بانياسيس - المراقب.. مسرحية قصيرة

"المسرح: *_شارع معبد يمتد بلا نهاية ولا بداية من يسار ويمين المسرح ، في المنتصف قليلا إلى يسار المسرح مرحاض عام عبارة عن صندوق مستطيل الحجم من الخشب عليه لافتة كرتونية مكتوب عليها "مرحاض عام" بقلم الحبر وبخط قبيح...على بعد متر هناك كرسي حديدي قديم وأمامه طاولة خشبية أحد أقدامها أقصر من الثلاث الأخريات ولذلك دعمت بطوبتين متينتين ، .. المكان صحراوي والاضاءة ساطعة.._*

من على يمين المسرح في مواجهة الجمهور يظهر "الماحي" وهو شاب طويل ونحيل يرتدي بدلة كاملة بأناقة شديدة وهي بدلة قديمة من طراز السبعينات حيث نجد قطع جلدية على الكوع والاكتاف وبياقات مثلثة كبيرة ويرتدي نظارة شمس عريضة مع شعر الخنافس.. يسير على حافة الطريق المعبد ليس مشيا ولكن بعرض جسده.. حيث يواجه الجمهور ومع ذلك يتحرك نحو اليسار بخطوات مرتبكة.. يخرج منديل قماش ويمسح عرقه وهو ينظر من خلف نظارته إلى السماء بتوتر....
الماحي: (يحدث نفسه) لماذا ارتديت البدلة.. أليس هذا حماقة.. ألم أكن أعرف أن النهار قائظ والزوابع الترابية لا تتوقف عن الدوران وجلد وجهي وأقدامي بحبات رملها الساخنة؟
(يباعد قدميه خطوتين بجانبه ثم يتوقف.. )
- ولا حتى عصفور في السماء.. ولا حتى سحابة صيف مزيفة...ولا حتى زهرة برية تقاوم ألم وحشتها هنا..بل .. بل ولا حتى عظاءة تقلب عينيها بحيرة وفزع وهي تمد رأسها من تحت هذه الكثبان.. رباه...هل أعود أدراجي.. هناك خطأ ما .. لقد قطعت نصف الطريق.. لست متأكدا .. لكن.. ربما لم أشعر بالتعب كما أشعر به الآن...هناك تاريخ كامل لحياتي .. تاريخ امتد لاثنتين وثلاثين عاما.. أليس هذا كافيا لأتوقف هنا.. هنا في المنتصف... لكن .. ماذا لو توقفت أو حتى لم أتوقف؟ ماذا سيحدث؟ ما هو الجديد الذي يمكن توقعه في مكان مثل هذا ... لا شيء يبدو مصيريا أبدا..
(يظهر بعشوم على يمين المسرح وهو اسود ذو طرش مدورة يرتدي جلبابا أبيضا قصيرا وطاقية برتقالية)
بعشوم- إيييه.. كان زمان ....(يخرج علبة نشوق ويتصعط منه).. الحمار كان أذكى من البشر هنا .. العجب العجلاتي أول من افتتح محل لتصليح الدراجات .. كانت الدراجات لأبناء الأغنياء والبسطجية .. مع ذلك فشل العجب في اصلاح أي دراجة ... كان يفكك الدراجة قطعة قطعة.. يحملق فيها بإعجاب..ثم يتصبب عرقا وهو يحاول تجميعها من جديد ثم يثور غضبا ويبدأ في ركل قطعها وهو يبكي...مع ذلك أصر على الاستمرار في هذه المهنة .. والأغرب أن أبناء الأغنياء لم يتوقفوا عن ارسال دراجاتهم المعطوبة له لإصلاحها .. وفوق هذا كانوا ينقدونه بضعة ملاليم مقابل تفكيكها...
الماحي- (يدير رأسه من على كتفه ملقيا نظرة لبعشوم) لا أحب التدخل في نقاش الإنسان مع نفسه..فهي لحظة فارقة لدى الإنسان حين ينعم بتحسس كينونته...
بعشوم- (يحدق فيه بصمت)..
الماحي- نعم .. هي لحظات فارقة.. لكن دعني أتولى تصحيح بعض فرضياتك عن قصة العجب.. هل يمكنني ذلك؟ هل تسمح لي؟
بعشوم- (يستمر محدقا فيه بصمت)..
الماحي- أنت افترضت عدة افتراضات تحتاج لقليل من الاستيثاق.. مثلا... هل أنت متأكد أن الحمار كان يوما أذكى من البشر؟ وهل أنت متأكد أن من كانوا يرسلون بدراجاتهم الى العجب هم أبناء البرجوازيين؟ وهل تعتقد أنهم كانوا يقدمون له الملاليم كحسنة؟ هل تفترض أن العجب كان يبكي لأنه فشل في إعادة تركيب الدراجة؟..
بعشوم- (ينظر تجاه الجمهور بصمت)...
الماحي- دعنا نحاول تفكيك فرضياتك قليلا..وسأتجاهل فرضية الحمار لأنها قد لا تتفق ونظرية التطور لكن دعني أستعرض معك رؤيتي.. في الحقيقة إن مسيرة حياتي ليست قصيرة فهي تجاوزت الاثنتين وثلاثين عاما وهي فترة كافية تؤهلني لفهم العالم من حولي على نحو تقريبي طبعا...
بعشوم- (ينظر الى الماحي مرة أخرى بصمت)..
الماحي- دعني أقول بأننا لا نستطيع توقع الحسنة من أبناء البرجوازية .. الحسنة يقدمها الفقراء للفقراء ... هذه قاعدة .. وإذا كانت هذه القاعدة صحيحة..وهي على فكرة صحيحة...فعلينا أن نعيد تكييفنا لشخصية هؤلاء الصغار.. ألا تتفق معي أن الأكثر منطقية هو أن هؤلاء الصغار كانوا لصوصا يسرقون دراجات أبناء الأغنياء ثم يدفعون بها آلى العجب لتفكيكها ومن ثم إعادة بيعها كقطع غيار أو حتى إعادة تركيبها بشكل يخفي هويتها الأولى...
بعشوم-(يمط شفتيه بحيرة) فعلا والله... فاتت علي هذه الفكرة..عجيب..
الماحي- (يبتسم وقد شجعه رد فعل بعشوم) دعنا ننتقل لفرضيتك المتعلقة ببكاء العجب.. أنت اعتقدت أنه يبكي لفشله في تجميعها... ألا يمكن أن يكون العكس هو الصحيح.. ألا يمكن أن يكون السبب هو بلوغه لذروة اللذة وهو يفكك أوصال الدراجة.. أليس هناك احتمال بأنه لا يرغب أبدا في إعادة تركيبها؟
بعشوم- (يمط شفتيه بحيرة).. ممكن.. ولم لا..!
الماحي- هل تعتقد أن فهم تعقيدات البشر أمر سهل؟
بعشوم- (يحدق في الماحي بصمت)..
الماحي- يمكن لإثنين الامتناع عن أكل الطعام رغم جوعهما ويتبرع كل واحد منهما بنصيبه للآخر.. أليس هذا كرما وإيثار على النفس؟
بعشوم- حقيقي.. كرم لا شك فيه..
الماحي- (يبتسم) وماذا لو قلت لك أن كلا منهما كان قد وضع للآخر سما في الطعام بطريقة خفية؟.. هل ترى في ذلك كرما؟
بعشوم-(تتسع عيناه ويقول وخدوده ترتعش).. بحق الله .. لا بالتأكيد..
(يدخل صبي من الجهة اليمنى أيضا...يتوجه نحو الرجلين )
- البهائم لم تشرب منذ يوم كامل.. ألا يوجد أي ماء في هذا المكان...
بعشوم- لا أعتقد...لكن هناك مرحاض هناك... ربما تجد داخله ابريق ماء..
الصبي- إبريق ماء ؟؟؟ هل سيشرب قطيع كامل من ابريق ماء؟..
بعشوم - بحق الله.. كيف فات علي ذلك؟..
الماحي- لن يجد ماء في ذلك المرحاض...
بعشوم- لماذا؟
الماحي- هل ترى أي مصدر للماء في هذا المكان؟
بعشوم- لا ... ولكن.. ولكن لا مانع من أن يكونوا قد جلبوا ماء من مكان بعيد؟..
الماحي- من هم؟
بعشوم- (ينظر الى الأمام بحيرة) .. لا أعلم... من وضعوا هذا المرحاض هنا... هل انبثق عن العدم..بالتأكيد لا...
الصبي- بدلا عن ذلك سأدخل لأرى ..
بعشوم- (يضحك ضحكات صفراء).. صبي ذكي..
الماحي- إنه ذكي فعلا...لأن التجربة هي التي تحسم الأمر وليس التوقعات.. أليس كذلك؟
بعشوم- (ينظر للماحي بحيرة)..اسئلتك صعبة...
الماحي- (يبتسم) .. ربما وربما لا.. هي في الواقع جدلية لم تحسم بعد...لكن باعتباري مؤمنا بالتجربة .. بل مدله بها فإنني استطيع حسمها على المستوى الشخصي...
بعشوم- حسنا.. احسمها..
الماحي- سيحسمها هذا الراعي الصغير...
يتحرك الصبي نحو المرحاض..يدور حوله وهو يتحسس خشبه..
الصبي- لا يوجد مدخل لهذا المرحاض...
بعشوم-ماذا؟ ..ألا يوجد باب؟..
الصبي- لا يوجد باب ..
بعشوم- كيف هذا؟
الصبي- هكذا..
بعشوم -تأكد مرة أخرى...
الصبي-كيف اتأكد أكثر من ذلك...
الماحي- (يضع سبابته على ذقنه الحليق مفكرا).. أها.. دعنا نعيد ترتيب الصورة الممزقة.. هناك طريق معبد طويل..بلا نهاية ولا بداية.. في المنتصف ..اعتقد أنه المنتصف... يوجد مرحاض بلا باب...في الواقع هناك سؤال مهم وهو..لماذا يضعون مرحاضا عاما هنا...؟ (يلتفت الى الصبي).. يا صبي.. هل تعرف ما هو المرحاض؟
الصبي- (يهز رأسه نفيا بحيرة)..
الماحي- هل رأيت مرحاضا من قبل؟
الصبي-(يهز رأسه مفيا بحيرة)..
الماحي- ماذا تتوقع أن يكون المرحاض إذن؟
الصبي- لا أعرف...
الماحي- حاول.. إبذل مجهودا بسيطا وتخيل..
الصبي- حسنا...
(يضع الصبي سبابته على ذقنه مفكرا)
الصبي- مراح البهائم؟
الماحي- لا .. ليس كذلك...
الصبي- ولا حتى قريب منه؟
الماحي- ولا حتى قريب منه..
الصبي- صندوق خشبي هنا .. ماذا سيكون يا ترى؟.. ربما كان جرنا..؟
الماحي- لا ليس جرنا.. حاول من جديد...
الصبي- خن دجاج؟
الماحي- لا ليس خن دجاج..
الصبي- ولا حتى قريبا منه؟
الماحي- لا ولا حتى قريبا منه.
الصبي- إذا لم اعرف ..فشلت..
الماحي- إنه مكان للإخراج يا فتى..
الصبي- إخراج ماذا؟
الماحي- إخراج الطعام من البطن..
الصبي- كيف هذا؟
الماحي- هكذا...ألم تفعل ذلك من قبل؟
الصبي- فعلت ولكن لماذا داخل صندوق..؟ الخلاء ما عيبه؟
الماحي- هنا يكمن الفارق...
الصبي- ولكن أليس الصندوق ضيقا بما يكفي لتجمع كم كبير ومقرف من هذا الاخراج؟
الماحي- هناك حفرة..أقصد بئر أسفل المرحاض...
الصبي- وكيف سيقفوا على فتحتها..
الماحي- يبدو أنك لم تستطع تخيل الأمر بعد....
الصبي- لا ... يبدو الأمر معقدا أكثر من فهمي ..
الماحي- لا ليس أكثر من فهمك وإنما أكثر من تجربتك...لقد أمضيت إثنتين وثلاثين عاما بما يكفي تماما لتحديد موقفي من كل شيء..
الصبي- كل شيء؟
الماحي- نعم كل شيء...
الصبي- هل تعرف كل شيء؟
الماحي- لا لا أعرف كل شيء..سؤالك ذكي جدا ولذا سأجيبك بما يناسبه...
بعشوم-ما فائدة هذا الكلام..أعتقد أن الأجدى هو بحث قضية المرحاض..حقيقة هو شيء غامض ومثير للشك... هل هو فعلا مرحاض؟
الماحي- تحديد موقف من كل شيء يتم بالاستبعاد... أن تحصر اهتمامك بأشياء معينة وتستبعد كل شيء آخر ..هكذا تكون قد اتخذت موقف من كل شيء..
بعشوم- دعك من هذا يا فتى..اذهب وراقب بهائمك؟
الصبي- لماذا؟
بعشوم- كيف لماذا؟
الصبي- ليس لديها ماء .. العودة لن تفيدها بشيء إلا لو كنت سأراقبها وهي تموت...
بعشوم- يبدو حديثك منطقيا...لا تتعلم حذلقة هذا المدع...
الماحي- إذن فأنت أيضا حددت موقفك من كل شيء...
الصبي- أنا أم هو...
الماحي-كلاكما...
بعشوم-هذه طريقة تفكير معقدة وليست جميلة...إنني أفضل الطريقة الأولى الأكثر براءة....
الماحي- هل هناك باصات سفرية تمر بهذا الشارع..
الصبي- أعتقد ذلك..الناس لا يتوقفون عن السفر...
بعشوم- إلى أين يسافرون؟ يبدو لي أن هذا الطريق لا ينتهي لشيء؟
الماحي- إنهم يسافرون فقط..هذا ما قصده الصبي...وأعتقد أن المرحاض لم يخصص للتغوط داخله..بل مخصص للتغوط خلفه...
بعشوم- لماذا؟
الماحي- أعتقد انه يمثل ستارا أو حجابا للشخص بدلا عن أن يكون عرضة لمراقبة الآخرين له في تلك اللحظة الحاسمة...
الصبي- أنا أفعل ذلك في الخلاء ولا آبه إن كان هناك حيوان أم انسان..
الماحي-نعم هذه قضية ثقافية..
الصبي- ثقافية؟
الماحي- أوووه يا صغير..لا تدقق كثيرا في الكلمات..حاول فهمها بشكل تجريدي..
الصبي- تجريدي؟..
الماحي- حسنا..الكلمات ليست كما تبدو عليه...
بعشوم- هناك كرسي وطاولة..سأجلس هناك...
(يتجه نحو الكرسي ثم يجلس عليه) هذا مريح.. أعتقد أن من جلس عليه كان يتلقى أجرة الدخول إلى المرحاض.. أو في الحقيقة الاختباء خلفه...
الماحي- هو كذلك...
الصبي- الآن سأغادر للبحث عن الماء...
الماحي- جيد... دائما ابحث عن الماء.. لا تتوقف حتى عندما تجده ...
الصبي- ولماذا أبحث عن شيء وجدته..
الماحي- لكي لا تكون بلا هدف..
الصبي- هذا الطريق طويل جدا ..
الماحي- وهذا هو الجيد في الأمر..لديك مسافة كافية لتظل مسافرا..
بعشوم- خرافه ستموت ..كن منطقيا مع الصبي..
الصبي- خرافي لن تموت ..ستنتظرني حتى أعود لها...
بعشوم-براحتك..أنت لا تعرف أن هذه الكائنات سريعة الهلاك...ربما لأنها نباتية.. لا أعرف ولكنها تبدو كزوجة حسونة الجزارة كانت ممراضا..كانت دائما هزيلة ومريضة .وتسعل ولا تأكل اللحم .. كانت تشعر بقرف مستمر من كل ما حولها..حتى عندما تسعل تنظر لبلغمها بقرف...وجهها مكفهر دائما ..مقدمة أسنانها بارزة كفأر مصاب بالسعار... كنا صغارا وكنا نسمع صوت لكمات حسونة لها حين تمتنع عن تلبية رغباته ..كانت تكره ذلك..ضربها بقسوة..وفي النهاية سكبت عليه زيتا مغليا وهو نائم... مات وتم إعدامها ... لقد حكى لي الشرطي الذي فك أنشوطة الحبل من على عنقها أنه شاهد أبشع كائن يراه في حياته .. كانت بشعة لدرجة أنها اصابته بحزن تفاقم لاكتآب حاد لم يتخلص منه إلا عندما سافر المدينة...
الصبي- ماذا كان اسمها..؟
بعشوم- لا أحد يعرف .. حتى في سجلات المحكمة تم تسجيلها تحت مسمى زوجة حسونة الجزار...
الصبي- مسكينة...
الماحي- هناك أشخاص هكذا.. كتب عليهم أن يعيشوا تعاسة ترويها الأجيال دون أن يعرف لهم أسم حتى..
(ينظر للصبي)..لذلك عليك أن تستمر في البحث يا فتى.. بهائمك لن تموت أبدا..
الصبي- أعلم ذلك..ما دمت أبحث فلن تموت...
الماحي- صحيح..
بعشوم-أنت توقع الصبي في شراك حكم كاذبة... توقف عن إيهامه...
الماحي- يمكنني أن أرد عليك ردا مباشرا ..لكنني أفضل أن أسمعك وأنت ترد على نفسك بنفسك...هذا يسرني جدا...
بعشوم-(ينظر للماحي بخوف) أعرف انك تستطيع فعل ذلك...أنت جن مصرم..
الماحي- (يضع سبابته على ذقنه متأملا)..جن مصرم.. جن مصرف...
الصبي- (يوجه حديثه لبعشوم) هل تريد نقودا؟
بعشوم- لماذا؟.. ما حاجتي للنقود؟
الصبي- أريد أن أخرج من بطني خلف مرحاضك...
بعشوم- يا للقرف..وماذا سأفعل بالنقود هنا.. إن هذا الطريق يسلب النقود قيمتها.. هنا يمكننا أن نمارس المقايضة فقط...في الواقع الأشياء كلها هنا متساوية القيمة..
الصبي- حتى الماء؟
بعشوم- ليس إذا كان لدى بهائم عطشى.. (يرفع قدميه على الطاولة)..يمكنك أن تتغوط مجانا يا صبي...
الصبي- حسنا...شكرا لك..
بعشوم-إن الرعي لم يسرق لطفك يا صبي..
الماحي- صحيح... لم تنله خشونة الصحراء...تلك مسألة شائكة جدا ..
بعشوم- ربما عندما يكبر..
الماحي- ربما...
(يختفي الصبي خلف المرحاض...)
بعشوم- ما قصة بدلتك هذه؟ لماذا تبدو لي وكأنك سقطت من السماء..؟
الماحي- لا ..لم أسقط من السماء.. إنني مرتحل فقط .. ارتديت هذه البدلة قبل اثنتين وثلاثين عاما..هم خبرتي في الحياة...وقررت الارتحال...
بعشوم-ألم تضق عليك؟
الماحي- لا ..لقد كانت تكبر معي..
بعشوم-هذا غريب..!!!
الماحي- هل تعتقد أن هذا منتصف الطريق؟
بعشوم-لا أعرف حقيقة...لنعرف المنتصف لابد من معرفة البداية والنهاية.. في السابق .. أقصد في المدرسة ..كانوا يعلموننا القياس بالخيط..حيث نضع الخيط على محيط أي شكل هندسي ثم نفرد الخيط ونقيسه.. هل مررت بهذه التجربة؟
الماحي- قلت لك أنني مررت بما يكفي من تجارب..إنها اثنتان وثلاثون عاما...
بعشوم- حسنا.. حياتك تبدو ثرية..
الماحي- هي كذلك .. لكن ربما يجب أن تعرف أن ثراء حياتنا يكمن في قوة ملاحظتنا.. ربما تدخل في تجارب عديدة ومع ذلك تتعامل معها كصور عابرة وهكذا تفقد متعة الوعي بحقيقتها...
بعشوم- نعم .. يبدو لي أن كلامك صحيح.. على أية حال أنا تاجر .. والتجارة لها عالمها الخاص...
الماحي-لقد تأخر الصبي؟
بعشوم-سأذهب لأراه..
(ينهض من كرسيه ويدور حول المرحاض).. لا أثر للصبي..هذا غريب؟..
الماحي- (يضع سبابته على ذقنه متأملا).. أنت المسؤول عن زبائنك هنا..
بعشوم- (بخوف) أي زبائن..لقد كانت مجرد لعبة..
الماحي- هل تعتقد أن اللعب لا قيمة له؟
بعشوم-(بغضب وهو يشهر سبابته) لا تحاول توريطي..لا يوجد مشهد واقعي هنا...
الماحي- هل أنت متأكد؟
بعشوم- بالتأكيد..
الماحي- أليس اختفاء الصبي واقعي؟
بعشوم- نعم .. أنا أقصد .. أننا كنا نمزح هازلين فقط..والهزل لا يرتب التزامات ..
الماحي- لماذا تمارس الهزل؟
بعشوم-ليكون الوقت طيبا..
الماحي- ليكون الوقت طيبا...حسنا.. طيبا بالنسبة لمن؟ لك أم للآخرين؟
بعشوم- لنا جميعا..
الماحي- هل سألت الآخرين عن رغبتهم في مشاركتك الهزل..
بعشوم- بالتأكيد لا... هذا امر مفترضه من ملابسات الواقع...
الماحي- عندما عرض الصبي منحك مالا..هل كان هازلا؟
بعشوم- (يتردد)...أ..أعتقد ذلك..
الماحي- لماذا اعتقدت ذلك؟
بعشوم- لأنني لا أملك هذا المرحاض اللعين... ولم أقل أنني أملكه..
الماحي- لكنك جلست على كرسي محصل النقود..
بعشوم- لارتاح فقط...
الماحي- لم تقل ذلك...
بعشوم-وهل على أن اقول كل شيء..
الماحي- عندما تكن مع آخرين فكل تصرفاتك يجب أن تكون مبررة وبوضوح..
بعشوم- (بغضب) هذا غير منطقي..
الماحي- ابحث عن الفتى..
بعشوم- (بإصرار) لن أبحث ..
الماحي- سأبحث أنا عنه...
(يختفي خلف المرحاض)..
(يقف بعشوم غاضبا..)..
(تخفت الإضاءة ثم تظلم وتعاود السطوح بعد عشرين ثانية)...
(بعشوم لا زال يقف في مكانه)..
بعشوم- لقد تأخر هذا الأحمق أيضا... لكن ما معنى الزمن هنا؟ يبدو كل شيء ميتا...هذا المرحاض المخيف.. وهذا الطريق المعبد الطويل الذي بلا بداية ولا نهاية ... كثبان الصحراء الناعمة ...صبى يرعى البهائم .. وثلاثيني يسير منذ ميلاده ..
(يلتفت نحو المرحاض برعب)..
يا إلهي.. هل يكون هذا المرحاض هو نهاية الطريق... مستحيل طبعا.. مستحيل...
(يقترب من المرحاض بحذر)..
لماذا أنت هنا؟ .. من وضعك؟ .. لماذا يختفي الناس خلفك؟ لماذا أشعر برغبة عارمة في الاختفاء معهم...
(يمد قدمه خلف المرحاض).. حسنا... سيكون الطريق المعبد خاليا من بعدي..هل ستتكثف سحابة فوق السماء.. هل ستنزل الأمطار؟ هل ستنبت الحقوق والأزهار...؟ لا أدري...
وداعا... وداعا...
(يختفي خلف المرحاض)

*_يسدل الستار_*

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...