عبد العزيز الراشدي - القبة



1
حين الظلمة تبرك على الامتداد، على سهل نابت في مكان ما من الجنوب: القطعة الفائضة من الأرض، تمسح تضاريس كثيرة من الوجود، تتخفى،و يولد وجود آخر، مواز،إذ تشتعل حركة جديدة ليلية، تتحرك كائنات وسط الظلمة، وتتململ بعض الأصوات، تحملها الريح وتطوح بها بين أركان السهل :
- كل.
-لا كل أنت .
2
وسط السهل، ينفلت فراغ بليد،فائض،غير محدود،لا يُفسح المجال أمام انحدار أو منعطف، كبحر هادئ، أفقه الجبل، على صفحته، تناثرتنباتات قليلة، كبثور سوداء : الرتم، الطلح و الزواية، وبعض الأشواك ... كثبان صغيرة من الرمل مقددة بعناية، أحجار سوداء، أما الريح فتصنع ارتعاشتها في المدى صوتا يحاكي جموح حصان أرعن...
المدى والشساعة،لون التراب والرمل،النباتات العائمة في تيهها، والفراغ الجائع المحموم. ثم، كندفة ثلج، كاستطراد في نص مسترسل، تتبدى قبة وسط السهل، بعيدةً، هزيلةً، بأبعاد غير متوازنة، لا تظهر إلا عند تدقيق النظر، بيضاء، لكن بشكل معوق، فلقد غطت أغبرة السنين بياضها المرتجل، ذلك الذي أنجزته يد متعجلة، ربما تحت إكراه،تحت سطوة يقين باللاجدوى، يد – ربما – لم تكن تطمح إلى مكافأة.
تمر الأيام، والقبة وسط السهل تعيش رتابة زمنه الراكد، دون أن تعبأ .ففي أيام المطر، على نذرتها، تبدو القبة وحيدة وسط المياه، ملتصقة بنفسها،كبائعة الكبريت، تنوء تحت ضربات المطر، يخالها الجميع ستسقط، لكن، لسبب غامض، تتحاشاها السيول، تصنع مجاريها بعيدا فتتغدى أسطورتها.
ثم تأتي الخضرة مع الربيع، خضرة تُنبت حركة الأغنام وسط السهل، وقتها، تخال القبة أكثر انسجاما مع نفسها، تغدو أبعادها أكثر توازنا، بعد وقت، يطال السهل اليباس، فتعانق يتمها من جديد.
خلال الصيف، ذلك الذي يطول، تبعث الشمس شعاعها الناشف، تكاد القبة تحترق. ومن بعيد، من أعلى الجبل، ومن أسطح القرى البعيدة، تبدو القبة في حمى القائلة كسفينة تمخر عباب السراب، ثم أن السراب يستحلي اللعبة، فتأخذ القبة شكلا متموجا...
أكثر الأمور قسوة على القبة، ظلمة الليل. تسقط في كل الفصول، تمسحها، تحيلها عدما، وحين تبرك،تبدأ الأصوات من داخل السهل، تحديدا من داخل القبة:
-كل .
-لا . كل أنت .
3
للقبة ميزتها : بناؤها قديم ،ولونهاأبيض عاكس للأشعة، لذلك، تكون باردة خلال الصيف. يرتادها الغرباء، كلما حطوا رحالهم بإحدى القرى المجاورة : دجالون، متسولون يعقبون موسم الحصاد، بائعوا أقمشة رخيصة، بائعوا الزعفران والمسك .. يتجولون بالقرى، يعرضون بضائعهم على نساء وأطفال جاهزين للدهشة من كل شئ،و لما تداهمهم القائلة، يتسربون إلى السهل، ينفضون عنهم تعب المساومات، يطهون طعامهم، ويروجون الحكايات...
في الغالب، يأتون على صهوات حميرهم، ينزلقون بعد الغروب إلى هناك، يخبئون الحمير تحت شجيرات الطلح، ثم يدخلون القبة. عندها، تحت جنح الظلام، تتسحب نساء كثيرات متشحات بالملاحف السوداء، والرغائب الغامضة، محملات بصناديق التمر، تقايضن بالبضائع والأحجبة التي تطرد البأس وتجلب الأزواج..
داخل القبة، حصير ممزق، قلة ماء، حيطان مسودة جراء الشمع، سقف متهالك، وقبر طويل بأبعاد لا تسمح البتة باعتباره قبر رجل واحد ..
4
كل الذين جاءوا القبة، وناموا على حصيرها متوسدين القبر الطويل، غادروا المكان : فلقد ملوا أو قاربت حيلهم على النفاذ.. وبعضهم، جرفه حنين مموه إلى أمكنة أخرى ..
وحده ذلك الرجل، يسمونه المجذوب، يظل هناك، كقطعة من القبة، يرعاها، يستقبل الغرباء والهدايا والنذور وشمع النساء، يملأ قلة الماء كلما نضبت، طويل، بصندل متسخ، ملابسه مغبرة، شعره مشعت، وعينه اليسرى مغمضة طوال الوقت.
كل القرى تحكي عن علاقته بالقبر المزروع في القبة ،حيث جده الراقد والكنز الذي أوكلت له الجن حراسته. يظل هناك طوال الوقت، وحيدا،مثيرا للأسئلة…
وحين الظلمة تنيخ على السهل، ينطفئ كل شئ : المساكن التي لم يصلها كهرباء الحكومة، الجبل، تعب النهار، تبدأ حركة ما داخل القبة .يستقبل الرجل الغرباء، يجهز الشاي المنعنع يملأ " سباسي" الكيف الواحد تلو الآخر، ويشاركهم لعب الورق ...
يدخنون ويلعبون، و تحت تأثير الدخان،والإحساس المثالي بالليل والسهر، يواصلون اللعب دون كلل، دون التقيد بعدد محدد من الأشواط،الليل ليلهم،والزمن سرمد.يلعبون ولا يحسبون، أثناء ذلك، يختلفون حول أدوارهم في اللعب، عندها تسمع أصواتهم على إمتداد السهل :
-كل.
-لا . كل أنت. إنه دورك

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...