بشير العاني - تغريبة الخاسر

يا أمي: كأن الرحيل كان البارحة


يا عكّازَ وقتي الكفيفِ
ويا مقاعدي على أرصفةِ التّعب الطويل
هـــــــــــا أنـــــــــــــا
الشاغرُ إلاّ مــنكِ
أبحثُ عن صُرّةٍ لمْلَمْتِ فيها أوجهي التي أنسربت
لمْلَمْتِ فيها براءتي . .
خسائري . . أنا الذي قايض َ الطمأنينة .. بالهزائم ِ
ويا وجعي الفسيح ِ ..
ياسبعينَ أرضاًَ يجوبُها النّشيجُ..
ها أنا .. بكلّ الصّهيل ِ الذي لا يطيق ُحَملهُ الترابُ..
ولا تحيط ُ به أذرع ُ القبورِ
أفتحُ كوّة َ البكاءِ للبُحّةِ الغريبةِ
أزرعُ أعشابَ البكاء ِعلى جانبيّ صوتي الذي يسيلُ إلى مستقرّ لكِ
وأزرعُ روحي فزّاعة ً لطيورِ الظلمةِ والوحشة ِوالعفنْ
وأزرعكِ بأرض ِ كلامي
سنديانة ً لظهيراتِ المُراثي
والحزنُ بـَرّيّتي
وأنا حصانُ أيامكِ الخاسرِ
أجري كطفل ٍ فوقَ أحجارِ يـُتْمي أنا الكهلُ الذي خسرَ الحِداءَ والهَدْهَدْات
فمن يـَقي أيامَهُ الرحيلَ ولا ظلُّ إلا ظلُّكِ ؟
ومن يُـلْقِمُهُ السًلوى ولا حَلْمةٌ للسكينة لاضِرْعُ لراحةِ البَال ؟
والحزنُ بَـرّيـّتي
وأنا حصانُ أيّامكِ الخَاسر
أجري وراء السّرابِ الحكيمِ
لِسَانُ أحْوالي مُدلّى
وجُرحي يُقضْقـِضُ خِيطَانَ صَبْره يمشي ورائي يخطُّ في الترابِ
عطشي :تاريخٌ يُغـّبره الرحيلُ واحتكاكُ الوداعِ بالوداعِ
فضاءٌ من متاهةِ الخلْقِ والخالق
ورقبةُ حلمٍ منذورةٍ للـَنّطعِ
وأنا حصانُ أيّامك الخاسر
أجري وراءَ السّرابِ الحكيمِ معصوبَ القلبِ بعينيينِ مالحتينِ وفمٍ مفتوحٍ
أسائلُ أيائلَ عينيكِ التي طاردتها بأحراشِ الأيام بنادقُ الـتّعبْ
وأُصغي لحَمْحَمَةِ دمعكِ الذي بلـّلَ الفجرَ وسجّادةَ الصّلاةِ وسقى نخيلَ الأدعيه
وعلى أعْتابِ الشّحوبِ
عند حدودِ وجهكِ الذّاوي
أقفُ على قائمتيّ الذّهـولِ
أهتفُ : يا أمي
ما لهذا المَرَاعي ؟
ومن أين جاءت هذه العشائرُ عشائرُ الغضُونْ ؟
إلام َ ستضربُ فوقَ وجهكِ الخيامْ ؟
******
وأجري في عـَرَاءِ الـوقتِ
مُثْخنٌ بالأجراسِ الغريبةِ
بطبولِ الخرابِ
أنزفُ الأصداءَ الصّفراءَ وأرْقـبُ روحيَ التي يشجُّها حَجَـرُ الخيبةِ
أركضُ في عـَرَاءِ الـوقتِ
لا انحني حين يعَـثِرُ قلبي بأحجاِر العـَزَاءِ
ولا أُبالي00 حين تنْـبـِتُ بأضلاعي عـِظامُ المُشفقين
وأنا حصانُ أيـّامكِ الخَاسَر
أركضُ في بـرّيـّة الحُزنِ
لا ظِلّ لي إلاّ الذي لم ينطوِ منكِ
لا ماءَ إلاّ الكوثَرَ الذي دَسَسْـتـِهِ تحتَ جِلْدي وقلتِ لا تـَنْحَرْ نـَفْسَكَ
ولا زوّادةَ إلا حشائشَ البـِرّ
وأنت الصّراطُ الذي تهـْت ُفي شِعَـابـه ِ
سِيرةُ الفـتْح التي يعـجُّ بها دمي
وفـِقْهُ خَلايايْ
أنت الوحيُ الذي أنطقَ قلبي بالهوى
وكَعْـبتي التي أُنقـِّلها في جهاتِ الـّروحِ
وبَلـدي بَلـدي الأمين
وأنت التي أقفُ بين يديـَها على رؤؤسِ دَهشتي لأهتـُف َ:
ياأُمـّــــــي
لماذا يـُحلّي شفتيّ كـَفـُّكِ الكريم ِ
لماذا تَعَجـَزُ روحي عن تلاوةِ حُضْنـُكِ
وعن تأويله ؟
*******
ولا إثـمَ لي
غيـرَ أنّي نـَذَرْتُ قـَطيعا " من القصائدِ
وهـَدْيـَا" من الـرّضَا أسُوقُ إليكِ
فـَمـِلْتُ ومـالَ نـَحِْري نحـوَ سكّـينِ البُكاء
ولا إثـْمَ لي
غيـرَ أنّي سَهـوتُ قليلا" فـَتاهتْ في الدّيَاجي نِيا قُ الِهداية
لـم أدرِ ما سُكـّرُ الله ِ حتّى رَشَـشْتِ الحمدَ والـرّحمنَ فوقَ أرْغِـفةِ الـّرؤى
وأَذَبـْتِ سبعيـنَ قـطعة" في جـِرارِ الـُّتقى وقلـتِ للـبنينِ بـنيكِ اشربوا
وما أنا بشَاربْ
روحي تُثـلِّمُها الحروبُ وحَنجرتي دريـئةٌ للأسئله
أيامُنا بـياضٌ لحِبـْرِ الآخرينَ وأبجديـّتـُنا خـَرَابْ
خُطانا يفصِّلُها العَابرون َعَلينا والعَابرونَ إلينا
وقـُلتِ اِشربْ
وما أنا بِشَارب
وهل يروي التّقى عَطشي
هل تـروي السّكينةُ الذي دَمَّـلَتْ حـَلْـقََهُ جـِمَارُ الشُّكوك ؟
وقـُلتِ اِتـّقِ يوما" سَتـُرجَعُ فيه
وهل يُعيـدُ اللهُ الصَلصَالَ بلا مَائه
هل يُعيدُ إليه الطّينَ الخَـوّار ؟
******
ولا جريمةَ لي
غـير َإن الطفولةَ خـِرْقـَةٌ
وإن الموتَ بـَصْمَة
ومَا منْ مـَقْبـَضٍ في مـِدْيـَةِ العـَويـِل

* بشير عاني - تغريبة الخاسر


.




.

تعليقات

أنور عمران - إلى بشير العاني

كان طويلاً
كنخلةٍ على طرفِ الفرات،
والماءُ حين يحكي
كان يسيلُ من تشابيههِ المالحة
التقينا في حمصَ من ربعِ قرن
ضحكنا أكثر من نهرينِ
وبكينا أقلَّ ..
قلت يا بشيرُ
سيقتلني الجوع يوماً،
فقال:
تزوّجْ حبيبتكَ التي كانت تحدثنا عن المسرح العبثي..
ومن ربعِ قرنٍ
كانَ وسيماً
مثل يوسُفَ
وحالماً مثل جوقةٍ من الشعراء
حدثني عن الديرِ
مثلما تتحدثُ أمٌ عن غزالها
وغنّى عن بناتٍ يكبرن هناك مثلما يكبر الصفصاف..
صافحني، وذهب..
الرسائلُ كانت قليلة
ولكن قصائدهُ كانت تشي بالغاباتِ التي يُربيها قربَ القلب
وبعد عشرين سنة
ضبطته في مقهى دمشقي
يتحدثُ عن سوريا
مثلما يتحدثُ النسرُ عن السموات
سنحيا..
قالَ، وعندما سألتهُ عن الفرات
سقط زورقٌ من عينيهِ
وغنّى عن بناتٍ يكبرن هناك كالصفصاااف..
لم تتسع دمشقُ للرقص الذي جالَ في خاطره
كان ينقصهُ نهرٌ ليكون هو..
حمل قلبه... صافحني، وذهب.. .. ..
البلابلُ التي طارت من جسده حين قتلوهُ
والأنهار التي عادت إلى ينابيعها
والشبابيك التي أغلقت قلبها
لم تكن كافيةً لنوقف سيل الكلام...
فقد قال لي مرةً:
يسعدني يا صديقي أن أموتَ غريقاً في الفرات!!
......
كان من الممكن أن أكون مكانك
لكن المسافة أبعدت عن قلبي المشنقة..
كان من الممكن أن نكون مكانك
لكن تعديلاً طفيفاً في كتابِ الآلهة
أراد أن ننجوَ كي نصغرَ أكثر أمام طولكَ...
كي نعرف أن الأرضَ خائبةٌ
وأننا سنبكي أكثرَ من نهرين...


*
* أنور عمران
إلى بشير العاني

.
 
بشير العاني - إشكالية الجديد تاريخياً "قصيدة النثر نموذجاً"



لا أحد لوحده مالك الحقيقة..!
أجل.. فهذا البحث المصنوع بعجالة يحاول قدر المستطاع أن يستثمر هذه العبارة مندسَّاً قدر المستطاع من خلال الشقوق الهائلة الحاصلة في جدران وعي الناس أفراداً وهيئات ومؤسسات.
ولأنّ المجتمعات العربية تعيش تشوشها الحضاري واهتزازها التاريخي منذ دخول نابليون إلى مصر، فإنه من الطبيعي أن تبدأ أولى أعراض هذا الطارئ على الجانب الأكثر أهمية وحساسية في حياة العرب وأعني الشعر.. وكيف لا والشعر ديوان العرب..؟ وهم لم يبدعوا في أي من الفنون مثلما برعوا فيه.
ولأن للشعر هذه الأهمية في حياة العرب سيكون من الطبيعي أن تبقى الحروب على أشدِّها بين الشعراء وأن تظلّ أبواب الصراع مفتوحة على مصاريعها بين تياراته المختلفة.. كما أن تجلّيات هذه الظاهرة (الصحيّة) ستبرز على أكمل أوجهها في المعارك الدائمة والتي لن ينقشع غبارها أبداً بين القديم والجديد.. الثابت والمتغير..
وبشجاعة أكثر يمكن القول بأن هذه الظاهرة الفذّة والخطيرة والقادرة على الانسحاب على مجمل أشكال الحياة هي خاصية طبيعية ومستمرة ولا نملك إلا إذكاءها (إذا كنّا أوفياء لمنطق التطور) حين نريد الرهان على الوجدان الشريف للحياة والضمير النقي للمستقبل، مدركين أن الحديث عن شروط تحقق هذه الآلية (آلية التطور) يظلّ ناقصاً إن لم تحدد مجالات فعله في احترام الرأي الآخر والموضوعية مع الذات ومع الآخر إضافة إلى السعي الحثيث لوضع اليد على الحقيقة أو مشارفها قدر الإمكان.
أحياناً تنفلت الأمور عن هذه المجالات، ومع هذا تبقى في الحدود الطبيعية.. كأن نجد كتابات مبتعدة عن الثوابت الحقيقية للكتابة.. أو عن الوسع المطلوب لصد الحوار الذي يريد أن يؤسس حقاً.. متخلِّية عن روح النقد المخلصة.. نازّة بالحقد والتجديف.. شغلها الشاغل الحطّ من قيمة الجديد... ومع هذا لا نستطيع أن نُخرج هذه الكتابات من مجالات الطبيعية والمشروعية لأن في الحياة ثمة مجالات أو هوامش للارتياب والشك والخطأ وقد تكون مفيدة أحياناً كأن تثير مناخاً فكرياً أو أدبياً لمسائل ثقافية راكدة.. مثلما نحاول الآن في هذا البحث مدافعين فيه عن الشعر الجديد وقصيدة النثر خصوصاً غير مغفلين حقّ الآخرين (الرافضين للشعر الجديد) حرية التذوّق واختيار الرصيف الشعري الذي يرونه أكثر استقراراً وأماناً لتكوينهم الثقافي والنفسي والجمالي.. وحقّهم أيضاً في إيجاد المتنفّس الضروري لبثّ أفكارهم وقناعاتهم ونشرها بالأشكال الرسمية وغير الرسمية.
ولأن قصيدة النثر هي المُدانة.. وهي الموضوعة في قفص الاتهام من محيط الشعر إلى خليجه قُمنا بتجميع وفرز كل ما خطر ببال رافضيها من اتهامات وعيوب ومسؤوليات تخريبية بغية مناقشتها ببعض التفصيل منوّهين في الوقت ذاته أننا لا نسعى من جراء كل هذا للردّ على أحد بذاته بالمعنى الشائع للردّ.. أي بالمعنى الذي يقتضي ردّ الكيد إلى النحر.. كما لا نبغي إلصاق التهم الجاهزة بنتاجاتهم وأفكارهم وصيرورتهم الفنية والشخصية.. على العكس.. إن هذا البحث سعي منا لإيجاد المدى الذي يتسع لاحتضان الأيادي الممدودة إلى بعضها –للمصافحة- وبلا قُفازات العداوات المبيتَّة.
الآن وبعد هذه المقدمة (العاطفية) سنفرز ثلاثة اتجاهات متفقة جميعها على رفض قصيدة النثر أو عدم قبولها..
الاتجاه الأول: اتّهامي: يرى بأن قصيدة النثر تحمل قصدية التخريب وهي جزء من المؤامرة الكبيرة على المجتمع العربي.
الاتجاه الثاني: استعلائي: ينطلق في رفضها من منطق التفوق ويعمل على نفيها فنياً وشعرياً.
الاتجاه الثالث: متحفّظ: وهو أكثر مرونة من الاتجاهين السابقين ويرى أن في قصيدة النثر الكثير من جوانب الشعر ولكنها مليئة بنقاط الضعف والسلبيات ويتحدث كثيراً عن غياب العروض.
أما الأفكار الأساسية لهذه الاتجاهات أو التيارات العريضة الرافضة لقصيدة النثر وخصوصاً للاتجاهين الأول والثاني فيمكن تفصيلها كما يلي:
1-إنّ قصيدة النثر لا تنتمي إلى الشعر لغوياً وفكرياً وإيقاعياً.
2-إن قصيدة النثر مشبوهة ومتهمة بالعمالة وأن كتّابها من الشعوبيين وأعداء الوطن "أفردنا لهذه النقطة تحديداً بحثاً آخر مستقلاً عن هذه الدراسة".
3-إنها مقطوعة الصلات بالواقع العربي.. كما أنها دخيلة ومقاطعة جماهيرياً.
4-إنها مخرّبة للذائقة الشعرية العربية ومساعدة على اختراق الأمن الثقافي العربي.
5-إنها وضعت القارئ العربي في حيرة من أمره ودفعته إلى مقاطعة الشعر عموماً.
6-إن وراء انتشارها أيادي أجنبية مشبوهة متضافرة مع جشع مقاولي النشر.. كما لا مستقبل لها في الثقافة العربية.
7-غمغمة نقدية سريعة تطالب بإعادة النقد الأدبي وتياراته إلى نقطة الصفر مُدَّعية بأن الرائد الحقيقي للتجديد الشعري هو د. علي الناصر في ديوانه الصادر عام 1932 تحت اسم (الظمأ).
-من سؤال معاكس لمضمون الأفكار السابقة سأبدأ:
لماذا يجد البعض في الشعر الجديد ومن قصيدة النثر طاقة شعرية هائلة ومختلفة في حين يرفضها البعض الآخر ولا يستطيع هضمها..؟
الإجابة سأحيلها إلى د. خليل موسى الذي صنّف القراء في ثلاثة أنواع وذلك في مقالة منشورة له في جريدة الأسبوع الأدبي بتاريخ 11/1/1996 وتحمل عنوان الشعر المعاصر وإشكالية التلقي" يقول فيها: "القارئ القديم: متلق ثابت، فهم ووعى وأدرك ثقافته القومية العتيقة ولكنه عجز عن فهم ووعي وإدراك الثقافة الإنسانية الشاملة.. ثقافة العصر، لذا يرفضها رفضاً مطلقاً ولمّا واجهته الحياة الجديدة بتجربتها وجماليتها وجد نفسه بعيداً عنها أو غير قادر على اللحاق بها فعاد يعدو إلى الخلف ليلتجئ بالعصور الماضية والتجارب الماضية مدّعياً الحفاظ عليها والتمسك بها وبالأصالة".
ولا يقف د. خليل موسى عند هذا الحد في تشريح القديم (شاعراً وقارئاً) ونبش داخله الفكري والجمالي حيث يتابع: "هو متلق اتهامي، فهو يصم الحداثة بعيوب فيها وفي خارجها فيتهم أصحابها بالعجز عن النظم الكلاسيكي ويتهم الشاعر الحداثي بالغموض والإبهام والهلوسات... أما العيوب الخارجية فهي اتهام شعراء الحداثة بالتعامل مع الأجنبي لضرب التراث العربي".
إذاً لا نفاجأ اليوم إذا رأينا الكثير من المثقفين العرب يصدرون في أحكامهم على الشعر الجديد من خلال القياس مع الأصل أو النموذج الموروث الذي يعني بنظرهم المعرفة الكلية والمطلق الثقافي الذي قال كل شيء في كل شيء حتى في الذي سيأتي من حوادث... وكائنات وليس على الجديد إلاّ أن يكون تفريعاً عليه... هذا المثقف العربي هو الذي يحيا في مناخ مستقر ومطمئن وامتثالي ويشعر بالعجز والدّونية أمام إنجازات الماضي وما أسسه السلف الصالح... إنّه يحيا في المناخ الذي ترمز إليه كلمة عمر بن العلاء: "إنما نحن ممن مضى كبقل في أصول نخل طوال.." وعن هذا النموذج يكتب أدونيس في صدمة الحداثة "لا يصدر هذا النموذج في فهمه وأحكامه إلاّ عمّا تأسس واستقر سلفياً وهو يُشيع بفعل الطرق التفسيرية المحافظة مناخاً ثقافياً يعنى بالمعلوم لا بالمجهول وتسيطر عليه نزعة التلقّن لا نزعة الاكتشاف ونزعة القبول لا نزعة التجاوز...". أمّا لماذا انصرف الناس عن الشعر..؟! فيمكن لنا أن نرصد الكثير من الأسباب منها ما هو ذاتي من داخل الشعر والقارئ معاً... ومنها ما هو خارجي تماماً مع لفت النظر إلى أنّ الانصراف عام عن الكتاب والقراءة لكل ما يشمل الفكر والأدب تقريباً بفعل انتشار الثقافة السمعية والبصرية وخاصة الاستهلاكية منها إضافة إلى انتشار التسليات والألعاب والرياضيات المختلفة غير متجاهلين الأثر السلبي الكبير الذي تتركه الآن في أذهان الناس وأرواحهم صعوبات الحياة التي تتعقد يوماً بعد يوم وعلى الأخصّ المشقّة التي يعانونها في سبيل تأمين الرزق.. قد تكون هذه بعض الأسباب الموضوعية التي /شَلَخَتْ/ الطرف الأول /الروحي/ عن الطرف الثاني /المادي/ في قوام ما نطلق عليه اليوم اسم الحضارة... وقد أجد نفسي مضطراً وقبل التحدّث عن الأسباب الذاتية لعزوف الناس عن الشعر إلى طرح هذا التساؤل الحزين: مَنْ يقرأ الشعر الآن... حتى العمودي منه..؟! وأجيبُ: فقط الشعراء وبعض المهتميِّن..!!
نعم.. لنكن شجعاناً مع أنفسنا ونعترف: فقط هؤلاء الذين يتابعون ويقرؤون للمجانين وأنصاف المجانين وللعقلاء أيضاً... وباعتقادي أنّ الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه الآن حتى لو لم يظهر الشعر الجديد... أكثر من هذا فإن الشعر –ورغم إيماني بالمستقبل هو فَنٌّ مُنقرضٌ... فلماذا نحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل ونبحث عن مشجب/ وقد وجده بعض الأذكياء في الشعر الجديد/ لنعلِّق عليه خيباتنا وهزائمنا...
ومن المهم التذكير به في هذا المجال أنّ أزمة الشعر وأزمة التلقي لا تعيشها الحياة الثقافية العربية فقط... إنّما تكتوي بنارها جميع المناخات الثقافية العالمية بما فيها المجتمعات المتقدّمة التي تزدهر فيها القيم الوطنية والقومية ولا تشكو من التخلف والتجزئة ولا يقبع الأعداء على أبوابها متربِّصين.. وأعني أوربا وأمريكا.. ففي كتابه "بعيداً داخل الغابة" يذكر فاضل العزاوي إنه ذهب لحضور أمسية شعرية في إحدى المدن الألمانية وفوجئ كثيراً إذ لم يجد من الحضور سواه إضافة إلى الشاعر وصديقته.
هل بعد هذا سنقول إن الشعر الجديد... وقصيدة النثر تحديداً – هو الذي طفّش الجمهور..؟! مهما تكن الإجابة على سؤالنا هذا فإن الحديث عن الأسباب الذاتية لانصراف الناس عن الشعر الجديد يبدو الآن مُلَّحاً وضرورياً لإلقاء الضوء على إشكالية تواصليِّه بين الشعر والمتلقي نابعة من اهتزازات حضارية تقع في قلب المجتمع العربي ولا ذنب للشعر وللشاعر فيها.... اللهم إلا في محاولة إذكاء هذي الاهتزازات والعمل على استمرارها أكثر... فأكثر لزلزلة الأرض تحت النموذج والمستقر والثابت والقديم واستيلاد الجديد مناخاً وثقافة وشعراً وشاعراً...
يكتب د. خليل موسى في نفس المقالة السابقة: "أمّا القارئ الجديد فهو المتلقي المتحرك الذي وعى وفهم وأدرك ثقافة الأمس وقوميته ونهض بها لتجاري الثقافات الأخرى ويدرك القارئ الجديد أن الخطاب الشعري المعاصر الثريّ بحاجة إلى منهج جديد للقبض على مفاتيح الولوج إلى داخله واستنطاق آلياته وتفكيك استراتيجيته، ولذلك عليه أن يكون مُلّماً بالسياق الشعري الحديث وأن تكون أدواته المنهجية حداثية وصالحة لمثل هذه المقاربة فإذا كان القارئ ليس ملماً بالسياق الشعري الحديث فإنه يدور حول حدود النص ولكنه لا يستطيع الاقتراب منه... وقد يكون القارئ مُلّماً بسياق الشعر الحداثي ولكن أدواته المعرفية تقليدية... فالمقاربة لن تتم لأنّ الأدوات المعرفية عاجزة عن الفعل والفاعلية".
إذاً يمتاز القارئ الجديد الذي سيقبض على الشعر الجديد ويفككه بـ:
1-الإلمام بالسياق الشعري الحداثي.
2-التسلح بأدوات معرفية حديثة... باختصار.. الشعر الجديد يحتاج حتماً لقارئ جديد.
ثمة نوع آخر من القراء وهو يعنينا كثيراً لأنه الأخطر على ساحتنا الثقافية وأكثر حضوراً... هذا النموذج لا يمتلك ثقافة المتلقي القديم ولا مواقفه وهو غير قادر على امتلاك واستيعاب ثقافة المتلقي الجديد ولا رؤاه ولذلك وقف في الوسط أو في المقدمة أحياناً ليؤكد ويثبت أنه من أنصار الجديد... ولكنه قارئ انتهازي ومتذبذ ولا يحترم قضية... بل هو مخرب خطير..
حتى الآن ما زلنا ندور حول الموضوع، وقد حان الوقت لندلف إلى تجربة الشعر العربي لنقرأ خارطته المفرودة لكل مهتم مخلص وننقِّل العصا بعجالة على الطرق التي سار فيها الشعر العربي في رحلة التجديد الطويلة وصولاً إلى مملكة الحاضر... ووصولاً إلى بعضٍ من منطق هذا التطور- الرحلة الذي سينفي لنا أو يؤكّد المشروعية التاريخية- الحضارية للشعر الجديد بما فيه قصيدة النثر...
بمعنى آخر هذا التطور –الرحلة سينفي أو يؤكد إذا كانت بذار الشعر الجديد قد انزرعت في تربتنا الثقافية بأياد مشبوهة حقاً... أم أنه جاء كانفراز حقيقي مثّل بشكل لائق الانتقالات الفكرية والنفسية والجمالية التي حدثت داخل المجتمعات العربية ونمَّ عن الخضخضة الثقافية التي حدثت في قلبها رغماً عن الروح التقليدية المهيمنة عليها طيلة خمسة عشر قرناً....
في الحقيقة يمكن رصد انتقالٍ مبكرٍ إلى النثر الشعري من خلال القرآن الكريم الذي يُعتبر النص الذي سجّل أهم تطور في الإبداع العربي والذي تقوم صياغته على إيقاعات النثر وليس على إيقاعات الشعر المعروفة ومع هذا فقد اعتبره بعض العرب شعراً كما اعتبروا محمداً بن عبد الله شاعراً...
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الانتقال قد ارتبط بمرحلة فكرية جديدة في تاريخ تطور العرب تمّ قطفه مبكراً وحبس استمراريته بسبب إشكالية الطابع الديني المقدس التي جعلت من الصياغة القرآنية استثناءاً إلهياً كانت بمثابة الحاجز أمام أية إمكانية لتقليدها.
من جهة أخرى لم يجد الشاعر العربي في هذه الصياغة بما يفيده لكونه شاعر قبيلة أو بلاط قبل كل شيء... لهذا تطلب الأمر وقتاً طويلاً لظهور شعراء ينظرون إلى العالم والحياة من خلال دور ثقافي جديد للشعر..
وإذا ما بحثنا أكثر في التراث العربي فسوف نعثر على نصوص نثرية كثيرة (من خطبة قس ابن ساعدة الأيادي وتأملات المأمون الحارثي وهو يراقب السماء والنجوم وحتى مناجيات المتصوفة وخروقاتهم الفكرية والفنية) ملاحظين أيضاً أن اتهام العرب محمداً بقول الشعر ليس إلا إشارة على أنهم لم يكونوا يستبعدون إمكانية تحول النثر إلى الشعر.. بل أنّ النقد العربي القديم قد أدرك ما فعلته الكتابة /النثر/ بعد عصر التدوين من زخرفة كبيرة للشعر وبعض النقاد أدان الكلام القديم خطابة وشعراً كما أدان الأساس الذي يقوم عليه/ الأمية- الفطرة- الارتجال-البداهة/ وفضلوا عليه النثر الجديد الناشئ الشّاقّ والروحاني واللا متناهي والمتصف بالعلم والإحاطة...
حيث يكتب القلقشندي في صبح الأعشى: /الشعر محصور في وزن وقافية. يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ والتقديم فيها والتأخير وقصر الممدود ومدّ المقصور وصرف ما لا ينصرف ومنع ما ينصرف من الصرف واستعمال الكلمة المرفوضة وتبديل الفصيحة بغيرها وغير ذلك مما تُلجئ إليه ضرورة الشعر فتكون معاينة تابعة لألفاظه..". هكذا يصف القلقشندي الشعر... أما كيف يصف النثر، هذا الناشئ الجديد... فلنتابع "والكلام المنثور لا يحتاج إلى شيء من ذلك فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه".
الألفاظ تابعة للمعاني...!! هنا يكمن الجوهري في الموضوع حيث يعني أن الأمور قد انقلبت وصار الكلام الجديد يعني انبثاقاً جديداً لحريّة بدئيّة في اختيار الشكل/ الألفاظ والتراكيب والصيغ/ الملائم لمعنى مستجدّ وغير مسابق لأنه وليد الحوادث الناشئة.. وضمن هذا المنظور لا يقدر الكاتب /النثري/ أن يكتب إلا إذا كان في نفسه معنى خاص أي إلاّ إذا كان لديه ما يقوله... بينما الشاعر التقليدي – المكرِّر قادر في كل لحظة أن يملأ بألفاظ معينة قوالب معينة دون أن يكون لديه بالضرورة شيء يقوله أو يضيفه إلى ما سبقه.. ولعل قالبيّة الشعر التي تسهّل صناعته هي التي دفعت ناقداً كالعسكري ليقول في كتابه الصناعتين "والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامّة.."
في المحطة القياسية التي توقفت عندها مركبة الشعر صعد شعراء كبار هاربون من التبذّل والتكرار.. باحثون عن فضاءات جديدة أكثر رحابة لقصائدهم وكان بشار وأبو نواس وأبو تمام من أهم شعراء هذه الكوكبة الهاربة... ولن نقف طويلاً عندهم فقد أشبع النقد الأدبي القديم تجاربهم وأثار من الجدل حول شعرهم ما سُطّر في مجلدات منها "طبقات ابن المعتز- المبرد في كتابه الروضة- الصولي في أخبار أبي تمام)- الآمدي في كتاب الموازنة... وغيرها كثير...". أمّا النقد الأدبي الحديث فقد أشبع هذه التجارب الشعرية مدحاً وتقريظاً وأكتفي بما قاله أدونيس في /تأصيل الأصول/ في بشار الذي بدأ من عقيدة أولى ومن بحث فنّي أول... وفي أبي نواس الذي بدأ من تجربة أولى... وفي أبي تمام الذي بدأ من لغة أولى.
في المحطة التالية ستتوقف مركبة الشعر عندما يسمى اليوم بعصر الانحطاط الذي يبدأ من سقوط بغداد على يد هولاكو سنة /1258/ وتنتهي عند غزو نابليون مصر /1798/.. هذا العصر قد يكون منحطّاً فعلاً بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولكنّه قطعاً لم يكن كذلك من النواحي الأدبية –الشعرية- الثقافية بعامة حيث استمرت الحركة الفكرية ممثلة بابن خلدون /1332-1406/ الذي أنشأ علم الاجتماع وابن منظور /توفي 1311/ الذي وضع أكمل موسوعة في اللغة، وابن بطوطة /1304-1377/ الذي أسس أدب الرحلة.
أمّا على الصعيد الشعري فقد صار ذا طابع مديني أكثر وذا طابع صنعي والمصنوع في رأي ابن رشيق /أفضل من المطبوع/ وأصبح الشاعر كصاحب الصوت المطرب يستميل الناس كما يعبر ابن وكيع التنيسي ونشأت القصيدة – الأغنية الخفيفة التي توفر لذّة الحواس- كما تطورت لغة القصيدة سواء من حيث بنيتها الشكلية /إيقاعات مختلفة ضمن بنية واحدة/ أو من حيث استخدام اللغة العامية وأنواع تعبيرية أخرى/ الموشح – الدوبيت- الكان كان- الزجل- الموليا/.
بعد هذه الرحلة المضنية للشعر العربي بحثاً عن تجدّده الدائم سنراه واقفاً في أهمّ محطاته التاريخية التي أطلق عليها اسم عصر النهضة... في هذه المحطة طال وقوفه... كما طال تتابع صعود الشعراء إلى مركبه.. كل شاعر كان يبحث عن مدخل لم يسبقه أحد إلى الولوج منه... وفي هذه المحطة نتوقف طويلاً لننبُش حقائب الشعراء وجيوبهم تاركين /للبعض/ نبش الأرواح والضمائر لتحديد العملاء والمشبوهين..
أوّل الصاعدين تقريباً كان رزق الله حسون /1825-1880/ الذي يعتبر صاحب أول تجربة تجريدية في العصر الحديث حيث حاول أن يتخطى الشكل المطلق للقصيدة العربية من جهة /القافية/ التي تخلّى عنها ليكتب شعراً مُرسلاً اعتبره مدخلاً لكتابة الشعر الدرامي والقصصي والملحمي على غرار الشعر الغربي..
بعد هذا جاء دور أمين الريحاني /1876-1940/ ليتخطّى الشكل المطلق للقصيدة العربية من جبهتيها /الوزن والقافية/ حيث أرسل شعره خالياً منهما رغم محافظته على اللغة التقليدية وعلى الأساليب البيانية العربية والشكل المعهود لتقسيم الأبيات وبهذا يكون الريحاني قد أسس للشعر المنثور...
ثم جاء الرجل الأبرز... الشاعر الأكثر أهمية... جبران خليل جبران... ومعه بدأت الثورة أكثر نضجاً وأوسم ملمحاً حيث ثار على اللغة التقليدية والعروض والأوزان والقوافي وعلى الأغراض القديمة... أي على شكل القصيدة الداخلي والخارجي معاً ليصبح رائياً لا يكْذب أهله...
لقد أدرك جبران أن النعاس قد راودَ قوّة الابتكار في اللغة العربية فنامت وبنومها تحوّل الشعراء إلى ناظمين... وتبقى أهمية جبران كما يكتب عنها أدونيس في صدمة الحداثة: "أنه سلك طريقاً لم تعرفها الكتابة العربية... في أنه هدم الذاكرة وبنى الإشارة فكان في ذلك بداية... ولم تعد الكتابة العربية بدءاً، منه تتأمّل في المرايا اللفظية بل أصبحت تنغمس في العذاب والبحث والتطلّع ومن هنا امتلأت بالحيوية وأصبح القرّاء الذين كانوا يتغذّون بالألفاظ يتغذّون بقوة التجدّد والابتكار..".
وها هو معروف الرصافي يحاول الاقتراب من مركب المجددين فيسعى لأن يُحدِّث موضوع القصيدة رافضاً تقليد أساليب الأقدمين انسجاماً مع دعوته إلى نقد الدين والحاضر والأخذ بالعلم ومنجزات العصر ومطابقة اللفظ للمعنى وتقريب الشعر من النثر...
أما جماعة الديوان التي طال انتظارُها /العقاد- المازني- عبد الرحمن شكري/ فقد حملت معها الدعوة إلى إنسانية الأدب والانفتاح على الثقافات الأخرى كما امتلكوا شجاعة الاعتراف بتأثير الشعر المكتوب باللغة الإنكليزية على أعمالهم وكان لهم فضل إدخال الشخصية الأدبية على الشعر العربي/ أي أن للشاعر ذاتاً على الشعر أن يعبّر عنها وعن تجربتها الإبداعية/.. أما مأثرتهم الكبرى فكانت في النقد الصاخب واللاذع لأحمد شوقي وشعره. ومع جماعة أبولو يخطو الشعر خطوة هامة /خليل مطران- أبو شادي- إبراهيم ناجي- علي محمود طه- صالح جودت... وآخرون/ إذ رفضت هذه الجماعة أن يكون الشعر هو الكلام الموزون المقفى حسب التعريف القديم فنادت بحرية الشعر والشاعر... كما أكدت في أحد أعداد أبولو/ المجلد الأول- حزيران-1993/ على أنّ الشعر المنثور نوع من الشعر تعترف به جميع الأمم الراقية/ فتصوّروا كم كان هؤلاء أرحب صدراً من بعض شعراء ونقّاد اليوم/ أيضاً قامت هذه الجماعة بترجمة الشعر الغربي انطلاقاً من إحساسها ووعيها بضرورة تطعيم الأدب العربي بآداب الأمم الأخرى غير غافلين أيضاً عن دورهم في إدخال الرومانسية بمعناها الناضج فنياً على الشعر العربي.
ومن جهة أخرى –وعلى صعيد الشعرية- السورية- كانت تتشكّل في هذه الفترة حركة شعرية هامة طليعية ومجرِّبة تابعت الرؤيا الجبرانية لتُحدث تبدلاً في الشعر في مستوياته/ علاقات اللغة –الشكل البنائي- الموقف من العالم/ ولتشكل حلقة طليعية من حلقات انتقال الشعر العربي من مرحلة /الشعر المنثور/ إلى القصيدة النثرية/ مُسجِّلة سبقاً تاريخياً على قصيدة التفعيلة التي أخذت بالتبلور والظهور منذ قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة عام 1947، وفي الحقيقة هناك ديوانا شعرٍ يحملان سمات قصيدة التفعيلة صدرا قبل هذه القصيدة هما /الظمأ/ لعلي الناصر- 1932- و (بلوتولاند) للويس عوض الصادر 1938//... أما الشعراء الذين شكلوا هذه الحلقة الطليعة فهم:
1-علي الناصر: حيث أصدر:
أ-ديوان الظمأ: وفيه تتجاور الأشكال التعبيرية المختلفة /العمودي- التفعيلة- النثر/ على غرار /بلوتولاند/ لويس عوض... ونرى فعلاً أنّ هذا الديوان لم يأخذ حقه من النقد كما ينبغي لعمل رائد طليعي رغم أنّنا لا نتفق مع المطالبين بسحب ريادة قصيدة التفعيلة من البعض وتسليمها له لأنه بالأساس كان يصدر في قصائده التي جاءت على نمط التفعيلة من تأثّر واضح بالشعر المرسل الذي كان يكتبه أمين الريحاني وجبران خليل جبران... وبالمناسبة فإن أمين الريحاني قام بكتابة مقدمة نقدية لهذا الديوان/ إضافة إلى قصيدة التفعيلة بشكلها التي ظهرت عليه فيما بعد كانت أكثر بلورة ونضجاً مما حاوله علي الناصر في ديوان الظمأ... وسنحاول إثبات هذا من خلال القصيدة التي اختارها أحدهم لإثبات ريادة علي الناصر لقصيدة التفعيلة مطالباً في الوقت ذاته بإعادة النقد الشعري إلى نقطة الصفر (جريدة الثورة السورية- 23/5/1996- محمد مصطفى درويش):
//الناس يبغون مني: مستفعلن فاعلاتن
أن أترك الخمر عمري: مستفعلن فاعلاتن
والشعر والهوى: مستفعلن فعلْ
وأن أصُمَّ شعوري: مستفعلن فاعلاتن
عن أنة الأسى..: مستفعلن فعلْ
وأن أطيل ابتسامتي: متفعلن فاعلاتن
أمام من بكى..//: متفعلن فعلْ...
والآن لنرتب هذه الأشطر بطريقة أخرى:
//الناس يبغون مني أن أترك الخمر عمري
والشعر والهوى..
وأن أصمَّ شعوري عن أنة الأسى..
وأن أطيل ابتسامتي أمام من بكى..//
أليس هذا هو إيقاع /المجتث/ الخليلي مع بعض التصرف في /الضرب/ أي في التفعيلة الأخيرة من كل بيت والذي وزنه مستفعلن فاعلاتن-مستفعلن فاعلاتن/ إذاً نحن أمام قصيدة عمودية بنسبة أكثر من 90% لذا يجب أن لا يخدعنا شكل توزيع الأبيات ويدفعنا للاستعجال ومطالبة النقد الأدبي ومؤرّخيه بسحب جائزة الريادة من السياب والملائكة وتسليمها إلى /ظمأ/ علي الناصر الصادر عام /1932/.
ب-البلدة المسحورة وموانا: وقد صدر الديوان عام 1935 وفيه بدا علي الناصر أكثر بحثاً عن فرادته الفنية وقد كتبها بأسلوب الشعر المنثور وعنها يكتب جمال باروت في كتابه /الشعر يكتب اسمه/: //منذ ديوان الظمأ كانت حياة علي الناصر الفنية ممارسة لا حدّ لها من التجديد والبحث عن المختلف لا عن النمطي... فبدءاً من البلدة المسحورة نجد تحولاً فنياً متداخلاً ما بين متابعته لآفاق جبران والريحاني ذات العوالم الرومانتيكية وما بين الانتقال بها إلى العوالم الملحمية//.
جـ-سريال: وهو ديوان مشترك بين علي الناصر وأورخان ميسر صدر عام 1947 وسريال كتاب يدعو إلى قلب نظام القيم الشعرية الثابتة والبحث عن قيم شعرية بديلة وهو بهذا المعنى كان كتاباً هدمياً ذا أفق نظري /السوريالية/... وذا أفق إبداعي /قصيدة النثر/.. حيث يكتب أورخان ميسر في مقدمة /سريال/: "إن الكلام المنظوم المقفى في جميع اللغات على اختلاف أنواعها والمسمى شعراً ليس في الواقع العلمي إلا كلاماً جميلاً له اهتزازاته التوقيعية ولوحاته المغرية التي يستمتع بها الفرد استمتاعاً قوامه ميكانيكية السعادة... والسوريالية تعني ما يرسمه العقل الباطن باصطلاحاته الخاصة من صور يمثل بها واقعه الفردي ممزوجاً بحنين الأجيال التي تحيا فيه".
2-خير الدين الأسدي:
حيث أصدر عام 1950 ديوان /أغاني القبة/ وفيه كتب الأسدي أول بيان عربي للقصيدة النثرية حيث يربط التجديد الشعري بالمنظور الصوفي للرؤيا التي عمل على أن تكون إطاراً فلسفياً لتجربته، أراد من خلالها أن يؤسس توازنه الذاتي في عالم غريب عنه.
إذاً حاولت هذه التجارب الشعرية أن تبثّ دفقة من الحيوية والحركة الداخلية في مناخ اللغة والتأليف الإيقاعي وأن تُحدث تحولات في علاقات اللغة لتغييرها ومنحها دلالات جديدة حالمة بإنجاز لغة جديدة وشعر جديد. ولا ننسى في الغمرة أن نتوقّف عند تجربة شعرية هامة بالمعنيين الفني والتاريخي وأعني /بلوتولاند/ لويس عوض الصادر عام 1947 والمكتوبة بين عامي 1938-1940 يقول د. غالي شكري في كتابه /شعرنا الحديث إلى أين/: لا تنبع أهمية بلوتولاند من ثورته الجارفة على القديم وإنما من أنّه أعطى الشاعر العربي لأول مرة حقّه في التجريب بمعناه الواسع..."
لقد رفض لويس عوض في /بلوتولاند/ القيم النهائية في الشعر مؤكداً على أنّ العمود الخليلي ليس هو الجامع المانع لموسيقى الوجود فحاول استيلاد أوزان جديدة من بحور الشعر الإنجليزي. كما حاول ابتكار أوزان أخرى لم تكن من قبل وبذلك كان يقتلع مفهوم المطلق الموسيقي للشعر ومطلق الشكل والتراث...
ويفسّر د. غالي شكري أهمية بلوتولاند فيقول: "ليست أهمية بلوتولاند ذات طابع تاريخي ولكنها ذات طابع موضوعي.. فلعلّها من حيث النماذج الشعرية للقصائد ومن حيث المستوى العلمي الأكاديمي لمقدمتها لا تقدّم أمثلة على درجة عالية من النضج والعمق ولكنها من حيث الفعالية الإيجابية المثمرة انعطفت بتاريخنا الشعري منعطفاً جديداً للغاية وفتحت باباً سرعان ما دخل منه الشعراء الموهوبون الذين راحوا يجدّدون لنا ألوان الحياة وألحانها كما أراد لها لويس عوض..".
أنوّه إلى أن هذا التسلسل الشعري الذي حاولناه لتعقّب رحلة التجديد في الشعر العربي تقريبي ومتداخل أحياناً بعضه مع بعض زمنياً وفنياً.. إلا أنه بشكل عام يظلّ خريطة ما- صادقة إلى هذا الحد أو ذاك- تحاول رصد التحولات الجمالية الفنية للشعرية العربية.
بعد هذه الحمولة الثقيلة من التجارب الشعرية كان على مركبة الشعر أن تنطلق بسرعة نحو محطتها التاريخية التالية فثمة جيل من الرواد كان يتلهّف وصولها ويتحرّق شوقاً لينضم إلى الركب... وكان أهم المنتظرين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة اللذان خبّأا في الجيوب السرية لحقائبهما نماذج ناضجة من القصيدة التي أطلقت عليها الملائكة –خطأً- اسم القصيدة الحرة متأثرة بالتسمية الأوربية التي كانت تُطلق على أحد أشكال قصيدة النثر هناك ولم يك ما يخبئانه سوى قصيدة التفعيلة التي جاءت إلينا وبتأثّر واضح من التجربة الأوربية التي قامت بفرط /عمودها الخليلي/ منذ مئتي سنة تقريباً... فقد كان وزن بحر Hex 3metros أو إيقاع الساحرة الإغريقي وهو البحر الذي نظم به هوميروس ملحمتيه الإلياذة والأوديسة يتكون من أبيات يحتوي كل بيت منها على ستة إيقاعات وكل إيقاع منها يشتمل على ثلاث ضربات الأولى طويلة والثانية والثالثة قصيرة.. وقد دخل هذا البحر اللغات الجرمانية أيضاً وحين أراد كلوبتسوك المتوفي عام /1803/ استخدام هذا البحر عند كتابته أحد أهم أعماله /العاصفة والشِّدة/ وجد نفسه مضطراً إلى استخدامه بطريقة مختلفة محرراً إيّاه من إيقاعاته الستة وضرباته الثلاثية ضمن نظام حر جديد... وما فعله كلوتسوك في الشعر الألماني فعلته نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في الشعر العربي ولو بعد مئتي عام في محاولة لامتلاك المزيد من الحرية في القول.
ولم يطل الوقت لينخرط ما تبقى من جيل الرواد في القافلة وكان لمجلة الآداب البيروتية التي تأسست عام /1953/ شرف احتواء هذا التجمّع الثوري للأدب حيث حملت هذه المجلة لواء الدعوة القومية في الفكر العربي والدعوة الاجتماعية في الأدب والدعوة التحرّرية في الشعر فأبرزت تجارب شعرية حديثة إضافة إلى السياب والملائكة منها صلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمد الفيتوري وبلند الحيدري وغيرهم... وتجارب نقدية أدبية سيكون لها تأثيرها الكبير في تقويم سيرة الأدب الجديد كجبرا إبراهيم جبرا وسلامة موسى ورجاء النقاش ومحمود أمين العالم وغيرهم، ويبدو أنّ بيروت ستحمل مأثرة تشكيل التجمع الثوري الشعري الآخر حيث ستصدر منها المجلة الشعرية المتخصصة والرائدة /شعر/ في مستهل عام 1957 والتي تجمّع حولها يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا والسياب أيضاً وغيرهم... وهنا بدأت تسقط آخر رواسب الحس الكلاسيكي في حركة التجديد الحديثة في الشعر العربي، حيث ظهرت قصيدة النثر بشكلها الذي يؤكّد الثبات على جوهر الاتجاه نحو التجاوز والتخطي والالتحام العميق الحرّ مع أحدث منجزات التكنيك الشعري في أوزبا... وخصوصاً مع أنسي الحاج في /ماضي الأيام الآتية/ التي جاءت بعد /لن/ و /الرأس المقطوع/... وفي إطار هذا الاتجاه أيضاً كان شعر توفيق صايغ في /بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن /و/ معلّقة توفيق صايغ/ ثورة على المطلق السرمدي وإلغاءاً للشروط الموسيقية المسبقة حيث تفتحُ أرضُ الشعر فمها لتبتلع المسافة النفسية الهائلة بين الشاعر و /الآخر/ شرط أن يتلبَّسا لبوس الرؤيا الحديثة للعالم ومع جبرا إبراهيم جبرا في مجموعتيه /تموز في المدينة/ و /المدار المغلق/ سيتّضح الإحساس الحادّ بها مشية حياتنا الراهنة على الصعيد الحضاري منظوراً إليها من مستوى الحضارة الإنسانية الأرفع في ذروة تألّقها بأوربا ليجيء افتراض ردم هذه المسافة بالاستعانة بأحدث منجزات التكنيك الغربي.
ثم يأتي محمد الماغوط الذي استطاع في غيبوبة الاندماج السحري القريبة من مادة الحلم أن يستدرج العالم الخارجي إلى داخله حيث استطاع أن يُشابك الحلم بالواقع منذ /حزن في ضوء القمر/ إلى/ غرفة بملايين الجدران/ ليخطّ لنفسه اتجاهاً خاصاً ضمن تيارات التجاوز والتخطي وهكذا سيتجلّى ميدان الصراع في الشعر العربي الحديث عن ذبول التقليدية الجديدة ممثلّة بقصيدة التفعيلة وانطواء الرومانسية الاشتراكية... وبروزٍ أكثر لشعراء قصيدة النثر شعراء التجاوز والتخطي... ففي سورية مثلاً كانت الأسماء الشعرية الأبرز في السبعينات هي من كتاب هذه القصيدة /محمد عمران- نزيه أبو عفش- بندر عبد الحميد- عادل محمود- محمود السيد/ علماً بأنّ عدداً قليلاً من الشعراء العرب استطاع خلال هذه الفترة أن يكتشف إلى جانب /التفعيلة/ إيقاعات غنية لا حدّ لها، مثل أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وسليم بركات وفايز خضّور بحيث تمَّ طمس الوزن الخارجي تقريباً ولم يتبقِّ إلا إيقاع اللغة المتدفقّة في تنامي الرؤيا..
وبما أننا لم ننه الحديث عن الريادة والرواد فأرى من الضروري مناقشة مفهوم الريادة.. فالمعركة التي دارت رَحَاهَا فيما مضى بين الملائكة والسيَّاب حول أولوية أحدهما على الآخر في ريادة الشعر الحديث هي معركة وهمية تماماً لا لأن الفرق الزمني بين قصيدتيهما لا يُعتدُّ به...
بل لأن السمة التي يزهوان بها والتي يتوهّم كل منهما أنّه ينفرد بها هي إحدى السمات المشتركة في شعر جيل كامل ولا أهمية البتة للفروق الزمنية الضئيلة فنحن إذا أهملنا الفوارق على مستوى الأيام والشهور سوف نكتشف أنّ مرحلة زمنية واحدة هي التي أنبتت هذه الحركة الحديثة لأنّ ظروفاً تاريخية وحضارية واحدة هي التي أثمرتها... إذن فالريادة عامّة وهي حقّ مطلق شعراء الجيل بأكمله.. أمّا الريادة التي تخصّ اتجاهاً ما بدأه شاعر ما فهي الريادة التي يجب أن نميّزها كأن نقول: إنّ الملائكة قد نحت قبل غيرها في اتخاذ وحدة التفعيلة أساساً للبناء الشعري وإنَّ لويس عوض قد سبق غيره في إعادة الشعر للحياة كما يقول إليوت.. وإنّ عبد الرحمن الشرقاوي بَزَّ غيره في ربط الأيديولوجية بالشعر وإنَّ السياب كان رائداً في بلورة الأسطورة شعراً... أما يوسف الخال فهو السابق في إدخال الرؤيا الحديثة إلى الشعر العربي.. وهكذا يمكن الحديث عن جبرا إبراهيم جبرا وأدونيس وعبد الصبور والبياتي وأنسي الحاج والماغوط وتوفيق صايغ وآخرين... إذ أنّ لكلّ واحد منهم سماته وخصائصه التي تفرّد بها وطرَّز بها النسيج الشعري ليشكلوا مع بعضهم وحدة حيّة متكاملة في ريادة مفهوم الحداثة في الشعر..
وإذ نسوق الآن الكلام فلأن بعض المشكِّكين الجدد يجيئون اليوم وبعد مضي نصف قرن تقريباً ليعلنوا اكتشافاتهم الشعرية الجديدة /الموهومة/ مطالبين بإعادة النقد الشعري وتياراته إلى نقطة الصفر.
وبما أنَّ الكلام يفتح بعضه بعضاً /كما يقول ابن رشيق فإن في النفس شهوة للحديث عن مكابدات الجديد عبر التاريخ دون محاولة مني لإخفاء نشوة خاصة نابعة من الإحساس بأنَّ ثمة جديداً حقاً في ما يكتب اليوم يدفع بعض السلفيين الجدد لأن يشنُّوا عليه حرباً ضروساً... بمعنى آخر أن هذا الجديد استطاع أن يدخل الخوف إلى قلوب أعدائه وهذا وحده مؤشّر صحيّ للغاية.
وأسأل الآن هل هناك عربي واحد /وخاصة في أوساط المسلمين/ لا يتذكّر المعاناة التي تعرّض لها (محمد بن عبد الله) من قبل القرشيّين حين شعروا بأنّه يُزلزل استقرارهم وأمنهم واقتصادهم وقيمهم..؟ بل إنَّ شخصاً كأبي لهب سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه ولن تستطيع ذاكرة المسلمين مَحْوَ اسمه وشخصيته لتفردّه في صُنع الأذى للرسول /الحامل للجديد/ حتى أنَّ سورة من سور القرآن الكريم قد أُفردت للحديث عنه.
ومن قبل.. هل تُنسى التجربة الأليمة التي عاشها السيد المسيح.. حامل الجديد... أمّا على صعيد المجرّبين من الشعراء... فحدّث ولا حرج... وإلا فماذا يعني تأليب الفقهاء أصحاب القرار من الحكام على قتل الحلاج وبشار بن برد والسهروردي... وغيرهم؟ -هل كل هذا بلا قيمة معنوية أو فكرية...؟! وهل مرّ مشروع أبي تمام الشعري على القوم بهدوء وسلام..؟!
الإجابة معروفة ويكفي أن نجد من يقول: "لئن كان ما يقوله أبو تمام شعراً فكلام العرب باطل" وفي بدايات عصر النهضة سيتعرّض جبران لهجوم من قبل ممثلي الثقافة القديمة حيث سيغدو كتاب "النبي" كتاباً عادي الآراء بعيداً عن المنطق وأنّ ما يكتبه جبران (احتقار للرجولة والإنسانية) كما يقول د. عمر فروخ في مجلة الأمالي... وهذه الشتائم تذكّرنا حتماً بما تعرّض له (وايت وايتمان) بعد أن أصدر ديوانه (أوراق العشب) عام 1885 ليسجّل بداية للشعر الحر (النثر) في أوربا وأمريكا.. لقد كتبت إحدى صحف بوسطن كما يسجلّها لنا جمال باروت في كتابه (الشعر يكتب اسمه): "يجب ألاّ يجد هذا الكتاب مكاناً بين قوم يتمسكّون بفضيلة احترام النفس... ويجب أن يُطرد المؤلف من كل مجتمع مهذّب كمن هو أحدٌ من البهائم...".
هكذا تلحق الشتيمة بالمجددين في كل مكان من هذه القرية الصغيرة (العالم الأرضي) كما تُلصق الاتهامات بهم من كل حدب وصوب... ولعل الرواد منذ السيّاب وحتى الماغوط ومحمود السيد هم الأكثر تعرضاً للتهم الجاهزة والازدراء.
والآن لنأت إلى القضية الأهم في بحثنا هذا.. أي إلى نقطة الضعف الكبيرة التي يراها بعضهم في قصيدة النثر والتي ينطلق معرضوها دائماً من دعوى لا تكاد تتغير وهي افتقارها إلى الموسيقى...
في (الحرية والطوفان) يكتب جبرا إبراهيم جبرا عام 1960 عن ديوان توفيق صايغ (ثلاثون قصيدة) ما يلي //للشعر الحر (النثر) أصدقاء قلائل وأعداء كثيرون... وحتى الأستاذ مارون عبود وهو أشد النقاد اهتماماً باكتشاف المواهب الجديدة وتمحيصها، بعد أن جلل هذا الديوان بمقالين مسهبين قال إنه لا يستطيع أن يعدّ هذا الضرب من الكتابة شعراً... بيد أنه اعترف بأن كلام توفيق صايغ لو كان موزوناً مقفى... لوضعه في القمة من الشعر العربي//.
إذاً الموزون المقفى...!! هكذا ظلّ حتى أفضل النقاد ينظرون إلى الشعر ويتعاملون معه رافضين أن يسمّوا كل كتابة منتهكة لهذه المحرمات شعراً...
لكن جبرا لا يستكين حيث يتابع: "غير أن السنين القادمة التي سترى ولا شك تغلب الشعر الحر على تمنع النقاد، ستثبت أن هذا الديوان من أجرأ وأعمق ما صدر في العربية من شعر..".
إذاً من يريد التجديد ويشعر أن لديه ما لا يمكن قوله إلا إذا جدّد فعليه أن يُدير ظهره لكل ما اعتاد عليه من أساليب الشعر مُلقياً عنه القديم إلقاءاً تاماً... هكذا فعل جبرا إبراهيم جبرا نفسه حيث كل واحد منهم كان محمولاً على لُجج من معانيه ومكتشفاته هو ومفجِّراً بطريقته أغواره ومحققاً قضيته.. بل قضيته ورؤياه..
هل يعني هذا أنّنا نرفض الشعر القديم من حيث هو شعر..؟! أبداً.. بل إننا نرفض أن نُبدع من ضمن أطره الفنية والثقافية التي صدر عنها... إنّ هوميروس أحد كبار الشعراء في العصور كلها... ومع ذلك ليس هناك أيّ شاعر أوروبي يقلّده الآن... وكذا الحال مع شكسبير وغوته ودانتي وغيرهم.. ألا يصحّ إذاً أن ينطبق الشيء نفسه على علاقتنا مع تراثنا الشعري... ومن هنا صار لزاماً على الشعر الجديد لكي يكون معبراً حقيقياً عن التجربة العربية الحديثة وشاهداً أميناً لعصره أن يختلف عما سبقه وقد يكون الإيقاع أحد أبرز عناصر الشعر التي طالها هذا الاختلاف وللذين لم يقرؤوا التاريخ جيداً نقول إنّ الهزة الأولى التي تلقاها العمود الخليلي لم تك بإيدي شعراء اليوم بل حدثت هناك في الأندلس وكانت نابعة من اللقاء الحضاري بين التراث العربي والشعر الأوربي ليتابع جبران وأمين الريحاني هذا الفعل وصولاً إلى روّاد قصيدة النثر المعاصرين الذين أسقطوا عمود الخليل تماماً..
إنّنا لسنا ضد الإيقاع الذي نجده ضرورياً حتى في النثر... ولكننا نريده إيقاعاً يعكس روح زمننا وضجيج أرواحنا... بل نؤكد أنّ الموسيقى تدخل كعنصر سري في صلب اللغة وليس في الشعر وحده فعلم المظاهر الحديث يولي اهتماماً كبيراً بالطريقة التي تلفظ بها الجملة (النبرة- التشديد- ارتفاع الصوت- هبوطه- الإيقاع الموسيقي للجملة) حيث ستصبح هذه الموسيقية جزءاً من المعنى الرمزي للجملة يدخل في بنيتها ولا يتحقق بدونها... ومن هذا الفهم لدور الموسيقى وأهميتها في اللغة على الشاعر أن يكون على دراية بالإيقاعات الشعرية وعلاقاتها وطرق تشكلها سواء في الشعر القديم أو الحديث حتى وإن أراد نفيها دون خوف من الوقوع في أسرها.
إنّ أيِّ كشف لارتباط الشعر بالوزن في المراحل الأولى لتكوّن الحضارات يتطلّب عودة إلى البدايات التي نَجتْ من التحوير... وما من أدب يمكن أن يفيدنا في مسعانا هذا أكثر من أدب بلاد الرافدين (السومري والبابلي) باعتباره أقدم الآداب المعروفة في تاريخ البشرية... وفي كل هذه الآداب لم يكن في البداية سوى الشعر الذي ارتبط بالغناء والإنشاد... ويشير (طه باقر) في مقدمة ملحمة جلجامش التي نقلها إلى العربية إلى أنّ كلمة شعر الموجودة في كل اللغات القديمة تقريباً (ما يسمى بالسامية) تعني في اصل ما وضعت له الغناء والنشيد.
إذاً فإنّ ارتباط الشعر بالغناء فرض الإيقاع الذي طبقاً للدراسات الحديثة لم ينحدر من الكلام نفسه وإنما جاء من الخارج ليدخل اللغة تدريجياً متّخذاً أشكالاً متنوعة كالأوزان... وفي هذا يكتب فاضل عزاوي في (بيان الحداثة):
"إنّ الإطار الإيقاعي (الأوزان) وجد في البداية مستقلاً عن شكل تحققه اللغوي ولكنه ما إن دخل اللغة حتى صار نموذجاً لأشياء جديدة... وينبغي أن نفرّق بين الإطار الوزني للقصيدة وشكل تحقّقها اللغوي... فالوزن لا يصنع القصيدة وفي الشعر العربي أمثلة كثيرة على صياغات بعض العلوم (النحو مثلاً) شعراً ولكنها لا تمتّ إلى الشعر بصلة".
في القصيدة العمودية يوجد البحر الشعري كوحدة موسيقية جاهزة وكشيء خارجي مسبق ومستقل عن القصيدة... صحيح أن في إمكان الشاعر أن يختار البحر الذي يريده ولكن ما أن يختاره حتى يصبح أسيره فهو إذ يكتب قصيدته سوف يكتشف أنّ هذه القصيدة تكتب نفسها أيضاً حين تفرض الموسيقى الخارجية كلمات القصيدة محدّدة حتى طريقة القول: "وبهذا فإن ما اعتبره العرب شيطاناً يلهم الشاعر قصائده ليس في الحقيقية إلاّ هذا الصوت الخارجي الموجود قبل القصيدة والذي هو صوت آلاف القصائد السابقة... ولذلك كانت النصيحة الذهبية التي يقدمها العرب إلى شعرائهم هي حفظ واستظهار أكبر قدر ممكن من الشعر كمؤونة لا بدّ منها لتمثل هذا الصوت" هكذا يتابع العزاوي حديثه في مكان آخر من (بيان الحداثة).
إنّ ثبات وظيفية الشعر هي التي فرضت عليه ثبات إيقاعاته التقليدية طوال قرون، وإنّ الزحزحة التي حدثت بالانتقال إلى أوزان جديدة (أوزان المولدين) وظهور ما يسمى بالفنون السبعة قد ارتبطت بوظيفية جديدة للشعر أكثر إنسانية وطبيعية وحميمية أبرزت الشاعر كذات متفاعلة مع محيطها... ولكنها ظلت هامشية وعاجزة عن إزاحة الوظيفية القديمة التي لم تفقد بعد مبرّرات بقائها:
يقول العزاوي في نفس المصدر السابق "ثمة من لا يزال ينظم الشعر على الطريقة العمودية حتى الآن وتجد قبولاً أيضاً وذلك لأنّ بعض العرب ما زال يعيش في الماضي أكثر مما يعيش في الحاضر.. إنّ أفضل شعرائنا العموديين الآن هم الأكثر ارتباطاً بتقاليد الشعر العربي حيث الشاعر مجرَّد مدّاح للملوك والأمراء بانتظار العطايا، وما يلفت النظر أنّ كل الشعر الذي يستهدف المديح والاستجداء قد نظم على النسق العمودي، وحتى الشعراء الذين يكتبون قصيدة حديثة يختارون الشكل العمودي عندما ينوون الحديث بعقل الماضي وعواطفه وليس في ذلك أيّ سرّ فالإيقاع المدوّي في الشعر العمودي هو إيقاع روح القبيلة عائداً إلينا من وراء القرون..".
وهكذا... وبسبب هذه الخارجيّة الموسيقية التي وضعت كلّ القصائد العربية في عدد جاهز من القوالب (البحور) وأوصت ببحور معينة للحرب والمديح والهجاء عاكسة مستوى نفسياً وروحياً وفكرياً وجمالياً لبنية اجتماعية- تاريخية محددة انغلقت القصيدة على نفسها في مواجهة حاضر لم يعد قادراً على الاستماع إلى صوتها أو الاقتناع بمنطقها ورؤيتها إلى الحياة الجديدة، فإذا كان الشاعر العربي القديم قد استوحى بعض إيقاعاته من حركة خفّ الجمل أو النقر في سوق الضّارين فإنّنا مرغمون الآن على الاستماع إلى ما يسميه الشاعر الأمريكي (فيزلنفيتي) "التنافر الصوتي المطلق للآلات"... في مقابل الإيقاع الأحادي الذي يظل يتكرّر داخل القصيدة العمودية فإنّ الإيقاع الذي تقدمه قصيدة النثر هو أقرب إلى الموسيقى السمفونية التي تمتلك إيقاعات متعددة وانتقالات صوتية من مستوى إلى آخر ضمن العلاقات التأليفية للعمل كله.
يكتب أدونيس في زمن الشعر: "شعرنا القديم يتكلم على العالم: شعرنا الجديد يتكلم العالم"..
من هذا الفهم الجديد حاولت قصيدة النثر أن تضع نفسها ضد الغنائية المفرطة مقتربة من إيقاعات قادرة على عكس الحياة اليومية ومؤمنة بأن لكل شكل شعري موقفاً رؤيوياً من العالم وطريقة في النظر إليه والاقتراب منه... بمعنى أن لقصيدة النثر روحاً تقف وراءها مختلفة عن الروح التي تقف وراء القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة، وأن لها آلية تحقّق معينة ومنطلقاً خاصاً هما ما يجعلان منها نثراً يختلف عن النثر الذي ينتمي إلى الأنماط التي نجدها في السياسة أو الصحافة بل يمكن القول إن قصيدة النثر تمتلك هي أيضاً أوزانها الخاصة وإن كانت غير عادية كما في قصيدة النظم حيث يكشف لنا الدخول إلى الحياة السرية للقصيدة النثرية كيفية تحققها الإيقاعي الداخلي... ولكن كيف..؟!.
إنّ الأشكال التي تتّخذها اللغة الشعرية النثرية تقوم بخلق وزن لكل جملة معتمدة على النبرات والسكنات (الاتصال والانقطاع) غير العددية وهو نفس النظام الذي تقوم عليه القصيدة الموزونة (العروض) ولكن بوزن عددي مفترضاً وحدة زمنية (تقريبية) تتكرر في كل تفعيلة داخل القصيدة مقابل زمني نسبي بين النثر العادي والنثر الموزون كما انتبه إلى ذلك أيضاً ابن سينا في (النفس) / وفي/ الإشارات والتنبيهات/ الذي لاحظ ظاهرة وزن النثر في اللغة العربية وأوضح أن أشكال الوصل والفصل في الجملة هي أوزان الكلام مؤكداً أنّ النبرات تقرّب النثر من الشعر الموزون... ولعل أفضل مثال على الإيقاع العربي الذي يمكن أن يتحقّق في النثر هو في الصياغة القرآنية للآيات التي هي في الأغلب ليست جملاً كاملة ومع ذلك تنفصل عن غيرها من السور ثم تتصل بها بطريقة تعطي القارئ فرصة لكي يقرأها أو يرتلها بطرق إيقاعية مختلفة (القراءات السبع المعروفة) حيث يتحقق الزمن في كل مرة بشكل جديد.
من جهة أخرى أنّ الميزان العروضي الذي وضعه الخليل بن أحمد واستند فيه إلى الوزن العددي أو الحركة أو السكون وهو نوع من اتصال الصوت وانفصاله هو ميزان غير دقيق وحول هذه الفكرة يتحدث فاضل العزاوي في (بيان الحداثة) بالتفصيل: "إن التوافق الموسيقي لا يتحقق في الشعر العمودي إلا بالطريقة التي يُلقى بها هذا الشعر... فالصوت هو الذي يتدخل لخلق الانسجام بحيلة خارجية مستقلة عن النص حيث يقوم الصوت بملء الفراغ الموسيقي وتقويم اضطرابه وهذا ما فرض الرتابة في طريقة إلقاء الشعر العمودي وأصبحت جزءاً عضوياً من حيث لا مناص من التنفّس بطريقة معينة لضبط حركة الشهيق والزفير ولكن حتى هذه الحيلة تعجز عن الوصول إلى ما اعتبره الفارابي قوام الشعر وجوهره "أي أن يكون مقسوماً إلى أجزاء يُنطق بها في أزمنة متساوية" كما في الموسيقى وقد أظهرت الدراسات المخبرية الحديثة للعروض استحالة ذلك لأن زمن النطق سوف يختلف بالضرورة في المقاطع الصوتية ما دام العروض العربي يعتبر مقاطع صوتية مغلقة مثل (لو- لم- يكن) مساوية لمقاطع صوتية مفتوحة مثل (ها-ذي-عدد) فالزمن في المقاطع الأولى هو أقصر كثيراً من الزمن في المقاطع الثانية.."..
في الحقيقة أنّ الأوزان بعامة وليس في الشعر العربي وحده تقدّم مسافة تقريبية مُتخيَّلة للاستمرار الزمني للصوت في حين أنّ هذه المسافة الزمنية تظهر بدقة كاملة في الموسيقى، هذا الفارق الذي حلّله الباحث الألماني (أندرياس هوسلر) في دراسة له عن الوزن الشعري يتجلى عند مقارنته إشارات العروض بالسلم الموسيقي... وفيها وضّح أن ما يبرز في شعر الوزن فيما يتعلّق بالمسافات الزمنية هو تقسيمات طريقة إلقائه بعيداً عن أيّة إمكانية لاستخدام إشارات السلم الموسيقي.. يحدث هذا لأنّ الشاعر في إلقائه لقصيدته قد يطيل المقاطع الصوتية أو يقصرها... وقد يقرؤها بسرعة أو ببطء.
أخيراً لا يسعنا إلا التذكير بنبوءة جبرا إبراهيم جبرا قبل أربعين عاماً حين استشرف المستقبل العظيم الذي ينتظر قصيدة النثر... مُذكرين في الوقت نفسه بأن إشكالية الاعتراف بقصيدة النثر كشعرٍ ما زالت قائمة ليس فقط في الأدب العربي فقط وإنّما في الآداب الأوربية أيضاً وخير مثال على ذلك الجدل الذي ثار حول هذا النمط من الكتابة حينما مُنحت مؤخراً جائزة بوليترز (وهي أكبر جائزة أميركية في الأدب) لمجموعة من قصائد النثر للشاعر تشارلز سيمنك
.
* عن مجلة الموقف الأدبي - العدد 308 كانون الأول 1996
 
بشير عاني
دم راشد بما يكفي



ثمة دمٌ كثير.. كثير..
لا كالذي كنا نقرأ عنه..
أو نشم رائحته على أصابعنا..
أو نخلّده في البيعات على قماش السياسيين..
كثير .. كثير..
كثير إلى الحدّ الذي لا يتّسع للدبابات تفادي انفجاره حول جنازيرها..
ولا يتسنّى للطائرات سدّ آذانها عن هديره..
وكثير بما يكفي لتخمير كبرياء جثث لا تنتظر القبور..
دم راشد بما يكفي لإخراج البلاغة الثورية من شرودها.. وطي التاريخ (المجيد) لقذيفة سليلة..
ولا بأس.. لا بأس أن يتذوق الشهداءُ ملحَ الطبخة الأممية..
وأن يوصدوا أرواحهم في وجه العبارات المواسية..
وأن يرموا بأحلامهم على أكتاف الناجينَ..
لا بأس أن يسأل "سمّور"* القنّاصَ عن زمرة حقده.. وأن يراقب "خليل"* تبدد "سوالفه" في حضرة البارود..
ولا بأس أن تتضرع الثكالى.. وأن تَحارَ السماءُ من ازدحام الأنين على أبوابها..
دم كثير بما يكفي..
لينسربَ السوريون من شِباك ذهولهم..
يقفوا في برك النار على أصابع قلوبهم..
واجمين بانتظار انجلاء عنوان القذيفة التالية..



* سمور الساملوت: شاب منغولي معروف بالطيبة والدماثة
* فشل خليل كرك في كتابة النص الأدبي لكنه نجح كثيراً في انجاز ذائقتي الأدب والاحتجاج..
 
وهم العزلة .. الشعر بين وهم المؤامرة و التاريخ
بشير العاني


منذ البدء أنوه إلا أن محفّزي الأهم لهذه الكتابة، هو ما دار ويدور في الأوساط الثقافية العربية وهوامشها حول عزلة الشعر والشاعرعن الناس والحياة مع الإشارة إلى أن ملامح هذه الكتابة تنتمي إلى المفكّر فيه منا ومن غيرنا، من قبلُ.. ومن بعدُ..
أما وجهة نظري فتفترض طرح السؤال الآتي:‏
من هم اليوم قرّاء الشعر.. وما هي أعدادُهم..؟وكمن استيقن علماً ،سأجيب بسرعة ووضوح بأن الشعراء وبعض المهتمين هم فقط من يقرؤون الشعر اليوم وهذا لايعيبه ولايقلل من شأنه ودوره وطبيعته ‏.
إن اتهام الشعراء العرب المعاصرين بمسؤوليتهم بتدهور الشعر وعزلته هي اتهامات لازمت الشعر والشعراء في كل زمان ومكان ،وإنها في عصرنا الحاضر بالذات تُطرح في المراكز الحضارية المتقدمة بشكل أكثر حدة من طرحها في بلداننا بسبب معاناتهم الأشدِّ من وطأة الآثار السلبية للتقدم التقني الذي يحاصر الإنسان ويقلل من أهمية إشباع حاجاته الروحية والجمالية: وضمن هذا السياق يأتي كتاب (الشعر ونهايات القرن) للشاعر المكسيكي أو كتافيوباث وفيه يلاحظ المؤلف أن قراء الشعر سواء كانوا كثرة أو قلة لم يشكلّوا أبداً وعلى مرِّ العصور أكثرية في المجتمع.. والأمر نفسُه ينطبق على العلوم والفلسفة إذ إنها كانت دائماً من صنع الأقلية.. ولكنها الأقلية الهائلة...‏
ويؤكِّد أوكتافيوباث أن تاريخ الأدب في الغرب وفي العصر الحديث بشكل خاص قد كان تاريخ أقلية.. أنهم كتابٌ ونقاد وفنانون تمردوا على الأوضاع السائدة وابتكروا أشكالاً جديدة استعصت على الفهم في البدايات... ويخلص باث إلى أنَّ قراء الشعر سواء كانوا كثرة أو قلة يظلون هم رأس المجتمع وقلبهُ لأنهم نواتهُ المُفكِّرةُ والفاعلة..
كما يؤكد باث على مقولة الشاعر والناقد (بيير جمفيرير) إنَّ إحدى السمات البارزة في الشعر الحديث هي إصراره على أنْ يظلَّ فنَّ الأقلية.. كما ينقل لنا باث بعض الإحصائيات الهامة التي أوردها جيمفيرير ومنها:‏
إنَّ الشاعر الفرنسي (فيرلين) ورغم شهرته الواسعة في كل أوربا لم يستطع عام 1886 أن يطبع من أحد دواوينه أكثر من /600/ نسخة‏ .
ان (مالارميه) لم يستطع في عام 1876 أن يطبع من أحد دواوينه أكثر من /195/ نسخة.‏
إنّ (رامبو) لم يستطع طبع أكثر من /500/ نسخة فقط من ديوانه فصل في الجحيم.. وهو الديوان الذي كان لـه تأثير هائل على الشعر في القرن العشرين.. أكثر من هذا فقد بقيت النسخ في مخازن الناشر لولا أحد هواة جمع الكتب الذي أنقذها عام 1900.‏
إنَّ أناشيد مالدورو للشاعر (لوتريامون) قد بقيت في مخازن الناشر ولم تكتشف إلا بعد سنوات من موت الشاعر.‏
إنّ (بابلونيرودا) ورغم شهرته الواسعة في كلِّ البلاد الناطقة بالإسبانية لم يستطع طباعة أكثر من /500/ نسخة لديوانه قصائد الحب الأولى عام 1926.‏
إنّ الشاعر الإيطالي المعروف (أونغاريتي) لم يستطع طبع أكثر من /80/ نسخة... فقط ثمانين نسخة من أحد دواوينه...؟‏
إنَّ (وايت وايتمان) ورغم شهرته لم يستطع طباعة أكثر من /800/ نسخة من ديوانه الشهير أوراق العشب (وللمزيد من التفاصيل بهذا الخصوص يمكن الرجوع إلى كتاب صوت الجوهر لنزار بريك هنيدي).‏
وعودة إلى بدء إننا إذا ما أمعنا النظر في تاريخ الشعر على امتداد العصور وفي مختلف الحضارات (باستثناء بعض المجتمعات البدوية) سنكتشف أنَّ مقولة العصر الذهبي للشعر في الماضي هي مقولة مبالغ فيها وهي لا تعكس سوى رغبة الشعراء وتطلعهم إلى مجتمع أكثر قابلية للتجاوب مع أحاسيسهم ومعاناتهم وأكثر تقديراً لفنهم وإبداعاتهم.0 وإذا ما استعدنا السؤال السابق حول قرَّاء الشعر.. واستعدنا الإجابةَ الأنفةَ الذكر مع الإحصائيات القاطعة ـ المانعة.. سنكون ـ برأينا ـ قد قطعنا نصف الطريق هاربين من مفازات الوهم ورماله المتحركة 0
والوهم لا ينسج شرانقه حول الشعر ومفاهيمنا الشعرية فقط ،بل هو يعشعش على جدران وأسقف وجودنا وموجوداتنا بامتداداتها العاطفية والاجتماعية والسياسيةوالتاريخية..
والوهم ـ كمحاولة لاستعادة كبرياء ضائعة ـ بدأ يتجلى بوضوح مع تشوشنا واهتزازنا الحضاري ـ التاريخي الأول... وتحديداً منذ دخول نابليون إلى مصر.. وكانَ من الطبيعي أن تظهر أولى أعراض هذا التشوش وهذا الاهتزاز على الجانب الأكثر أهمية وحساسية في حياة العرب، وأعني الشعر، كيفَ لا: والشعر ديوان العرب، وهم لم يبدعوا في أيِّ من الفنون مثلما برعوا فيه.. ولأنَّ للشعر هذه الأهمية في حياة العرب سيكون من الطبيعي أن تبقى الحروب على أشدِّها بينَ الشعراء وأنْ تبقى أبواب الصراع مفتوحة على مصاريعها بينَ تياراته المختلفة (رغم أنَّ التاريخ يسجَّل لنا حقائق عن حروب طاحنة كانت أسبابها تافهة كالبسوس وداحس والغبراء) كما أنَّ تجليات هذه الظاهرة الصحية (الصراع) ستبرز على أكمل أوجهها في المعارك الدائمة، والتي لن ينقشع غبارها أبداً بين القديم والجديد.. بين الثابت والمتغير.
بشجاعة أكثر يمكن القول بأنَّ ظاهرة الصراع ، هذه الفذَّة والخطيرة والقادرة على الانسحاب على مجمل أشكال الحياة، هي خاصة طبيعية ومستمرة بما تمتلكه من نواميس التطور ولا نملك إلا إذكاءَها حين نريدُ الرهان على الوجدان الشريف للحياة والضمير النقي للمستقبل مدركين أنَّ الحديث عن شروط تحقق آليتها (آلية التطور) يظلُ ناقصاً إنْ لم تُحدَّد مجالات فعله في احترام الرأي الأخر وفي الموضوعية وفي السعي الحثيث لوضع اليد على الحقيقة أو مشارفتها قدر الإمكان.‏
وللوهم بقيَّة 00
فنحن قد فرض علينا التخلُّفُ الطويل التعايش مع الكثير من الأوهام التي نسجت حولنا شبكة قوية ونشيطة ضيَّقت علينا إمكانيات التفكير والتفسير والاختلاف والاختراق وصار الخروج منها يتطلَّب بطولة من نوع ما ربما يكون التمرد أهم أشكالها 0
بلى تعايشنا مع الوهم.. والتعايش فلسفة ومعنى هو تلاؤم أو تشارك في معظم حالاته، حيث ينمو الشريك (الوهم) بيننا مُتحصِّلاً على زاده منا ومقدماً لشريكه (لنا) الطاقة الضرورية لننتفخ ونكاثر الخديعة وأشباه الحقيقة.. ونمارس الدعاوى والفتاوى 00ونراهن على حتمية السلالة والرسالة والكمال والأفضال التي لنا وفينا 00مُنسيِّاً إيّانا همَّ التفكير بأننا اليوم مرميون في العراء.. خارج التاريخ .
أجل 00ذات عصر قارس، فتحنا أعيننا على التاريخ فإذا بذواتنا عاريات إلا من قميص الشعر... التفتنا ـ آن هزَّنا برد الحياة ـ بعضنا إلى بعض لنسأل الأسئلة ذاتها.. ألسنا أمة شاعرة... أليس الشعر ديواننا وحافظنا وواقينا...؟ إذاً لماذا لم يعد يجدي نفعاً قميص الشعر هذا...؟‏
تباكينا.. تنادينا 00صرخنا في كل حدب وصوب.. الشعر في خطر ؟
وللحقيقة.. فقد بادر المخلصون من محيط الشعر إلى خليجه للبحث في الأسباب والحلول.. فعقدت الندوات المختلفة وتحت يافطات مختلفة: أزمة الشعر، الشعر والتغريب، غربة الشعر، الشعر والمتلقي، الشعر والسلطة، الشعر والحياة الشعر و..
ليس هذا فحسب فقد ملأ حبر المقالات والدراسات بياض المجلات والجرائد وبُحَّتْ أصوات المذيعين في وسائل الإعلام السمعية والبصرية وهم يتحدثون عن المشاريع الجادة، وغير الجادة شعرية ونقدية للخروج بالشعر من أزمته 00‏
أيضاً فقد صعد المحسنون إلى منابر الشعر ليعلنوا لجيوش الشعراء عن جوائز قيمة لمن يعيد الهيبة لقامة الشعر الهزيلة 00
فتحت الصحافة والمجلات صفحاتها للدم الجديد بغية تحسين نبض الشعر وتنظيم دقات قلبه 00
ربطت المدن والبلداتُ أمجادها الغابرات بالشعر فأعلنت عن جوائز بأسماء قدمائها من الشعراء فكان لكل مدينة شاعر وتماثيل 00
نافس أصحاب المطابع تجار الرقيق الأبيض ثراءً بعد أن صارت مطابعهم تلفظ يومياً عشرات الدواوين الشعرية على امتداد الوطن العربي حتَّى صار لكل عائلة شاعر ..
شبكت المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة خَصْرَ الشاعر وهمست لـه: لا تحزن 00نحنُ نطبع لك.. وهكذا فتحت خزائن أموالها وشغلت مكائن طباعتها لتطبع على نفقتها دواوين الكثير من الشعراء المفلسين وغير المفلسين..
كل هذا.. والشعر في عزلة.. والشعر في خطر؟!‏
إذاً ثمة مؤامرة وثمة جريمة.. ؟
من هنا راح الكثير يبحث عن متهم ليلقى عليه تبعة الجريمة ويحمله دم الشعر المغدور والجميع متفق على الضحية ولكن الخلاف الأساسي دار حول تحديد ماهيَّة المتهم.‏ : ونحن ، وفي هذا المكان ، وبهذه العجالة سنحاول مناقشة الاتجاهات الاساسية التي حاولت ،ومن موقع الرائي ،اعطاء شهادة بأوصاف المتهم .. وربما بسجايا وأفضال الضحية :
فالحداثيون عموماً شعراء ونقاداً رأوا بأنَّ غربة الشعر وعزلته وأزمته تكمن في المتلقي الذي خربت الثقافة التقليدية ذائقته ومنعته من تطوير أدوات اقترابه من القصيدة الجديدة فظلَّ يجسها بأدواته القديمة... وبهذا فهم يفترضون بأنَّ القصيدة الجديدة تحتاج بالضرورة إلى قارئ جديد..‏
إذاً فالحداثيون.. عموما".. يتهمون المتلقين... عموما".. وفي هذا بعض الصحة وبعض اليقين الذي يُعقدّ المشكلة بدلاً من إيضاحها وتفسيرها فإذا كانت القصيدة الجديدة قد بدأت بالتمخض في أوائل هذا العصر مشيرةً إلى المأزق الذي تعيشه القصيدة التقليدية، فإنها قد وعت باكراً التغيرات الحاصلة في العالم مؤمّنةً نفسها ببناء شعري جديد مؤثّث بعلاقات لغوية جديدة وبموقف جديد من العالم:
وبهذا تغيرت وظيفة الشعر وأتيح للشاعر أن يبحث ويُعمّق ويتقصّى.. أن يتحول من شاعر أغراض ومناسبات إلى شاعر رؤى.. ومن شاعر بلاط إلى شاعر أرصفة..
إذا كان كل هذا صحيح (حداثياً) فإنَّ الصحيح (تاريخياً)، وهذا ما تناساه الحداثيون أنَّ القرآن الكريم الذي هو الديوان الأدبي للحركة الإسلامية غزا أفئدة المسلمين ببيانه ولغته رغم (جدَّته) وأسكتَ قرائح بعض الفحول كلبيد بن أبي ربيعة الذي استبدل الشعر بصورة البقرة... وحوَّل وظيفة فحول آخرين كحسَّان بن ثابت من مداحين وهجائين إلى منافحين عن الإسلام والمسلمين... أي إلى شعراء موظفين في الدعوة الإسلامية.‏
تناسوا أنَّ الشعر الصوفي رغم نخبويّته ورغم التعتيم السلطوي عليه بقي الديوان الأدبي للرفض والاحتجاج والمعارضة.. وكيف يُنسى أيضاً أبو تمام وجديده.. فرغم أنَّ الذائقة التقليدية أعلنت بفزع ـ بادئ الأمر ـ أنه إذا كان ما يقوله أبو تمام شعراً فكلام العرب باطل.. إلا أنه انتشر انتشار النار في الهشيم حتى قيل بأنَّ أبا تمام قد قطع أرزاق الشعراء..‏
الأمثلة كثيرة.. وكثيرة جداً.. حتى في هذا العصر.. وهل جبران وكتابتُه الجديدة الرافضة وانتشارها بين قراء العربية إلا المثال الساطع والحي.. وهل نجاحُ قصيدة التفعيلة المجدِّدة وشعراؤها إلا مثال أخر في سطوعه.‏
أصحاب الحداثة يرون ـ وهم محقّون ـ أنَّ علة الشعر من داخله ومن خارجه:‏
من داخله حيث ضاقت أشكال التعبير التقليدية عن الإحاطة باتساع رؤى الشاعر وفساحة أحلامه وشساعة همومه.. ومن خارجه، إذ اتسعت الهوة بين الشاعر ذي الذات التي كبرت بالعلوم والمعارف الجديدة وبين المتلقي القانع بثقافته القديمة المستنفذة لأغراضها وطاقاتها، فظل حاملاً لذات صغيرة معيقة للتواصل.‏
بكلام آخر، فإنَّ جدلية الداخل التي يتبنّاها الحداثيون، ترى في المتلقي متَّهماً أسهم تاريخ طويل من التخلف في تخريب ذائقته، كما أسهمت مؤسسات المجتمع المعاصر في تكريس هذا التخلف وهذا التخريب... فيما ذهب المبدع في تطوره منفرداً على اعتبار أنَّ الإبداع نشاط فرداني لا تحكمه كثيراً قوانين التطور التي تخضع لها باقي فروع النشاط الاجتماعي كالاقتصاد أو التعليم أو الوعي الصحي..
إذاً سيتسع البون.. وتتسع الهوة بين الطرفين رويداً.. رويداً رغم مطالبات المخلصين بجسرها أو ردمها.. وهكذا من الطبيعي أن يفقد الطرفان الاتصالُ ببعضهما.. و أن تبدأ الاتهاماتُ.. وأن تحدث القطيعة. ‏
ولكن ثمة خلل في جدل الحداثيين رغم بريقه، وفي منطقهم رغم تماسكه وصلابته.. إذ كيف يفسّر الحداثيون عزوفَ المتلقين عن الشعربما فيه الشعر البسيط والمطمئن والأليف والمندغم معهم مستوى وفكرة ورؤية..
أكثر من ذلك أن المشكلة قد تأخذ شكلها المأساوي حين يتبدّى انفصام غريب في ذوات بعض الحداثيين الذين نراهم وقد تحولوا فجأة إلى متعاطفين ب - مظهر حيادي- مع نماذج من الشعر التقليدي، وأدلَّلُ هنا بمثال ليس ببعيد حدث مع قصيدة الشاعر الفلسطيني سميح القاسم في زيارته الأخيرة لدمشق.. المأساوي في الموضوع أن هؤلاء الحداثيين لم ينتبهوا وهم منتشون بقصيدة القاسم ـ المشغولة بعجلة والتي كما نراها ليست إلا صوتاً خافتاً في جوقة الشعر التقليدي ـ إلى أنهم بهذا يكيلون بمكيالين حين يرفضون أو يهملون قبل وبعد هذا نماذج جيدة من هذا الشعر لشعراء أقل انتشاراً بحجة عدم انتمائها إلى الشعر الطموح وشعر المستقبل.. وكيف أفسر ما يكتبونه بأقلامهم ثناء ومديحاً للجواهري وغيره من الشعراء التقليديين 0
وإذا كان معيار انفتاح الشعر على الناس هو إقبالهم على الشاعر وعلى قصائده فإنَّ ا لتجربة تُثبت بأن الحداثيين أبعد الناس عن بعضهم وأقلهم تواجداً في قاعات الشعر، حتى صار حضور أمسية شعرية بمثابة الضرورة أو الواجب الاجتماعي الذي تمليه المعارف الشخصية .
أما الجماهيريون وشعراءُ العقائد ونقادُها فيرون بأن الشعر قد ذهب بعيداً في الغرائبية والطلاسم، وابتعد عن هموم الناس اليومية وتطلعاتهم الإنسانية فانفضّوا عنه... وهم يفترضون بأن على الشعر ـ لكي يتصالح مع الناس والمجتمع ـ أن يعود إلى صياغة القيم والأفكار والتطلعات بلغة مفهومة تخاطب العقل والمشاعر .
وإذا افترضنا صحة هذا المنطق فكيف نفسّر شكاوى وتذمُّر شعراء الشعارات والخطابات من عزوف الناس عن قصائدهم..؟ وكيف أفسِّر الاستهجان العام للقصائد التعليمية والقصائد المبشّرة وقصائد العامل والفلاح السطحية والمبتذلة...؟ وكيف أفسّر أنه ورغم كلّ محاولات الستالينية تطويق مستقبلية مايا كوفسكي ظلَّ الأهم والأبرز والأكثر انتشاراً...؟ .
ويتقاطع هذا الاتجاه كثيراً مع الاتجاه الثالث الذي يعنى بشؤونه السياسيون من الشعراء والنقاد.. ((لا أفترض بأنَّ هذه الاتجاهات نهائية فثمة تفريعات داخل كل اتجاه.. كما ثمة إمكانية لتداخل الاتجاهات مع بعضها)).. والاتجاه السياسي هو الذي تنفتح قصائد أصحابه وهواجسُهم ودلالاتُ أفكارهم على آفاق الحلول السياسية وما يرتبط بها من حريات عامة واقتصاد وطني متين.. أصحاب هذا الاتجاه يرون بأن الشعر غائب بفعل فاعل وأن السلطات باختلافها وتدرجاتها تمارس أدواراً غير بريئة في تغييب الشعر عن ساحة الفعل الإنساني فغياب الديمقراطية يشلُّ قدرة المبدعين على الانتشار والبقاء.. كما أنَّ إهمالَ المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي وتقصيرَها يحوّل المبدعين إلى كومة من اليائسين والمهمشين...‏
وبرأيهم أيضاً.. إنَّ الإمبريالية العالمية ، مسنودةإلى قوى محلية، تجهد لتخريب الثقافة الوطنية عبر التسطيح وتغليب الثقافة الاستهلاكية وتمرير مفاهيم العولمة.‏
وطبيعي أن يكون الحلّ في رأي أصحاب هذا الاتجاه هو في امتلاك المبدع لحريته عبر التغلّب على عوامل التخريب والتآمر الداخلي والخارجي وامتلاك القرار الوطني وتأمين الحياة الكريمة.. الخ.‏
ونحن سنرى بعض الحق في وجهة النظر هذه إذا ما دخّنا مع أصحابها تبغ السياسة.. فالسلطات وعلى مر العصور تسعى لتوظيف المبدعين في خدمتها وإبقائهم على رصيفها.. ولكن منذ عقدين من الزمن من يبالي بالشاعر أو بقصيدته..؟ قد يتم التدقيق بسيناريو للتلفزيون أو بلقاء إذاعي أو بمقالة في جريدة.. لأنها ببساطة أدواتُ تعبير جديدة أكثر فتكاً وأكثر خطراً لأنها أسرع وأكثر وصولاً إلى الناس.. ولكن لا أهمية كبرى ( سلطويا" ) لقصيدة شاعر أو لتهويماته .
وإذا كان للخراب السياسي كل هذا الأثر وهذا التأثيرِ على الشاعر ومجالات إبداعه فكيف نفسّر ظهورَ شعر عظيم كتائية ابن الفارض في غياب الأمن والحرية والقرار الوطني كالذي كان في عصور الانحطاط ..وكيف نفسرُّ ظهورَ المتنبي العظيم في زمن التفكك والدويلات..‏ ؟ .
نعم.. قد يكون للسلطات رأيُها الذي لا يعجبنا في الثقافة.. وقد يكون لها دورها غير البريء في تخريب المناخات الثقافية وتهميش المبدعين.. وقد تقصّر.. وقد لا تبالي.. ولكن لو كان كل هذا معكوساً بمعنى أن ثمة سلطةً بين الأيادي شغلُها الشاغلُ هو الثقافة وما تمليه من ضرورات اجتماعية وسياسية وإنسانية، متبنية للثقافة والمثقفين من الباب إلى المحراب.. لو أن هذه السلطة موجودة.. هل سيفكك هذا عزلة الشعر..؟ .
أشك في ذلك..!‏
يروي فاضل العزاوي في كتابه (بعيداً داخل الغابة) أنه ذهب لحضور أمسية شعرية في إحدى المدن الألمانية.. ولاحظوا ((الألمانية)) .. فلم يجد في القاعة سوى الشاعر وصديقته...!!‏
فإذا كان هذا يحدث في ألمانيا التي لا غبار على المصداقية الثقافية لسلطاتها (على الأقل بالنسبة للشعب الألماني) فكيف هو الحال في بلادنا...؟‏
أنا أحلم بأن تطلّ علينا المذيعة بصوتها الرّخيم لتخبرنا بأننا سننتقل إلى قاعة الشعر في المكان الفلاني لنقل الأمسية الشعرية للشاعر الفلاني على الهواء مباشرة وعلى غرار ما يحدث في الرياضة أو الطرب.‏
أحلم بأن أشهد اليوم الذي تُخصص فيه قناة تلفزيونية تسمى بالقناة الثقافية وعلى غرار أقنية الرياضة أو الغناء، تعنى فقط بالثقافة وتبث على مدار ساعات برامج حية.. وميتة..
أحلم.. وأحلم.. ولكن هيهات..‏
وإذا ما تم هذا وتحقق فعلاً.. هل سيفكك هذا من عزلة الشعر..؟‏
الإجابة بالنسبة لي هي النفي، لأنه وببساطة شديدة لم تستطع السلطات على مر العصور أن تعزل الشعر والفن عموماً عن الناس، أمّا عن عزل الشعر فهو الحياة نفسها.. ومع هذا يصرُّ الشعراء السياسيون على اتهام السلطات الوطنية والإمبريالية والعولمة بدم الشعر...‏
نعم لقد خرّبَ الأمريكيون الفن عموماً بتخريب روح الحياة بمجملها عبر تكريس قيم البطش والقوة وأساليب النهب القذرة.. وبسعيهم الدؤوب عبر العولمة لتذويب أو تمييع الذي تبقى من معاني الثقافة الوطنية والفكر الإنساني وتسليع كل شيء.. كما تجهد السلطات دوماً بغية الحفاظ على امتيازاتها ومكاسبها لتوظيف الفن في خدمتها..‏
ولكن لو كانت الرأسمالية نظيفة إلى الحد الذي تكتفي فيه بإنجازاتها العملية والفكرية والتقنية التي قدمتها للإنسانية.. ولو كانت العولمة سعياً صادقاً لجعل العالم عائلة واحدة تسكن قرية واحدة وتحيا... متحابة.. متكاتفة.. متعاونة... متشاركة‏..
لو كانت السلطات.. كل السلطات منبثقة من ضمير الجموع ومن تطلعاتهم..‏
لو كانت كل هذه حوادث حقيقيةً في وجودنا البشري.. هل سيختلف اتجاه التطور الحاصل في مفاصل الحياة؟.. وهل سيأخذ العلم وتطبيقاتُه المعقدةُ مناحي جديدة غير التي نعرفها اليوم.. وهل سيختلف تأث ير كل هذا على فهم وأدوار ووظائف التعبير أدوات وأشكال وطاقات واتجاهات وحمولات...‏
أنا شخصياً أرى بأنه في عالم مشبع بالقيم النظيفة ستكون الحياة أجمل بلا أدنى شكل، ولكن مسار التطور لن يكون إلا هكذا.. أي أن الحياة لن تفرض انزياحات كبيرة ومختلفة في أشكال التعبير أو في وظائف المبدعين..
منذ سنوات طويلة لم أسمع أو أقرأ عن شاعر جلد أو طرد من وظيفة أو سجن لفترات طويلة بسبب قصيدة إلا في حالات قليلة تعود أسبابها إلى غير الشعر كماهية فنية..‏
أجل ربما قد يكون هذا قد حصل في زمان أبعد قليلاً بسبب وظيفة الشعر الخطيرة آنذاك أما اليوم فما هي وظيفة الشعر.. ومن يقرأ الشعر..؟‏
ليس واهماً فقط الشاعر الذي ما زال مقتنعاً بأنّ قصيدته ستقيم الدنيا ولا تقعدها. وإنَّ الجماهير تنتظر كلمةً منه أو من غيره لتخرج إلى الشوارع.. ليس هذا الشاعر واهماً فقط.. بل إنهُ مخادع كبير... فالشعر لم يعد بياناً سياسياً ولم يعد قادراً على حمل الشتائم والشعارات على ظهره.. الشعر شيء آخر.. شيء أراه جلياً بالنسبة لي.. شيء يسعى لتطوير الذائقة في إطار مشروع متواصل لإعمار الإنسان.‏
ثمة اتجاه أخير يمثله الشعراء والنقاد التقليديون وهم رغم كثرتهم الأقل اهتماماً ومشاركة في إيجاد الحلول لأزمة الشعر رغم مشاركتهم في قذف التهم يميناً وشمالاً وفي وجه الجميع .
أصحاب هذا الاتجاه يشعرون بنوع من الطمأنينة ولا يلتفتون كثيراً إلى قلق المجدّدين.. وهم مقتنعون بأنَّ ثقافة السلف قد أحاطت بكل شيء وأنها وصلت إلى درجة من الكمال والإحاطة والدراية بكل الأزمنة والحوادث والكائنات لذا فإنَّ نصيحتهم الذهبية دائماً هي الامتثالُ لقوانين هذه الثقافة والدورانُ في فلكها، فما ضياعُ هيبة الشعر اليوم وعزلتهِ (برأيهم) إلا لأنَّ الشعراء أفلتوا عروة الشعر الوثقى وخرّبوا مرافئ المعلّقات والمسمِّطات.. وثقّبوا قوارب الأوزان والقوافي.. وغادروا مياه العربية بما فيها من بيان وسحر وجزالة وديباجة ليسبحوا في مياه الثقافة الوافدة.. ولن أقف كثيراً عند أصحاب هذا الاتجاه لقناعتي بأنني قد أجبت عليه بشكل غير مباشر في الصفحات السابقة...‏
وعودة إلى بدء.. أرى من الضرورة توضيحَ فكرة الوهم التي أطلقناها منذ الأسطر الأول :
بداية أقول:
إننا لسنا الشعب الوحيد الذي يمتلك تاريخاً عريقاً وطويلاً وثرياً بالشعر.. غثه وسمينه.. وإذا ما كان اتصالنا بتراث الشعوب الأخرى قد جاء متأخراً إلا أننا ـ في الحقيقة ـ لم نكلف أنفسنا الوقوف عند هذا التراث في فترات حياتنا المجيدة والواثقة لتأمله ودراسته ومقارنته، ولتقييمه وإعطاءه حقه، فالشعر.. كأي ظاهرة ثقافية أخرى يجب أن ينسب إلى المجتمع ودرجة تطوره.. بمعنى أنَّ المجتمعات الراقية ستنتج بالضرورة (رغم فردانية الإبداع) أدوات تعبيرها الراقية ذات الحمولات الإنسانية الكبيرة.. ومن هذه الأدوات حتماً سيكون الشعر...‏
هكذا فعل الصينيون واليونانيون والفرسُ والهنودُ وغيرُهم.. وهكذا فعل العرب.. ورغم هذا مازلنا إلى اليوم، وبعد أن ظهروبان علينا الذي كان خافياً من إرث الشعوب الأخرى ، نصر على أننا الأمة الأكثر والأغزر شاعرية إن لم نقل الوحيدة!!‏
أليس هذا هو الوهم بعينه..؟‏
أليس هذا انتفاخاً في أرواحنا المريضة تسببت به رئات القدماء والمعاصرين استعلاء أو نقصاً على حد سواء.
والوهم يدخل إلينا من أبواب أخرى كإحساسنا بالاكتفاء غير مبالين بمستجدات العصر ومتغيرات الحياة.. فالشعر هذه الشعلة الإلهية التي سُرقت من أجلنا أو أهديت لنا وحدنا تكفينا لإضاءة أيامنا وأرواحنا إلى الأبد..!!‏
والوهم ليس إلا نتاج الخيبات الطويلة والدوران في الفراغ.. فراغِ الوجود... فراغِ الغد... فراغِ السياسة.. وفيه.. في هذا الدوران تخربطت أوضاعُنا واختل توازننا فأيقظنا الأخيلة المريضة بدلاً من ايفاظ الوجدان النقي للحياة.
اذا"..لابدَّ من تضحيات وإن كانت جساماً.. فالفلاح العربي، مثلاً، بقي حائراً واجماً، أمام المحراث الحديث، بقي طويلاً يراقب بأسىً محراثه القديم.. هذه القطعة العزيزة التي سقى فولاذها بدمه وعرقه وهوينسحب رويدا" رويدا"من تاريخ العمل وعلاقات الانتاج .
وبواقعية (فظّة بعض الشيء) أريد سحب هذا المثال على الشعر (المحراث القديم) الذي كان يعمل في أرض( البشرية) عقلاً وروحاً ووجداناً، لنرى أين المشكلة في قدوم محاريث جديدة (أشكال وأدوات تعبير) لحراثة أرض الإنسان..؟
أين المشكلة مادام المطلوب هو حراثة الإنسان الدائمة بغض النظر عن شكل المحراث؟.
لا مشكلة باعتقادي إذا ما حافظت الأدوات والأشكال الجديدة على تلك الروح الخاصة.. تلك الشاعرية.. تلك التي ندعوها بروح الفن.‏
ان مشكلتنا اليوم هي في فقرنا.. في عدم امتلاكنا لبدائل الشعر.. ذلك المحراث القديم..ذلك الذي كان يعمل في أرض البشرية 0
في كتابه (الميديلوجبا) وهو عبارة عن محاضرات في علم الإعلام العام يبيّن(ريجيس دوبريه ) بأنَّ التاريخ البشري قد مر بثلاث حقب أو محطات أساسية:‏
الحقبة الأولى كان مجالهُا الكلامُ وركيزتُها المخطوطةُ سمّاها بعصر الإنتاج الخطي.‏
الحقبة الثانية كان مجالها الخطُّ وركيزتُها الكتابة وسماها بعصر الكتابة...‏
الحقبة الثالثة وهي التي نعيشها اليوم ومجالها الإنتاجُ السمعيُ والبصريُ وركيزتُها السينما والتلفاز والكمبيوتر والإنترنت.. وفي هذه الحقبة انحنت الثقافة بفروعها وأجناسها للإعلام وصارت جزءاً من سلطة الصورة المهيمنة..‏
أليس حقيقياً إذاً هذا الفزع وهذا الرعب الذي ينتاب الكتّاب والناشرين جراء التهديدات الجديدة التي يتعرض لها و جودُ الكتابة نفسهُ.. بل وجودُ صناعة طويلة.. عريضة.. عريقة.. اسمها الوراقة..‏
هكذا تتهاوى الثقافةالتقليدية أشكالا" وأساليب وأدوات وأولويات 00
هكذا يتهاوى عصر التأمل..
وهكذا ينزاح الشعر والشاعر..
أجل.. لقد عُزل الشعر.. ولكن بالأيادي نفسها التي توجته ذات يوم..‏
بأيادي التاريخ.. وأيادي الحياة.‏
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...