بانياسيس - القصاصون - مسرحية قصيرة

المسرح: (خال الا من كرسيين عليهما إمرأتان إحداهما في منتصف الثلاثينيات والثانية على مشارف السبعين . الإضاءة تهبط مستقيمة من أعلى بحيث تسقط على رأس المرأتين فتحجب الظلال بعض ملامحهما).
الشابة- (تنظر باستقامة وبملامح جامدة) ايييه... أعتقد أنني أبدو شاحبة الوجه.. لا أملك مرآة للتأكد.. لكن إحساسي لا يخيب.
(تنظر العجوز اليها وتعود لتنظر في خط أفقي مستقيم)
الشابة- هل مررت يوما بهذا الشعور؟ هل شعرت يوما أنك شاحبة أو قبيحة رغم أنك لم تشاهدي وجهك... كم يبدو إحساسا غريبا..
العجوز- لم تكن الفتيات أيامنا يخرجن بغير مرآة .. كم هذا الجيل مدلل..لا أعرف ان كان دلالا أم افراطا في الثقة بالنفس ..أم أن دعاوي النسويات قد وجدت بالفعل سوقا رائجا لها في أدمغتكن الخفيفة التي تصدق كل ما هو شاذ عن الطبيعة البشرية السوية..
الشابة- الحقيقة لم أنظر لوجهي منذ اربع وعشرين ساعة..لا أعرف كيف نسيت مرآتي..
العجوز- أيامنا اضطرت مصانع الحقائب النسائية للصق مرآة صغيرة في الحقيبة.. كنا سعيدات بهذا الاختراع... لكنكن اليوم تصدقن أن الرجل كائن تافه وأن المرأة عليها ألا تكترث برأيه فيها.. وهذا خطأ..
الشابة- أنا شخصيا أكترث... اعتقد أنني لن أغامر بسعادتي من أجل أفكار النسويات المسترجلات..
العجوز- هذا حسن...
(صمت لنصف دقيقة)
العجوز-لست شاحبة على أية حال..
الشابة-(تبتسم) .. هل تخشين الزمن؟
العجوز- فيما مضى... لكل سن هرموناته..
الشابة- كيف ذلك..
العجوز- الطبيبات كن يقلن ذلك ..في المراهقة قالت لي اخصائية اجتماعية أن عشقي لاستاذي ناتج عن نشاط هرموني... في الثلاثينيات حين تأخر حملي قالت لي طبيبة ذلك أيضا.. وحين استئصلت الغدة الدرقية قال لي الطبيب ذلك.. وعند سن ما يسمونها باليأس قالوا لي ذلك.. وحين بدأت أقرف من ملامسة الذكور قالوا لي ذلك.. والبارحة فقط قالت لي الطبيبة ذات الأمر...
الشابة- (تتسع عيناها وهي تنظر للأفق) مدهش... يقول خطيبي بأنني متقلبة المزاج.. أنا فعلا متقلبة المزاج ..
العجوز- هرمون..
الشابة- أحيانا اشتاق لخطيبي..
العجوز- هرمون..
الشابة- وأحيانا أمقته..
العجوز- هرمون أيضا..
الشابة-وأحيانا أكره العالم كله..
العجوز- هر... مون..
الشابة- (يتهدج صوتها وتخنقها العبرة) وأحيانا أحب الخروج من المنزل..
العجوز- هرمون .. هرمون .. هرمون..
الشابة- (تبكي) أحيانا أبكي ..
العجوز- هرموووون يا عزيزتي... نحن النساء كائنات هرمونية...
(تلتفت نحو الشابة وتحدجها بنظرة وهي ترفع حاجبيها) لا تبكي يا صغيرتي..
(تغطي الشابة وجهها بيديها وتنخرط في البكاء)
(تدير العجوز رأسها ناحية الجمهور وتنظر للأفق قبالتها بجمود امبراطوري).
الشابة- (تكفكف دمعها وتستنشق مخاط أنفها) الحديقة صامتة...صامتة جدا..
العجوز- مع أني أراها صاخبة..
الشابة- (تلتفت للعجوز بدهشة) كيف ذلك... لا أحد هنا سوانا..
العجوز- (تقول بصوت خفيض) ذاكرتي تحمل صورهم كلها عندما كنا نلتقي هنا..أراهم الآن يزحمون الحديقة بالحركة والضحكات..كما لو أنهم تجسدوا بتقنية الهولوغرام..
الشابة- (تزرع أصابع يدها في شعرها) غريب...
العجوز- ليس غريبا..
الشابة- كيف ذلك؟
العجوز- هرمون يا عزيزتي هرمون...
(صمت)
الشابة- لديك قصص كثيرة من ذكريات ثرة..
العجوز- أعتقد ذلك..
الشابة- أنا لا أملك الكثير من القصص.. تجربتي في الحياة فقيرة..
العجوز- قصة واحدة قد تغنيك عن باقي القصص يا بنيتي.. وآلاف القصص قد لا تعني أي شيء..
الشابة - كم أنت حكيمة..
العجوز- (تتأوه).. آه.. ربما..
(تفتح الشابة حقيبة صغيرة وتخرج زجاجة عطر صغيرة تبخ منها تحت أذنيها تباعا)
الشابة- هل ترغبين في التعطر..
العجوز- لا شكرا..
الشابة- سمعتك تقولين أنك تشمئزين من ملامسة الذكور...هذا مدهش..
العجوز- هرمون كما قلت لك.. لا شيء حقيقي... كل سن ولها هرموناتها... في الشباب تحلمين بشفاة رجل وفي المنتصف بأمان رجل .. وفي الكهولة تقرفين حتى من مصافحة رجل.. وفي الشيخوخة .. تفضلين وجود رجل قربك حتى لا تموتي وحيدة.. لا شيء حقيقي يا عزيزتي..
الشابة- (بدهشة) لا شيء حقيقي؟!!!
العجوز- لا شيء حقيقي..
الشابة- هذا مرعب..
العجوز- لا شيء حقيقي...
الشابة- (تدير رأسها متأملة المكان) الحديقة ليس فيها شيء... لماذا يسمونها حديقة وهي بلا زهرة واحدة بل وبلا عشبة خضراء واحدة... البلدية تأخذ رسوم العناية بها.. فبماذا يعتنون إذا لم يكن بها ما يعتنى به أساسا...
العجوز- (تستمر في نظرتها الجامدة الإمبراطورية) إنهم فقط يذكرونك بوجودها..
الشابة- تقصدين وجود الحديقة؟
العجوز- بلى.. يكفي أن تتذكري بأن هنالك حديقة في هذا المكان لتشعري بالراحة...
الشابة- (بصوت خفيض) صحيح.. (تستدرك) ولكن.. لا يوجد حديقة..
العجوز- لا أعرف.. يبدو أن هناك حديقة.. يقولون دائما أن هناك حديقة..
الشابة- نعم يقولون ذلك.. حقا .. ربما تكون هنالك حديقة.. ربما هذه حديقة فعلا... أليس كذلك..
العجوز- ربما... ستمطر بعد قليل..
الشابة- هذا فصل الصيف...
العجوز- ستمطر بالرغم من ذلك... للأرض هرموناتها هي أيضا...
الشابة- (تسمع رنين هاتفها داخل الحقيبة الصغيرة؛ ترتبك وتفتح الحقيبة بتوتر) ألو... حبيبي.. صباح الخير... أرسلت لي رسالة (باستغراب) .. لا .. لم افتح الانترنت بعد.. لماذا ظننتني غاضبة... لا أنا لا أغضب من حبيبي أبدا... ها... حسن.. سوف أعود للمنزل واتصل بك من هناك... في الحديقة.. نعم.. رغبت في الجلوس فيها.. نعم بدون سبب محدد... أها... استيقظت بنفسيات محبطة قليلا... الحديقة التي قبالة عمارتنا... ها؟ ..كيف ذلك...
(يظلم المسرح أثناء حديث الشابة مع حبيبها... تعود الإضاءة لتكون الفتاة وحدها)..
الشابة- هناك حديقة قبالة عمارتنا يا عزيزي... نعم متأكدة.. كيف لم ترها من قبل.... بل حقيقية ولا أتوهم.. (بصوت غاضب) لست مجنونة... ومعي صديقة لطيفة.. (تلتفت فلا تجد العجوز).. يبدو أنها غادرت... أنظر من حولي بالفعل.. لا ... لا ارى زهورا... لا لا أرى عشبا أخضر ولا حتى أصفر.. نعم مع ذلك فهذه حديقة... (تتحدث بصوت مرتعش) أنت ترعبني يا حبيبي... (يتهدج صوتها) أرجوك لا تفعل ذلك... أرجوك...
(يأتي صوت ذكوري من سماعة الهاتف)
الصوت الذكوري - يا سيدتي أنا لست حبيبك.. هذه نمرة الطوارئ .. هل تشعرين بخطب ما..
الشابة- (تبعد الهاتف عن أذنها وتحدق فيه بعينين غاضبتين ومندهشتين) .. ماذا تعني أنك لست حبيبي... ماهذا الهراء.. عن أي طوارئ تتحدث...
الصوت الذكوري- حسنا سيدتي.. أرجوك أن تهدأي قليلا..أريدك أن تغمضي عينيك وتتنفسي بعمق... (تغمض عينيها وتتنفس بعمق)... الآن هل يمكنك الاستلقاء على الأرض... (تستلقي على الأرض)... اصلبي يديك على صدرك .. (تصلب يديها على صدرها دون أن تتخلى عن الهاتف)... والآن .. استلقي على جنبك الأيمن... (تستلقي على جنبها الأيمن).. هل تشعرين بتحسن؟ (تهز رأسها وهي تعض شفتيها باكية) .. هل تشعرين بتحسن يا سيدتي..
الشابة- (تبكي) نعم... أشعر بتحسن...
الصوت الذكوري- الآن حاولي أن تفكري في قصة جميلة...
الشابة- (تستمر في البكاء) حسنا.. ولكني لا أملك قصة جميلة...
الصوت الذكوري- ليس بالضرورة أن تكون حقيقية يا سيدتي...
الشابة-(تجهش بالبكاء)...
الصوت الذكوري- هل أنت بخير سيدتي..
الشابة- (تحاول التماسك).... قليلا.. أنا بخير قليلا...
الصوت الذكوري- يمكنك العد إلى مائتين إن لم تكن لديك قصة جميلة.. خمسة عشر دقيقة على أقصى تقدير وسنكون معك...
الشابة - حسنا..
(يسمع صوت تكة اغلاق الخط ، تلقي الشابة بالهاتف وتعض شفتيها وتبكي بصمت...)..
الشابة.. واحد..اثنان .. ثلا... ثة... أر... ب .. عة ...

*_ستار_*

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...