منذ أن رآها عشقها…
دون أن يعرفها، أو يعلم ماذا تدرس. فهو لم يجلسْ معها قطُّ، ولم يتحدّثْ إليها قطُّ؛ لكنّه حيثما كانت يكون: يجلس في مكانٍ قريب، يلتفت إليها، في الكافتيريا، في حديقة الكليّة، يتابع حركاتِها وسكناتِها، ضحكاتِها وكلامَها، ونكاتِها التي تتبادلها مع الشباب الذين يحيطون بها.
هو في السنة الثانية، في كلية الطبِّ، جادٌّ في دراسته، جادٌ في علاقاته، يضطرب حين يتحدّث مع إحدى زميلاته، يحلم بالحبِّ دائماً، وينتظر الفتاة التي سيعشقها، فيهبُ لها قلبَه. ومنذ أنْ رآها، صارت أحلام حبِّه تبدأ وتنتهي عند رنين ضحكتها، بين شعرها المنساب على كتفيها مثل شلّال حرير، في جمالها الصارخ، ولباسها الذي يكشف بشرتَها البيضاء، وبشكلٍ أكبر: أريحيتها في التّعامل مع الشباب الذين ﻻ تعدمُ وجودَهم حولها، حيثما مشَتْ أو جلستْ. واﻵن، بعد ستّةِ أشهرٍ من العشق المعذّب الصّامت، ها هو يمضي إلى موعده اﻷوّلِ معها، وأين؟ في بِيتها!؛ لذلك، ليس غريباً أن أن يكون كلّ شيءٍ فيه جديداً: الجاكيت، والسروال، والحذاء، حتى العطر الذي سكب منه كثيرا على جسمه، كان جديداً؛ وها هو، في طريقه إليها، يتخيّل كيف سيدخل بيتها: تستقُبله، عند الباب، بثوبٍ جميلٍ وعطرٍ عذْب، وتقوده، عِبْرَ الممرِّ، إلى الصّالة المضاءة بأنوارٍ خافتةٍ تنبعث، من مكان ما منها، موسيقا هادئة؛ ويتخيّلُ -أيضاً- كيف سيقَدِّمُ لها باقةَ الوردِ الكبيرةَ، وكيف ستضعها في مزهريّةٍ على منضدةٍ صغيرةٍ، فرحةً بذوقه. وتوقّفتْ خطواته وهو يفكّرُ: هل ينزعُ الجاكيتَ الثقيلَ، حالَ دخولهِ الصّالةَ، أمْ ينتظرُ قليلاً؟ فهو عديمُ الخبرةِ في هذه التفاصيلِ الشكليّةِ، وظهرتِ البسمةُ على شفتيه، حين فكّر أنّها سترجوه بصوتها العذب: "انزع الجاكيت، رجاءً، الجوُّ دافئٌ في الصالون!"، وارتجف قلبهُ من شدّة الفرح، وهي تمدُّ يديها نحو كتفيه، تساعده في نزعه، ثم تعلّقه على المشجب، وهو يشكرها -حدّ اﻻمتنان- بكلماتٍ رقيقةٍ، تعادل سعادتَه بها.
صارت خطواتُه أكثَرَ رشاقةً، وبدأ يدندن أغنيةً.
توقّف فجأةً، وأخرج من جيب الجاكيت ورقةً كَتب عليها بخطٍّ كبير، ألقى عليها نظرةً سريعةً، وهزَّ رأسَه مؤكِّداً شيئاً ما، ثمَّ أعادها إلى جيبه، وعاد يدندن أغنيته من جديد، وعادتْ خطواتُه توقّع على الرصيف إيقاعَ فرحتِه. وتخيّلَ أنّه سيعترفُ لها أنّه أحبَّها منذ أن رآها أوّل مرّةٍ؛ لكنّه كان يحجم دائماً عن اﻻقتراب، والبوح بمشاعره، ففي كلِّ مرّةٍ يراها، يرى حولَها أولئك الشبابَ المتأنّقينَ التافهين..."ﻻ... ﻻيجوز أنْ أصِفَهم بالتافهين -فكّرَ- إذا قلتُ ذلك، فستشعرُ باﻹهانة هي أيضاً"، تابعَ طريقَه، وهو يُثني على نفسه لهذه الملاحظةِ الدقيقة، وفكّر أنْ يكتفيَ بالقول: إنّه متيّمٌ بها؛ لكنّه خجولٌ ومتردّدٌ..."أيضاً ﻻ...ﻻ تظهر تردُّدَك -زجر نفسه- الفتياتُ ﻻيحْبِبنَ التردّدَ، حين يكون الكلامُ عن الحبَّ"، وأصابته الحيرةُ بالكلمة اﻷنسبِ التي يجبُ أن يقولها..."رصين!، نعمْ... رصينٌ كلمةٌ جميلةٌ، وتترك انطباعاً جيّداً في مشاعرها... إذنْ: أنا متيًمٌ بك؛ لكنّي إنسانٌ رصينٌ، ﻻ أحبٌّ أنْ أفرِضَ نفسي على أحدٍ، إذا لم ألمَسْ منه اﻻهتمام"؛ توقّفَ من جديدٍ، وفكّرَ: "لكنّها لم تبادْلْكَ أيَّ اهتمامٍ، وها أنت تزورها في بيتها!"، وأعاد ترتيبَ كلامِه: "إنسانٌ رصينٌ، ﻻ أحبُّ أنْ أقيّدَ حرِّيَّتَكِ، وحينَ أخبرتُ طارق، صديقَك الذي ﻻيفارقك، بأنّي أرغب في اللقاء بك، فلأنّني لمْ أعدْ قادراً على الصّبْرِ أكثر، ولم أكنْ أعرفُ أنّكِ تبادلينني الشّعورَ، لوﻻ أنَّ طارق عاد بعد نصف ساعةٍ فقطْ، ليبشّرَني بأجملِ موعدٍ في حياتي"؛ وعادت أحلامُ اللقاءِ تداعب خياله بنشوة، حتّى أنَّ أحدَ المارّين النفت إليه مستغرباً... ربّما كانت ضحكتهُ مسموعةً!.
جفل فجأةً، وقفز متراجعاً، حين سمع صوتَ سّيارة مسرعةٍ تكبح عجلاتها، والسائقُ يشتمه من النافذة، ﻷنّه يمشي في وسَطِ الطريق؛ شعر بالخجل من نفسه، ورعشةُ الخوفِ لم تزايله، وانتبه جيّداً، وهو يقطع الطريق بحذر، وعادت خياﻻتُه الهائمةُ ترسم لحظاتِ اللقاء الوشيك... سيجلسُ قرْبَها على الديوان، وسيستمعانِ إلى الموسيقى بولهٍ، وستقدّم له مشروبا.ً..."هل تشربُ الخمرَ؟ وهل أشربُ معها، إذا قدّمتْ لي كأساً؟!... ﻻ، سأرفضُ، ولكنْ -طبعاً- بلباقةٍ ﻻ تجرحُ مشاعرَها"، وبدأ خيالهُ، من جديد، يفتّش عن كلمات اﻻعتذار المناسبة.
"سأشرب"، قرّرَ فجأةً، وتوقّف لحظاتٍ على الرصيف..."ﻻ يجوز أن يكونَ االلقاءُ اﻷوّلُ لقاءَ تعارضٍ... سأشرب كأساً واحدةً فقط"، حَسَم اﻷمرَ، وتحوّلَ خيالُه إلى لحظة تناولِه الكأسَ من يدِها، والمشروبُ اﻷحمرُ يلمع داخلَ الزجاجِ الشّفّافِ، وكيف سيقرَعُ كأسَه بكأسِها... وأكّدَ على أن يأخذَ الرشفة اﻷولى بحذر، فهو لم يشربْ من قبْلُ، وﻻ يريد أنْ يقف أمامها في موقفٍ سيّء؛ وبعد أن يشربا قليلاً، سيترك النبيذ والموسيقا والوردُ نشوةً كبيرةً "في قلبينا الصغيرين العاشقين"، وسيتناول ذراعَها البيضاءَ، ويدعوها للرقصِ... أخذَ نفَساً عميقاً، وأغمض عينيه على الصورةِ المدهشة، وهو يضمُّ خصرَها بذراعه، وصدرُها يلتصقُ بصدرِه، والكلماتُ الهامسةُ، الراعشةُ، التي سيقوﻻنِها..."حين تتلاقى أنفاسُنا، ويلتصق الخدُّ بالخدِّ، لن يبقى للكلام أيُّ معنى، ستكون أنفاسُنا ورعشاتُنا ولهاثُ المشاعر المدنفةِ أبلغَ من أيِّ كلام"، هزَّ رأسَه منتشياً، ومعجباً بتوصيفاتهِ الشاعريّةِ، وتابعتْ خطواتُه ترسمُ اللقاءَ الوشيكَ.
بعد ذلك سيتهيّأ للمغادرة..."إنّه الموعدُ اﻷوّلُ، وليس من الكياسةِ أن أطيلَ المكوثَ!"، وشدّد على أن يدعوَها لزيارته في شقّته... "أو أيِّ مكانٍ تختارينه"، استدرك مصحِّحاً. "ربّما ترفض الدعوةَ!... يجبُ أنْ ترفضَها... فتاةٌ بجمالها، وحرصها، من الطبيعيِّ أن ترفضَ زيارةَ شابٍّ أعزبَ في شقّتِه، حتّى لو كنتُ أنا!!، وسأقبل اعتذارَها، سأفرحُ به، ﻷنّ رفضَها يؤكّد عفّتهَا، ويثبت أنّ مشاعري لم تخدعْني حين أحببتُها هي بالذّاتِ، رغم ما يُقالُ عنها... الناس ﻻتفهم معنى الحرّيّة.ِ.. مجتمعٌ متخلّفٌ ﻻ يرى إﻻ القشور!!"، وبدأ يفكّر بالمجتمع المتخلّفِ الذي ﻻيحتمل عقله أن يجمع بين حرية المرأة وشرفها...."ماذا إنْ جلستْ مع الشباب، وضحكتْ معهم! ماذا إنْ دخّنتْ في الكافتيريا، أو شربتِ البيرةَ! ماذا إنْ كان لباسُها قصيراً، وذراعاها عاريتين!...هي حُرّة!! وﻻ يجوزُ الربطُ بين اللباس المرأةِ وبين شرفها".
وصل إلى أوّلِ الشارع المؤدّي إلى حارتِها، نقَلَ باقةَ الورد من يدٍ إلى يد، ووقف قرب سياجٍ معدنيٍّ، اتّكأتْ عليه ياسمينةٌ ممتدّةٌ، لفَت َنظرَهُ زوجُ حمامٍ يقفان على غصنٍ قريب، ذكّراه بموعده، وانتبه -لأوّل مرّةٍ- أنّ الطقسَ جميلٌ، والشمسُ ترسلُ أشعّةً دافئةً من بينِ غيماتٍ بيضٍ تسبح في سماءٍ زرقاء، تنفّسَ بعمقٍ، وأخرج من جيبه ورقةً صغيرةً، تأكّد أنّه لم يخطئِ العنوانَ، وأنّ حبيبتَه الجميلةَ تنتظره بعد شارعين، أخرج الورقَةَ اﻷخرى، المكتوبَةَ بخطٍّ كبيرٍ، ألقى نظرةً أخيرةً على الملاحظات والتحذيرات التي وضعها لنفسه تحضيراً للّقاء، اقترب من حاوية القمامة، يرمي الورقتين، قفزتْ قطّةٌ، وتبِعها قطٌّ مسرعاً، ابتسم بخجلٍ، وخطر بباله موعدُه الوشيكُ، وزميلُه طارق الذي "لوﻻ فضلهِ ما كنتُ اﻵنَ في هذه السعادة"، وخطرت بباله -ﻷوّلِ مرّةٍ أيضاً- كلماتُه، وهو يخبره بالموعد..."معك نقودٌ كافية؟"، هزَّ رأسَه، مرّةً أخرى، ونظر إلى جاكيته الجديد، وسرواله وحذائه، حتّى باقةِ الوردِ الثمينة..."معك حق يا طارق، الحبّ يكلِّف كثيراً... لكنْ، أيّةُ قيمةٍ للمال أمام المشاعر؟!". دخل البناءَ: الطابقُ الرابع، الشقّة اليمنى، توقّفَ لحظاتٍ عند الباب، أخذ نَفَساً عميقاً، وأصلحَ هندامَه، وهدّأ توتُّرَه، وحرِص أنْ تكونَ الباقةُ أمام صدرِه، تلفّتَ نحو اﻷبواب المجاورة، وقرع الجرس.
- أهلاً وسهلاً... جئتَ في موعدك بالثانية، فاجأه طارق الذي فتح له الباب، ودعاه للدخول:
- تنتظرُك -طمْأنه غامزاً- وأنا سأخرج، حالما تدخل أنت.
كانت تجلسُ في صْدرِ الصالةِ بمبذلٍ خفيفٍ، يكشف صدرَها وجزءاً كبيراً من نهديها المكتنزين؛ وبَدلَ الموسيقا والعطرِ، كان يفوح من الشًقة رائحةُ عفونةٍ ودخانِ سجائر. ارتبَك، واحتار ماذا يفعلُ بالباقةِ التي كلّفته غالياً، وطارق الذي لم يكترثْ بهندامه، وﻻ برائحة عطره، وﻻبالباقة الثمينة، قادَه من ذراعِه، سأله باهتمامٍ شديد:
- هل أحضرتَ معك النقودَ؟
قبلَ أن يتمالكَ نفْسَه من الذهول، نظرَ إليها: كانت تضعُ أحدَ فخذيها فوق الآخر، وقد انحسَرَ عنهما الثوبُ الرقيقُ، تتابِعُ ما يدورُ دونَ اهتمامٍ، وتنفثُ من سيجارتها غيمةَ دخانٍ كثيفة.
أكمل طارق، وهو يرى الصدمةَ على وجهِ زميله:
- وهل تظنُّ أنَّ الدخولَ إلى هذه اﻷماكن بالمجّان؟!!
انتهت
دون أن يعرفها، أو يعلم ماذا تدرس. فهو لم يجلسْ معها قطُّ، ولم يتحدّثْ إليها قطُّ؛ لكنّه حيثما كانت يكون: يجلس في مكانٍ قريب، يلتفت إليها، في الكافتيريا، في حديقة الكليّة، يتابع حركاتِها وسكناتِها، ضحكاتِها وكلامَها، ونكاتِها التي تتبادلها مع الشباب الذين يحيطون بها.
هو في السنة الثانية، في كلية الطبِّ، جادٌّ في دراسته، جادٌ في علاقاته، يضطرب حين يتحدّث مع إحدى زميلاته، يحلم بالحبِّ دائماً، وينتظر الفتاة التي سيعشقها، فيهبُ لها قلبَه. ومنذ أنْ رآها، صارت أحلام حبِّه تبدأ وتنتهي عند رنين ضحكتها، بين شعرها المنساب على كتفيها مثل شلّال حرير، في جمالها الصارخ، ولباسها الذي يكشف بشرتَها البيضاء، وبشكلٍ أكبر: أريحيتها في التّعامل مع الشباب الذين ﻻ تعدمُ وجودَهم حولها، حيثما مشَتْ أو جلستْ. واﻵن، بعد ستّةِ أشهرٍ من العشق المعذّب الصّامت، ها هو يمضي إلى موعده اﻷوّلِ معها، وأين؟ في بِيتها!؛ لذلك، ليس غريباً أن أن يكون كلّ شيءٍ فيه جديداً: الجاكيت، والسروال، والحذاء، حتى العطر الذي سكب منه كثيرا على جسمه، كان جديداً؛ وها هو، في طريقه إليها، يتخيّل كيف سيدخل بيتها: تستقُبله، عند الباب، بثوبٍ جميلٍ وعطرٍ عذْب، وتقوده، عِبْرَ الممرِّ، إلى الصّالة المضاءة بأنوارٍ خافتةٍ تنبعث، من مكان ما منها، موسيقا هادئة؛ ويتخيّلُ -أيضاً- كيف سيقَدِّمُ لها باقةَ الوردِ الكبيرةَ، وكيف ستضعها في مزهريّةٍ على منضدةٍ صغيرةٍ، فرحةً بذوقه. وتوقّفتْ خطواته وهو يفكّرُ: هل ينزعُ الجاكيتَ الثقيلَ، حالَ دخولهِ الصّالةَ، أمْ ينتظرُ قليلاً؟ فهو عديمُ الخبرةِ في هذه التفاصيلِ الشكليّةِ، وظهرتِ البسمةُ على شفتيه، حين فكّر أنّها سترجوه بصوتها العذب: "انزع الجاكيت، رجاءً، الجوُّ دافئٌ في الصالون!"، وارتجف قلبهُ من شدّة الفرح، وهي تمدُّ يديها نحو كتفيه، تساعده في نزعه، ثم تعلّقه على المشجب، وهو يشكرها -حدّ اﻻمتنان- بكلماتٍ رقيقةٍ، تعادل سعادتَه بها.
صارت خطواتُه أكثَرَ رشاقةً، وبدأ يدندن أغنيةً.
توقّف فجأةً، وأخرج من جيب الجاكيت ورقةً كَتب عليها بخطٍّ كبير، ألقى عليها نظرةً سريعةً، وهزَّ رأسَه مؤكِّداً شيئاً ما، ثمَّ أعادها إلى جيبه، وعاد يدندن أغنيته من جديد، وعادتْ خطواتُه توقّع على الرصيف إيقاعَ فرحتِه. وتخيّلَ أنّه سيعترفُ لها أنّه أحبَّها منذ أن رآها أوّل مرّةٍ؛ لكنّه كان يحجم دائماً عن اﻻقتراب، والبوح بمشاعره، ففي كلِّ مرّةٍ يراها، يرى حولَها أولئك الشبابَ المتأنّقينَ التافهين..."ﻻ... ﻻيجوز أنْ أصِفَهم بالتافهين -فكّرَ- إذا قلتُ ذلك، فستشعرُ باﻹهانة هي أيضاً"، تابعَ طريقَه، وهو يُثني على نفسه لهذه الملاحظةِ الدقيقة، وفكّر أنْ يكتفيَ بالقول: إنّه متيّمٌ بها؛ لكنّه خجولٌ ومتردّدٌ..."أيضاً ﻻ...ﻻ تظهر تردُّدَك -زجر نفسه- الفتياتُ ﻻيحْبِبنَ التردّدَ، حين يكون الكلامُ عن الحبَّ"، وأصابته الحيرةُ بالكلمة اﻷنسبِ التي يجبُ أن يقولها..."رصين!، نعمْ... رصينٌ كلمةٌ جميلةٌ، وتترك انطباعاً جيّداً في مشاعرها... إذنْ: أنا متيًمٌ بك؛ لكنّي إنسانٌ رصينٌ، ﻻ أحبٌّ أنْ أفرِضَ نفسي على أحدٍ، إذا لم ألمَسْ منه اﻻهتمام"؛ توقّفَ من جديدٍ، وفكّرَ: "لكنّها لم تبادْلْكَ أيَّ اهتمامٍ، وها أنت تزورها في بيتها!"، وأعاد ترتيبَ كلامِه: "إنسانٌ رصينٌ، ﻻ أحبُّ أنْ أقيّدَ حرِّيَّتَكِ، وحينَ أخبرتُ طارق، صديقَك الذي ﻻيفارقك، بأنّي أرغب في اللقاء بك، فلأنّني لمْ أعدْ قادراً على الصّبْرِ أكثر، ولم أكنْ أعرفُ أنّكِ تبادلينني الشّعورَ، لوﻻ أنَّ طارق عاد بعد نصف ساعةٍ فقطْ، ليبشّرَني بأجملِ موعدٍ في حياتي"؛ وعادت أحلامُ اللقاءِ تداعب خياله بنشوة، حتّى أنَّ أحدَ المارّين النفت إليه مستغرباً... ربّما كانت ضحكتهُ مسموعةً!.
جفل فجأةً، وقفز متراجعاً، حين سمع صوتَ سّيارة مسرعةٍ تكبح عجلاتها، والسائقُ يشتمه من النافذة، ﻷنّه يمشي في وسَطِ الطريق؛ شعر بالخجل من نفسه، ورعشةُ الخوفِ لم تزايله، وانتبه جيّداً، وهو يقطع الطريق بحذر، وعادت خياﻻتُه الهائمةُ ترسم لحظاتِ اللقاء الوشيك... سيجلسُ قرْبَها على الديوان، وسيستمعانِ إلى الموسيقى بولهٍ، وستقدّم له مشروبا.ً..."هل تشربُ الخمرَ؟ وهل أشربُ معها، إذا قدّمتْ لي كأساً؟!... ﻻ، سأرفضُ، ولكنْ -طبعاً- بلباقةٍ ﻻ تجرحُ مشاعرَها"، وبدأ خيالهُ، من جديد، يفتّش عن كلمات اﻻعتذار المناسبة.
"سأشرب"، قرّرَ فجأةً، وتوقّف لحظاتٍ على الرصيف..."ﻻ يجوز أن يكونَ االلقاءُ اﻷوّلُ لقاءَ تعارضٍ... سأشرب كأساً واحدةً فقط"، حَسَم اﻷمرَ، وتحوّلَ خيالُه إلى لحظة تناولِه الكأسَ من يدِها، والمشروبُ اﻷحمرُ يلمع داخلَ الزجاجِ الشّفّافِ، وكيف سيقرَعُ كأسَه بكأسِها... وأكّدَ على أن يأخذَ الرشفة اﻷولى بحذر، فهو لم يشربْ من قبْلُ، وﻻ يريد أنْ يقف أمامها في موقفٍ سيّء؛ وبعد أن يشربا قليلاً، سيترك النبيذ والموسيقا والوردُ نشوةً كبيرةً "في قلبينا الصغيرين العاشقين"، وسيتناول ذراعَها البيضاءَ، ويدعوها للرقصِ... أخذَ نفَساً عميقاً، وأغمض عينيه على الصورةِ المدهشة، وهو يضمُّ خصرَها بذراعه، وصدرُها يلتصقُ بصدرِه، والكلماتُ الهامسةُ، الراعشةُ، التي سيقوﻻنِها..."حين تتلاقى أنفاسُنا، ويلتصق الخدُّ بالخدِّ، لن يبقى للكلام أيُّ معنى، ستكون أنفاسُنا ورعشاتُنا ولهاثُ المشاعر المدنفةِ أبلغَ من أيِّ كلام"، هزَّ رأسَه منتشياً، ومعجباً بتوصيفاتهِ الشاعريّةِ، وتابعتْ خطواتُه ترسمُ اللقاءَ الوشيكَ.
بعد ذلك سيتهيّأ للمغادرة..."إنّه الموعدُ اﻷوّلُ، وليس من الكياسةِ أن أطيلَ المكوثَ!"، وشدّد على أن يدعوَها لزيارته في شقّته... "أو أيِّ مكانٍ تختارينه"، استدرك مصحِّحاً. "ربّما ترفض الدعوةَ!... يجبُ أنْ ترفضَها... فتاةٌ بجمالها، وحرصها، من الطبيعيِّ أن ترفضَ زيارةَ شابٍّ أعزبَ في شقّتِه، حتّى لو كنتُ أنا!!، وسأقبل اعتذارَها، سأفرحُ به، ﻷنّ رفضَها يؤكّد عفّتهَا، ويثبت أنّ مشاعري لم تخدعْني حين أحببتُها هي بالذّاتِ، رغم ما يُقالُ عنها... الناس ﻻتفهم معنى الحرّيّة.ِ.. مجتمعٌ متخلّفٌ ﻻ يرى إﻻ القشور!!"، وبدأ يفكّر بالمجتمع المتخلّفِ الذي ﻻيحتمل عقله أن يجمع بين حرية المرأة وشرفها...."ماذا إنْ جلستْ مع الشباب، وضحكتْ معهم! ماذا إنْ دخّنتْ في الكافتيريا، أو شربتِ البيرةَ! ماذا إنْ كان لباسُها قصيراً، وذراعاها عاريتين!...هي حُرّة!! وﻻ يجوزُ الربطُ بين اللباس المرأةِ وبين شرفها".
وصل إلى أوّلِ الشارع المؤدّي إلى حارتِها، نقَلَ باقةَ الورد من يدٍ إلى يد، ووقف قرب سياجٍ معدنيٍّ، اتّكأتْ عليه ياسمينةٌ ممتدّةٌ، لفَت َنظرَهُ زوجُ حمامٍ يقفان على غصنٍ قريب، ذكّراه بموعده، وانتبه -لأوّل مرّةٍ- أنّ الطقسَ جميلٌ، والشمسُ ترسلُ أشعّةً دافئةً من بينِ غيماتٍ بيضٍ تسبح في سماءٍ زرقاء، تنفّسَ بعمقٍ، وأخرج من جيبه ورقةً صغيرةً، تأكّد أنّه لم يخطئِ العنوانَ، وأنّ حبيبتَه الجميلةَ تنتظره بعد شارعين، أخرج الورقَةَ اﻷخرى، المكتوبَةَ بخطٍّ كبيرٍ، ألقى نظرةً أخيرةً على الملاحظات والتحذيرات التي وضعها لنفسه تحضيراً للّقاء، اقترب من حاوية القمامة، يرمي الورقتين، قفزتْ قطّةٌ، وتبِعها قطٌّ مسرعاً، ابتسم بخجلٍ، وخطر بباله موعدُه الوشيكُ، وزميلُه طارق الذي "لوﻻ فضلهِ ما كنتُ اﻵنَ في هذه السعادة"، وخطرت بباله -ﻷوّلِ مرّةٍ أيضاً- كلماتُه، وهو يخبره بالموعد..."معك نقودٌ كافية؟"، هزَّ رأسَه، مرّةً أخرى، ونظر إلى جاكيته الجديد، وسرواله وحذائه، حتّى باقةِ الوردِ الثمينة..."معك حق يا طارق، الحبّ يكلِّف كثيراً... لكنْ، أيّةُ قيمةٍ للمال أمام المشاعر؟!". دخل البناءَ: الطابقُ الرابع، الشقّة اليمنى، توقّفَ لحظاتٍ عند الباب، أخذ نَفَساً عميقاً، وأصلحَ هندامَه، وهدّأ توتُّرَه، وحرِص أنْ تكونَ الباقةُ أمام صدرِه، تلفّتَ نحو اﻷبواب المجاورة، وقرع الجرس.
- أهلاً وسهلاً... جئتَ في موعدك بالثانية، فاجأه طارق الذي فتح له الباب، ودعاه للدخول:
- تنتظرُك -طمْأنه غامزاً- وأنا سأخرج، حالما تدخل أنت.
كانت تجلسُ في صْدرِ الصالةِ بمبذلٍ خفيفٍ، يكشف صدرَها وجزءاً كبيراً من نهديها المكتنزين؛ وبَدلَ الموسيقا والعطرِ، كان يفوح من الشًقة رائحةُ عفونةٍ ودخانِ سجائر. ارتبَك، واحتار ماذا يفعلُ بالباقةِ التي كلّفته غالياً، وطارق الذي لم يكترثْ بهندامه، وﻻ برائحة عطره، وﻻبالباقة الثمينة، قادَه من ذراعِه، سأله باهتمامٍ شديد:
- هل أحضرتَ معك النقودَ؟
قبلَ أن يتمالكَ نفْسَه من الذهول، نظرَ إليها: كانت تضعُ أحدَ فخذيها فوق الآخر، وقد انحسَرَ عنهما الثوبُ الرقيقُ، تتابِعُ ما يدورُ دونَ اهتمامٍ، وتنفثُ من سيجارتها غيمةَ دخانٍ كثيفة.
أكمل طارق، وهو يرى الصدمةَ على وجهِ زميله:
- وهل تظنُّ أنَّ الدخولَ إلى هذه اﻷماكن بالمجّان؟!!
انتهت