كان ذلك في مصر، قبل أن تقوم الثورة.
دخل علي بقامته المديدة ووقف أمامي فحال بيني وبين النور فدعوته للجلوس.
كان من المتفيهقين الثرثارين الذين يحلو لهم أن يسرفوا في الحديث، وهو رجل قد تجاوز الخمسين، واسع الحيلة، شديد الإلمام بظروف الحياة وتقلباتها، عصبي الطبع، عركته الحياة وعركها، تلقى عليه أول نظرة فتعرف أنه ينتسب إلى العصر التركي... كان يطرف بعينيه الذابلتين من آن لآخر ويلبس الطربوش الطويل على مؤخرة رأسه، ولا يرى إلا وفي يده عصا وفي يده الأخرى مسبحة وقد أحاط نفسه جو من الحصانة والحكمة لم يكن فيه زيف كثير... إذا روعيت الظروف...
جلس على المقعد الوثير وهو يسأل عن الصحة والأحوال، فكنت أجيبه إجابات مقتضبة لأنني كنت أعرف الغرض من هذه الزيارة، كان يسأل عن الحجاج الذين يأتون من بلاد المغرب البعيدة سيرا على الأقدام، فكان يجمعهم، وبدون أسماءهم، ويؤوبهم، ويقضي حاجاتهم، وفي مقابل ذلك يجمع لهم بعض النقود من الهيئات والأشخاص، ويقسمها معهم، فكان في ذلك ربح للجميع، فالحجاج يقضون مآربهم، ويقضي هو مأربه أيضا... وعلى ذلك فإن من الصعب أن تعرف هل هو من كبار المحسنين أو من كبار المحتالين...!
جلس وهو يخلع طربوشه الطويل ويضع عصاه ويمر بإحدى يديه على الشعرات الباقية فوق رأسه، ثم التفت فوجد ورقة ملقاة على منضدة صغيرة فالتقطها إذ كان من هؤلاء الناس الذين لا يترددون في قراءة أوراق غيرهم دون إن يفكروا هل ذلك من حقهم أو لا...
ومهما يكن من شيء، فقد التقط الورقة وقرأها، وما كاد يفعل حتى انطلقت منه صيحة استغراب وهو يقول : "أعرف هذا الرجل، أعرفه تماما، لقد قام عندي مدة لا تقل عن أسبوعين، قدمت له خلالها كل مساعدة، بالتفاهة الحياة?".
قلت مختصرا : "مسكين، إنها نهاية طبيعية للتشرد"...
قال : "هل تعرف أن وراء هذا الرجل قصة تستحق الرواية، قصة تمت فصولها، بعد أن ألقيت نظرة على هذه الورقة الملقاة هنا، فدعني أرويها لك".
قال دون أن ينتظر موافقتي : "عندما أقبل عندي هذا الرجل كان في منتهى التعاسة، ولم يكن عندي غيره... فوجدت من الصعب أن أساعده، لأنني لا أستطيع أن أساعد إلا الجماعات من الحجاج، ولست أستطيع أن أذهب إلى وزارة كذا أو هيئة كذا لأقول لهم أن عندي حاجا واحدا فطلبت منه أن ينتظر بضعة أيام ريثما يفتح الله علينا بحجاج آخرين.
كان حافي القدمين مكشوف الرأس يرتدي خرقا بالية قذرة، تافه العضلات، مرتجف الأوصال، يبدو عليه التعب الشديد، ولا يستطيع الكلام إلا بجهد، فرأت لحاله، وقدمت له الطعام فالتهمه التهاما، وبعد مرور يومين وأنا أعتني به، أخذ يسترد قواه.
وفي اليوم الثالث كنت جالسا وحدي، وكان يوما راكدا فلم أجد من أتحدث إليه، ولذلك أرسلت أطلبه قابل يجر نفسه جرا، وما كاد يقترب مني حتى ألقي بنفسه إلى الأرض، ونظر إلي متعقبا ما سأقول له، وبينما كنت أرثي لحاله قال لي في شوق : هل تمت الإجراءات، هل أستطيع أن أسافر غدا ؟
قلت : "لا تخف سوف تسافر، ولكنك تعب ويجدر بك أن تنتظر بضعة أيام أخرى للراحة"
قال : لا أريد راحة يا سيدي، لقد غمرني الشوق إلى بيت الله الحرام، ولا أريد أن أستريح إلى أن أصل إلى البقاع المقدسة، لا ضمان للحياة، ولذلك أخشى أن يوافيني الأجل قبل أن أحقق هذه الرغبة التي تقمصتني منذ شبابي، منذ أكثر من ثلاثين عاما وأنا أحلم ببلاد الله المقدسة، وقد صممت على ألا أفارق الحياة يا مولاي بعد تحقيقها، فأعني بكل ما تستطيع أدخلك الله الجنة.
قلت : من أي مكان أنت من بلاد المغرب ؟
قال : من قرب مدينة فاس.
قلت : وما عملك ؟
- مزارع
- تعني أنك عامل زراعي ؟
- لا يا مولاي، إنني مزارع، صاحب أراض.
- صاحب ارض في هذه الحالة! هل تعني ذلك تملك أراضي زراعية في فاس وأنت على هذه الحالة ؟
-ه ذا ما أراد الله إننا راضون بقضاء الله، في سبيل الله يا مولاي في سبيل الله.
كان يقول ذلك في رضى غريب، ولكنني استغربت مع ذلك فسألته : كيف تكون صاحب أراضي وتبخل على نفسك ؟ لماذا لم تحمل معك المال الضروري للقيام بهذا المشروع الذي قمت به ؟ لماذا لم تركب القطار أو الباخرة ما دمت صاحب أراض، بدلا من أن تسير على قدميك، ألم تجيء سائرا على قدميك ؟.
فأجاب وهو ينظر إلى الأرض: "لا يقبلون، فهذه المركوبات لم تخلق لأمثالنا، هذا ما كنت أعتقد لم أكن أحسب أن المال كل شيء وأن من يدفع ثمن التذكرة يستطيع أن يركب، ولذلك لم أفكر في الحج إلا سيرا على الأقدام، والسفر على هذه الأشياء يحتاج إلى أوراق لا نعرف كيف نحصل عليها، وفوق هذا وذاك يام ولاي فإن السفر إلى بيت الله المقدس سيرا على الأقدام من بلادنا البعيدة، يزيد في ثوابنا عند الله تعالى لا حرمنا من النظر إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان يقول ذلك وهو يزداد لصقوا بالأرض وتذللا، ولكنني لم أفهم حالته على حقيقتها فقلت له : إنني أسألك سؤالا واضحا، فتجيبني بالتحدث عن فضائل بيت الله المقدس، أقول لك أنت صاحب أراضي زراعية، ومع ذلك أصبحت على هذه الحالة، هل تستطيع أن تقول لي لماذا ؟ أليس من الغريب أن تكون صاحب أراض زراعية وأنت هكذا ؟ حافي القدمين جائع، ترتدي الأسمال ؟
قال : تلك قصة لم أكن أريد أن أرويها لك ولكن هذا ما حصل؛
تقمصتني وانأ في الخامسة عشرة فكرة زيارة قبر الرسول عليه السلام فكنت أفكر فيها وأنا نائم و أفكر فيها وأنا صاح، أية روعة وأي حادث جلل أن تزور قبر حبيب الله الذي سوف يدخلنا جميعا الجنة. وكنت قد ورثت أراضي زراعية عن أبي. وكنت وارثه الوحيد، فأمعنت في أعمالها، وماذا تفيد الأراضي الزراعية ؟ هل تدخل الجنة ؟ هل تنفع الإنسان في الدار الآخرة ؟ كلا يا سيدي، إنني أريد أن أضمن الآجلة، أما العاجلة فسيان عندي قضيتها متسولا حقيرا أو قضيتها في رغد من العيش، فإن هي إلا أيام نقضيها في الحياة ولا ينبغي أن نهتم بحالتنا فيها أما الشيء الذي يطير له الصواب فهو أن ينسى الإنسان تلك الحياة الباقية السرمدية ويلهي نفسه بمتاع الدنيا... ورثت الأراضي الزراعية وأنا في سن الخامسة عشرة، فقلت إذا كان لهذه الثروة من فائدة فهي أن تكون وسيلة إلى حج بيت الله الحرام، ومنذ ذلك الحين، أي منذ ثلاثين عاما، تلبستني الفكرة يا مولاي، ولم أستطع تنفيذها، لا لحاجتي إلى المال، ولكن لأنني كنت أعلم أن لهذه الأشياء قواعد يجب أن تتبع. وأصولا يجب أن تقتفي، ولذلك أمعنت النظر وقدرت ودبرت ثم تبين لي-وعندي تجارب تبرهن على ذلك- أن السفر مستحيل بالنسبة لأمثالي، ‘نني منصرف إلى الصلاة وعبادة الله، ولذلك فليس عندي وقت لتلقي المعلومات الضرورية التي يمكن أن تؤهلني للسفر على هذه الوسائل التي خلقها الكفرة، خلقها النصارى، وكيف تؤدي واجباتنا المقدسة متوسلين في ذلك بوسائل خلقها هؤلاء الكفرة الفجرة.
وهنا نفذ صبري، فقد كنت أسأله سوئلا واضحا ليكاد يشرع في الإجابة عنه حتى ينزلق الكلام، فقلت له :
ألا تستطيع أن تفهم إنني أسالك سؤالا واضحا جدا أين أموالك، أين أراضيك الزراعية أيها الرجل، هل سمعت بصاحب أراض زراعية في مثل هذا الشقاء ؟ ماذا فعلت بأراضيك ؟
نظر إلي نظرة طويلة كأنه يأسف لعدم فهمي وكأنه يرثي لحالي، ثم أجاب : "أراضي الزراعية ما تزال في مكانها، لقد جمعت محصلاتها وبعتها، ثم اجتمع لدي مل ظننت أنه يكفيني لاجتياز أعظم عقبة في الحياة، فطويت صدري على هذا المال، وقررت أن أنفذ الفكرة الخالدة، فكرة الحج إلى بيت الله الحرام.
كان يقول ذلك وفي عينيه بريق مقدس بريق المؤمنين المتفانين في الإيمان الذين لا يعنيهم بعد الإيمان ما يصيبهم من ذل وحساسة، ثم استأنف :
ولما جمعت المال وقررت السفر فكرت في الأراضي فقد كنت أعرف أن من الممكن جدا أن يشملني الله تبارك وتعالى برعايته، فلا أعود مرة أخرى، وإنما أقضي نحبي في الطريق ذاهبا أو آليا، ولذلك قررت آن أتنازل عنها، فاستدعيت أحد أقربائي ووصيته بأن يعتني بأولادي في غيبتي فأقسم على ذلك وهناك تنازلت له عن الأراضي".
قلت : ولك أولاد ؟
فقال : نعم خمسة أطفال أكبرهم في سن العاشرة، لأحرمهم الله من زيارة بيت الرسول...
قلت : إذن أنت متزوج.
فقال : لا لست متزوجا، أو على الأصح لست متزوجا الآن، لقد كنت أبعد نظرا من أن أرتكب مثل هذه الجريمة... أن أذهب في هذه السفرة البعيدة وفي عهدتي امرأة، لا تحتقرني، إنني أشد تقي من أن أفعل ذلك. لقد قرأت يا مولاي القرآن وعرفت مبادئ الدين، وأستطيع أن أقول لك أنه لا يوجد تم أفظع من أن يموت الإنسان أو يغيب وهو متزوج، يجب أن يطلق زوجته حتى لا يكون مسئولا عما تعانيه من شقاء، وهكذا كنت يا مولاي أكثر إلماما بديني من أن أقوم بمثل هذا العمل العظيم وفي عهدتي امرأة، نعم يا سيدي لقد طلقتها على سنة الله ورسوله قبل أن أشرع في عملي المقدس، طلقتها وبرأت ذمتي منها، حتى لا يعاقبني الله تعالى ويقول لي يوم القيامة كيف تسافر وفي ذمتك امرأة، طلقتها وأخلصت الدين لله يا مولاي.
كان اهتمامي بقصته قد بلغ منتهاه ولذلك سألته وأولادك ؟ ماذا فعلت بأولادك ؟ هل تخلصت منهم وأخلصت الدين لله أيضا ؟
قال : لا لقد أعددت للأمر عدته وتركتهم في عهدة قريبي... قبل أن أسلم له الأراضي.
قلت : وإذا رجعت وأنكر أن الأراضي أراضيك.
قال : مشيئة الله، ولا مرد لقضائه تعالى
فقلت : فهمت ما ترمي إليه، جمعت أكبر قدر ممكن من المال وانطلقت في الطريق إلى الأراضي المقدسة لتؤدي لتؤدي فريضة الحج مضحيا بأراضيك وزوجتك وأولادك أليس كذلك ؟
قال : نعم وعند الله الثواب.
فسألته : وماذا حصل بعد ذلك ؟
فأجاب : انطلقت في سبيل الله إلى بيت الله لأداء فريضة الله، وقد تخلصت من جميع واجباتي كما تقول، من أراضي الزراعية ومن الزوجة ومن الأولاد ولذلك فقد استقبلت الله دون تبعات، خلفت وراء ظهري الدنيا ومتاعها، وسرت في طريق الله مجردا منهما، ولن يقف في طريقي شيء إلى أن أصل إلى بيت الله.
والحقيقة أن بريقا مقدسا كان يلمع في عينيه وهو يلفظ هذه الكلمات التي كانت تعبر عما تكنه روحه من إخلاص هائل، ولكنني كنت متعطشا إلى سماع بقية قصته.
قال : "خرجت من بلادي مزودا بمال كثير، وبدأت أسير في اتجاه الشرق، وذلك منذ أكثر من ثمانية شهور، وقد وصيت بأن أسلك الطرق الصحراوية حتى لا يعترض لي رجال الحدود، ولم ألق صعوبة كبيرة في الوصول إلى الجزائر ثم تونس ثم طرابلس وكنت أسير حوالي عشر ساعات كل يوم"
قلت : "هذا واضح خرجت سيرا على الأقدام ووفرت مالك للشدائد".
قال: "وهل تظن أن السفر على الأقدام لا يكلف المال إنك واهم يا سيدي، كنت أدفع ثمن المبيت وثمن الطعام و أشتري النعال التي كانت تتمزق بسرعة، كما كنت أدفع المال لمن يدلونني على الطريق، وكان من هؤلاء من يغشني فيدلني على طرق تفضي بي إلى الضلال، فأضطر أن أدفع مالا آخر لمن يدلني على المكان الذي كنت فيه قبل أن أضل السبيل، ولا تسأل عن طمع الأعراب فيمن يسافر سيرا على الأقدام، لإنهم يعرفون أنه يحمل المال، ويعرفون أنه يسافر دون أوراق، ولذلك فهم يحاولون أن يسرقوه، فإذا لم يستطيعوا ذلك لجأوا إلى التهديد بالوشاية به إلى رجال السلطة إذا لم يدفع لم ما يطلبون، وهكذا بدأت أفقد مالي تدريجيا، ولكنني كنت راضيا لأنني كنت أعلم أن ما بقي معي سوف يكفيني للوصول إلى بيت الله الحرام، ولن يهمني شيء بعد ذلك، لن يهمني ما يمكن أن يحدث بعد زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام. إنني أقبل عن طيب خاطر بعد ذلك أن تعصف بي النكبات.
قال : "وفي بلاد برقة أصابني إعياء شديد فالتقطني أحد الأعراب ولما عرف أني في طريقي إلى الحج أظهر إعجابه بي وأخذني إلى بيته حيث أطعمني واستضافني ثلاثة أيام وذات ليلة من ليالي الشتاء الطويلة وكنت استعدت قوتي بفضل العناية التي شملني بها الأعرابي جلسنا نتحدث بالقرب من نار دافئة، وكان حديثنا يدور حول البقاع المقدسة وما يدخره الله تعالى لمن يقاسي الشدائد في سبيل زيارتها، أمر الرجل بعد ذلك بإحضار ملابس جديدة لكي أستبدل بها ثيابي وكان يساعدني على ذلك بدعوى أنني تعب، فاستسلمت له وأنا أشكره وانتهينا من ذلك وأنا لا أزال أشكره، كنت جالسا بالقرب من النار بينما كان هو واقفا إلى جانبي حينما تذكرت أنني تركت ما معي من مال في القميص الذي نضوته، فاستدرت أبحث عنه، ثم مددت يدي، ولكنني لم أجد المال في مكانه.فاستغربت وبدأت أبحث هنا وهناك والرجل قائم عند رأسي، ثم رفعت الحشية الصغيرة التي كان يجلس عليها فوجدت المال تحتها، ولكن سرعان ما وضع الأعرابي قدمه على يدي في شدة وهو يسألني ماذا أفعل؟ قلت : إنني آخذ مالي.
قال الأعرابي : مالك أيها اللص? يا شيخ السوء، أهذا ما سافرت من أجله، ثم تقول إنك في الطريق إلى بيت الله الحرام، ألهذا أسرفت في الخشوع وادعيت المرض، أتستغل رحمتي ورقة شعوري باسم رسول الله وباسم التظاهر بالمرض والضعف لتسرقني، ألا قاتلك الله أخرج من بيتي أيها المشعوذ وإلا استدعيت رجال الشرطة. كيف يمكن أن يصدق احد أن مثلك بأسمالك وقدراتك يملك هذا القدر من المال".
ثم رفسني في صدري وهو يأمرني بمبارحة بيته في الحال، قبل أن يستبد به الغضب ويستدعي رجال الشرطة، وقد حاولت أن أقاوم لأنني كنت أعلم المصير الذي ينتظرني دون مال في هذه البلاد البعيدة ولكنه كان أعرابيا قويا، وقد استطعت أن أرى على ضوء النار مايبدو على وجهه من تصميم وعدم تردد، ولذلك عرفت أنني ضائع؟ فوقفت وقد بدأ يخبل إلي من شدة تصميمه أن المال ماله لا مالي، وعندما أردت أن أخرج وضع يده القوية على كتفي وهو يشدني قائلا : "ارجع إلى أسمالك أيها اللص الحقير فإنك لا تستحق أن أحسن إليك بمثل هذه الثياب".
قال : في تذلل "وهنا بدأت متاعبي الحقيقية، وإنك تستطيع أن تتصور حالة رجل في صحراء لا مال له. وقد بدأت قوتي تنفذ بعد نفاذ مالي، كما لو كان أحد قد سرقها مني هي أيضا، وتمزق نعلي وبدأت أسير حافيا على الرمال الملتهبة، فتورمت قدماي، وقضيت بقية الطريق متسولا أنام في العراء وأعيش على ما ينفحني به الأعراب في الطريق.
وذات ليلة قمرية، بينما كنا أسير محهدا وأنا أعزي نفسي بسمو الغاية التي أتحمل في سبيلها كل هذا العذاب، انقض علي رجل قوي وطرحتي أرضا وهو يطلب مني ما معي من نقود وإلا مزق أحشائي بخنجر حاد كان يلمع في ضوء القمر، ولما أخبرته بأنني متسولا لا أملك شيئا لطمني بعد تمزيق ثيابي، باحثا عن مالي، ولما أعياه البحث ولم يعثر على شيء رفسني رفسة قوية وهو يلعنني، ثم التفت إلي وهو يرمي لي كسرة من الخبز قائلا : "كل هذه فقد كلفتني القيام بهذا الجهد دون جدوى، ومع ذلك يبدوا أنك تستحق الرحمة أيها المتسول القذر.
كان يخيل إلي أن الشهور والأعوام تتطاير وتقترب بي في سرعة إلى أرذل العمر لشدة ما أصابني من ضعف، كان الهرم يسري في أوصالي كما تسري النيران في الهشيم، وقد قضيت على هذه الحالة ما يزيد على أربعة شهور، ولم ينقذني إلا رجال حدود مصر الذين اعتقلوني، وجاءوا بي إلى هذا المكان الذي وجدتني فيه ثم أطلقوا سراحي و انتهى بي المطاف إليك. ها أنذا.
كان الدم يغلي في رأسي غضبا حينما وصل الرجل مديد القامة إلى هذا الموضع من القصة، فسألته : وماذا حصل بعد ذلك ؟
قال : وهو ينظر إلى السقف في تواضع مفتعل زائف : ظل عندي حوالي أسبوعين بالطبع، وساعدته على أداء الفريضة المقدسة التي كرست حياتي لمساعدة المغاربة على تأديتها كما تعلم، ومن لهم غيري، فلولاي لما وصل كثيرون منهم إلى بيت الله الحرام، وهم قوم بسطاء، ولابد لنا من مساعدة إخوان لنا في الدين.
قلت : وبعد ذلك ؟
قال: إن بقية القصة مكتوبة على هذه الورقة الملقاة هنا.إنها رسالة من الشرطة المصرية ومعها ورقة التعريف الشخصي، ثم رفعها وبدأ يقرأ الورقة الأولى : الاسم -عبد السلام الصنهاجي- السن -45 سنة محل الواد - ضواحي فاس - الغاية من السفر - الحج إلى بيت الله الحرام. ثم رفع الورقة الثانية وقرأ : بوليس القاهرة- نفيدكم علما بأن السيد عبد السلام الصنهاجي الذي يحمل تعريفكم المرفق بهذا عثر عليه رجال البوليس في الصحراء الشرقية جثة هامدة.
ثم رفع إلي ورقة التعريف لأراها وهو يقول : هذه صورته إنه هو تماما أنظر إليه فربما كنت قد رأيته.
لم يكن يهمني أن أرى صورته فقد كنت أفكر في الرجل الذي أخلص لفكرة... فضحى في سبيلها بزوجته وأولاده وصحته وتحمل في سبيلها المشاق والمكارة، وصمد لذلك كله إلى أن مات دونها في عرض الطريق.
كنت أفكر في القوة الهائلة، التي تتدفق في صحراء.
كنت أفكر في ذلك حينما نهض الرجل المديد، وهو يضرب بيده على ركبته، ثم يأخذ عصاه، ويضع الطربوش على مؤخرة رأسه. كل ذلك وهو يطرف بعينيه ويقول : ارجع أن رجال حدود المملكة العربية قد منعوه من المرور لأنه لم يكن يملك ضريبة الحج وعلى كل حال هذه نهاية الرجل، لقد كان من اليسير أن تعرف بعد إن وصل إلى مصر من وجهه أنه على أبواب النهاية. وكم كنت أود لو حقق الله له ما كان يصبو إليه، ولكن هذه هي الحياة، إن هؤلاء البسطاء في مسيس الحاجة إلى عنايتنا، ولذلك يمكن أن تقدر قيمة الخدمات التي أقدمها لهم ،لا ذنب لهم سوى أنهم يريدون أن يؤذوا فريضة الإسلام الخامسة، إن الشوق إلى بيت الله المقدس هو الذي يحدوهم طول الطريق. مساكين، حقا إنهم مساكين.
قال ذلك وهو يرفع لي يده مودعا، ولكن تأثري لقصته كان أعمق من أعير لتعليقه التافه أي التفات.
دخل علي بقامته المديدة ووقف أمامي فحال بيني وبين النور فدعوته للجلوس.
كان من المتفيهقين الثرثارين الذين يحلو لهم أن يسرفوا في الحديث، وهو رجل قد تجاوز الخمسين، واسع الحيلة، شديد الإلمام بظروف الحياة وتقلباتها، عصبي الطبع، عركته الحياة وعركها، تلقى عليه أول نظرة فتعرف أنه ينتسب إلى العصر التركي... كان يطرف بعينيه الذابلتين من آن لآخر ويلبس الطربوش الطويل على مؤخرة رأسه، ولا يرى إلا وفي يده عصا وفي يده الأخرى مسبحة وقد أحاط نفسه جو من الحصانة والحكمة لم يكن فيه زيف كثير... إذا روعيت الظروف...
جلس على المقعد الوثير وهو يسأل عن الصحة والأحوال، فكنت أجيبه إجابات مقتضبة لأنني كنت أعرف الغرض من هذه الزيارة، كان يسأل عن الحجاج الذين يأتون من بلاد المغرب البعيدة سيرا على الأقدام، فكان يجمعهم، وبدون أسماءهم، ويؤوبهم، ويقضي حاجاتهم، وفي مقابل ذلك يجمع لهم بعض النقود من الهيئات والأشخاص، ويقسمها معهم، فكان في ذلك ربح للجميع، فالحجاج يقضون مآربهم، ويقضي هو مأربه أيضا... وعلى ذلك فإن من الصعب أن تعرف هل هو من كبار المحسنين أو من كبار المحتالين...!
جلس وهو يخلع طربوشه الطويل ويضع عصاه ويمر بإحدى يديه على الشعرات الباقية فوق رأسه، ثم التفت فوجد ورقة ملقاة على منضدة صغيرة فالتقطها إذ كان من هؤلاء الناس الذين لا يترددون في قراءة أوراق غيرهم دون إن يفكروا هل ذلك من حقهم أو لا...
ومهما يكن من شيء، فقد التقط الورقة وقرأها، وما كاد يفعل حتى انطلقت منه صيحة استغراب وهو يقول : "أعرف هذا الرجل، أعرفه تماما، لقد قام عندي مدة لا تقل عن أسبوعين، قدمت له خلالها كل مساعدة، بالتفاهة الحياة?".
قلت مختصرا : "مسكين، إنها نهاية طبيعية للتشرد"...
قال : "هل تعرف أن وراء هذا الرجل قصة تستحق الرواية، قصة تمت فصولها، بعد أن ألقيت نظرة على هذه الورقة الملقاة هنا، فدعني أرويها لك".
قال دون أن ينتظر موافقتي : "عندما أقبل عندي هذا الرجل كان في منتهى التعاسة، ولم يكن عندي غيره... فوجدت من الصعب أن أساعده، لأنني لا أستطيع أن أساعد إلا الجماعات من الحجاج، ولست أستطيع أن أذهب إلى وزارة كذا أو هيئة كذا لأقول لهم أن عندي حاجا واحدا فطلبت منه أن ينتظر بضعة أيام ريثما يفتح الله علينا بحجاج آخرين.
كان حافي القدمين مكشوف الرأس يرتدي خرقا بالية قذرة، تافه العضلات، مرتجف الأوصال، يبدو عليه التعب الشديد، ولا يستطيع الكلام إلا بجهد، فرأت لحاله، وقدمت له الطعام فالتهمه التهاما، وبعد مرور يومين وأنا أعتني به، أخذ يسترد قواه.
وفي اليوم الثالث كنت جالسا وحدي، وكان يوما راكدا فلم أجد من أتحدث إليه، ولذلك أرسلت أطلبه قابل يجر نفسه جرا، وما كاد يقترب مني حتى ألقي بنفسه إلى الأرض، ونظر إلي متعقبا ما سأقول له، وبينما كنت أرثي لحاله قال لي في شوق : هل تمت الإجراءات، هل أستطيع أن أسافر غدا ؟
قلت : "لا تخف سوف تسافر، ولكنك تعب ويجدر بك أن تنتظر بضعة أيام أخرى للراحة"
قال : لا أريد راحة يا سيدي، لقد غمرني الشوق إلى بيت الله الحرام، ولا أريد أن أستريح إلى أن أصل إلى البقاع المقدسة، لا ضمان للحياة، ولذلك أخشى أن يوافيني الأجل قبل أن أحقق هذه الرغبة التي تقمصتني منذ شبابي، منذ أكثر من ثلاثين عاما وأنا أحلم ببلاد الله المقدسة، وقد صممت على ألا أفارق الحياة يا مولاي بعد تحقيقها، فأعني بكل ما تستطيع أدخلك الله الجنة.
قلت : من أي مكان أنت من بلاد المغرب ؟
قال : من قرب مدينة فاس.
قلت : وما عملك ؟
- مزارع
- تعني أنك عامل زراعي ؟
- لا يا مولاي، إنني مزارع، صاحب أراض.
- صاحب ارض في هذه الحالة! هل تعني ذلك تملك أراضي زراعية في فاس وأنت على هذه الحالة ؟
-ه ذا ما أراد الله إننا راضون بقضاء الله، في سبيل الله يا مولاي في سبيل الله.
كان يقول ذلك في رضى غريب، ولكنني استغربت مع ذلك فسألته : كيف تكون صاحب أراضي وتبخل على نفسك ؟ لماذا لم تحمل معك المال الضروري للقيام بهذا المشروع الذي قمت به ؟ لماذا لم تركب القطار أو الباخرة ما دمت صاحب أراض، بدلا من أن تسير على قدميك، ألم تجيء سائرا على قدميك ؟.
فأجاب وهو ينظر إلى الأرض: "لا يقبلون، فهذه المركوبات لم تخلق لأمثالنا، هذا ما كنت أعتقد لم أكن أحسب أن المال كل شيء وأن من يدفع ثمن التذكرة يستطيع أن يركب، ولذلك لم أفكر في الحج إلا سيرا على الأقدام، والسفر على هذه الأشياء يحتاج إلى أوراق لا نعرف كيف نحصل عليها، وفوق هذا وذاك يام ولاي فإن السفر إلى بيت الله المقدس سيرا على الأقدام من بلادنا البعيدة، يزيد في ثوابنا عند الله تعالى لا حرمنا من النظر إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان يقول ذلك وهو يزداد لصقوا بالأرض وتذللا، ولكنني لم أفهم حالته على حقيقتها فقلت له : إنني أسألك سؤالا واضحا، فتجيبني بالتحدث عن فضائل بيت الله المقدس، أقول لك أنت صاحب أراضي زراعية، ومع ذلك أصبحت على هذه الحالة، هل تستطيع أن تقول لي لماذا ؟ أليس من الغريب أن تكون صاحب أراض زراعية وأنت هكذا ؟ حافي القدمين جائع، ترتدي الأسمال ؟
قال : تلك قصة لم أكن أريد أن أرويها لك ولكن هذا ما حصل؛
تقمصتني وانأ في الخامسة عشرة فكرة زيارة قبر الرسول عليه السلام فكنت أفكر فيها وأنا نائم و أفكر فيها وأنا صاح، أية روعة وأي حادث جلل أن تزور قبر حبيب الله الذي سوف يدخلنا جميعا الجنة. وكنت قد ورثت أراضي زراعية عن أبي. وكنت وارثه الوحيد، فأمعنت في أعمالها، وماذا تفيد الأراضي الزراعية ؟ هل تدخل الجنة ؟ هل تنفع الإنسان في الدار الآخرة ؟ كلا يا سيدي، إنني أريد أن أضمن الآجلة، أما العاجلة فسيان عندي قضيتها متسولا حقيرا أو قضيتها في رغد من العيش، فإن هي إلا أيام نقضيها في الحياة ولا ينبغي أن نهتم بحالتنا فيها أما الشيء الذي يطير له الصواب فهو أن ينسى الإنسان تلك الحياة الباقية السرمدية ويلهي نفسه بمتاع الدنيا... ورثت الأراضي الزراعية وأنا في سن الخامسة عشرة، فقلت إذا كان لهذه الثروة من فائدة فهي أن تكون وسيلة إلى حج بيت الله الحرام، ومنذ ذلك الحين، أي منذ ثلاثين عاما، تلبستني الفكرة يا مولاي، ولم أستطع تنفيذها، لا لحاجتي إلى المال، ولكن لأنني كنت أعلم أن لهذه الأشياء قواعد يجب أن تتبع. وأصولا يجب أن تقتفي، ولذلك أمعنت النظر وقدرت ودبرت ثم تبين لي-وعندي تجارب تبرهن على ذلك- أن السفر مستحيل بالنسبة لأمثالي، ‘نني منصرف إلى الصلاة وعبادة الله، ولذلك فليس عندي وقت لتلقي المعلومات الضرورية التي يمكن أن تؤهلني للسفر على هذه الوسائل التي خلقها الكفرة، خلقها النصارى، وكيف تؤدي واجباتنا المقدسة متوسلين في ذلك بوسائل خلقها هؤلاء الكفرة الفجرة.
وهنا نفذ صبري، فقد كنت أسأله سوئلا واضحا ليكاد يشرع في الإجابة عنه حتى ينزلق الكلام، فقلت له :
ألا تستطيع أن تفهم إنني أسالك سؤالا واضحا جدا أين أموالك، أين أراضيك الزراعية أيها الرجل، هل سمعت بصاحب أراض زراعية في مثل هذا الشقاء ؟ ماذا فعلت بأراضيك ؟
نظر إلي نظرة طويلة كأنه يأسف لعدم فهمي وكأنه يرثي لحالي، ثم أجاب : "أراضي الزراعية ما تزال في مكانها، لقد جمعت محصلاتها وبعتها، ثم اجتمع لدي مل ظننت أنه يكفيني لاجتياز أعظم عقبة في الحياة، فطويت صدري على هذا المال، وقررت أن أنفذ الفكرة الخالدة، فكرة الحج إلى بيت الله الحرام.
كان يقول ذلك وفي عينيه بريق مقدس بريق المؤمنين المتفانين في الإيمان الذين لا يعنيهم بعد الإيمان ما يصيبهم من ذل وحساسة، ثم استأنف :
ولما جمعت المال وقررت السفر فكرت في الأراضي فقد كنت أعرف أن من الممكن جدا أن يشملني الله تبارك وتعالى برعايته، فلا أعود مرة أخرى، وإنما أقضي نحبي في الطريق ذاهبا أو آليا، ولذلك قررت آن أتنازل عنها، فاستدعيت أحد أقربائي ووصيته بأن يعتني بأولادي في غيبتي فأقسم على ذلك وهناك تنازلت له عن الأراضي".
قلت : ولك أولاد ؟
فقال : نعم خمسة أطفال أكبرهم في سن العاشرة، لأحرمهم الله من زيارة بيت الرسول...
قلت : إذن أنت متزوج.
فقال : لا لست متزوجا، أو على الأصح لست متزوجا الآن، لقد كنت أبعد نظرا من أن أرتكب مثل هذه الجريمة... أن أذهب في هذه السفرة البعيدة وفي عهدتي امرأة، لا تحتقرني، إنني أشد تقي من أن أفعل ذلك. لقد قرأت يا مولاي القرآن وعرفت مبادئ الدين، وأستطيع أن أقول لك أنه لا يوجد تم أفظع من أن يموت الإنسان أو يغيب وهو متزوج، يجب أن يطلق زوجته حتى لا يكون مسئولا عما تعانيه من شقاء، وهكذا كنت يا مولاي أكثر إلماما بديني من أن أقوم بمثل هذا العمل العظيم وفي عهدتي امرأة، نعم يا سيدي لقد طلقتها على سنة الله ورسوله قبل أن أشرع في عملي المقدس، طلقتها وبرأت ذمتي منها، حتى لا يعاقبني الله تعالى ويقول لي يوم القيامة كيف تسافر وفي ذمتك امرأة، طلقتها وأخلصت الدين لله يا مولاي.
كان اهتمامي بقصته قد بلغ منتهاه ولذلك سألته وأولادك ؟ ماذا فعلت بأولادك ؟ هل تخلصت منهم وأخلصت الدين لله أيضا ؟
قال : لا لقد أعددت للأمر عدته وتركتهم في عهدة قريبي... قبل أن أسلم له الأراضي.
قلت : وإذا رجعت وأنكر أن الأراضي أراضيك.
قال : مشيئة الله، ولا مرد لقضائه تعالى
فقلت : فهمت ما ترمي إليه، جمعت أكبر قدر ممكن من المال وانطلقت في الطريق إلى الأراضي المقدسة لتؤدي لتؤدي فريضة الحج مضحيا بأراضيك وزوجتك وأولادك أليس كذلك ؟
قال : نعم وعند الله الثواب.
فسألته : وماذا حصل بعد ذلك ؟
فأجاب : انطلقت في سبيل الله إلى بيت الله لأداء فريضة الله، وقد تخلصت من جميع واجباتي كما تقول، من أراضي الزراعية ومن الزوجة ومن الأولاد ولذلك فقد استقبلت الله دون تبعات، خلفت وراء ظهري الدنيا ومتاعها، وسرت في طريق الله مجردا منهما، ولن يقف في طريقي شيء إلى أن أصل إلى بيت الله.
والحقيقة أن بريقا مقدسا كان يلمع في عينيه وهو يلفظ هذه الكلمات التي كانت تعبر عما تكنه روحه من إخلاص هائل، ولكنني كنت متعطشا إلى سماع بقية قصته.
قال : "خرجت من بلادي مزودا بمال كثير، وبدأت أسير في اتجاه الشرق، وذلك منذ أكثر من ثمانية شهور، وقد وصيت بأن أسلك الطرق الصحراوية حتى لا يعترض لي رجال الحدود، ولم ألق صعوبة كبيرة في الوصول إلى الجزائر ثم تونس ثم طرابلس وكنت أسير حوالي عشر ساعات كل يوم"
قلت : "هذا واضح خرجت سيرا على الأقدام ووفرت مالك للشدائد".
قال: "وهل تظن أن السفر على الأقدام لا يكلف المال إنك واهم يا سيدي، كنت أدفع ثمن المبيت وثمن الطعام و أشتري النعال التي كانت تتمزق بسرعة، كما كنت أدفع المال لمن يدلونني على الطريق، وكان من هؤلاء من يغشني فيدلني على طرق تفضي بي إلى الضلال، فأضطر أن أدفع مالا آخر لمن يدلني على المكان الذي كنت فيه قبل أن أضل السبيل، ولا تسأل عن طمع الأعراب فيمن يسافر سيرا على الأقدام، لإنهم يعرفون أنه يحمل المال، ويعرفون أنه يسافر دون أوراق، ولذلك فهم يحاولون أن يسرقوه، فإذا لم يستطيعوا ذلك لجأوا إلى التهديد بالوشاية به إلى رجال السلطة إذا لم يدفع لم ما يطلبون، وهكذا بدأت أفقد مالي تدريجيا، ولكنني كنت راضيا لأنني كنت أعلم أن ما بقي معي سوف يكفيني للوصول إلى بيت الله الحرام، ولن يهمني شيء بعد ذلك، لن يهمني ما يمكن أن يحدث بعد زيارة قبر الرسول عليه الصلاة والسلام. إنني أقبل عن طيب خاطر بعد ذلك أن تعصف بي النكبات.
قال : "وفي بلاد برقة أصابني إعياء شديد فالتقطني أحد الأعراب ولما عرف أني في طريقي إلى الحج أظهر إعجابه بي وأخذني إلى بيته حيث أطعمني واستضافني ثلاثة أيام وذات ليلة من ليالي الشتاء الطويلة وكنت استعدت قوتي بفضل العناية التي شملني بها الأعرابي جلسنا نتحدث بالقرب من نار دافئة، وكان حديثنا يدور حول البقاع المقدسة وما يدخره الله تعالى لمن يقاسي الشدائد في سبيل زيارتها، أمر الرجل بعد ذلك بإحضار ملابس جديدة لكي أستبدل بها ثيابي وكان يساعدني على ذلك بدعوى أنني تعب، فاستسلمت له وأنا أشكره وانتهينا من ذلك وأنا لا أزال أشكره، كنت جالسا بالقرب من النار بينما كان هو واقفا إلى جانبي حينما تذكرت أنني تركت ما معي من مال في القميص الذي نضوته، فاستدرت أبحث عنه، ثم مددت يدي، ولكنني لم أجد المال في مكانه.فاستغربت وبدأت أبحث هنا وهناك والرجل قائم عند رأسي، ثم رفعت الحشية الصغيرة التي كان يجلس عليها فوجدت المال تحتها، ولكن سرعان ما وضع الأعرابي قدمه على يدي في شدة وهو يسألني ماذا أفعل؟ قلت : إنني آخذ مالي.
قال الأعرابي : مالك أيها اللص? يا شيخ السوء، أهذا ما سافرت من أجله، ثم تقول إنك في الطريق إلى بيت الله الحرام، ألهذا أسرفت في الخشوع وادعيت المرض، أتستغل رحمتي ورقة شعوري باسم رسول الله وباسم التظاهر بالمرض والضعف لتسرقني، ألا قاتلك الله أخرج من بيتي أيها المشعوذ وإلا استدعيت رجال الشرطة. كيف يمكن أن يصدق احد أن مثلك بأسمالك وقدراتك يملك هذا القدر من المال".
ثم رفسني في صدري وهو يأمرني بمبارحة بيته في الحال، قبل أن يستبد به الغضب ويستدعي رجال الشرطة، وقد حاولت أن أقاوم لأنني كنت أعلم المصير الذي ينتظرني دون مال في هذه البلاد البعيدة ولكنه كان أعرابيا قويا، وقد استطعت أن أرى على ضوء النار مايبدو على وجهه من تصميم وعدم تردد، ولذلك عرفت أنني ضائع؟ فوقفت وقد بدأ يخبل إلي من شدة تصميمه أن المال ماله لا مالي، وعندما أردت أن أخرج وضع يده القوية على كتفي وهو يشدني قائلا : "ارجع إلى أسمالك أيها اللص الحقير فإنك لا تستحق أن أحسن إليك بمثل هذه الثياب".
قال : في تذلل "وهنا بدأت متاعبي الحقيقية، وإنك تستطيع أن تتصور حالة رجل في صحراء لا مال له. وقد بدأت قوتي تنفذ بعد نفاذ مالي، كما لو كان أحد قد سرقها مني هي أيضا، وتمزق نعلي وبدأت أسير حافيا على الرمال الملتهبة، فتورمت قدماي، وقضيت بقية الطريق متسولا أنام في العراء وأعيش على ما ينفحني به الأعراب في الطريق.
وذات ليلة قمرية، بينما كنا أسير محهدا وأنا أعزي نفسي بسمو الغاية التي أتحمل في سبيلها كل هذا العذاب، انقض علي رجل قوي وطرحتي أرضا وهو يطلب مني ما معي من نقود وإلا مزق أحشائي بخنجر حاد كان يلمع في ضوء القمر، ولما أخبرته بأنني متسولا لا أملك شيئا لطمني بعد تمزيق ثيابي، باحثا عن مالي، ولما أعياه البحث ولم يعثر على شيء رفسني رفسة قوية وهو يلعنني، ثم التفت إلي وهو يرمي لي كسرة من الخبز قائلا : "كل هذه فقد كلفتني القيام بهذا الجهد دون جدوى، ومع ذلك يبدوا أنك تستحق الرحمة أيها المتسول القذر.
كان يخيل إلي أن الشهور والأعوام تتطاير وتقترب بي في سرعة إلى أرذل العمر لشدة ما أصابني من ضعف، كان الهرم يسري في أوصالي كما تسري النيران في الهشيم، وقد قضيت على هذه الحالة ما يزيد على أربعة شهور، ولم ينقذني إلا رجال حدود مصر الذين اعتقلوني، وجاءوا بي إلى هذا المكان الذي وجدتني فيه ثم أطلقوا سراحي و انتهى بي المطاف إليك. ها أنذا.
كان الدم يغلي في رأسي غضبا حينما وصل الرجل مديد القامة إلى هذا الموضع من القصة، فسألته : وماذا حصل بعد ذلك ؟
قال : وهو ينظر إلى السقف في تواضع مفتعل زائف : ظل عندي حوالي أسبوعين بالطبع، وساعدته على أداء الفريضة المقدسة التي كرست حياتي لمساعدة المغاربة على تأديتها كما تعلم، ومن لهم غيري، فلولاي لما وصل كثيرون منهم إلى بيت الله الحرام، وهم قوم بسطاء، ولابد لنا من مساعدة إخوان لنا في الدين.
قلت : وبعد ذلك ؟
قال: إن بقية القصة مكتوبة على هذه الورقة الملقاة هنا.إنها رسالة من الشرطة المصرية ومعها ورقة التعريف الشخصي، ثم رفعها وبدأ يقرأ الورقة الأولى : الاسم -عبد السلام الصنهاجي- السن -45 سنة محل الواد - ضواحي فاس - الغاية من السفر - الحج إلى بيت الله الحرام. ثم رفع الورقة الثانية وقرأ : بوليس القاهرة- نفيدكم علما بأن السيد عبد السلام الصنهاجي الذي يحمل تعريفكم المرفق بهذا عثر عليه رجال البوليس في الصحراء الشرقية جثة هامدة.
ثم رفع إلي ورقة التعريف لأراها وهو يقول : هذه صورته إنه هو تماما أنظر إليه فربما كنت قد رأيته.
لم يكن يهمني أن أرى صورته فقد كنت أفكر في الرجل الذي أخلص لفكرة... فضحى في سبيلها بزوجته وأولاده وصحته وتحمل في سبيلها المشاق والمكارة، وصمد لذلك كله إلى أن مات دونها في عرض الطريق.
كنت أفكر في القوة الهائلة، التي تتدفق في صحراء.
كنت أفكر في ذلك حينما نهض الرجل المديد، وهو يضرب بيده على ركبته، ثم يأخذ عصاه، ويضع الطربوش على مؤخرة رأسه. كل ذلك وهو يطرف بعينيه ويقول : ارجع أن رجال حدود المملكة العربية قد منعوه من المرور لأنه لم يكن يملك ضريبة الحج وعلى كل حال هذه نهاية الرجل، لقد كان من اليسير أن تعرف بعد إن وصل إلى مصر من وجهه أنه على أبواب النهاية. وكم كنت أود لو حقق الله له ما كان يصبو إليه، ولكن هذه هي الحياة، إن هؤلاء البسطاء في مسيس الحاجة إلى عنايتنا، ولذلك يمكن أن تقدر قيمة الخدمات التي أقدمها لهم ،لا ذنب لهم سوى أنهم يريدون أن يؤذوا فريضة الإسلام الخامسة، إن الشوق إلى بيت الله المقدس هو الذي يحدوهم طول الطريق. مساكين، حقا إنهم مساكين.
قال ذلك وهو يرفع لي يده مودعا، ولكن تأثري لقصته كان أعمق من أعير لتعليقه التافه أي التفات.