السموأل شمس الدين - لا بد أنها تخونني.. قصة قصيرة

قبل عام مضى تزوجنا.. لم تكن تتعطر لي هكذا.. لم تكن بهذا التألق المرح يوما.. لم تحاول يوما اللجوء إلى مستحضرات التجميل الصناعية والطبيعية لإظهار جمالها وتفجير أنوثتها.. ماكانت يوما تتابع برامج التجميل.. وتستمع لآراء الخبراء في المجال.. وفي بعض الأحيان تتصل بهم تلفونيا.. منذ أسبوعين فقط.. طلبت مني إيصالها إلى الكوافير.. الكوافير؟؟ لم أكن أعلم عنها اهتمامها بتصفيف شعرها لهذه الدرجة.. مالذي جد؟؟ كانت فقط تكتفي بإرجاعه جميعا إلى الخلف.. عقدة بسيطة.. ثم تترك ما تبقى من ليل ينسدل على ظهرها.. آه منها عنفوانها المتمرد

لا بد أنها تخونني..

تزوجنا زواجا تقليديا.. لم أرها قبل أن تختارها أمي لي.. رأتها في حفل عرس في الحي.. هي قريبة إحدى جاراتنا (العزيزات)، أعجبت والدتي جدا بجمالها.. بإسلوبها في الحديث.. بتهذيبها الجم.. برغبتها في النهوض بكل أعباء العمل الممكنة قبل وبعد وأثناء الزفاف.. شعلة من نشاط.. هكذا قالت والدتي وعيناها تلمتعان بخبث أنثوي بريئ.. أعرفها عنها.. وأحبه.. لم أكن ساعتها أفكر في الزواج.. لكن إلحاحها المنمق.. وطرحها للموضوع بطرق لطيفة ومحببة.. وتمهيدها للقاء عابر بيني وبين إيناس.. كان كفيلا بتغيير وجهة الأحداث.. من والدة تسأل و إبن يتهرب.. إلى إبن لحوح.. ووالدة تماطل.. بغبطة مكتومة..

لم ألتق بإيناس كثيرا قبل الزواج.. لكن كل لقاء بها كان يقرب لي أكثر فكرة الارتباط.. من الصعب أن تلتقي بهكذا أنثى.. دون أن تراودك فكرة الزواج مرارا.. وتكرارا.. في إحدى لقاءاتنا (العفوية) فاجأتها بطلبي.. أريدك.. لم أفكر بالزواج قط قبل أنا أراكي.. انتي مناسبة لي جدا.. كدت ألفظ لها بكلمة حب حنون.. لكن منعني حيائي.. لا أستطيع.. أنا أصلا لست أعلم حتى الآن كيف استطعت التفوه بتلك الكلمات المقتضبة الجافة.. حينها لم تجبني بحرف.. أطرقت.. وصمتت.. صمت من نور.. أذكر تلك الدقائق الثلاث التي مرت على إطراقها بكل تفاصيلها.. كل صوت عابر.. كل رعشة مرت بأطراف أناملها.. كل اهتزاز لخمارها الرمادي.. كل خلجة وكل تفصيل وكل رعشة.. يالذاك الصمت المهيب.. هالة من الجلال.. والبراءة.. كيف تُراها تخونني؟؟

ليلتنا الأولى.. ظننتها ستكون ليلة من ألف ليلة وليلة.. جلسات الأصدقاء كلما اقترب موعد الزفاف كانت تمتلئ بالنصائح المخملية.. والتلميحات الموحية.. تزيدني شوقا لتلك الليلة الموعود.. قديما في الحي.. كانو يسمونني (جلمود).. حين كان الشباب في سن المراهقة يطاردون أطراف يونيفورم الثانوية الأنثوي الأزرق، كنت أنا ألتزم السكون.. أطارد صفحات الكتب المدرسية.. أدرس بنهم شديد.. الجامعة كانت حلمي وهدفي الوحيد.. في الجامعة.. قصصهم وقصصهن كانت تملأ أرجاء الكافيتيريا بالغمز واللمز.. العلاقات العاطفية كالماء والهواء.. مرَّت علي سنواتي الست.. وخرجت ولم أمسس بسوء.. أحاديث عابرة مع الجنس الناعم.. لا تعدو أن تتعدى أصابع اليد الواحدة.. لم أكن أكرههن.. أو أهرب منهن.. لكن بحق.. لم يكن لي فيهن من حاجة تلح علي.. كنت أرجأ كل نشوة تدعوني إلى غادة تعبر تنشر عطرها على امتداد المسير.. إلى الوقت المناسب.. ذاك كان هو.. ليلتي الأولى.. كانت ككوكب دري.. سمراء كبقايا الفجر.. مطرقة كمغيب الشمس.. مهيبة.. وبريئة.. ذلك المزيج الغريب الذي لم يجتمع إلا لديها.. لكن تلك الليلة لم تكن كما أشتهي.. ولا تلك التي تلتها ولا التي تلتها.. ولا.. ولا .. ولا.. كانت باردة كتمثال من الثلج.. كأنها تؤدي واجبا عسكريا.. ليس هذا ما وعدني به الأصدقاء.. ليس لهذا ادخرت عشقي وحناني.. أين حبيبتي التي تخيلت فيكي؟؟ أين أنتي؟؟

مرت الشهور.. اعتدت برودها.. لم أتذمر يوما من تعاملها البارد.. لم أتلفظ بكلمة قد تجرح مشاعرها المكبوتة.. كنت دائما أتخير ألطف الكلمات عند كل نزاع يطل برأسه بيننا.. كنت دائما أسعى لإرضائها.. شيئ بداخلي كان يجبرني على ذلك.. الحب ربما.. لا أعلم.. غير أني لا أستطيع تخيل دمعة على خدها..

طول تلك الشهور.. لم أرها تتعمد التجمل لي.. غير تلك الأيام التي كانت تزورنا فيها أمها.. أظنها كانت تجبرها على الجلوس للدخان.. والإنغماس في ألوان من العطور البلدية.. تقودها من يدها لنقش الحناء على ساعديها وقدميها.. غير ذاك.. لم تكن تفعل شيئا لي.. حتى قبل أسبوعين ماضيين.. بدأت ألحظ عليها تغيرا كبيرا.. بهجة عند لقائي.. لا بد أنها مصطنعة.. وإلا كيف غابت عن وجهها كل تلك الشهور.. صارت نقوش الحناء تزين ساعديها طوال الوقت.. مضمخة بالعبير كغصن زعفران.. كأنها تنفث العطر مع أنفاسها.. وتفرزه مع قطرات العرق.. ما الذي جد؟؟ لا بد أنها تخونني

تبعتها ذات يوم دون أن تعلم.. كان ذلك أول الأمس.. إستأذنتني خارجا للعمل صباحا.. قالت أنها تريد الذهاب لشراء بعض الملابس.. حجة واهية.. إعتقدتها تريد أن تلتقي عشيقها المحتوم.. ربتُّ على خدها الأيسر وقلت لها: لا بأس.. تحتاجين بعض المال؟؟

أطرقت مبتسمة.. أدخلت يدي بجيبي الخلفي.. وأخرجت بضع وريقات من المال.. لم تسألني المزيد.. وخرجت أنا قاصدا المكتب..

استأذنت باكرا.. ورابطت غير بعيد عن باب المنزل.. مترقبا خروجها كما قالت.. منتصف النهار.. قليلا بعد.. كانت تقف تبحث عن سيارة أجرة.. دلفت إحداها.. وتحركت السيارة باتجاه السوق.. أجل باتجاه السوق.. كانت تلك وجهتها حقا.. فعلا ذهبت إلى متجر للثياب.. متخصص في الملابس الداخلية وملابس النوم.. لم أستطع أن أقف خارجا أنتظر.. ربما كانت تلتقي عشيقها داخل المحل.. تبعتها من ركن قصي.. كانت تشتري قميص نوم أحمر مخملي.. لم أرها يوما ترتدي مثل هذه النواعم عند النوم بجواري.. لا بد أنها ترتديه له.. ذلك العشيق المجهول..

الليلة.. لا بد أن أعرف سبب هذا التحول.. لا بد أن أعلم يقينا إن كانت تخونني أم لا.. لا أستطيع تحمل هذا الشك الرهيب.. عدت من العمل هذا المساء.. وجدتها كعادتها هذه الأيام.. مضمخة بالعبير.. زاد سمرتها الساخنة لفح الدخان.. أسرعت تجهز لي مائدة الطعام.. وتجلس بجواري مبتسمة.. كيف استطعنا الحياة سويا في بيت واحد.. غرباء عن بعضنا البعض كل هذه الشهور؟ لم لا أستطيع فهم لغة إبتساماتك.. هل هي خبيثة؟؟ فرحة؟؟ مداهنة؟؟ ازدردت قطع الطعام بلا تذوق لطعمها.. وهي تأكل صامتة.. ترمقني بنظرات مرقبة بين الفينة والأخرى.. بعد حين سألتني: هل أعجبك الطعام؟

أجبتها دون النظر إليها: أكيد.. تسلم إيدك..

برغم تلك الحيرة المسيطرة على جوانحي.. إلا أنني لم أستطع إلا أن أقول ما يرضيها.. ليتني أعلم سرها المتمكن داخل الروح..

ابتسمت لإجابتي البسيطة.. نهضت تلملم بقايا الأطباق وتمتمت بصوت خفيض جدا: الله يسلمك.. حبيبي..

ماذا؟؟ ماذا قلتي؟؟ أذهلتني تلك الكلمة الأخيرة التي لفظت بها خفيضة كأنها تحادث نفسها.. لا أستطيع التزام الصمت أكثر من ذلك.. تلك كانت المرة الأولى التي تنطق فيها بهذه الكلمة.. كلمة حب.. لا بد أن عشيقها علمها معنى الغزل.. ناولتني المنشفة بعد أن غسلت يدي.. أمسكت يدها مع المنشفة.. بقسوة.. وقربت وجهها الأسمر الجميل إلى وجهي.. تلفحني رائحة الزعفران..

_ إيناس

نظرت إلى وجهي بلمحة من الدهشة الحذرة

_ نعم

كنت أبحث عن مدخل يجعلني أسألها عن كل ما يدور بخاطري.. لكن كيف السبيل؟

_ إيناس.. عذبتني الأسئلة.. ولا بد من إجابة..

_ أي أسئلة..

_ أسئلة تدور برأسي.. لا أجد لها إجابة..

_ لي أنا؟ عني أنا؟

_ أجل

_ إسألني.. وإن علمت إجابة أجبتك.

تنهدْتُّ عميقا، أغمضت عيني.. وبدأت أحكي.. كل التغييرات التي ألحظ.. منذ أيام خلت.. لكنني لم أصارحها بشكي في خيانتها لي.. فقط انتظرت منها إجابة على سبب تلك التغييرات.. بعد أن انتهيت من سرد ما ألاحظ عليها هذه الأيام.. فتحت عيني.. وجدتها مطرقة قليلا.. تزين وجهها إبتسامة ودود خجول مبهرة.. وبهجة من المستحيل أن تكون مصطنعة.. قالت بذات الصوت الخفيض: أخييييييرا.. خلت أنك لن تلاحظ أبدا.

قربت وجهي أكثر.. سكنتني رائحة الزعفران أكثر.. و أكثر..

_ ماذا تعنين؟

رفعت نظرها إلى مستوى عيني.. ثم قالت بنظرة واثقة.. وصوت يعتريه بعض التهدج:

طه.. تزوجنا دون أن نعرف عن بعضنا ما يكفي.. ووافقت دون أن أفكر كثيرا.. قالوا لي أنك عريس ممتاز.. ولا تُرفض.. صدقتهم.. لكن ليلتنا الأولى كانت كابوسا حقيقيا.. إعذرني.. لكن هذه هي الحقيقة.. شعرت بقرف ممض.. وليلا وأنت نائم.. أفرغت كل ما في معدتي من طعام وشراب..

اتسعت عيناي لوهلة.. كدت أنطق حرفا.. لكنها وضعت أناملها الرقيقة على شفتي.. ثم أكملت:

كرهتك.. بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. صرت أنتظر انتهاء شهر العسل.. كي نعود إلى حياتنا الطبيعية.. ويلهيك عني عملك قليلا.. صرت فقط أريد أن أبتعد عنك أكثر وقت ممكن.. لم أخبر أحدا بما يعتمل داخل صدري.. كتمت عذابي تحت وطأة جسد أكرهه.. الغريب أنني لم أكن أرى سوى جسد فقط..

صمتت.. لبرهة .. كأنما كانت تستجمع قواها التي خارت من أثرالبوح.. ثم واصلت بذات التهدج:

لكنك طوال تلك الشهور.. كنت ودودا.. كنت مهذبا لدرجة كانت تغيظني في بعض الأحيان.. كنت أتمنى أحيانا أن تملني.. أن تعتقني لوجه الله.. أن تعود يوما إلى المنزل غاضبا.. تضربني.. أعود إلى بيت أبي محملة بالكدمات.. فقط كي يزيد ابتعادي عنك.. لكنك كنت دائما لطيفا.. ومنمق الكلمات.. لم تحدثني يوما عن مشاعرك.. لكنها كانت تطفو بين عبارات الثناء على طعامي الذي كنت أصنعه بلا عناية.. أو ترتيبي لأثاث المنزل الذي كنت أضعه كيفما اتفق.. إستجابتك لطلباتي بلطف وتهذيب كبيرين.. لم أجد فرصة حتى لاختلاق شجار كبير.. كل خلافاتنا الصغيرة.. كنت توئدها بحكمة محيرة.. فقط أجدني أخرج من ذلك الخلاف العارض.. مهزومة كسيرة الروح.. أمام جبل هدوئك الذي لا يمكن الالتفاف حوله.. وجدتك تتسرب داخل الروح.. صرت أتذكر بعض كلماتك الخاصة.. تعبيراتك التي لا يقولها سواك.. وأقولها أثناء نقاشاتي الصغيرة مع صديقاتي.. صرت أسترق النظر في بعض الأحيان إليك دون أن تنتبه.. وأن تعمل تحت ضوء خافت.. خلف طاولة مكتبك.. بدأت أتفهم شخصك الخجول.. تلك الكلمات الحذرة التي كنت تجاملني بها كانت أقصى ما تملك.. بدأت أشتاقها حين غيابك.. وجدتني أريد الإستزادة منها.. وجدتني أفعل كل ما أستطيع.. كي أبدو بكامل البهاء أمام ناظريك.. رجوت يوما أن تمتدح ما كنت أفعل من أجلك.. ومن أجلك فقط.. تجاهلتني. مرات ومرات.. قلت لنفسي.. لا بد أن ينتبه حبيبي ذات حين.. لا بد أن يسيل جمود حيائه سلسبيلا من الغزل.. لا بد أنني حين أجتهد في تحري الجمال أينما كان.. أكون الأنثى التي تستحق أنهار حنانك المحبوسة خلف سد شخصيتك الخجولة.. كلما زاد تجاهلك.. زاد إصراري على تلمس الرضى بين كلماتك.. نظراتك.. آآآآآه كم كنت أتعذب باحثة عما يرضيك.. عذاب لذيذ.. لكأنني كنت أستمتع باحتراقي بنار رغبتي في التكفير عن كل مامضى مني في حقك.. تراني أستطيع أن أعوضك عن شهور قضيتها لي محبا.. وقضيتها لك ماقتة؟؟ هل من الممكن أن يختصر ذلك العشق الذي بين جوانحي الآن ماكنت تأمله في ليال مضت؟؟ تراني أستطيع أن أعوضك؟؟

ذهلت.. صمت أتأمل صدق تعبيرها وسحر إعترافها الأخاذ.. استنشقت عبيرها الضائع.. تأملت سمرتها الساخنة.. عشقتها بجنون.. اشتهيتها بلا حدود.. قالت دواخلي: أحبك.. رأيتها تبتسم.. لم تكن دواخلي فقط من نطقتها.. غافلني لساني.. تمرد على صمته السرمدي.. أحبك..

الليلة.. ليلتنا الأولى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...