقد ذهب في مهمة منذ أسبوع إلى الجنوب، ضمن مجموعة باحثين لدراسة بعض التضاريس هناك. لحسن حظي أنني أتذكر ذلك، لكن متى سيعود؟ متى ســ يـ عــووود؟ أبحث في ذاكرتي عن الجواب بلا أمل. أرجئ التذكر إلى حين، ثم أعاوده من جديد عله ينفعني. وها أنا لا أتذكر سوى أنه لن يتأخر بمهمته. هذا آخر ما قاله لي وهو يغادر ذاك الصباح الذي لم أعد أعرف متى كان.
بدأ التعب يستبد بي. لا أطيق كل ما يحدث لي.. سأريحني مني الآن. أخذت العلبة، تناولت حبة وحاولت الاستسلام للنوم. النوم على عكسي لم يستسلم.. تقلب كثيرا معي. تأفّف. لم أعد أعرف من منا يلتذ بتعذيب الآخر وتأريقه. صور التذاذ ممتعة وهمسات دافئة جنحت بخيالي لوقت قصير، لكن الفأس التي تحفر برأسي تلك السراديب الطويلة الأبدية، لم تزدها إلا ألما وتشنجا. لم يشبه النوم في شيء ما اعتراني. كان أقرب منه إلى هذيان اليقظة. أخيرا، غادرت عناد السرير معي.
اِلتجأت إلى مكتبي الصغير الذي يؤثث زاوية الغرفة، كان ضوء النافذة المطلة عليه، يرسل أولى خيوطه الصباحية، أخذت ورقة وقلما وكتبت: ماذا يحدث لي؟
لا شيء..لا شيء.. لا شيء أبدا، غير الخواء المُمِضّ المريع يطوف من حولي مالئا فضاء الغرفة. لكأني بالأشياء تخطو إلى نقطة واحدة: الخواء.. الخـ.. و.. ا.. ء. ومهما أفعل، أجده يزداد إيغالا.. يلوك الروح عنوة، يقضمها في تأنٍّ، ويلون بالعتمة ما تبقى من أحاسيس مشوشة، تنذر بصقيع تتجمد معه أطراف الليل والنهـــ....
فيما يصل إلى سمعي صرير الباب وهو يفتح، إنه حتما هو، لقد وصل باكرا هذه المرة! يتقدم نحوي. يمد يديه، يسألني وهو يعانقني: سناء، لم تكوني بخير أمس.. كيف أنت الآن حبيبتي؟!
* من المجموعة القصصية ( انتظار حب الرشاد) عن مطبعة سفي بريس 2015.
والمكان زمان متجمد"
ابن عربي
لا شيء.. لا شيء.. لا شيء أبدا، غير الخواء المُمِضّ المريع يطوف من حولي مالئا فضاء الغرفة. لكأني بالأشياء تخطو إلى نقطة واحدة: الخواء.. الخـ.. و.. ا.. ء. ومهما أفعل، أجده يزداد إيغالا.. يلوك الروح عنوة، يقضمها في تأنٍّ، ويلون بالعتمة ما تبقى من أحاسيس مشوشة، تنذر بصقيع تتجمد معه أطراف الليل وال
أذرَع الغرفة، كلَّ البيت، بل مسارب مجهولة تتيه في قفر كينونتي المُعطّلة، ولا ألوي على شيء بعينه. ألتفت ذات اليمين وذات الشمال، إلى الأعلى ثم إلى الأسفل، وأحدق ملء عيني، كل الأثاث والأشياء حيث وضعتها ورتبتها من قبل.. ولا تزال الجدران كما هي، منتصبة تحمل السقف وترتكز بأعمدة على الأرضية. إنما تبدو لبرهة رخوة مائلة، وأنا أقف تارة وأسير أخرى. أسيرةَ هواجس تتملكني وتستبد بي..
لماذا كل هذا؟ ولماذا الآن بالضبط؟ تراه من باب الصدفة، أم من قبيل التآمر؟؟ لكن تآمر على من ولماذا؟؟ تراني المقصودة أيضا في قول الأعرابي ".. والله ما المقصود إلا أنا!" وفي شعور بالأشياء بدأ يختل ويضيع.
أخذت ألمسني علني أحس بجسمي، وضعت يدي فالْتسعَت وولَّت هاربة إليّ. عيناي اللتان لم يصل إليهما الجمود بعد، استقرتا على أصابع يدي. كانت ملتهبة قانية عند الأطراف. وشيئا فشيئا، اِنعدم إحساسي بأي شيء. أضغط بكل قوتي على أصابعي وعلى أطرافي من غير جدوى، ومن غير أي رد فعل طبيعي..
اِلتبس علي الأمر، وشككت في قدرة إدراكي، وقلت في نفسي هي أضغاث يقظة ليس غير. أنا لست في تمام الصحو، فرُحْت أقرصني علني أشعر بشيء ينقذني من هول الموقف. يا إلهي! دائما لا شيء.. صرخت بأعلى صوتي لم أسمع شيئا.. ولا من مجيب.
ذهبت إلى المرآة، حدقت مليا حد الهوس والجنون، تراقص عليها وجه شاحب، وصور باهتة تتماوج ساخرة مني في علو وهبوط؛ وعلى الحافة هناك.. أجل هناك.. مقصلة تتأهب لقطع رؤوس فكرة لم تينع بعد. وضعت يدي أخفي وجهي وما تراه عيناي من رعب وضياع سحيق على المرآة.
ولّيت راجعة إلى المطبخ، أردت أن أجرب مدى تحمل أعضائي وهي تحترق. ومن غير تردد، أدرت زر الموقد، أشعلت النار ووضعت يدي قريبا من اللهب. أخذت يدي في الاحمرار، وبدأت تحترق.. ومع كل هذا، لم أحس بأنني فعلا أتألم أو أنه يجب إبعاد يدي عن النار. ولقد ذهبت في التيه بعيدا. إذ أخذت سكينا، تهيأ لي أن أوخِز به أي منطقة من جسدي لأرى مدى استجابتي. ضغطت أكثر فأكثر.. لكن عبثا!
خفت أن يتسرب هذا اللاإحساس إلى قدرة تمييزي وإدراكي للأشياء. لكن قلت في نفسي، ما دمت أستغرب ما يقع فهناك أمل ما في تجاوز الموقف.
راودتني فكرة أن أكمل قراءة كتاب، أخذته، تفرست في صفحاته، فبدت لي الأفكار باهتة غريبة عما كانت عليه وأنا أقرأه لأول مرة. حتى أن منطق تسلسل العبارات والأفكار وتطور الأحداث لم يكن هو نفسه. قرأت كثيرا كي أفند شكي باليقين. أردت التأكد من شيء حيرني، هل الكتاب ما تغير أم أنا من تغير؟ هل تغير منطق الأشياء من حولي، أم تراه منطقي الذي تسربت إليه العدوى؟؟ عدوى اللاإحساس.. وَجِلْت وأرعبتني الفكرة!. كيف سأستمر هكذا من غير إحساس؟
ألقيت بالكتاب جانبا. أخذت أنظر إليه في استغراب وأخذ ينظر إلي في آخر، وكأني بلسان حاله يقول: ما بك؟
- بي انعدام الإحساس ألا ترى؟
- قد تكون حالتك عرضية وستمرق على خير بعد وقت.. خذيني بهدوء على راحتيك وحاولي ثانية.
- ليتني أستطيع، لم أعد أعرف كيف أقرأك... أجدني في حاجة ماسة إلى شيء مازلت أجهله، يأخذني مني، من كل شيء. من وجودي العليل. شيء يعيد لي إحساسي المنعدم من كل شيء. شيء يعيدني إليّ.. أين أضعتُني؟ في منعطف يا ترى؟ أم في فكرة مجنونة؟ أم في كتاب؟ وأين أجدني؟ وكيف؟ أنا لم أعد تلك التي أعرف، وتلك التي أعرف الآن لم تعد أنا. هي وأنا لا نعرف بعضنا ولم نعد نعرف معا شيئا..!
بقي ينظر إلي بالاستغراب نفسه ولم يضف شيئا.
تركته مبتعدة. ألقيت بجسمي على السرير. اِنسدل الليل ثقيلا من حولي. أطلت التحديق في صور تتشكل بتلقائية، وتتناسخ بسرعة على سقفه وجدرانه؛ إلى صمته وصراخه أعرت السمع، إلى سكونه المتأهب للانفجار، وإلى انفجاره الساكن سكون القبور آويتُ. داهمتني آلاف الهموم، وبالقلب الواهن نبضات أسمعها من حين إلى آخر، تُحْدِث في أذني طنينا لا يحتمل. وما زلت أستبشر خيرا، إذ لم أفقد إحساسي تماما.
أخذتني الأفكار بعيدا.. أحسستني بلا وزن بلا هوية بلا جنس بلا شكل وبلا هدف. جسم هلامي فقد الملامح والأبعاد. وأجدني عن غير رغبة أضحك من اللاوجود الذي صار يفكر محاولا أن يعي ذاته. وأسألني كيف ستكون تلك الأفكار الآتية من العدم؟ وهل هناك عدم فعلا؟ أليس الإقرار بالعدم إقرار بوجوده؟ وأن هذا الوجود العدمي يشبه كثيرا وجودنا، وأن لكل وجود علة، وأن ليس للعدم وجود بالمفهوم المادي المتعارف عليه. وما هو إلا وجه آخر لوجودنا...؟؟
يميد مني منطق سويٌّ معقول لكل ما يجري. هذا ما استعطت استجلاءه بالقليل من الإحساس المتزن الذي أظنه بقي معي وفي حوزتي.
هاربة من ظلي المنكسر الساقط مني، ومن عجزي الحتمي، ومن جبني الذريع في مواجهة كل التغيرات الغامضة والتحولات الحاصلة فيّ وفيما يطوف من حولي، فيأخذني الإمعان في الهروب إلى مغادرة السرير. وبتفكير العاجزِ المُشوَّش، جلست أمام شاشة الحاسوب.
مادام يرفضني المكان والزمان والواقع، وما تفتأ روحانية الأشياء تتلاشى مني، والإحساس بشكل طبيعي، أصبح عند الحاجة متعذرا على مستوى إدراكي واتزان رؤيتي، فكرت بتلقائية أن أطرق عوالم افتراضية قد تنسينى علتي. أو عساني أن أقيس، كمحاولة أخيرة مني، درجة التشوه أو المسخ الذي أصاب منطقة الشعور لدي.
كتبت "البسودونيم" و"المو دو باس"، انفتحت الصفحة. على لوح الميسنجر، يظهر عماد متاحا "أون لاين"، فلم أتردد في مخاطبته:
- سناء: أهلا عماد، مساء الخير
- عماد: أهلا بك سناء كيف حالك؟ اشتقت إليك كثيرا..
- سناء: شكرا لك، أنا بخير لكنني لست متأكدة من ذلك تماما.
- عماد: ما بك عزيزتي هل أنت مريضة؟
- سناء: لا ليس تماما. أحس بوجع في رأسي فقط.
- عماد: خذي أي مهدئ وسوف ترتاحين.
- سناء: سأفعل ذلك عماد.
- عماد: حبيبتي ألم تشتاقي إلي كما أنا مشتاق إليك دائما؟
- سناء: حبيبتك؟!
- عماد: نعم حبيبتي، أيساورك الشك في ذلك؟
- سناء: ليست مسألة شك عماد، إنما أنا لست حبيبة لأحد، وليس لدي أي حبيب هنا.. أنا لدي أصدقاء وصديقات فحسب. ولا أفكر بحب نِتّي أو أحاسيس عشق افتراضية، ولو أراد ذلك أن يحصل لي، فأنا أفضل أن أعيشه واقعا ملموسا وليس على نافذة إلكترونية تكاد تكون وهمية...
- عماد: حبيبتي، ما بيننا ليس نتِّيا فقط، إنما للضرورة أحكام.. ثم نحن في عالم يحرق المسافات.
- سناء: ويحرق المشاعر أكثر.
- عماد: لا بل يتيح لها فضاء كي تتألق وتحيا في انتظار تحققها على أرض الواقع..
- سناء: ومن يدريك أنها ستتحقق؟
- عماد: لم لا؟ ثم يكفي أننا عشناها بالشكل المتاح، ونسينا بالحب للحظات كل العراقيل القائمة..
- سناء: ههههههه حب؟ ترهات وعطالة وجودية ليس غير. لك قناعاتك الخاصة وليس من المفروض أن أفكر مثلك..
- عماد: لكنك حبيبتي تحسين بي، والحب أقوى من كل القناعات. خذيني بين ذراعيك وفي حضنك ودعينا نسكر عشقا ونرشف شهدا، نحطم الحواجز ومرارة الوحدة، نستبق الأيام.. نقرب البعد. خذيني سناء.. خذيني حبيبتي يا ألله.. ما أحلاك..ما..
- سناء: كُفَّ عماد وإلا سأغلق النافذة وأغادر.. توقف أرجوك.
- عماد: ما بك حبيبتي؟ ما الذي غيرك؟؟ لم تكوني هكذا أبدا!
- سناء: أنا لم أتغير عماد، وكل ما أعرفه أنني.. أنني لا أعرف شيئا..
- عماد: أنا أيضا لست أدري ما الذي حل بك. حبيبتي، يبدو أنك جد متعبة، خذي حبة مهدئ ونامي الآن لترتاحي وملتقانا غدا.
- سناء: حاضر عماد، ليلتك طيبة.
- عماد: وليلتك حبيبتي أتمنى أن تتحسني بسرعة.
- سناء: مع السلامة.
- عماد: مع ألف سلامة حبيبتي.
أغلقت النافذة والجهاز، وانغلقت بدوري على حيرة مدمرة. يا إلهي! من هذا العِمادُ الذي يدعي أنني حبيبته؟ إذا كان ما يقوله صحيحا، فالسلام على ذاكرتي، ثم يجب أن أسلم بأن ما يفتك بجسدي منذ قليل، قد حل بقواي العقلية أيضا، وأنه بعد لحظات يسيرة، سينعدم تمييزي وقوة عقلي كما انعدم إحساسي.
كيف أنسل مما يداهمني من أفكار؟ كيف أجلو عني أشباح من فراغ تطاردني؟ كيف أفك خيوط أفقي المتداخلة؟ وماذا أقول لزوجي حين يعود حالَما يسألني عما جرى ويجري لي؟
لقد ذهب في مهمة منذ أسبوع إلى الجنوب، ضمن مجموعة باحثين لدراسة بعض التضاريس هناك. لحسن حظي أنني أتذكر ذلك، لكن متى سيعود؟ متى ســ يـ عــووود؟ أبحث في ذاكرتي عن الجواب بلا أمل. أرجئ التذكر إلى حين، ثم أعاوده من جديد عله ينفعني. وها أنا لا أتذكر سوى أنه لن يتأخر بمهمته. هذا آخر ما قاله لي وهو يغادر ذاك الصباح الذي لم أعد أعرف متى كان.
بدأ التعب يستبد بي. لا أطيق كل ما يحدث لي.. سأريحني مني الآن. أخذت العلبة، تناولت حبة وحاولت الاستسلام للنوم. النوم على عكسي لم يستسلم.. تقلب كثيرا معي. تأفّف. لم أعد أعرف من منا يلتذ بتعذيب الآخر وتأريقه. صور التذاذ ممتعة وهمسات دافئة جنحت بخيالي لوقت قصير، لكن الفأس التي تحفر برأسي تلك السراديب الطويلة الأبدية، لم تزدها إلا ألما وتشنجا. لم يشبه النوم في شيء ما اعتراني. كان أقرب منه إلى هذيان اليقظة. أخيرا، غادرت عناد السرير معي.
اِلتجأت إلى مكتبي الصغير الذي يؤثث زاوية الغرفة، كان ضوء النافذة المطلة عليه، يرسل أولى خيوطه الصباحية، أخذت ورقة وقلما وكتبت: ماذا يحدث لي؟
لا شيء..لا شيء.. لا شيء أبدا، غير الخواء المُمِضّ المريع يطوف من حولي مالئا فضاء الغرفة. لكأني بالأشياء تخطو إلى نقطة واحدة: الخواء.. الخـ.. و.. ا.. ء. ومهما أفعل، أجده يزداد إيغالا.. يلوك الروح عنوة، يقضمها في تأنٍّ، ويلون بالعتمة ما تبقى من أحاسيس مشوشة، تنذر بصقيع تتجمد معه أطراف الليل والنهـــ....
فيما يصل إلى سمعي صرير الباب وهو يفتح، إنه حتما هو، لقد وصل باكرا هذه المرة! يتقدم نحوي. يمد يديه، يسألني وهو يعانقني: سناء، لم تكوني بخير أمس.. كيف أنت الآن حبيبتي؟!
* من المجموعة القصصية ( انتظار حب الرشاد) عن مطبعة سفي بريس 2015.