تتبلّد عيناي الآن، كما تتلبّد سماء نفسي، تناغما مع هذا الجو الغائم الذي يَشي بمطر وشيك. وقفت أنتظر هنا قرب جدار المقبرة. بمحاذاة مكان تهدّمَ جزؤه العلوي، والباقي تتوزعه شقوق واسعة تسكنها مختلف الهوام والزواحف. أسراب نمل في كل الاتجاهات تشكل مجموعة خرائط، وكأنها تهيئ خططا لحرب مقبلة؛ فيما كائنات أخرى بأجنحة تطير وتلِج الثُّقوب الغائرة، ولا تلبث أن تخرج من حيث دخلت لا تلوي على شيء. هذه الثقوب مسامُّ الحائط العتيد، رئتاه التي يتنفس منهما أكسيجينا، من عصور خلت أيام فورة الشباب ومغازلة الحياة وثوقا، حين كان حارسا أمينا لا يشق له غبار، ومنارا يهتدي به الغرباء عن الديار ويلوذ به الغائبون. .
ولأدنى حركة، يتسرب منها خيط تراب رفيع إلى مستقره على الإسفلت؛ وسرعان ما تحيط به كتائب النمل. تتوسط هذا الشريط الحائطي، لوحة تشكيلية من جميع السوائل التي صارت بقعا بكل الألوان، يُوَقِّعُها بتجريد حاذقٍ ذَرْقُ العصافير على أشكالها. لوحة سيفشل في رسمها أشهر الرسامين وأمهرهم. أتنحى جانبا كيلا أؤذي مخلوقا عن غير قصد؛ ومن غير تفكير مسبق، يحتويني تأمل المشهد ككل.. أحاول أن ألوّح بالفكرة بعيدا، وأن أنشغل بشيء آخر، لكن عبثا.. تستحوذ عليّ وتتلبّسني .
اقتربت منه أكثر فزكمتني رائحة التاريخ الرطبة المنبعثة من طينه العطن، وددت لو مد لي يدا غير هشة، أشد عليها وأقول: شكرا لكل هذا الصمود في وجه الملمات.. لكن شممت عن قرب تدمّره من كل ما لحقه من إهمال إثر تركه لعاديات الزمن وللأجيال.. تستعمله كيفما اتفق، لمآربها الخاصة، وأجدني أسترق رغما عني همسه لنفسه:
-ماذا لو تركت ما اهترأ مني يسقط أرضا، وما يعلق بي حتى الآن من غير أن أحس أنه بعض مني، نكاية بهؤلاء القوم، وبمنظرهم العام، الذي يتشدقون به طيلة الوقت من غير طائل. ألقي بنفسي من كل هذا العلو إلى الناحية الداخلية، فسيستقبلني صف القبور الموالي لي، لأنه كلُّ ما لا أراه يتأخر في مؤازرتي.. وإن أردت ألاّ أُشْهر غضبي إلا بخسائر أكثر فداحة، فعدا عن انسحاق كل هذه الكائنات المُحتمية بي، فسأُردي صفّا من متسولين يستندون عليّ كل صباح .. لكن.. من سيغني لي كل صباح؟ من سيسعدني بتلك الترنيمة الدءوبة التي لم تتركني لوحدتي يوما؟
تتملكه الحيرة، فيخفت صوته قليلا، ولا تصلني غمغماته واحتجاجاته الغاضبة. ضاع الصوت وذهب أدراج الريح..
رذاذ المطر ينث الآن. وتسافر بي الذاكرة توا إلى صف المتسولين، أسمعهم كلما مررت من هذا الشارع الضيق الطويل، يرددون ميلوديا التسول البديعة، السارحة بالخيالات بعيدا والطافحة حزنا.. ولمَ لا؟ والمثيرة غيظا.. يعزفون نغمات مُتَرقِّقَةٍ ليذبحون بها ما تبقى للناس من أوتار الشفقة والعطف، يستدرّون المشاعر البائسة، وبضع دريهمات تسقط بصحون الأليمينيوم التي يضعونها أمامهم، لتُوقِّع فرحا لترنيمتهم الصباحية؛ وعلى ما يبدو، فالحياة لم تتكالب بالشكل الكافي على هذه الصحون كما تكالبت على هيئاتهم.. إذ قاومت الزمن وكل أنواع التردي.. ولم تنل منها الشيء الكثير.
وأنت تقترب أكثر، تظنهم كورالا يردد اللازمة نفسها بشكل منتظم لا تعزوه الدربة والانسجام .. ومهما تبتعد في طريقك .. ومهما تلغي بشكل انفعالي كل تفكير بتلك اللازمة .. ومهما تظن أنك قد نسيتها ونسيت معها الصور التي تحيل عليها، يفاجئك مخزون الذاكرة يوما، وتصعد إلى السطح لتقدم إليك نفسها في حلتها التاريخية الحية التي لا تموت..
عاد صوته يغازل سمعي ثانية:
-والقوم الآخرون الذين يستعرضون عضلاتهم على العالم، من استعطف ذمتهم ومن وقف على أعتابهم راجيا أن أصنف كمعلمة أثرية تاريخية؟ ألم يكفهم أن هذا البلد الأمين الآمن اختُزل إلى كارت بوستالات لإمتاع السياح من ذوي العاهات وأصحاب الدوالي والشذوذ الجنسي؟ يبتزون من شمسه وهوائه ما قد يستنزفهما؟ لا غرابة! فقد نصبح يوما على نفاد هواء وشمس .. ثم تصدر عنه قهقهات تهتز لها أرجاؤه، ثم يستمر: وكأني سور الصين العظيم ههههههه ...
ومن ثم يغيب الصوت مرة أخرى.. كنِثار حلم متسرب من كل مترسب في العمق لا اتساق فيه.. ثم تستمر القهقهات بدون انقطاع.. وينِزُّ دمي تحت جلدي كما ينز الجدار ببعض ما فيه..
أرمي بصري بعيدا صوب تلك الزاوية من الجدار، والتي يليها منعطف خفيف إلى اليسار، ينفتح توا على باب المقبرة، فتتبدّى القبور موزعة بانتظام على المساحة الممتدة خلف السور مباشرة وقد احتلمت بها الأرض منذ زمن بعيد، لتؤرخ لعشق فريد وللذة الاحتضان الأبدي، بلون أبيض وبقبر وشاهدة وبعشب ندي.. وكأن الجدار الآيل جزؤه المتبقي للسقوط، بمثابة خِدر العاشقة الشبقة الجبارة، تسكن إليه حين استقبال عشاقها واحدا تلو الآخر وفي أوقاتها الأكثر حميمية..
نسيت تدمري من بقائي هنا، وتمنيت لو أمدُّ في السويعات التي أتت بي إلى هذا المكان تحديدا، لانتظار صديق لم أره منذ مدة، حيث كان في نيتنا زيارة بعض المآثر التاريخية القريبة، وتوسلت أن يبثني الجدار كل ما يعتمل في دواخله.. فكم يلزمني من ساعات وأيام وشهور وسنين لذلك؟
وكم أحتاج من عمْر؟
وكم سيصمد وهو يلفح لهف سمعي بلهيبه؟
تحملني تخيلاتي بعيدا، تتوه بي، وتستحوذ على أفكاري هربا من وطء الانتظار.. ومن كل ما هو ساقط، ومن كل ما سيسقط، ومن كل ما سيؤول إليه السقوط بعد حين..
ليت كل هذا العويل بداخلي يدركه الصباح ويسقط عنه الكلام غير المباح..
آه .. ها هو ذا كرنفال آخر آتٍ من بعيد بعاشق آخر.. تحمله لوعة الاشتياق بعدما أضناه البعد عن معشوقته التي تتأهب في كامل حلتها وغنجها الآن، فاتحة ذراعيها لحضن دافئ جديد..
لسنا في حرب، لكن نقف سلاما وإجلالا لهذا العشق الأزلي الذي لا يعرف هدوءا ولا فتورا ..
كنت سأمضي في حال سبيلي، لكن العاشقة تستبقيني وتستدرجني.. لا لشيء هذه المرة، فوقت عناقنا لم يصل بعد، إنما لتُريَني كيف تهيئ لعشيقها فراشا ودثارا وبعض زهور وأكاليل ريحان وماء ورد.. وكيف تطبق عليه ذراعيها في ضمة أخيرة، وكيف تربت عليه بيديها لينام على صدرها بهدوء..
امتثلتُ لأمرها لأجل العشق المكين، وخرجت مع الخارجين من هذا الباب، ألقيت نظرة أخيرة على جدار سور مدينتي العتيقة، على خرائط النمل وعلى الثقوب..وعلى اللوحة الحائطية، ودموع حزن تغازل عينيّ.. ثم انصرفت والغيم يحذف وجهي بقطرات قاسية .
سعيدة عفيف
مراكش
ولأدنى حركة، يتسرب منها خيط تراب رفيع إلى مستقره على الإسفلت؛ وسرعان ما تحيط به كتائب النمل. تتوسط هذا الشريط الحائطي، لوحة تشكيلية من جميع السوائل التي صارت بقعا بكل الألوان، يُوَقِّعُها بتجريد حاذقٍ ذَرْقُ العصافير على أشكالها. لوحة سيفشل في رسمها أشهر الرسامين وأمهرهم. أتنحى جانبا كيلا أؤذي مخلوقا عن غير قصد؛ ومن غير تفكير مسبق، يحتويني تأمل المشهد ككل.. أحاول أن ألوّح بالفكرة بعيدا، وأن أنشغل بشيء آخر، لكن عبثا.. تستحوذ عليّ وتتلبّسني .
اقتربت منه أكثر فزكمتني رائحة التاريخ الرطبة المنبعثة من طينه العطن، وددت لو مد لي يدا غير هشة، أشد عليها وأقول: شكرا لكل هذا الصمود في وجه الملمات.. لكن شممت عن قرب تدمّره من كل ما لحقه من إهمال إثر تركه لعاديات الزمن وللأجيال.. تستعمله كيفما اتفق، لمآربها الخاصة، وأجدني أسترق رغما عني همسه لنفسه:
-ماذا لو تركت ما اهترأ مني يسقط أرضا، وما يعلق بي حتى الآن من غير أن أحس أنه بعض مني، نكاية بهؤلاء القوم، وبمنظرهم العام، الذي يتشدقون به طيلة الوقت من غير طائل. ألقي بنفسي من كل هذا العلو إلى الناحية الداخلية، فسيستقبلني صف القبور الموالي لي، لأنه كلُّ ما لا أراه يتأخر في مؤازرتي.. وإن أردت ألاّ أُشْهر غضبي إلا بخسائر أكثر فداحة، فعدا عن انسحاق كل هذه الكائنات المُحتمية بي، فسأُردي صفّا من متسولين يستندون عليّ كل صباح .. لكن.. من سيغني لي كل صباح؟ من سيسعدني بتلك الترنيمة الدءوبة التي لم تتركني لوحدتي يوما؟
تتملكه الحيرة، فيخفت صوته قليلا، ولا تصلني غمغماته واحتجاجاته الغاضبة. ضاع الصوت وذهب أدراج الريح..
رذاذ المطر ينث الآن. وتسافر بي الذاكرة توا إلى صف المتسولين، أسمعهم كلما مررت من هذا الشارع الضيق الطويل، يرددون ميلوديا التسول البديعة، السارحة بالخيالات بعيدا والطافحة حزنا.. ولمَ لا؟ والمثيرة غيظا.. يعزفون نغمات مُتَرقِّقَةٍ ليذبحون بها ما تبقى للناس من أوتار الشفقة والعطف، يستدرّون المشاعر البائسة، وبضع دريهمات تسقط بصحون الأليمينيوم التي يضعونها أمامهم، لتُوقِّع فرحا لترنيمتهم الصباحية؛ وعلى ما يبدو، فالحياة لم تتكالب بالشكل الكافي على هذه الصحون كما تكالبت على هيئاتهم.. إذ قاومت الزمن وكل أنواع التردي.. ولم تنل منها الشيء الكثير.
وأنت تقترب أكثر، تظنهم كورالا يردد اللازمة نفسها بشكل منتظم لا تعزوه الدربة والانسجام .. ومهما تبتعد في طريقك .. ومهما تلغي بشكل انفعالي كل تفكير بتلك اللازمة .. ومهما تظن أنك قد نسيتها ونسيت معها الصور التي تحيل عليها، يفاجئك مخزون الذاكرة يوما، وتصعد إلى السطح لتقدم إليك نفسها في حلتها التاريخية الحية التي لا تموت..
عاد صوته يغازل سمعي ثانية:
-والقوم الآخرون الذين يستعرضون عضلاتهم على العالم، من استعطف ذمتهم ومن وقف على أعتابهم راجيا أن أصنف كمعلمة أثرية تاريخية؟ ألم يكفهم أن هذا البلد الأمين الآمن اختُزل إلى كارت بوستالات لإمتاع السياح من ذوي العاهات وأصحاب الدوالي والشذوذ الجنسي؟ يبتزون من شمسه وهوائه ما قد يستنزفهما؟ لا غرابة! فقد نصبح يوما على نفاد هواء وشمس .. ثم تصدر عنه قهقهات تهتز لها أرجاؤه، ثم يستمر: وكأني سور الصين العظيم ههههههه ...
ومن ثم يغيب الصوت مرة أخرى.. كنِثار حلم متسرب من كل مترسب في العمق لا اتساق فيه.. ثم تستمر القهقهات بدون انقطاع.. وينِزُّ دمي تحت جلدي كما ينز الجدار ببعض ما فيه..
أرمي بصري بعيدا صوب تلك الزاوية من الجدار، والتي يليها منعطف خفيف إلى اليسار، ينفتح توا على باب المقبرة، فتتبدّى القبور موزعة بانتظام على المساحة الممتدة خلف السور مباشرة وقد احتلمت بها الأرض منذ زمن بعيد، لتؤرخ لعشق فريد وللذة الاحتضان الأبدي، بلون أبيض وبقبر وشاهدة وبعشب ندي.. وكأن الجدار الآيل جزؤه المتبقي للسقوط، بمثابة خِدر العاشقة الشبقة الجبارة، تسكن إليه حين استقبال عشاقها واحدا تلو الآخر وفي أوقاتها الأكثر حميمية..
نسيت تدمري من بقائي هنا، وتمنيت لو أمدُّ في السويعات التي أتت بي إلى هذا المكان تحديدا، لانتظار صديق لم أره منذ مدة، حيث كان في نيتنا زيارة بعض المآثر التاريخية القريبة، وتوسلت أن يبثني الجدار كل ما يعتمل في دواخله.. فكم يلزمني من ساعات وأيام وشهور وسنين لذلك؟
وكم أحتاج من عمْر؟
وكم سيصمد وهو يلفح لهف سمعي بلهيبه؟
تحملني تخيلاتي بعيدا، تتوه بي، وتستحوذ على أفكاري هربا من وطء الانتظار.. ومن كل ما هو ساقط، ومن كل ما سيسقط، ومن كل ما سيؤول إليه السقوط بعد حين..
ليت كل هذا العويل بداخلي يدركه الصباح ويسقط عنه الكلام غير المباح..
آه .. ها هو ذا كرنفال آخر آتٍ من بعيد بعاشق آخر.. تحمله لوعة الاشتياق بعدما أضناه البعد عن معشوقته التي تتأهب في كامل حلتها وغنجها الآن، فاتحة ذراعيها لحضن دافئ جديد..
لسنا في حرب، لكن نقف سلاما وإجلالا لهذا العشق الأزلي الذي لا يعرف هدوءا ولا فتورا ..
كنت سأمضي في حال سبيلي، لكن العاشقة تستبقيني وتستدرجني.. لا لشيء هذه المرة، فوقت عناقنا لم يصل بعد، إنما لتُريَني كيف تهيئ لعشيقها فراشا ودثارا وبعض زهور وأكاليل ريحان وماء ورد.. وكيف تطبق عليه ذراعيها في ضمة أخيرة، وكيف تربت عليه بيديها لينام على صدرها بهدوء..
امتثلتُ لأمرها لأجل العشق المكين، وخرجت مع الخارجين من هذا الباب، ألقيت نظرة أخيرة على جدار سور مدينتي العتيقة، على خرائط النمل وعلى الثقوب..وعلى اللوحة الحائطية، ودموع حزن تغازل عينيّ.. ثم انصرفت والغيم يحذف وجهي بقطرات قاسية .
سعيدة عفيف
مراكش