هناك بعض الزعماء والأبطال، يكتب عيهم أن يوجدوا في ظروف غير مواتية، وغير مساعدة لهم على الإفادة أو الاستفادة من الصفات البطولية التي يتحلون بها.
ونحن لا نؤمن إيمانا أعمى بان التاريخ من صنع الأبطال فقطن ولكنا لا نؤمن أيضا إيمانا أعمى بأن التاريخ في تطوره، والإنسانية في تقدمها، يستطيعان أن يستغنيا استغناء كاملا عن الأبطال والقادة والعباقرة والمغامرين.
هناك دائما شيء اسمه (رجل الساعة) وهنالك دائما أيضا شرط أساسي لنجاح (رجل الساعة) ذلك أن تحيط به الظروف المواتية، وان يبرز ببطولته في الساعة التي تشتد فيها الحاجة إليه، وتتهيأ المشاعر والادهان للاستجابة له والالتفاف من حوله والإيمان بما يدعو إليه.
وكم من بطولة أو عبقرية أهدرت، لأنها كتب عليها أن تتقدم عن عصرها أو أن تتأخر عنه، وكم من بطولة أو عبقرية، أخرى، صادقت حظا قليلا من نجاح، وكانت خليفة أن تفعل الأفاعيل وتأتي بالمعجزات لو أنها تأخرت قليلا، عن الوقت الذي برزت فيه.
وبطلنا هذا الذي نريد أن تتحدث عنه البوم، بطل شعبي، لم تلده القصور، ولم يزين مفرقه تاج، ولم يكن في مركز من مراكز المسؤولية.
كان مجرد طالب، لا أكثر ولا اقل، وكان مريدا بحث عن طريقه على الله، وكان من الممكن جدا. بالنسبة للبداية التي بدا حياته، وبالنسبة للعصر الذي وجد فيه، أن تنتهي حياته (درويشا) أو (مجذوبا) تطلب عنده البركات، ويمسح بيده رؤوس المرضى، ويسال عن تأويل الأحلام والمنامات.
فقد كان العصر الذي أنجب (محمد العياشي) عصر (درويشة) (وجذب) بكل ما في الكلمة من معنى، كما كان عصر جهل وتخاذل وانحطاط واستكانة إلى الظلم والاحتلال والفوضى واللامبالاة، كان عصرا من هذه العصور التي ينام التاريخ، وتترك الأمور فيها لنفسها، لتسير وحدها كما تريد، وقد لا تسير أصلا ولكنها لا تجد من يهتم بها أو يفكر فيها أو يسال عنها، كان عصرا من هذه العصور التي يسودها التواكل والإهمال والتجرد من المسؤولية، من العصور التي يعيش فيها الناس لبطونهم، لا يفكرون فيما عداها، ولا يفكرون في ماهبة ما يملأ ون به هذه البطون، فقد يكون رشوة، وقد يكون أجرا عن خيانة، وقد يكون سرقة مفضوحة لا غبار عليها، ولكن المهم، فقط، أنه شيء يملأ البطن، ويحفظ الحياة.
كان ذلك في أواخر عهد الدولة السعدية، في النصف الأول من القرن السابع عشر.
والدولة السعدية قد انتهت بالضبط يوم وفاة المنصور الذهبي، ولو أنها استطاعت أن تغالب سكرة، الموت بعده نحوا من سبع وخمسين سنة، تعاقب فيها على العرش من أبنائه وأحفاده نحو من سبعة ملوك،
ونحن نقول : (نحو من سبعة ملوك) لان تعدادهم بالضبط عسير كل العسر، فهم لم يكونوا ملوكا بالمعنى الصحيح، وغنما كانوا رؤساء أقطاعات، وثوارا، ومحاربين.
كان الواحد منهم يقضي حياته-وهو بعيد عن العرش-في ثورة، ويقضي حياته- وهو على العرش- في رد عادية الثوار عن عرشه.
أما الشعب فقد كان موزعا بينهم، يعطي اليوم ولاءه لهذا، لينتزعه منه غدا، ويعطيه لأخيه أو ابنه أو ابن عمه، أو ينتقل به على أسرة أخرى، أما لأنه يعلق أملا، وأما لأنه يجد عندها من الخبز أكثر مما يجد عند غيرها، فقد كان الشعب نفسه في هذه الفترة يعيش نكسة روحية، وكان اليأس قد استبد به فصرفه عن كل مثل أعلى، وكان الفساد في العرش ينعكس على الشعب كله، فإذا هو مريض العقل والشعور والوجدان، يعيش نهاره في طلب حاجاته المادية، ويسمر ليله في ترديد كرامات الأولياء والدراويش والمجاذيب والمعتوهين.
ونحن لا نريد هنا أن نصدع دماغ القارئ الكريم، بالدخول به تفاصيل النزاع حول العرش في هذه الفترة الحالكة من تاريخ المغرب، فنحن ارحم به من ذلك، نحن ارحم به من أن نزج به في إعصار لإقرار له ولا أول ولا أخر، ويكفي أن نقول : أن الطابع الذي يتسم به تاريخ المغرب في هذه الفترة، هو الفوضى، والاضطراب، وتوزع المسؤوليات، والاستهانة بها، وكثرة الطامعين في العرش والمرشحين له من السعديين وغير السعديين، وان الشعب في هذه الفترة، لم يكن مهيأ للقيام بأي عمل ايجابي، فقد كان من السهل على كل تأثر أن يجذبه غليه، وان يرمي به وقودا رخيصا على معركة. وقد لجأ الشعب في هذه الفترة، وفي وسط هذا الظلام المخيم الحالك، على نوع من الروحية المريضة الجاهلة، يتطلب البركات والكرامات ويتأول الأحلام، ويتمسح بالأضرحة، ويتلو الأوراد.
وفجأة، ومن غير مقدمات ولا إرهاصات، وفي وسط هذا الخصم الهائل من الفوضى والاضطراب، ظهر في الميدان البطل الشعبي (محمد العياشي) ليحارب الأسبان والبرتغاليين وبدافعهم عن شواطئ المغرب التي أصبحت هدفا سهلا لمغامراتهم وقرصنتهم وجشعهم الذي لا حد له، وليتعرض لاضطهاد السعديين الذين ضاقوا درعا بظهوره، خصوصا عندما بدأت القوى الشعبية تتمل من حوله، وليعاني من الخيانة والارتشاء الذين كانا متفشيين في رجال الحاشية ولتنتهي حياته بمأساة على يد الشعب الذي كافح طول عمره لينقذه من الظلم والإقطاع والاستعمار.
كان على العرش عند ما ظهر محمد العياشي في الميدان الأول مرة سنة 1604 الملك السعدي زيدان بن أحمد المنصور الذهبي، وكان محمد العياشي من مدينة (سلا) كان طالبا بها، ومريدا لشيخ من شيوخها المشهورين بالعلم والكرامة، لكنه ظهر في الميدان لأول مرة في ناحية (آزمور).
وقصة انتقال محمد العياشي من مدية (سلا) إلى ناحية (آزمور)-كما يرويها التاريخ- قصة طريفة تمتزج فيها الخرافة بالتاريخ امتزاجا يبعث على الشك في تصديقها، مهما يكن، فقد ظهر العياشي في ناحية آزمور، داعيا للجهاد ضد البرتغاليين في(الجديدة) التي كانوا قد استولوا عليها من قبل وحضنوها واستقروا بها، مغتنمين ضعف الدولة وعجزها عن مقاومتهم والنهوض غليهم، وانشغالها بالثورات والحروب الداخلية والنزاع حول العرش، فقد روى التاريخ-فيما روى- أن (زيدان) الملك السعدي الذي ظهر (محمد العياشي) في عهده، قضى ملكا أو كملك، خمسا وعشرين سنة، لم تخل سنة منها من حرب له مع إخوانه وأقاربه والخارجين عليه!!
ولم تكن كلها حروبا أو ثورات سهلة يسيرة من النوع الذي يمكن القضاء عليه بسهولة، فقد بلغ من خطورة بعض هذه الحروب والثورات، إن طوحت به بعيدا عن عاصمته ومقر ملكه (مراكش) إلى مدينة (تلمسان) بالمغرب الشرقي، يطلب العون من الأتراك العثمانيين الذين كانوا يحكمون الجزائر إذ ذاك، على استرجاع عرشه الضائع.
*
كان البرتغاليون يحكمون (الجديدة) بقوة الحديد والنار،وقد بلغ من هوان الشعب على نفسه وعلى المحتلين البرتغاليين، أنهم لم يعودوا يقيمون له وزنا، أو يحسبون أعواطفه أي حساب، وكيف يقيمون وزنا لعواطف الشعب، وهو يظهر التودد إليهم، والترحيب بهم، ويتحفهم بالهدايا، ويتلقاهم بالزغاريد. قد يكون ذلك خوفا، أو (تقية) أو استسلاما للقوة، إيمانا بها، المهم انه واقع أليم، يصعب على النفس احتماله، ويشعر الإنسان بالخزي والحسرة من مجرد قرأته أو الاطلاع عليه.
وهذه زوجة الحاكم البرتغالي بالجديدة، تريد يوما أن تلهو فلا تقترح إقامة مسرح، ولا تطلب استدعاء مهرجين، ولا تفكر في الخروج إلى نزهة، وغنما تطلب إلى زوجها العزيز، أن يقترح على حاكم (آزمور) المغربي، تنظيم مناورات حربية بين الجيش البرتغالي بالجديدة، والجيش المغربي بآزمور، ويتم كل شيء وفقا لرغبة صاحبة السعادة زوجة الحاكم البرتغالي المدللة، ويحدث أثناء المناورة أن يقتل جندي برتغالي جنديا مغربيا، فيحتج حاكم آزمور المغربي على ذلك، فيجيبه حاكم الجديدة البرتغالي بمنتهى البرودة والبساطة :
- وأي باس في ذلك، لقد مات شهيدا كما تقولون. في هذا الجو المفعم بالخزي والهوان، كتب عل محمد العياشي أن يظهر بناحبة آزمور، ليدعو إلى الكفاح المسلح ضد البرتغاليين. وليس هذا موطن العجب، وإنما موطنه، أن محمد العياشي قد نجح في محاولته، وقد استطاع أن يحرك الضمائر ويلهب العزائم، وان يحشد من القوى الشعبية، ما استطاع به أن يدخل في معارك متعددة ضد البرتغاليين.
وتشاء الصدفة أن يموت في هذه الأثناء، الحاكم المغربي لمدينة آزمور وناحيتها، فلا يجد الملك السعدي زيدان بن أحمد المنصور، خيرا من محمد العياشي ليقلده أعباء الحكم بهذه الناحية الرابضة على أبواب الخطر، أما لأنه أولى من يقوم بهذه المهمة، وأما لأنه أصبح هو الحاكم الفعلي لمدينة آزمور وناحيتها وصاحب الكلمة الأولى فيها، فيكون من حسن السياسة أقراره رسميا على ذلك.
مهما يكن، فقد أصبح محمد العياشي يحكم آزمور وناحيتها باسم الملك، ولم تشغله الوظيفة الطارئة عن مواصلة العمل لإتمام المهمة التي بدأها، فاستمر في حرب البرتغاليين، وانتصر عليهم في معارك عدة وامسك بخناقهم، وكاد النصر أن يتم له نهائيا على قواهم المحتلة الباغية، لولا أنهم لجأوا معه إلى نوع من المقاومة لم يحسب له حسابه منذ البداية، ولم يكن في استطاعته أن يتقيه أو يصمد له.
لجأوا إلى نوع من المقاومة قوامه الرشوة، وشراء الضمائر، والكيد، والخسة، وكل ما هو معروف من أساليب الاستعمار والاحتلال الأجنبي عندما تخذله القوة، وعندما يصطدم بالوطنية الصادقة والعزم الأكيد.
لم يستطيع البرتغاليون أن يهزموا (محمد العباسي) في ميدان المعركة بين آزمور والجديدة، فقرروا أن يهزموه بعيدا عن أرض المعركة، هناك في مراكش، وفي بلاط الملك نفسه.
قرروا أن يهزموه بيد الملك الذي ولاه آزمور إيثارا له على غيره، أو خضوعا للأمر الواقع، وإذا كانت الحرب تكلف الكثير جدا، خسائر في الأنفس والأموال والعتاد، فإن هذه الحرب التي شنها البرتغاليون على محمد العياشي في بلاط الملك، لن تكلفهم أكثر من بعض (الهدايا) يتحفون بها رحال الحاشية، ويتركون لذكائهم بعد ذلك، أن يولى البحث عن طريقة للخلاص من محمد العياشي.
وتخرس ضمائر رجال الحاشية، لتتكلم (الرشاوي) التي تملأ جيوبهم وبطونهم، وتفوح في الجو رائحة الخيانة خبيثة كريهة تزكم الأنوف، ويقتنع الملك بسهولة، أن محمد العياشي هذا يجب التخلص منه بأية وسيلة، فقد قوى ساعده واشتد عوده، وقد أصبح ذا نفوذ كبيرة مما يمكن أن يسمح به للولاة وحكام الأطراف.
أن محمد العياشي هذا لٌد أصبح خطرا على العرش، على الملك نفسه، فلماذا لا يتلخص منه، لماذا لا يبعث إليه بحملة تاذيبية ؟ لماذا لا يطلب رأسه ثمنا لما سببه من إزعاج للدولة الآمنة المطمئنة، واحتياطا مما يخاف منه المستقبل من أخطار قد سيتعصي التخلص من آثارها بعد أن تكون قد وقعت بالفعل ؟؟
*
وهكذا وقع الاختيار على القائد (محمد السنوسي) ليكون على رأس هذه الحملة التأديبية، وليأتي برأس محمد العياشي إلى مراكش، حيث يعلق على أسوارها عبرة للخارجين على الدولة والمؤتمرين بسلامتها.
ويبدو أن القائد (محمد السنوسي) كان رجلا عسكريا شريفا، لم يقتنع بمشروعية الحملة التي اختير ليكون على رأسها، ولم يستطيع في نفس الوقت أن يمتنع من تنفيذ الأمر الذي ألقي غليه، فقرر أن يحتال لنفسه وان يجد له مخرا من هذه الورطة التي زجوا به بين أحضانها.
ومن يدري ؟ فربما كانت نفسه تحدثه وهو في الطريق إلى آزمور على رأس الحملة، أن محمد العياشي يقوم بواجب وطني، كان هو بصفته عسكريا أولى بالقيام به ، وكان وجوبه أكد بالنسبة إليه هو نفسه، فلماذا يحاربه وهو ليس ثائرا أو خارجا على الدولة أو مجاهرا بالعصيان ؟ وإنما هو رجل وطني مخلص حر الضمير، برز من صفوف الشعب ليرفع راية الكفاح ضد الاحتلال الأجنبي، وكان أولى بالدولة أن تساعده على أمره، ببدل أن تحاول التخلص منه، كان أولى بها أن تنوه به وترفع من ذكره، وتمده بما قد يحتاج إليه من مال أو عتاد، فإذا لم تفعل، فلا أقل من أن تتركه يحاول انجاز المهمة التي لم يطلب من أجلها أجرا ولم يكلف الدولة مساعدة، وإنما اكتفى بالاعتماد على القوى الشعبية الكامنة، التي لا يحتاج، لكي تعمل، إلى أكثر من تحريك وجدانها، وإثارة عاطفتها الوطنية.
وأخيرا اهتدى القائد (محمد السنوسي) إلى حل للمشكلة، بعث على محمد العياشي على جناح السرعة، وهو في طريق إليه، بعض من يثق بهم من خواصه المقربين إليه، بعث إليه يطلب منه أن يهرب من آزمور قبل أن يصل هو إليها، فقد جاء إليه باسم الملك، لكي يقتله، ولكي يحمل رأسه هدية إلى سيده المطاع.
كان من ممكن أن يرفض محمد العياشي فكرة الهروب، وان يصمد للحملة التي بعثها غليه الملك، كما صمد من قبل للبرتغاليين، لكن حرب العدو غير حرب الصديق، وقتال الدخيل الأجنبي مهما تكن قوته، أيسر من قتال المواطن، مهما يكن ضعفه، ومهما يبلغ الإيمان بظلمه وانحرافه، ورحم الشاعر العربي القديم.
وظلـم ذوي القربـى اشـد مضاضــة على المرء من وقع الحسام المهند
وهكذا خرج محمد العياشي (هاربا) من مدينة آزمور، خرج متسللا في خاصته والمخلصين لدعوته، لم تمش معه البنود، ولم تصدح له الموسيقى، ولم تشيعه دموع الأهالي ولا هتافاتهم.
جاء على آزمور وفي قلبه آمال، وخرج منها وفي قلبه حسرة، جاء إليها ليحارب العدو والدخيل، وخرج منها هاربا كما يهرب اللصوص والمجرمون والسفاكون والقتلة.
ودخل مدينة آزمور بعد ذلك بقليل، القائد العسكري محمد السنوسي، على رأس حملته التأديبية واستشاط غضبا عندما أخبروه أن محمد العياشي قد هرب، واستعمل كل وسيلة ممكنة للبحث عنه فلم يعثر له اثر، يحث عنه في كل بيت، واشتد في عقاب كل من تتوجه إليهم شبهة إخفائه أو التستر عليه واستمر في ذلك زمنا حتى خامره اليأس من العثور عليه، وأخيرا عاد على مراكش ليخبر الملك أن محمد العياشي قد هرب، وان الحملة لم تنجح النجاح المطلوب، ولكنها مع ذلك لم تفشل كل افشل، فقد كفينا أمر هذا (العياشي) وعادت المياه على مجاريها م جديد.
خرج محمد العياشي من آزمور (هاربا) وحط رحله مرة أخرى بمدينة (سلا) بعد أن كان قد فارقها تسع سنين كاملة (من سنة 1604-1614) وعاودته الذكريات ذكريات هذه السنين التسع الأخيرة بما كان فيها من كفاح وجهاد وصبر وتضحية، وذكريات ما قبلها من السنين، يوم أن كان مجرد طالب بسيط، يطلب المعرفة والكرامة، ويوم أن كان شيخه الجليل يتنبأ له بالمستقبل الزاهر والمجد الكبير.
ترى قد تحقق كل ما كان يتنبأ له به شيخه ؟ ترى أن العودة على (سلا) هي نهاية المطاف فلم أنها لا تعدو أن تكون نهاية شوط من أشواطه ؟.
وجاءه الجواب سريعا، أن العودة إلى سلا لا يمكن أن تكون نهاية المطاف، فالظلم والفوضى والاستبداد والاضطراب لا يزال كلها ضاربة أطنابها، والأعداء من البرتغاليين واسبانيين لا زالوا يقتسمون عددا من شواطئ المغرب، ويعيشون في الأرض الفساد، ويستذلون المواطنين أبشع استذلال وأسواه.
أن هي إلا مرحلة من مراحل الكفاح، ولابد من إحدى الحسنين، من نصر مؤزر كامل، أو شهادة تفتح الطريق إلى الله على مصراعيه، وما دامت هذه الشهادة المرجوة لم تتأت بعد، فلا مناص مطلقا م مواصلة الكفاح.
لقد عاد محمد العياشي غل (سلا) ليستأنف الكفاح من جديد، ويقف وجها لوجه أمام سلسلة طويلة من المتاعب ظلت حلقاتها تتقاذفه إلى أن أسلمته أخيرا إلى الموت.
ولكي نستطيع أن نفهم حقيقة المتعب الجديدة التي جابهها محمد العياشي،ر فنحن مضطرون أن نقف وقفة قصيرة، قد تساعدنا على فهم الظرف التاريخي الدقيق الذي كانت تعيشه سلا والرباط في هذه الأيام فقد كانت المدينتان المتجاورتان تعيشان في هذه الفترة التاريخية الدقيقة، عملية(صهر) صعبة ومعقدة، كانتا تعانيان من حالة (عدم انسجام) بين السكان، وكان ذلك يرجع في أصوله إلى الغزو المسيحي للأندلس المسلمة، وإلى انتصاره فيها واضطهاده المسلمين بها، وإلى اضطرار هؤلاء لخيرا إلى الهجرة على البلاد الإسلامية المختلفة، وغلى المغرب من بينها على وجه الخصوص.
كان ذلك أواخر القرن الخامس عشر عندما ثم للمسيحيين نهائيا الاستيلاء على الأندلس، وذلك باستيلائهم سنة 1492 على غرناطة آخر معتقل من معاقل المسلمين بها، وكان ذلك بشروط كثيرة، أهمها احترام حرية التدين لكل واحد من السكان. لكن المسيحيين نكثوا عهودهم جميعا، ونكثوا على رأسها تعهدهم بترك الحرية للمسلمين أن يحتفظوا بدينهم، وان يمارسوا شعائره في حرية كاملة، واشتد البلاء في ذلك الوحشية والتعسف وشدة النكير، وأخبار محكمة التفتيش معروفة مستقصاة في كتب التاريخ، لا نرى موجبا لذكرها، أو سرد أمثلة من مخازيها وضراوتها وقسوتها المتناهية،وإنما الشيء المهم الذي نريد أن ننص عليه هنا، أن هذه المحنة قد استمرت أكثر من قرن كامل من سنة (1492) التي تم للمسيحيين فيها الاستيلاء على غرناطة إلى سنة (1608) التي قرر المسيحيون فيها التخلص نهائيا ممن بقي بين ظهرانيهم من المسلمين، وذلك بإجلائهم عن أرض الأندلس وحملهم على الهجرة منها على حيث يشاؤون.
في هذه المدة التي تزيد عن قرن كامل بنحو سنة عشر سنة، كان قد تنصر من المسلمين بالأندلس من تنصر، وفر بدينه من استطاع سبيلا إلى الفرار، وصمد الباقون يتظاهرون بالطاعة، ويختلفون إلى الكنائس كما يختلف النصارى، فإذا عادوا إلى بيوتهم أغلقوا عليهم وأقاموا صلاتهم، وقرأوا القرآن، وتوجهوا إلى الله يطلبون منه أن يكشف عنهم البلاء.
وفي هذه المدة أيضا، نشأ بين المسلمين بالأندلس، جيل جديد معوج العقيدة ملتوي الضمير، موزع بين الإيمان بهذا الدين الذي رأى آباءه يقيمون شعائره في خفية، ويحرصون عليه رغم التنكيل والعذاب والامتحان العسير، وبين هذا الدين المنتصر الغالب، الذي تقام شعائره في الكنائس الكبيرة المليئة بالأثاث والزخرف والنقوش والتماثيل، وعلى أصوات الموسيقى الهائلة المؤثرة، وترانيم الصبية والعذاري من الراهبات والأخوات، نشأ هذا الجيل موزعا بين ذلك، ونشأ موزعا أيضا بين الكراهية لهؤلاء يحتقرونه ويعذبونه ويعذبون قومه، وبين الإعجاب بمجموع صفاتهم التي آتتهم القوة والغلبة، نشأ مترددا حائرا لا يستقر على شيء، ولا يكاد يؤمن بشيء حتى يجذبه غليه غيره.
وأخيرا، وعندما قرر المسيحيون في الأندلس، أن يتخلصوا نهائيا من المسلمين، كتب على هذا الجيل الذي نتحدث عنه، أن يتعرض لمحنة أخرى، كادت تهد فيه بقية الإيمان بدينه وقوميته، ذلك أن المسلمين عبروا البحر من الأندلس ليتفرقوا في بلاد الإسلام فرارا بدينهم، أو ببقايا دينهم، لكنهم تعرضوا أثناء هجرتهم في بلاد المسلمين نفسها إلى كثير من القلق والخوف، تعرضوا لتنكيل اللصوص وبطشهم وقسوتهم، تعرضوا للغش والتدليس والمساومة، تعرضوا للبهيمية الجامحة التي لا تعرف الحدود، تعرضوا لكل أنواع البلايا التي يمكن أن يتعرض لها مهاجر يصحب معه أبناءه وبناته وكل ما يملك من متاع، وفي ظروف عدم استقرار وامن بالبلاد التي يهاجر إليها، فقد كان العالم الإسلامي كله في أوائل القرن السابع عشر، مسرحا للظلم العثماني من جهة، ومسرحا للفوضى والاضطراب من جهة أخرى.
واستقر هؤلاء المهاجرون أخيرا بمختلف البلاد الإسلامية، بالمغرب العربي، ومصر، وسورية، وغيرها، ووصل بعضهم إلى القسطنطينية، وآن لهم أخيرا أن يعرفوا الأمن والراحة والهدوء والاطمئنان، لكنهم كانوا بحاجة إلى مدة طويلة جدا، قبل أن يتم انصهارهم، وقبل أن يمتزجوا بمواطنيهم الجدد امتزاجا كاملا، وقبل أن تشفى نفوسهم من كل ما كان قد ألم بها من المحن المادية والمعنوية.
وكان من الطبيعي أن يكون حظ المغرب من هؤلاء المهاجرين الأندلسيين الحظ الأوفر، لقرب المسافة، وللصلات القوية التي ظلت تربط تاريخ الأندلس بتاريخ المغرب أحقابا متتالية، وهكذا استقر معظم المهاجرين إلى المغرب من الأندلس، بتلمسان وفاس وتطوان والرباط.
وفي الرباط بالذات، كان للجالية الأندلسية المهاجرة تأثير كبير في مجرى الأحداث التاريخية التي نتناولها اليوم بالكلام.
كنا مضطرين أن نقف هذه الوقفة لنقول ذلك أن محمد العياشي كتب عليه أن يعود إلى سلا على أثر هذه الهجرة الجماعية من الأندلس إلى المغرب، وكتب عليه أن يستأنف الدعوة إلى الجهاد فيس سلا والرباط معا، في بيئة غير مستقرة، ينعدم الانسجام بين أصحابها انعداما كليا، وتتعدد فيها الاتجاهات، وتختلف المصالح، وتضطرب النفوس.
كانت سلا والرباط تعشان في هذه الفترة-كما أسلفنا- عملية (صهر) صعبة ومتعقدة، وكان من اللازم على من يريد أن يقوم بعمل ايجابي فيهما أن يتريث قليلا حتى يهدا المرجل، ويصفو الجو، ويتحدد الاتجاه.
لكن محمد العياشي لم يتريث، وأنى له أن يفعل، والعدو على الأبواب، يستحل دماء المواطنين وأموالهم، ويستذل كبرياءهم، ويعبث فسادا في أرضهم، وهذه (المهدية) و (العرائش) يحتملهما الأسبان ويحكمون السيف في رقاب أهليهما كما يحكمه البرتغال في رقاب إخوانهم (بالجديدة) وهكذا حاول العياشي مرة أخرى أن يلهب حماس السكان بسلا والرباط كما فعل من قبل في آزمور وناحيتها، وزاول أن يكون من السكان جميعا في المدينتين المتجاورتين قوى شعبية يحارب بها الأسبان في المهدية والعرائش.
وكما ضيق العياشي الخناق على البرتغاليين بالجديدة من قبل، فقد استطاع أن ينكل بالحامية الاسبانية بالمهدية، ويذكر المؤرخون أنه قتل من الاسبانيين في أول التحام بينهم في المهدية وبين جيش التحرير المغربي البطل محمد العياشي نحو من أربعمائة جندي، كما قتل من المواطنين مائتان وسبعون.
وطارت أخبار النصر على مراكش لتقلق مرة أخرى راحة املك السعدي زيدان وحاشيته الوفية المخلصة، ولتنبههم من جديد إلى هذا الخطر الموهوم عليهم وعلى العرش، لقد كانوا يظنون أنهم تخلصوا من هذا العياشي ومن نشاطه الذي لا حد له، فإذا هو يبعث في الواجهة الأخرى، وإذا ينتصر فيها كما انتصر في سألفتها من قبل، فماذا يكون من أمرهم وأمر العرش لو تمادت المعارك بالعياشي من نصر على نصر، ولو استطاع أن يكتل حوله من القوى الشعبية ما لا قبل لهم به ولا قدرة لهم عليه.
واجتمع الرأي سريعا على أن محمد العياشي يجب التخلص منه بأي ثمن، وإذا لم يكتب النجاح في ذلك من قبل، للقائد محمد السنوسي الذي كان على رأس الحملة التأديبية التي ذهبت إلى آزمور لتأتي برأس محمد العياشي، فربما نجح في ذلك الآن القائد (الزعروري) قائد الفرقة العسكرية الأندلسية المقيمة بالرباط، وجاء الأمر إلى (الزعروري) بالرباط لينفذ الخطة المدبرة، لكنه آثر قبل الإقدام عليها أن يستشير ضباط الفرقة العسكرية الأندلسية فكان الرأي الأخير، أن يتريثوا قليلا، وأن يحيطوا العياشي بجماعة منهم لتتجسس عليه وتختبر نواياه الحقيقية، لتعرف دخيلة أمره وما هو عازم عليه.
وأحس العياشي بالجو من حوله مكفهرا مظلما، وزكمت رائحة الخيانة الكريهة أنفه مرة أخرى، وأحس أنه مغرور، وأن الغدر لا يأتيه في هذه المرة في صورة حملة تأديبية، وإنها يأتيه من المحيطين به والأقربين إليه، يأتيه من هؤلاء الذين يعتمد عيهم في نصرته، والذين كانوا إلى الأمس القريب معه في الواجهة يحاربون معه الاسبانيين في المهدية جنبا إلى جنب.
وكما قرروا هم أن يتريثوا قليلا، فقد قرر هو أيضا أن يتريث، وأن يكتفي بمراقبة الأحداث والأحوال، وان يصمت فلا يتكلم، ويهدا فلا يتحرك، حتى يتيقن من مواطئ أقدامه، أقدامه، وحتى يعرف أصدقاءه من أعدائه وخصومه، وحتى يتبين الوجوه، فيعرف من بينها من يلازمه إيمانا بدعوته ومبدئه، ومن يلازمه لأنه يتحين به الفرصة، ليقدمه قربانا رخيصا على مذبح الخيانة والغدر والارتشاء.
وهكذا لازم أبطل محمد العياشي بيته، وأرخى العنان قليلا للأحداث لتسير وحدها كما تشاء، وقد سارت بالفعل، فإذا هؤلاء الأندلسيون الذين كانوا عيونا عليه لمصلحة الملك السعدي زيدان، قد انقلبوا حربا على الملك نفسه، وذلك في قصة تاريخية لا صلة لها بالموضوع الذي نعالجه، وثاروا بقائده (الزعروري) عليهم، فقتلوه ونهبوا بيته، فبعث إليهم الملك من طرفه قائدا آخر، فقتلوه كما قتلوا سلفه من قبله، وأعلنوها حربا سلبية على الملك أن صح هذا التعبير، حرب عصيان وخروج عن الطاعة، حرب فوضى وإضراب وسلب ونهب وتعد على الحرمات والأموال.
أما محمد العياشي، فقد كان لا يزال حتى هذه الساعة ساكنا يرقب الأحداث، وينتظر هدوء العاصفة، ليستأنف دعوته إلى التحرير والجهاد.
كان محمد العياشي، يحصر همه في حرب العدو الدخيل، أما الثورات والفتن الداخلية، فقد كان سلبيا بالنسبة إليها، ربما لأنه لم يكن يميز فيها وجه الصواب، وربما لأنه كان يرى كل المشتركين فيها ظلمة، فكان يصعب عليه أن يحدد موقفه منهم جميعا، كان يريد لأن يلقى الله بريئا من الفتنة، كان يريد أن يلقاه شهيدا مجاهدا نقي الصحيفة سليم القلب مرتاح الضمير.
كان محمد العياشي ينتظر أن تهدأ العاصفة، ولكن السكان فكروا أن هذه العاصفة لا يمكن أن تهدأ إلا على يديه، فقرروا أن يخرجوه من صمته، وأن يحملوه على عمل شيء ما، شيء يقضي على آثار الفتنة، ويعيد إلى الناس الهدوء والاطمئنان، ويشغلهم بحرب عدوهم عن التفكير فيما بينهم من خلافات أو حزازات، ولم يمتنع محمد العياشي عن الاستجابة لهذه الرغبة، لكنه أشترط لذلك أن يأخذ على الناس العهود والمواثيق حتى لا يعودوا فينفضوا من حوله، أو يصبحوا حربا عليه، وحتى لا ينتقل إلى أذنيه مرة آخري ما يتهامس به بعض الناس من أن حرب العدو لا تحل إلا في ركاب السلطة الشرعية الرسمية، أو بموافقتها على الأقل.
كان محمد العياشي قد أصبح في نظر الناس جميعا المنفذ الوحيد الذي تنعقد عيه الآمال وتتوجه إليه الأنظار، أصبح رمز التحرير والجهاد، أصبح زعيما روحيا وحربيا وسياسيا، فلم يكن من الصعب أن يحصل على ما يطلبه من العهود والمواثيق، وتدفقت عليه فتاوى العلماء من أطراف المغرب بمشروعية الحرب المقدسة التي يتزعمها ضد المستعمرين والمحتلين وأسلس إليه رؤساء العشائر قيادهم، وأمضوا له بالمبايعة والطاعة والوقوف رهن إشارته، وإتباعه فيما يسعى عليه.
وعزم العياشي أمره على أن يبدأ من جديد، وفكر في هذه المرة أن يجعل نقطة البداية جمع كلمة المواطنين بكل وسيلة ممكنة،حتى بالحرب أن اقتضى الحال، فإن القضاء على العدو الدخيل يستلزم أولا القضاء على الخيانة التي يعتمد عليها العدو في الدرجة الأولى للانتصار على المواطنين والفت في عضدهم وتفريق كلمتهم وحماهم على الإذعان والاستسلام، أن الانتصار في الحر التحريرية يستلزم إلا يكون بين المواطنين خارج، أو منحرف، أو خائن متخاذل، أو مرتش طماع، يجعل مصلحته الشخصية هي العليا وفوق كل اعتبار، وهكذا بدأ العياشي هذه الجولة بالقضاء على رؤوس الفتنة في القبائل القريبة والمجاورة، وامتد نفوذه الفعلي إلى الفاس التي كانت تشكو هي الأخرى من فتنة محلية، فقصدها بنفسه وطهرها، وأعاد إليها الأمن والنظام، واستطاع بكل ذلك أن يكون له مجال نفوذ واسع، وأن يجمع حوله كلمة المواطنين في جزء مهم من الوطن الذي يدافع عنه، وأحس من نفسه الثقة بالنصر إذا هو واجه العدو في جولة أخرى.
وكانت هذه الجولة في المهدية ضد الاسبانيين مرة ثانية، وتعددت الاشتباكات بين الفريقين، وكثر القتلى والجرحى، وكان النصر منذ البداية حتى النهاية حليف المجاهدين المغاربة بقيادة زعيمهم محمد العياشي، وأسر في هذه الاشتباكات المتعددة كثير من الجنود الاسبانيين، فيهم بعض الضباط، وأطلق سراح كثير من المغاربة الذين كانوا من قبل أسرى عند الاسبانيين يعملون في تسيير السفن الاسبانية، ويكلفون بأداء أشق الأعمال، وانتهى محمد العياشي من هذه الجولة ضد العدو الدخيل ليعود لتصفية حسابه مع الخيانة من جديد.
وكانت الخيانة في هذه المرة أيضا من الجالية الأندلسية التي كأبد منها ما كأبد من قبل.
كان الأندلسيون إبان هذه الحرب تجارا محتكرين يختزنون الأقوات ويختصون بها أنفسهم ويغلون ثمنها على من يطلبها من المواطنين والمجاهدين.
وكانوا في صفوف المجاهدين مثبطين متقاعسين يبخلون بالخدمة ويماطلون فيها، وقد اعتمد عليهم العياشي مرة في صنع سلالم طويلة، كان يريد أن يستعملها المجاهدون في اعتلاء أسوار المهدية، فوعدوه بذلك، وظلوا يماطلون في تنفيذه إلى أن وصلت الإمدادات الحربية إلى الاسبانيين فلم تعد السلالم تغني شيئا عن المجاهدين.
بل أنهم فعلوا أكثر من ذلك، فقد كانوا خلال المعركة عيونا للاسبانيين ينقلون غليهم أخبار المجاهدين ونواياهم وخططهم، وكانوا عونا للإسبانيين بمدنهم بالطعام وغيره.
وقد حاول بعض المؤرخين المغربة أن يعلل هذه الظاهرة الغربية، فغن الذي كان منتظرا من المهاجرين الأندلسيين الذين جاءوا إلى المغرب فرارا من عف الاسبانيين واضطهادهم، أن يغتنموا الفرصة التي وأتتهم للانتقام من أعدائهم، والشدة في حربهم، لا أن يكونوا عونا وعيونا لصالحهم.
واهتدى هذا المؤرخ إلى تعليل قد لا يبعد كثيرا عن معنى الكلام الذي قلناه سابقا ونحن نتحدث عن المحنة الروحية التي عاشتها الأجيال الناشئة بالأندلس بعد الاحتلال المسيحي وقبل الهجرة الجماعية الأخيرة، تلك المحنة التي استمرت ما ذكرنا مائة وستة عشر سنة، عاشها هذا الجيل الناشئ أو الأجيال الناشئة بالأندلس في خوف واضطراب وقلق كبير، وفي حيرة قاتلة زعزعت إيمانهم، ونالت من اعتزازهم بدينهم وقوميتهم.
يقول المؤرخ المغربي (أحمد الناصري) في كتاب (الاستقصا) عند التحدث عن دور الأندلسيين في المعارك التي دارت في المهدية بين العياشي وبين الاسبانيين، يقول : (وكانت تلك لرابطة بين أهل الأندلس والنصارى متوارثة من لدن كانوا بأرضهم، فكانوا آنس بهم من أهل المغرب)
وعلى كل فإنها ظاهرة معقدة، متعددة الجوانب، تحتاج إلى كثير من الشرح والتفسير والتحليل والإيضاح.
المهم الآن، أن محمد العياشي قد قرر بعد الفراغ من أمر المهدية أن يصفي حسابه مع الجالية الأندلسية، وان يقلم أظفارها ويعيدها إلى رشدها، وقد بدا من ذلك باستفتاء العلماء ورجال الدين أولا، فأفتوه بجواز قتالهم، وتردد بعضهم في ذلك، وهو الفقه المشهور عبد الواحد بن عاشر، صاحب المرشد المعين، إلى أن تأكدت لديه خيالتهم وممالأتهم للعدو وخدمتهم له، فأفتى هو الآخر بذلك، واجتمعت الكلمة أخيرا على أن أفراد هذه الجالية خارجون على الأمة محاربون لها مساعدون لأعدائها عليها، فاعمل محمد العياشي السيف في رقابهم، فقتل منهم كل من ثبتت الحجة عليه، وفر كثير منهم داخل المغرب وخارجه، وأعلن الباقون توبتهم واستعدادهم للتفكير عن خطاياهم، وأعطوه على ذلك العهود والمواثيق.
وبذلك اطمأن العياشي على صفوفه، وبدأ يعد العدة لجولة أخرى مع الاسبانيين، وكانت الجولة هذه المرة في العرائش، ونحن لا نرى موجبا هنا للدخول في التفاصيل حربية أخرى، المهم أن محمد العياشي قد انتصر في العرائش أخيرا في معركة فاصلة بعد مناوشات متعددة، ويروي التاريخ أنه قد قتل في هذه المعركة الفاصلة من الاسبانيين نحو الآلف، وفر الباقون منهم برؤوسهم وجلودهم لا يلوون على شيء.
عاد العياشي بعد ذلك إلى سلا، حيث تفرغ مدة لاستقبال الوفود القادمة إليه من أطراف المغرب، تهنئه بالنصر والتوفيق، وتعلن له طاعتها وولائها، ومناصرتها، وترجوه أن يمضي فيما هو بصدده حتى يحقق النصر الكامل، وحتى يحرر الشواطئ المغربية نهائيا من الاسبانيين والبرتغاليين، وكان في هذه الوفود علماء كثيرون، خصوصا من مدينة فاس.
انتهى العياشي من الاسبانيين بالمهدية والعرائش، فعاد من جديد يفكر في البرتغاليين بالجديدة.
البرتغاليون !! لقد كان خليقا أن يكون قد انتهى من أمرهم لولا تدخل الملك زيدان السعدي، ولولا حملته التأديبية التي كان قد بعثها من مراكش برئاسة القائد «محمد السنوسي» تلك الحملة التي رأى محمد العياشي أن يتجنب الاشتباك معها، وأن يفر «هاربا» من وجهها تحت جنح الليل.
لقد مر على ذلك حتى الآن خمس وعشرون سنة، مات فيها زيدان، وتعاقب على العرش بعده ثلاثة من أبنائه، هم عبد الملك، والوليد، ومحمد الشيخ.
وإذا كان العياشي لم يتعرض لشيء من كيدهم بسلا أو فاس أو المهدية أو العرائش أو غيرها، فغنما كان ذلك لبعد هذه النواحي عن العاصمة «مراكش» ولضآلة ما كان الملوك السعديون يتمتعون به من نفوذ بهذه النواحي في هذه الفترة، لقد كان نفوذهم الفعلي لا يتعدى نهر أم الربيع، وبذلك استطاع العياشي أن يكسب في الشمال حرية التصرف والعمل، أما الجديدة فإنها قريبة من العاصمة، قريبة من متناول أيدي الملوك السعديين أبناء زيدان، لذلك سيكون على العياشي فيها أن يحارب البرتغاليين من جهة، وان يأخذ حذره حتى لا يصطدم بالسعديين من جهة أخرى.
ومع كل ذلك، فقد أقدم العياشي على حرب البرتغاليين بالجديدة، أو على استئناف الحرب معهم إذا أردنا الدقة في التعبير، وكان النصر حليفه هنا أيضا كما كان حليفه من قبل في كل حركاته، إذ اشتبك مع البرتغاليين إلا القليل، أما الملك السعدي محمد الشيخ، أو صاحب مراكش كما يدعوه بعض المؤرخين المغاربة، فقد فاجأته الحركة، وفاجأه النصر السريع، لكنه لم يملك لكل ذلك إلا أن (يستنكره) ويتأسف له، وأن يستأنف معه أفراد حاشيته والمحيطين به والمقربين إليه، وقبل أن يظهر لهذا الاستنكار أي أثر عملي، كان العياشي قد عاد إلى سلا، بجيوشه، ليستأنف السير منها على فاس، فقد كانت فاس في هذه المدة في أشد الحاجة إليه لتسوية خلاف داخلي بها بين السكان المواطنين.
وهكذا كان العياشي دائما حركة دائبة لا تنقطع، يعمل في كل ميدان، كان يحارب العدو المحتل، وكان يحارب الخيانة، وكان يعمل لاجتناب الاصطدام بالسعديين، وكان يجمع صفوف المواطنين ويعالج ما يقع بينهم من خلافات أو مشاكل، وكانت الطريق لا تزال أمامه طويلة، ومشاريعه كثيرة، كان يريد أن يفعل الكثير جدا أكثر مما فعل، لكن العصر الذي كتب عليه أن يوجد فيه لم يقدم له المساعدة الكاملة، والمواطنين الذين كان بخدمهم لم يكن لديهم استعداد صحيح للاستجابة، أو للصمود والاستقرار.
ومع ذلك فقد كان كل شيء متوقعا إلا شيئا واحدا فقط، لم يكن من السهل توقعه، ذلك أن يقتل البطل الشعبي محمد العياشي بأيدي مواطنيه، لكن هذا هو الذي وقع بالفعل، ولم يكن له مع ذلك أي سبب مباشر معقول.
ولو كانت القصة التي نسوقها اليوم خيالية لعد من فشل كاتبها أن يضع لها مثل هذه النهاية الباردة، لكن التاريخ لا يتطلب عنده أن يرتب الأحداث ترتيبا فنيا، أو أن يختار لها النهايات المناسبة، أن جريان الأحداث التاريخية لا يعترف بالقواعد الفنية، بل انه أحيانا ينكر حتى المنطق نفسه، أن المطلوب من التاريخ، فقط، أن يروي، وان يحلل الأحداث، ويعللها ما استطاع سبيلا إلى التعليل، وان كانت الأحداث التاريخية تستعصى على التعليل في كثير من الأحيان.
وقصة مقتل العياشي، قصة تافهة باردة، لا تتناسب مطلقا مع بطولته وكفاحه وإقدامه، ولا تكاد تتصل بالأحداث التاريخية الكبرى في حياته، وأن كانت تتصل اتصال وثيقا بما كان يسود العصر من فساد،وما كان في صفوف المواطنين من خلاف واضطراب وعدم انسجام.
ونحن لا نزال نذكر قصة الجالية الأندلسية بالرباط، والموقف الأخير الذي اتخذه العياشي منهم بعد حرب لمهدية، وبعد استفتاء العلماء والفقهاء وإقناعهم بجواز قتالهم، وما كان من قتل من ثبتت عليه الحجة منهم، وفرار كثير منهم داخل المغرب وخارجه، وقد ألجأ بعض هؤلاء الفارين على الزاوية الدلائية بتادلا.
كانت الزاوية الدلائية في هذه المدة في عنفوانها وشرح شبابها، كانت مراكز العلم والنفوذ الروحي الكبير، وكان الدلائيون مرشحين للعرش من بين المرشحين له في هذه الفترة الحالكة من تاريخ المغرب.
وقد حاول الدلائيون أن يشفعوا للفارين من الجالية الأندلسية عند محمد العياشي، لكنه لم يقبل فيهم شفاعة، والدلائيون لم يتعودوا أن ترد شفاعتهم أو أن يبخس قدرهم، يضاف على ذلك، أن الدلائيين كانوا قد بدأوا هم أنفسهم يتغيرون على محمد العياشي ويتجاهرون بعدم الاطمئنان إليه، وقد وجدوها فرصة سانحة لتأليب المواطنين عليه والدعوة إلى حربه، وعند ما كان العياشي راجعا على سلا من طنجة في إحدى حركاته، وجد الدلائيين مترصدين له بالطريق في جموع من إتباعهم والمشايعين لهم من نواحي تادلة وغيرها مما استطاعوا أن يحشدوه أثناء الزحف.
وحاول العياشي على عادته في مثل هذه الظروف أن يتجنب الاصطدام، حاول أن يتنكب طريقهم بالفعل، وأن يفر من وجههم فلم يفلح في ذلك، واضطر أخيرا إلى الدخول في الفتنة التي ظل يتحنها طيلة حياته، ولم يكن رجل فتنة، فلم يستطع أن يصمد فيها، وانهزم لأول مرة في حياته.
انهزم البطل... واضطر إلى الفرار، ولجأ على قبيلة (الخلط) في الشمال الغربي من المغرب، لحمايته، وفي ظروف وقعت رأسه، ووضعت بذلك حدا لآلامه، كما وضعت بذلك حدا لمرحلة من مراحل الكفاح الوطني الشريف.
وهكذا انتهت حياة محمد العياشي بمأساة، لا لأنه قتل، ولكن لأنه قتل بأيدي مواطنيه الذين وقف حياته على خدمتهم والذب عنهم والكفاح من اجلهم، وقف حياته على تحريرهم، وقف حياته على جمع شملهم وتطهير صفوفهم وتوحيد كلمتهم وحضهم على قتال عدوهم.
ولئن كان العياشي لم ينجح في معركة التحرير كل النجاح، فإنه قد نجح في انجاز حلقات مهمة منها، ومهما يكن، فقد بذل من أجلها جهده، ووقف عليها حياته وراحته وفكره، فاستحق بذلك أن يخلده التاريخ، وإن يحتفظ له بأجمل الذكريات وأنبلها، وكفى بذلك شرفا في الدنيا، والله عنده أجر عظيم.
المصدر: دعوة الحق ، العدد 12
ونحن لا نؤمن إيمانا أعمى بان التاريخ من صنع الأبطال فقطن ولكنا لا نؤمن أيضا إيمانا أعمى بأن التاريخ في تطوره، والإنسانية في تقدمها، يستطيعان أن يستغنيا استغناء كاملا عن الأبطال والقادة والعباقرة والمغامرين.
هناك دائما شيء اسمه (رجل الساعة) وهنالك دائما أيضا شرط أساسي لنجاح (رجل الساعة) ذلك أن تحيط به الظروف المواتية، وان يبرز ببطولته في الساعة التي تشتد فيها الحاجة إليه، وتتهيأ المشاعر والادهان للاستجابة له والالتفاف من حوله والإيمان بما يدعو إليه.
وكم من بطولة أو عبقرية أهدرت، لأنها كتب عليها أن تتقدم عن عصرها أو أن تتأخر عنه، وكم من بطولة أو عبقرية، أخرى، صادقت حظا قليلا من نجاح، وكانت خليفة أن تفعل الأفاعيل وتأتي بالمعجزات لو أنها تأخرت قليلا، عن الوقت الذي برزت فيه.
وبطلنا هذا الذي نريد أن تتحدث عنه البوم، بطل شعبي، لم تلده القصور، ولم يزين مفرقه تاج، ولم يكن في مركز من مراكز المسؤولية.
كان مجرد طالب، لا أكثر ولا اقل، وكان مريدا بحث عن طريقه على الله، وكان من الممكن جدا. بالنسبة للبداية التي بدا حياته، وبالنسبة للعصر الذي وجد فيه، أن تنتهي حياته (درويشا) أو (مجذوبا) تطلب عنده البركات، ويمسح بيده رؤوس المرضى، ويسال عن تأويل الأحلام والمنامات.
فقد كان العصر الذي أنجب (محمد العياشي) عصر (درويشة) (وجذب) بكل ما في الكلمة من معنى، كما كان عصر جهل وتخاذل وانحطاط واستكانة إلى الظلم والاحتلال والفوضى واللامبالاة، كان عصرا من هذه العصور التي ينام التاريخ، وتترك الأمور فيها لنفسها، لتسير وحدها كما تريد، وقد لا تسير أصلا ولكنها لا تجد من يهتم بها أو يفكر فيها أو يسال عنها، كان عصرا من هذه العصور التي يسودها التواكل والإهمال والتجرد من المسؤولية، من العصور التي يعيش فيها الناس لبطونهم، لا يفكرون فيما عداها، ولا يفكرون في ماهبة ما يملأ ون به هذه البطون، فقد يكون رشوة، وقد يكون أجرا عن خيانة، وقد يكون سرقة مفضوحة لا غبار عليها، ولكن المهم، فقط، أنه شيء يملأ البطن، ويحفظ الحياة.
كان ذلك في أواخر عهد الدولة السعدية، في النصف الأول من القرن السابع عشر.
والدولة السعدية قد انتهت بالضبط يوم وفاة المنصور الذهبي، ولو أنها استطاعت أن تغالب سكرة، الموت بعده نحوا من سبع وخمسين سنة، تعاقب فيها على العرش من أبنائه وأحفاده نحو من سبعة ملوك،
ونحن نقول : (نحو من سبعة ملوك) لان تعدادهم بالضبط عسير كل العسر، فهم لم يكونوا ملوكا بالمعنى الصحيح، وغنما كانوا رؤساء أقطاعات، وثوارا، ومحاربين.
كان الواحد منهم يقضي حياته-وهو بعيد عن العرش-في ثورة، ويقضي حياته- وهو على العرش- في رد عادية الثوار عن عرشه.
أما الشعب فقد كان موزعا بينهم، يعطي اليوم ولاءه لهذا، لينتزعه منه غدا، ويعطيه لأخيه أو ابنه أو ابن عمه، أو ينتقل به على أسرة أخرى، أما لأنه يعلق أملا، وأما لأنه يجد عندها من الخبز أكثر مما يجد عند غيرها، فقد كان الشعب نفسه في هذه الفترة يعيش نكسة روحية، وكان اليأس قد استبد به فصرفه عن كل مثل أعلى، وكان الفساد في العرش ينعكس على الشعب كله، فإذا هو مريض العقل والشعور والوجدان، يعيش نهاره في طلب حاجاته المادية، ويسمر ليله في ترديد كرامات الأولياء والدراويش والمجاذيب والمعتوهين.
ونحن لا نريد هنا أن نصدع دماغ القارئ الكريم، بالدخول به تفاصيل النزاع حول العرش في هذه الفترة الحالكة من تاريخ المغرب، فنحن ارحم به من ذلك، نحن ارحم به من أن نزج به في إعصار لإقرار له ولا أول ولا أخر، ويكفي أن نقول : أن الطابع الذي يتسم به تاريخ المغرب في هذه الفترة، هو الفوضى، والاضطراب، وتوزع المسؤوليات، والاستهانة بها، وكثرة الطامعين في العرش والمرشحين له من السعديين وغير السعديين، وان الشعب في هذه الفترة، لم يكن مهيأ للقيام بأي عمل ايجابي، فقد كان من السهل على كل تأثر أن يجذبه غليه، وان يرمي به وقودا رخيصا على معركة. وقد لجأ الشعب في هذه الفترة، وفي وسط هذا الظلام المخيم الحالك، على نوع من الروحية المريضة الجاهلة، يتطلب البركات والكرامات ويتأول الأحلام، ويتمسح بالأضرحة، ويتلو الأوراد.
وفجأة، ومن غير مقدمات ولا إرهاصات، وفي وسط هذا الخصم الهائل من الفوضى والاضطراب، ظهر في الميدان البطل الشعبي (محمد العياشي) ليحارب الأسبان والبرتغاليين وبدافعهم عن شواطئ المغرب التي أصبحت هدفا سهلا لمغامراتهم وقرصنتهم وجشعهم الذي لا حد له، وليتعرض لاضطهاد السعديين الذين ضاقوا درعا بظهوره، خصوصا عندما بدأت القوى الشعبية تتمل من حوله، وليعاني من الخيانة والارتشاء الذين كانا متفشيين في رجال الحاشية ولتنتهي حياته بمأساة على يد الشعب الذي كافح طول عمره لينقذه من الظلم والإقطاع والاستعمار.
كان على العرش عند ما ظهر محمد العياشي في الميدان الأول مرة سنة 1604 الملك السعدي زيدان بن أحمد المنصور الذهبي، وكان محمد العياشي من مدينة (سلا) كان طالبا بها، ومريدا لشيخ من شيوخها المشهورين بالعلم والكرامة، لكنه ظهر في الميدان لأول مرة في ناحية (آزمور).
وقصة انتقال محمد العياشي من مدية (سلا) إلى ناحية (آزمور)-كما يرويها التاريخ- قصة طريفة تمتزج فيها الخرافة بالتاريخ امتزاجا يبعث على الشك في تصديقها، مهما يكن، فقد ظهر العياشي في ناحية آزمور، داعيا للجهاد ضد البرتغاليين في(الجديدة) التي كانوا قد استولوا عليها من قبل وحضنوها واستقروا بها، مغتنمين ضعف الدولة وعجزها عن مقاومتهم والنهوض غليهم، وانشغالها بالثورات والحروب الداخلية والنزاع حول العرش، فقد روى التاريخ-فيما روى- أن (زيدان) الملك السعدي الذي ظهر (محمد العياشي) في عهده، قضى ملكا أو كملك، خمسا وعشرين سنة، لم تخل سنة منها من حرب له مع إخوانه وأقاربه والخارجين عليه!!
ولم تكن كلها حروبا أو ثورات سهلة يسيرة من النوع الذي يمكن القضاء عليه بسهولة، فقد بلغ من خطورة بعض هذه الحروب والثورات، إن طوحت به بعيدا عن عاصمته ومقر ملكه (مراكش) إلى مدينة (تلمسان) بالمغرب الشرقي، يطلب العون من الأتراك العثمانيين الذين كانوا يحكمون الجزائر إذ ذاك، على استرجاع عرشه الضائع.
*
كان البرتغاليون يحكمون (الجديدة) بقوة الحديد والنار،وقد بلغ من هوان الشعب على نفسه وعلى المحتلين البرتغاليين، أنهم لم يعودوا يقيمون له وزنا، أو يحسبون أعواطفه أي حساب، وكيف يقيمون وزنا لعواطف الشعب، وهو يظهر التودد إليهم، والترحيب بهم، ويتحفهم بالهدايا، ويتلقاهم بالزغاريد. قد يكون ذلك خوفا، أو (تقية) أو استسلاما للقوة، إيمانا بها، المهم انه واقع أليم، يصعب على النفس احتماله، ويشعر الإنسان بالخزي والحسرة من مجرد قرأته أو الاطلاع عليه.
وهذه زوجة الحاكم البرتغالي بالجديدة، تريد يوما أن تلهو فلا تقترح إقامة مسرح، ولا تطلب استدعاء مهرجين، ولا تفكر في الخروج إلى نزهة، وغنما تطلب إلى زوجها العزيز، أن يقترح على حاكم (آزمور) المغربي، تنظيم مناورات حربية بين الجيش البرتغالي بالجديدة، والجيش المغربي بآزمور، ويتم كل شيء وفقا لرغبة صاحبة السعادة زوجة الحاكم البرتغالي المدللة، ويحدث أثناء المناورة أن يقتل جندي برتغالي جنديا مغربيا، فيحتج حاكم آزمور المغربي على ذلك، فيجيبه حاكم الجديدة البرتغالي بمنتهى البرودة والبساطة :
- وأي باس في ذلك، لقد مات شهيدا كما تقولون. في هذا الجو المفعم بالخزي والهوان، كتب عل محمد العياشي أن يظهر بناحبة آزمور، ليدعو إلى الكفاح المسلح ضد البرتغاليين. وليس هذا موطن العجب، وإنما موطنه، أن محمد العياشي قد نجح في محاولته، وقد استطاع أن يحرك الضمائر ويلهب العزائم، وان يحشد من القوى الشعبية، ما استطاع به أن يدخل في معارك متعددة ضد البرتغاليين.
وتشاء الصدفة أن يموت في هذه الأثناء، الحاكم المغربي لمدينة آزمور وناحيتها، فلا يجد الملك السعدي زيدان بن أحمد المنصور، خيرا من محمد العياشي ليقلده أعباء الحكم بهذه الناحية الرابضة على أبواب الخطر، أما لأنه أولى من يقوم بهذه المهمة، وأما لأنه أصبح هو الحاكم الفعلي لمدينة آزمور وناحيتها وصاحب الكلمة الأولى فيها، فيكون من حسن السياسة أقراره رسميا على ذلك.
مهما يكن، فقد أصبح محمد العياشي يحكم آزمور وناحيتها باسم الملك، ولم تشغله الوظيفة الطارئة عن مواصلة العمل لإتمام المهمة التي بدأها، فاستمر في حرب البرتغاليين، وانتصر عليهم في معارك عدة وامسك بخناقهم، وكاد النصر أن يتم له نهائيا على قواهم المحتلة الباغية، لولا أنهم لجأوا معه إلى نوع من المقاومة لم يحسب له حسابه منذ البداية، ولم يكن في استطاعته أن يتقيه أو يصمد له.
لجأوا إلى نوع من المقاومة قوامه الرشوة، وشراء الضمائر، والكيد، والخسة، وكل ما هو معروف من أساليب الاستعمار والاحتلال الأجنبي عندما تخذله القوة، وعندما يصطدم بالوطنية الصادقة والعزم الأكيد.
لم يستطيع البرتغاليون أن يهزموا (محمد العباسي) في ميدان المعركة بين آزمور والجديدة، فقرروا أن يهزموه بعيدا عن أرض المعركة، هناك في مراكش، وفي بلاط الملك نفسه.
قرروا أن يهزموه بيد الملك الذي ولاه آزمور إيثارا له على غيره، أو خضوعا للأمر الواقع، وإذا كانت الحرب تكلف الكثير جدا، خسائر في الأنفس والأموال والعتاد، فإن هذه الحرب التي شنها البرتغاليون على محمد العياشي في بلاط الملك، لن تكلفهم أكثر من بعض (الهدايا) يتحفون بها رحال الحاشية، ويتركون لذكائهم بعد ذلك، أن يولى البحث عن طريقة للخلاص من محمد العياشي.
وتخرس ضمائر رجال الحاشية، لتتكلم (الرشاوي) التي تملأ جيوبهم وبطونهم، وتفوح في الجو رائحة الخيانة خبيثة كريهة تزكم الأنوف، ويقتنع الملك بسهولة، أن محمد العياشي هذا يجب التخلص منه بأية وسيلة، فقد قوى ساعده واشتد عوده، وقد أصبح ذا نفوذ كبيرة مما يمكن أن يسمح به للولاة وحكام الأطراف.
أن محمد العياشي هذا لٌد أصبح خطرا على العرش، على الملك نفسه، فلماذا لا يتلخص منه، لماذا لا يبعث إليه بحملة تاذيبية ؟ لماذا لا يطلب رأسه ثمنا لما سببه من إزعاج للدولة الآمنة المطمئنة، واحتياطا مما يخاف منه المستقبل من أخطار قد سيتعصي التخلص من آثارها بعد أن تكون قد وقعت بالفعل ؟؟
*
وهكذا وقع الاختيار على القائد (محمد السنوسي) ليكون على رأس هذه الحملة التأديبية، وليأتي برأس محمد العياشي إلى مراكش، حيث يعلق على أسوارها عبرة للخارجين على الدولة والمؤتمرين بسلامتها.
ويبدو أن القائد (محمد السنوسي) كان رجلا عسكريا شريفا، لم يقتنع بمشروعية الحملة التي اختير ليكون على رأسها، ولم يستطيع في نفس الوقت أن يمتنع من تنفيذ الأمر الذي ألقي غليه، فقرر أن يحتال لنفسه وان يجد له مخرا من هذه الورطة التي زجوا به بين أحضانها.
ومن يدري ؟ فربما كانت نفسه تحدثه وهو في الطريق إلى آزمور على رأس الحملة، أن محمد العياشي يقوم بواجب وطني، كان هو بصفته عسكريا أولى بالقيام به ، وكان وجوبه أكد بالنسبة إليه هو نفسه، فلماذا يحاربه وهو ليس ثائرا أو خارجا على الدولة أو مجاهرا بالعصيان ؟ وإنما هو رجل وطني مخلص حر الضمير، برز من صفوف الشعب ليرفع راية الكفاح ضد الاحتلال الأجنبي، وكان أولى بالدولة أن تساعده على أمره، ببدل أن تحاول التخلص منه، كان أولى بها أن تنوه به وترفع من ذكره، وتمده بما قد يحتاج إليه من مال أو عتاد، فإذا لم تفعل، فلا أقل من أن تتركه يحاول انجاز المهمة التي لم يطلب من أجلها أجرا ولم يكلف الدولة مساعدة، وإنما اكتفى بالاعتماد على القوى الشعبية الكامنة، التي لا يحتاج، لكي تعمل، إلى أكثر من تحريك وجدانها، وإثارة عاطفتها الوطنية.
وأخيرا اهتدى القائد (محمد السنوسي) إلى حل للمشكلة، بعث على محمد العياشي على جناح السرعة، وهو في طريق إليه، بعض من يثق بهم من خواصه المقربين إليه، بعث إليه يطلب منه أن يهرب من آزمور قبل أن يصل هو إليها، فقد جاء إليه باسم الملك، لكي يقتله، ولكي يحمل رأسه هدية إلى سيده المطاع.
كان من ممكن أن يرفض محمد العياشي فكرة الهروب، وان يصمد للحملة التي بعثها غليه الملك، كما صمد من قبل للبرتغاليين، لكن حرب العدو غير حرب الصديق، وقتال الدخيل الأجنبي مهما تكن قوته، أيسر من قتال المواطن، مهما يكن ضعفه، ومهما يبلغ الإيمان بظلمه وانحرافه، ورحم الشاعر العربي القديم.
وظلـم ذوي القربـى اشـد مضاضــة على المرء من وقع الحسام المهند
وهكذا خرج محمد العياشي (هاربا) من مدينة آزمور، خرج متسللا في خاصته والمخلصين لدعوته، لم تمش معه البنود، ولم تصدح له الموسيقى، ولم تشيعه دموع الأهالي ولا هتافاتهم.
جاء على آزمور وفي قلبه آمال، وخرج منها وفي قلبه حسرة، جاء إليها ليحارب العدو والدخيل، وخرج منها هاربا كما يهرب اللصوص والمجرمون والسفاكون والقتلة.
ودخل مدينة آزمور بعد ذلك بقليل، القائد العسكري محمد السنوسي، على رأس حملته التأديبية واستشاط غضبا عندما أخبروه أن محمد العياشي قد هرب، واستعمل كل وسيلة ممكنة للبحث عنه فلم يعثر له اثر، يحث عنه في كل بيت، واشتد في عقاب كل من تتوجه إليهم شبهة إخفائه أو التستر عليه واستمر في ذلك زمنا حتى خامره اليأس من العثور عليه، وأخيرا عاد على مراكش ليخبر الملك أن محمد العياشي قد هرب، وان الحملة لم تنجح النجاح المطلوب، ولكنها مع ذلك لم تفشل كل افشل، فقد كفينا أمر هذا (العياشي) وعادت المياه على مجاريها م جديد.
خرج محمد العياشي من آزمور (هاربا) وحط رحله مرة أخرى بمدينة (سلا) بعد أن كان قد فارقها تسع سنين كاملة (من سنة 1604-1614) وعاودته الذكريات ذكريات هذه السنين التسع الأخيرة بما كان فيها من كفاح وجهاد وصبر وتضحية، وذكريات ما قبلها من السنين، يوم أن كان مجرد طالب بسيط، يطلب المعرفة والكرامة، ويوم أن كان شيخه الجليل يتنبأ له بالمستقبل الزاهر والمجد الكبير.
ترى قد تحقق كل ما كان يتنبأ له به شيخه ؟ ترى أن العودة على (سلا) هي نهاية المطاف فلم أنها لا تعدو أن تكون نهاية شوط من أشواطه ؟.
وجاءه الجواب سريعا، أن العودة إلى سلا لا يمكن أن تكون نهاية المطاف، فالظلم والفوضى والاستبداد والاضطراب لا يزال كلها ضاربة أطنابها، والأعداء من البرتغاليين واسبانيين لا زالوا يقتسمون عددا من شواطئ المغرب، ويعيشون في الأرض الفساد، ويستذلون المواطنين أبشع استذلال وأسواه.
أن هي إلا مرحلة من مراحل الكفاح، ولابد من إحدى الحسنين، من نصر مؤزر كامل، أو شهادة تفتح الطريق إلى الله على مصراعيه، وما دامت هذه الشهادة المرجوة لم تتأت بعد، فلا مناص مطلقا م مواصلة الكفاح.
لقد عاد محمد العياشي غل (سلا) ليستأنف الكفاح من جديد، ويقف وجها لوجه أمام سلسلة طويلة من المتاعب ظلت حلقاتها تتقاذفه إلى أن أسلمته أخيرا إلى الموت.
ولكي نستطيع أن نفهم حقيقة المتعب الجديدة التي جابهها محمد العياشي،ر فنحن مضطرون أن نقف وقفة قصيرة، قد تساعدنا على فهم الظرف التاريخي الدقيق الذي كانت تعيشه سلا والرباط في هذه الأيام فقد كانت المدينتان المتجاورتان تعيشان في هذه الفترة التاريخية الدقيقة، عملية(صهر) صعبة ومعقدة، كانتا تعانيان من حالة (عدم انسجام) بين السكان، وكان ذلك يرجع في أصوله إلى الغزو المسيحي للأندلس المسلمة، وإلى انتصاره فيها واضطهاده المسلمين بها، وإلى اضطرار هؤلاء لخيرا إلى الهجرة على البلاد الإسلامية المختلفة، وغلى المغرب من بينها على وجه الخصوص.
كان ذلك أواخر القرن الخامس عشر عندما ثم للمسيحيين نهائيا الاستيلاء على الأندلس، وذلك باستيلائهم سنة 1492 على غرناطة آخر معتقل من معاقل المسلمين بها، وكان ذلك بشروط كثيرة، أهمها احترام حرية التدين لكل واحد من السكان. لكن المسيحيين نكثوا عهودهم جميعا، ونكثوا على رأسها تعهدهم بترك الحرية للمسلمين أن يحتفظوا بدينهم، وان يمارسوا شعائره في حرية كاملة، واشتد البلاء في ذلك الوحشية والتعسف وشدة النكير، وأخبار محكمة التفتيش معروفة مستقصاة في كتب التاريخ، لا نرى موجبا لذكرها، أو سرد أمثلة من مخازيها وضراوتها وقسوتها المتناهية،وإنما الشيء المهم الذي نريد أن ننص عليه هنا، أن هذه المحنة قد استمرت أكثر من قرن كامل من سنة (1492) التي تم للمسيحيين فيها الاستيلاء على غرناطة إلى سنة (1608) التي قرر المسيحيون فيها التخلص نهائيا ممن بقي بين ظهرانيهم من المسلمين، وذلك بإجلائهم عن أرض الأندلس وحملهم على الهجرة منها على حيث يشاؤون.
في هذه المدة التي تزيد عن قرن كامل بنحو سنة عشر سنة، كان قد تنصر من المسلمين بالأندلس من تنصر، وفر بدينه من استطاع سبيلا إلى الفرار، وصمد الباقون يتظاهرون بالطاعة، ويختلفون إلى الكنائس كما يختلف النصارى، فإذا عادوا إلى بيوتهم أغلقوا عليهم وأقاموا صلاتهم، وقرأوا القرآن، وتوجهوا إلى الله يطلبون منه أن يكشف عنهم البلاء.
وفي هذه المدة أيضا، نشأ بين المسلمين بالأندلس، جيل جديد معوج العقيدة ملتوي الضمير، موزع بين الإيمان بهذا الدين الذي رأى آباءه يقيمون شعائره في خفية، ويحرصون عليه رغم التنكيل والعذاب والامتحان العسير، وبين هذا الدين المنتصر الغالب، الذي تقام شعائره في الكنائس الكبيرة المليئة بالأثاث والزخرف والنقوش والتماثيل، وعلى أصوات الموسيقى الهائلة المؤثرة، وترانيم الصبية والعذاري من الراهبات والأخوات، نشأ هذا الجيل موزعا بين ذلك، ونشأ موزعا أيضا بين الكراهية لهؤلاء يحتقرونه ويعذبونه ويعذبون قومه، وبين الإعجاب بمجموع صفاتهم التي آتتهم القوة والغلبة، نشأ مترددا حائرا لا يستقر على شيء، ولا يكاد يؤمن بشيء حتى يجذبه غليه غيره.
وأخيرا، وعندما قرر المسيحيون في الأندلس، أن يتخلصوا نهائيا من المسلمين، كتب على هذا الجيل الذي نتحدث عنه، أن يتعرض لمحنة أخرى، كادت تهد فيه بقية الإيمان بدينه وقوميته، ذلك أن المسلمين عبروا البحر من الأندلس ليتفرقوا في بلاد الإسلام فرارا بدينهم، أو ببقايا دينهم، لكنهم تعرضوا أثناء هجرتهم في بلاد المسلمين نفسها إلى كثير من القلق والخوف، تعرضوا لتنكيل اللصوص وبطشهم وقسوتهم، تعرضوا للغش والتدليس والمساومة، تعرضوا للبهيمية الجامحة التي لا تعرف الحدود، تعرضوا لكل أنواع البلايا التي يمكن أن يتعرض لها مهاجر يصحب معه أبناءه وبناته وكل ما يملك من متاع، وفي ظروف عدم استقرار وامن بالبلاد التي يهاجر إليها، فقد كان العالم الإسلامي كله في أوائل القرن السابع عشر، مسرحا للظلم العثماني من جهة، ومسرحا للفوضى والاضطراب من جهة أخرى.
واستقر هؤلاء المهاجرون أخيرا بمختلف البلاد الإسلامية، بالمغرب العربي، ومصر، وسورية، وغيرها، ووصل بعضهم إلى القسطنطينية، وآن لهم أخيرا أن يعرفوا الأمن والراحة والهدوء والاطمئنان، لكنهم كانوا بحاجة إلى مدة طويلة جدا، قبل أن يتم انصهارهم، وقبل أن يمتزجوا بمواطنيهم الجدد امتزاجا كاملا، وقبل أن تشفى نفوسهم من كل ما كان قد ألم بها من المحن المادية والمعنوية.
وكان من الطبيعي أن يكون حظ المغرب من هؤلاء المهاجرين الأندلسيين الحظ الأوفر، لقرب المسافة، وللصلات القوية التي ظلت تربط تاريخ الأندلس بتاريخ المغرب أحقابا متتالية، وهكذا استقر معظم المهاجرين إلى المغرب من الأندلس، بتلمسان وفاس وتطوان والرباط.
وفي الرباط بالذات، كان للجالية الأندلسية المهاجرة تأثير كبير في مجرى الأحداث التاريخية التي نتناولها اليوم بالكلام.
كنا مضطرين أن نقف هذه الوقفة لنقول ذلك أن محمد العياشي كتب عليه أن يعود إلى سلا على أثر هذه الهجرة الجماعية من الأندلس إلى المغرب، وكتب عليه أن يستأنف الدعوة إلى الجهاد فيس سلا والرباط معا، في بيئة غير مستقرة، ينعدم الانسجام بين أصحابها انعداما كليا، وتتعدد فيها الاتجاهات، وتختلف المصالح، وتضطرب النفوس.
كانت سلا والرباط تعشان في هذه الفترة-كما أسلفنا- عملية (صهر) صعبة ومتعقدة، وكان من اللازم على من يريد أن يقوم بعمل ايجابي فيهما أن يتريث قليلا حتى يهدا المرجل، ويصفو الجو، ويتحدد الاتجاه.
لكن محمد العياشي لم يتريث، وأنى له أن يفعل، والعدو على الأبواب، يستحل دماء المواطنين وأموالهم، ويستذل كبرياءهم، ويعبث فسادا في أرضهم، وهذه (المهدية) و (العرائش) يحتملهما الأسبان ويحكمون السيف في رقاب أهليهما كما يحكمه البرتغال في رقاب إخوانهم (بالجديدة) وهكذا حاول العياشي مرة أخرى أن يلهب حماس السكان بسلا والرباط كما فعل من قبل في آزمور وناحيتها، وزاول أن يكون من السكان جميعا في المدينتين المتجاورتين قوى شعبية يحارب بها الأسبان في المهدية والعرائش.
وكما ضيق العياشي الخناق على البرتغاليين بالجديدة من قبل، فقد استطاع أن ينكل بالحامية الاسبانية بالمهدية، ويذكر المؤرخون أنه قتل من الاسبانيين في أول التحام بينهم في المهدية وبين جيش التحرير المغربي البطل محمد العياشي نحو من أربعمائة جندي، كما قتل من المواطنين مائتان وسبعون.
وطارت أخبار النصر على مراكش لتقلق مرة أخرى راحة املك السعدي زيدان وحاشيته الوفية المخلصة، ولتنبههم من جديد إلى هذا الخطر الموهوم عليهم وعلى العرش، لقد كانوا يظنون أنهم تخلصوا من هذا العياشي ومن نشاطه الذي لا حد له، فإذا هو يبعث في الواجهة الأخرى، وإذا ينتصر فيها كما انتصر في سألفتها من قبل، فماذا يكون من أمرهم وأمر العرش لو تمادت المعارك بالعياشي من نصر على نصر، ولو استطاع أن يكتل حوله من القوى الشعبية ما لا قبل لهم به ولا قدرة لهم عليه.
واجتمع الرأي سريعا على أن محمد العياشي يجب التخلص منه بأي ثمن، وإذا لم يكتب النجاح في ذلك من قبل، للقائد محمد السنوسي الذي كان على رأس الحملة التأديبية التي ذهبت إلى آزمور لتأتي برأس محمد العياشي، فربما نجح في ذلك الآن القائد (الزعروري) قائد الفرقة العسكرية الأندلسية المقيمة بالرباط، وجاء الأمر إلى (الزعروري) بالرباط لينفذ الخطة المدبرة، لكنه آثر قبل الإقدام عليها أن يستشير ضباط الفرقة العسكرية الأندلسية فكان الرأي الأخير، أن يتريثوا قليلا، وأن يحيطوا العياشي بجماعة منهم لتتجسس عليه وتختبر نواياه الحقيقية، لتعرف دخيلة أمره وما هو عازم عليه.
وأحس العياشي بالجو من حوله مكفهرا مظلما، وزكمت رائحة الخيانة الكريهة أنفه مرة أخرى، وأحس أنه مغرور، وأن الغدر لا يأتيه في هذه المرة في صورة حملة تأديبية، وإنها يأتيه من المحيطين به والأقربين إليه، يأتيه من هؤلاء الذين يعتمد عيهم في نصرته، والذين كانوا إلى الأمس القريب معه في الواجهة يحاربون معه الاسبانيين في المهدية جنبا إلى جنب.
وكما قرروا هم أن يتريثوا قليلا، فقد قرر هو أيضا أن يتريث، وأن يكتفي بمراقبة الأحداث والأحوال، وان يصمت فلا يتكلم، ويهدا فلا يتحرك، حتى يتيقن من مواطئ أقدامه، أقدامه، وحتى يعرف أصدقاءه من أعدائه وخصومه، وحتى يتبين الوجوه، فيعرف من بينها من يلازمه إيمانا بدعوته ومبدئه، ومن يلازمه لأنه يتحين به الفرصة، ليقدمه قربانا رخيصا على مذبح الخيانة والغدر والارتشاء.
وهكذا لازم أبطل محمد العياشي بيته، وأرخى العنان قليلا للأحداث لتسير وحدها كما تشاء، وقد سارت بالفعل، فإذا هؤلاء الأندلسيون الذين كانوا عيونا عليه لمصلحة الملك السعدي زيدان، قد انقلبوا حربا على الملك نفسه، وذلك في قصة تاريخية لا صلة لها بالموضوع الذي نعالجه، وثاروا بقائده (الزعروري) عليهم، فقتلوه ونهبوا بيته، فبعث إليهم الملك من طرفه قائدا آخر، فقتلوه كما قتلوا سلفه من قبله، وأعلنوها حربا سلبية على الملك أن صح هذا التعبير، حرب عصيان وخروج عن الطاعة، حرب فوضى وإضراب وسلب ونهب وتعد على الحرمات والأموال.
أما محمد العياشي، فقد كان لا يزال حتى هذه الساعة ساكنا يرقب الأحداث، وينتظر هدوء العاصفة، ليستأنف دعوته إلى التحرير والجهاد.
كان محمد العياشي، يحصر همه في حرب العدو الدخيل، أما الثورات والفتن الداخلية، فقد كان سلبيا بالنسبة إليها، ربما لأنه لم يكن يميز فيها وجه الصواب، وربما لأنه كان يرى كل المشتركين فيها ظلمة، فكان يصعب عليه أن يحدد موقفه منهم جميعا، كان يريد لأن يلقى الله بريئا من الفتنة، كان يريد أن يلقاه شهيدا مجاهدا نقي الصحيفة سليم القلب مرتاح الضمير.
كان محمد العياشي ينتظر أن تهدأ العاصفة، ولكن السكان فكروا أن هذه العاصفة لا يمكن أن تهدأ إلا على يديه، فقرروا أن يخرجوه من صمته، وأن يحملوه على عمل شيء ما، شيء يقضي على آثار الفتنة، ويعيد إلى الناس الهدوء والاطمئنان، ويشغلهم بحرب عدوهم عن التفكير فيما بينهم من خلافات أو حزازات، ولم يمتنع محمد العياشي عن الاستجابة لهذه الرغبة، لكنه أشترط لذلك أن يأخذ على الناس العهود والمواثيق حتى لا يعودوا فينفضوا من حوله، أو يصبحوا حربا عليه، وحتى لا ينتقل إلى أذنيه مرة آخري ما يتهامس به بعض الناس من أن حرب العدو لا تحل إلا في ركاب السلطة الشرعية الرسمية، أو بموافقتها على الأقل.
كان محمد العياشي قد أصبح في نظر الناس جميعا المنفذ الوحيد الذي تنعقد عيه الآمال وتتوجه إليه الأنظار، أصبح رمز التحرير والجهاد، أصبح زعيما روحيا وحربيا وسياسيا، فلم يكن من الصعب أن يحصل على ما يطلبه من العهود والمواثيق، وتدفقت عليه فتاوى العلماء من أطراف المغرب بمشروعية الحرب المقدسة التي يتزعمها ضد المستعمرين والمحتلين وأسلس إليه رؤساء العشائر قيادهم، وأمضوا له بالمبايعة والطاعة والوقوف رهن إشارته، وإتباعه فيما يسعى عليه.
وعزم العياشي أمره على أن يبدأ من جديد، وفكر في هذه المرة أن يجعل نقطة البداية جمع كلمة المواطنين بكل وسيلة ممكنة،حتى بالحرب أن اقتضى الحال، فإن القضاء على العدو الدخيل يستلزم أولا القضاء على الخيانة التي يعتمد عليها العدو في الدرجة الأولى للانتصار على المواطنين والفت في عضدهم وتفريق كلمتهم وحماهم على الإذعان والاستسلام، أن الانتصار في الحر التحريرية يستلزم إلا يكون بين المواطنين خارج، أو منحرف، أو خائن متخاذل، أو مرتش طماع، يجعل مصلحته الشخصية هي العليا وفوق كل اعتبار، وهكذا بدأ العياشي هذه الجولة بالقضاء على رؤوس الفتنة في القبائل القريبة والمجاورة، وامتد نفوذه الفعلي إلى الفاس التي كانت تشكو هي الأخرى من فتنة محلية، فقصدها بنفسه وطهرها، وأعاد إليها الأمن والنظام، واستطاع بكل ذلك أن يكون له مجال نفوذ واسع، وأن يجمع حوله كلمة المواطنين في جزء مهم من الوطن الذي يدافع عنه، وأحس من نفسه الثقة بالنصر إذا هو واجه العدو في جولة أخرى.
وكانت هذه الجولة في المهدية ضد الاسبانيين مرة ثانية، وتعددت الاشتباكات بين الفريقين، وكثر القتلى والجرحى، وكان النصر منذ البداية حتى النهاية حليف المجاهدين المغاربة بقيادة زعيمهم محمد العياشي، وأسر في هذه الاشتباكات المتعددة كثير من الجنود الاسبانيين، فيهم بعض الضباط، وأطلق سراح كثير من المغاربة الذين كانوا من قبل أسرى عند الاسبانيين يعملون في تسيير السفن الاسبانية، ويكلفون بأداء أشق الأعمال، وانتهى محمد العياشي من هذه الجولة ضد العدو الدخيل ليعود لتصفية حسابه مع الخيانة من جديد.
وكانت الخيانة في هذه المرة أيضا من الجالية الأندلسية التي كأبد منها ما كأبد من قبل.
كان الأندلسيون إبان هذه الحرب تجارا محتكرين يختزنون الأقوات ويختصون بها أنفسهم ويغلون ثمنها على من يطلبها من المواطنين والمجاهدين.
وكانوا في صفوف المجاهدين مثبطين متقاعسين يبخلون بالخدمة ويماطلون فيها، وقد اعتمد عليهم العياشي مرة في صنع سلالم طويلة، كان يريد أن يستعملها المجاهدون في اعتلاء أسوار المهدية، فوعدوه بذلك، وظلوا يماطلون في تنفيذه إلى أن وصلت الإمدادات الحربية إلى الاسبانيين فلم تعد السلالم تغني شيئا عن المجاهدين.
بل أنهم فعلوا أكثر من ذلك، فقد كانوا خلال المعركة عيونا للاسبانيين ينقلون غليهم أخبار المجاهدين ونواياهم وخططهم، وكانوا عونا للإسبانيين بمدنهم بالطعام وغيره.
وقد حاول بعض المؤرخين المغربة أن يعلل هذه الظاهرة الغربية، فغن الذي كان منتظرا من المهاجرين الأندلسيين الذين جاءوا إلى المغرب فرارا من عف الاسبانيين واضطهادهم، أن يغتنموا الفرصة التي وأتتهم للانتقام من أعدائهم، والشدة في حربهم، لا أن يكونوا عونا وعيونا لصالحهم.
واهتدى هذا المؤرخ إلى تعليل قد لا يبعد كثيرا عن معنى الكلام الذي قلناه سابقا ونحن نتحدث عن المحنة الروحية التي عاشتها الأجيال الناشئة بالأندلس بعد الاحتلال المسيحي وقبل الهجرة الجماعية الأخيرة، تلك المحنة التي استمرت ما ذكرنا مائة وستة عشر سنة، عاشها هذا الجيل الناشئ أو الأجيال الناشئة بالأندلس في خوف واضطراب وقلق كبير، وفي حيرة قاتلة زعزعت إيمانهم، ونالت من اعتزازهم بدينهم وقوميتهم.
يقول المؤرخ المغربي (أحمد الناصري) في كتاب (الاستقصا) عند التحدث عن دور الأندلسيين في المعارك التي دارت في المهدية بين العياشي وبين الاسبانيين، يقول : (وكانت تلك لرابطة بين أهل الأندلس والنصارى متوارثة من لدن كانوا بأرضهم، فكانوا آنس بهم من أهل المغرب)
وعلى كل فإنها ظاهرة معقدة، متعددة الجوانب، تحتاج إلى كثير من الشرح والتفسير والتحليل والإيضاح.
المهم الآن، أن محمد العياشي قد قرر بعد الفراغ من أمر المهدية أن يصفي حسابه مع الجالية الأندلسية، وان يقلم أظفارها ويعيدها إلى رشدها، وقد بدا من ذلك باستفتاء العلماء ورجال الدين أولا، فأفتوه بجواز قتالهم، وتردد بعضهم في ذلك، وهو الفقه المشهور عبد الواحد بن عاشر، صاحب المرشد المعين، إلى أن تأكدت لديه خيالتهم وممالأتهم للعدو وخدمتهم له، فأفتى هو الآخر بذلك، واجتمعت الكلمة أخيرا على أن أفراد هذه الجالية خارجون على الأمة محاربون لها مساعدون لأعدائها عليها، فاعمل محمد العياشي السيف في رقابهم، فقتل منهم كل من ثبتت الحجة عليه، وفر كثير منهم داخل المغرب وخارجه، وأعلن الباقون توبتهم واستعدادهم للتفكير عن خطاياهم، وأعطوه على ذلك العهود والمواثيق.
وبذلك اطمأن العياشي على صفوفه، وبدأ يعد العدة لجولة أخرى مع الاسبانيين، وكانت الجولة هذه المرة في العرائش، ونحن لا نرى موجبا هنا للدخول في التفاصيل حربية أخرى، المهم أن محمد العياشي قد انتصر في العرائش أخيرا في معركة فاصلة بعد مناوشات متعددة، ويروي التاريخ أنه قد قتل في هذه المعركة الفاصلة من الاسبانيين نحو الآلف، وفر الباقون منهم برؤوسهم وجلودهم لا يلوون على شيء.
عاد العياشي بعد ذلك إلى سلا، حيث تفرغ مدة لاستقبال الوفود القادمة إليه من أطراف المغرب، تهنئه بالنصر والتوفيق، وتعلن له طاعتها وولائها، ومناصرتها، وترجوه أن يمضي فيما هو بصدده حتى يحقق النصر الكامل، وحتى يحرر الشواطئ المغربية نهائيا من الاسبانيين والبرتغاليين، وكان في هذه الوفود علماء كثيرون، خصوصا من مدينة فاس.
انتهى العياشي من الاسبانيين بالمهدية والعرائش، فعاد من جديد يفكر في البرتغاليين بالجديدة.
البرتغاليون !! لقد كان خليقا أن يكون قد انتهى من أمرهم لولا تدخل الملك زيدان السعدي، ولولا حملته التأديبية التي كان قد بعثها من مراكش برئاسة القائد «محمد السنوسي» تلك الحملة التي رأى محمد العياشي أن يتجنب الاشتباك معها، وأن يفر «هاربا» من وجهها تحت جنح الليل.
لقد مر على ذلك حتى الآن خمس وعشرون سنة، مات فيها زيدان، وتعاقب على العرش بعده ثلاثة من أبنائه، هم عبد الملك، والوليد، ومحمد الشيخ.
وإذا كان العياشي لم يتعرض لشيء من كيدهم بسلا أو فاس أو المهدية أو العرائش أو غيرها، فغنما كان ذلك لبعد هذه النواحي عن العاصمة «مراكش» ولضآلة ما كان الملوك السعديون يتمتعون به من نفوذ بهذه النواحي في هذه الفترة، لقد كان نفوذهم الفعلي لا يتعدى نهر أم الربيع، وبذلك استطاع العياشي أن يكسب في الشمال حرية التصرف والعمل، أما الجديدة فإنها قريبة من العاصمة، قريبة من متناول أيدي الملوك السعديين أبناء زيدان، لذلك سيكون على العياشي فيها أن يحارب البرتغاليين من جهة، وان يأخذ حذره حتى لا يصطدم بالسعديين من جهة أخرى.
ومع كل ذلك، فقد أقدم العياشي على حرب البرتغاليين بالجديدة، أو على استئناف الحرب معهم إذا أردنا الدقة في التعبير، وكان النصر حليفه هنا أيضا كما كان حليفه من قبل في كل حركاته، إذ اشتبك مع البرتغاليين إلا القليل، أما الملك السعدي محمد الشيخ، أو صاحب مراكش كما يدعوه بعض المؤرخين المغاربة، فقد فاجأته الحركة، وفاجأه النصر السريع، لكنه لم يملك لكل ذلك إلا أن (يستنكره) ويتأسف له، وأن يستأنف معه أفراد حاشيته والمحيطين به والمقربين إليه، وقبل أن يظهر لهذا الاستنكار أي أثر عملي، كان العياشي قد عاد إلى سلا، بجيوشه، ليستأنف السير منها على فاس، فقد كانت فاس في هذه المدة في أشد الحاجة إليه لتسوية خلاف داخلي بها بين السكان المواطنين.
وهكذا كان العياشي دائما حركة دائبة لا تنقطع، يعمل في كل ميدان، كان يحارب العدو المحتل، وكان يحارب الخيانة، وكان يعمل لاجتناب الاصطدام بالسعديين، وكان يجمع صفوف المواطنين ويعالج ما يقع بينهم من خلافات أو مشاكل، وكانت الطريق لا تزال أمامه طويلة، ومشاريعه كثيرة، كان يريد أن يفعل الكثير جدا أكثر مما فعل، لكن العصر الذي كتب عليه أن يوجد فيه لم يقدم له المساعدة الكاملة، والمواطنين الذين كان بخدمهم لم يكن لديهم استعداد صحيح للاستجابة، أو للصمود والاستقرار.
ومع ذلك فقد كان كل شيء متوقعا إلا شيئا واحدا فقط، لم يكن من السهل توقعه، ذلك أن يقتل البطل الشعبي محمد العياشي بأيدي مواطنيه، لكن هذا هو الذي وقع بالفعل، ولم يكن له مع ذلك أي سبب مباشر معقول.
ولو كانت القصة التي نسوقها اليوم خيالية لعد من فشل كاتبها أن يضع لها مثل هذه النهاية الباردة، لكن التاريخ لا يتطلب عنده أن يرتب الأحداث ترتيبا فنيا، أو أن يختار لها النهايات المناسبة، أن جريان الأحداث التاريخية لا يعترف بالقواعد الفنية، بل انه أحيانا ينكر حتى المنطق نفسه، أن المطلوب من التاريخ، فقط، أن يروي، وان يحلل الأحداث، ويعللها ما استطاع سبيلا إلى التعليل، وان كانت الأحداث التاريخية تستعصى على التعليل في كثير من الأحيان.
وقصة مقتل العياشي، قصة تافهة باردة، لا تتناسب مطلقا مع بطولته وكفاحه وإقدامه، ولا تكاد تتصل بالأحداث التاريخية الكبرى في حياته، وأن كانت تتصل اتصال وثيقا بما كان يسود العصر من فساد،وما كان في صفوف المواطنين من خلاف واضطراب وعدم انسجام.
ونحن لا نزال نذكر قصة الجالية الأندلسية بالرباط، والموقف الأخير الذي اتخذه العياشي منهم بعد حرب لمهدية، وبعد استفتاء العلماء والفقهاء وإقناعهم بجواز قتالهم، وما كان من قتل من ثبتت عليه الحجة منهم، وفرار كثير منهم داخل المغرب وخارجه، وقد ألجأ بعض هؤلاء الفارين على الزاوية الدلائية بتادلا.
كانت الزاوية الدلائية في هذه المدة في عنفوانها وشرح شبابها، كانت مراكز العلم والنفوذ الروحي الكبير، وكان الدلائيون مرشحين للعرش من بين المرشحين له في هذه الفترة الحالكة من تاريخ المغرب.
وقد حاول الدلائيون أن يشفعوا للفارين من الجالية الأندلسية عند محمد العياشي، لكنه لم يقبل فيهم شفاعة، والدلائيون لم يتعودوا أن ترد شفاعتهم أو أن يبخس قدرهم، يضاف على ذلك، أن الدلائيين كانوا قد بدأوا هم أنفسهم يتغيرون على محمد العياشي ويتجاهرون بعدم الاطمئنان إليه، وقد وجدوها فرصة سانحة لتأليب المواطنين عليه والدعوة إلى حربه، وعند ما كان العياشي راجعا على سلا من طنجة في إحدى حركاته، وجد الدلائيين مترصدين له بالطريق في جموع من إتباعهم والمشايعين لهم من نواحي تادلة وغيرها مما استطاعوا أن يحشدوه أثناء الزحف.
وحاول العياشي على عادته في مثل هذه الظروف أن يتجنب الاصطدام، حاول أن يتنكب طريقهم بالفعل، وأن يفر من وجههم فلم يفلح في ذلك، واضطر أخيرا إلى الدخول في الفتنة التي ظل يتحنها طيلة حياته، ولم يكن رجل فتنة، فلم يستطع أن يصمد فيها، وانهزم لأول مرة في حياته.
انهزم البطل... واضطر إلى الفرار، ولجأ على قبيلة (الخلط) في الشمال الغربي من المغرب، لحمايته، وفي ظروف وقعت رأسه، ووضعت بذلك حدا لآلامه، كما وضعت بذلك حدا لمرحلة من مراحل الكفاح الوطني الشريف.
وهكذا انتهت حياة محمد العياشي بمأساة، لا لأنه قتل، ولكن لأنه قتل بأيدي مواطنيه الذين وقف حياته على خدمتهم والذب عنهم والكفاح من اجلهم، وقف حياته على تحريرهم، وقف حياته على جمع شملهم وتطهير صفوفهم وتوحيد كلمتهم وحضهم على قتال عدوهم.
ولئن كان العياشي لم ينجح في معركة التحرير كل النجاح، فإنه قد نجح في انجاز حلقات مهمة منها، ومهما يكن، فقد بذل من أجلها جهده، ووقف عليها حياته وراحته وفكره، فاستحق بذلك أن يخلده التاريخ، وإن يحتفظ له بأجمل الذكريات وأنبلها، وكفى بذلك شرفا في الدنيا، والله عنده أجر عظيم.
المصدر: دعوة الحق ، العدد 12