اسمها “وانجيرو”، إلا أنها تحب اسمها المسيحي “بياترس”، فوقعه أكثر سحراً وجمالاً. لم تكن جملية، ولا يمكن اعتبارها دميمة أيضاً. جسدها مصبوب، إلا أنه يفتقر إلى الروح. كانت تعمل في البارات؛ حيث يُغرق الناس أحزانهم في البيرة. لا يشعر بوجودها أحد إلا حين ينادي عليها صاحب البار أو زبون نفذ صبره: “بياترس”. يرفع الزبائن رؤوسهم ليروا صاحبة الاسم الجميل، ولا يجدون أحداً فيعودون إلى الكؤوس والنكات والضحكات الصاخبة والتحرش بالنادلات الأخريات.
هي طائر جُرح أثناء طيرانه، واضطر للهبوط أرضاً، ومع ذلك يتقافز من مكان لمكان. لذلك قد تراها في كل بارات مدينة “ليمورو”. أحياناً يرى صاحب البار أحدها لا تجذب الزبائن فيطردها دون أن يعطيها أجرها؛ فتقفز إلى البار التالي. وأحياناً تمل من العمل في مكان واحد؛ حيث تتكرر نفس المشاهد والمواقف. بعد موعد إغلاق البار، يتشاجر الزبائن على فتيات أقل منها جمالاً. تسأل نفسها وقد ضربها الإحباط: ماذا لديهن أكثر مني؟
تتخيل باراً بحجم مملكة، تكون هي أحد حكامه على الأقل، يقدم لها المُتملقون كؤوساً من البيرة، ويبتسمون لها ابتسامات إحباط، ويوجهون لها شتائم تنم عن شهوة وعشق، لا كراهية.
غادرت مدينة “ليمورو” لتجرب حظها في مدن مجاورة. عملت في “نجاراريجا”، و”كاميرثو”، و”ريروني”، وحتى في “تيكانو”، إلا أن الحال لم يتغير. قد تحظى بزبون من حين لآخر، إلا أن أحداً لا يهتم بها كما تتمنى، أو يرغبها لدرجة القتال من أجلها. لقد كان الزبون يختارها إن لم يجد غيرها، أو يختارها بعد الزجاجة الخامسة. وفي اليوم التالي، يتظاهر أنه لا يعرفها، ويحاول أن يُجرب سطوة نقوده مع فتيات لهن عدد كبير من المُعجبين.
كانت تشعر بالاستياء من هذا، وكانت ترى في كل فتاة خصماً لها، وتتعامل معهن بغضب. اعتبرت “نيجوثي”، على نحو خاص، شوكة مغروسة في جرحها المفتوح؛ لأنها متغطرسة وتحب العزلة، والرجال يحومون حولها رغم أنها تنهرهم. يقدمون لها الهدايا فتقبلها كأنها أحد حقوقها. تبدو “نيجوثي” قلقة وشاردة، ومع ذلك يتعلق بها الرجال، وكأنهم يستمتعون بكلماتها اللاذعة، وشفتيها المتماوجتين، وعينيها الشاردتين، وإحساسها بأنها حرة. “نيجوثي” طائر مُحلق، لا يقبل الاستقرار في مكان واحد، لأنها تتوق إلى التغيير والحياة المثيرة.. تبحث عن وجوه جديدة، عن أرض جديدة تحقق فيها انتصارات جديدة. تكرهها “بياترس”، تكره ظلها حتى، وترى فيها ما تمنت أن تكونه؛ فتاة منغمسة في عالم البارات والعنف والجنس، وفي ذات الوقت منفصلة عنه تماماً. ظل “نيجوثي” يُلاحق “بياترس” أينما ذهبت.
هربت من “ليمورو” إلى “إلموروج” في مقاطعة “شيري”. كانت “إلموروج” في الماضي قرية أشباح. إلا أن الحياة دبت فيها من جديد بفضل “نيانجيندو”؛ تلك المرأة الأسطورية التي تحترمها كل فرق البوب، ومن أجلها غنى المطرب والراقص الشاب “موثوو”: حين غادرت نيروبي متجهاً إلى “إلموروج”، لم أكن أعلم أن قبلي سيهوى الجميلة “نيانجيندو”.
أصبحت المدينة أملاً لمن سحقتهم الدنيا، فهناك يجدون ما يتوقون إليه. إلا أن “نيجوثي” تبعتها إلى هناك.
اكتشفت أن”إلموروج” لا تختلف عن “ليمورو”، رغم الأساطير والغناء والرقص. جربت العديد من الحيل، إلا أنها لم تكسب ما يكفي لشراء فستان براق. فما قيمة خمس وسبعين شلناً في الشهر بخلاف بدل السكن، ودون صديق ذو دخل ثابت؟ وفي تلك الأثناء، وصل كريم تفتيح البشرة “آمبي” إلى “ألموروج”، واعتقدت “بياترس” أن فيه الحل. ألم تعرف بنفسها فتيات لهن بشرة أكثر دكنة من بشرتها، تحولن من داعرات إلى نجمات لهن بشرة بيضاء بلمسة واحدة من كريمات تفتيح البشرة؟ يغمز لهن الرجال، ويتحدثون بفخر عن صديقاتهن البيضاوات. اعتقدت “بياترس” أن الرجال مخلوقات غريبة؛ يكرهون كريمات تفتيح البشرة والشعر المُستعار والشعر المفرود، ومع ذلك يذهبون إلى الفتيات اللاتي تستخدمن الكريمات وترتدين الشعر المُستعار ويُقلدن الأوروبيات والهنديات.
لم تحاول “بياترس” أن تجد سبب كراهية السود للون بشرتهم، وقبلت هذا التناقض ببساطة، واستخدمت كريم تفتيح البشرة؛ كان عليها أن تمحو عارها الأسود. ولكن لا يمكنها تحمل نفقات استخدام الكثير من الكريم؛ يمكنها دهان وجهها وذراعيها فقط، وتظل رقبتها وساقيها بلونهم الأسود. كما أن هناك مناطق لا تستطيع دهانها مثل خلف الأذن وفوق الجفون، وسوف تشعر بالعار والقلق من جسدها المدهون بكريم “آمبي”.
ستحتفظ بذكرى مرحلة “آمبي” كأكثر لحظات حياتها إذلالاً، قبل أن تعيش لحظات المجد بعد ذلك. عملت في بار وفندق “ضوء النجوم”. تقف “نيجوثي” خلف طاولة الحساب بالكثير من الأساور حول معصميها، وقرطين كبيرين يتدليان من أذنيها. كان صاحب البار طيب القلب، يذهب إلى الكنيسة بانتظام، ويتبرع للأعمال الخيرية. له كرش كبير وشعر أشيب وصوت ناعم، كما يعرفه الجميع في “إلموروج”، ومع ذلك يعمل بجد ولا يغادر المكان سوى وقت الإغلاق، أو بالأحرى حين تغادر “نيجوثي”. لم يكن يهتم بفتاة غيرها، يحوم حولها باستمرار، ويقدم لها الهدايا دون عرفان منها. وعود فقط، وأمل في الغد فقط. كان يعطي الفتيات الأخريات ثمانين شلناً في الشهر.
منح “نيجوثي” غرفة وحدها، وكانت تستيقظ وقتما تريد. الفتيات الأخريات يستيقظن في الخامسة صباحاً، ويصنعن الشاي للنزلاء ويقمن بتنظيف الأكواب والأواني قبل أن يتجهن إلى البار. يأخذن استراحة في الثانية ظهراً، ويعدن للعمل في الخامسة لاستقبال الزبائن. يُقدمن لهم البيرة والابتسامات بحماس حتى منتصف الليل.
وما كان يغضب “بياترس” كثيراً، رغم عدم أهميته بالنسبة لها، هو إصرار صاحب البار على نوم الفتيات في الفندق حتى لا يتأخرن على العمل في الصباح. كان يريد أجسادهن لجذب نزلاء جدد للفندق. أغلب الفتيات رفضن، وقدمن رشوة للحارس حتى يسمح لهن بالدخول والخروج ليقابلن زبائنهن أو أصدقائهن في أماكن أخرى يشعرن فيها بالحرية. كانت “بياترس” تنام في الفندق دائماً، فزبائنها العابرون يرغبون في إنفاق أقل قدر من المال. وذات ليلة، اقترب منها صاحب البار بعد أن رفضته “نيجوثي”، وبدأ يبحث عن أخطاء في عملها، ويوجه لها السباب، ثم بدأ يغازلها فجأة بطريقة فظة. جذبها بقوة، وحاول احتضانها. شعرت باشمئزاز من الرجل، لا يمكنها أن تقبل ما رفضته “نيجوثي” للتو. سألت نفسها: “ماذا لديها وليس لدى؟” أذل الرجل نفسه أمامها، ووعدها بالهدايا ومع ذلك لم تسلم نفسها له. خرقت القانون في تلك الليلة، وقفزت من النافذة. بحثت لنفسها عن سرير في فندق آخر، وعادت في السادسة صباحاً. نادى عليها صاحب البار وطردها أمام الجميع.
ظلت شهراً بلا عمل، وتنقلت من غرفة إلى أخرى تحت رحمة الفتيات الأخريات. لم ترغب في السفر إلى مدينة جديدة لتبدأ من جديد. الجرح مؤلم. كما سئمت من الترحال. توقفت عن استخدام كريم “آمبي”، فلم يعد لديها مال. نظرت في المرآة، تقدم بها العمر بعد عام واحد من طردها من النعمة. لديها رعب من العشاق ومقايضة جسدها بالمال صعب المنال. أرادت عملاً لائقاً ورجلاً يحنو عليها، أو ربما عدة رجال. ربما اصطحبت رغبتها في رجل ومنزل وأطفال معها إلى السرير، هذا التوق الذي يخيف الرجال الذين يريدون أشياء أخرى من عاملة في بار. بكت طوال الليل، وتذكرت موطنها. في تلك اللحظات، تبدو قرية أمها في “نيي”،أجمل بقعة فوق أرض الرب. كان بإمكانها العيش كأبويها الفلاحين، بأوهام رومانسية، وسلام وانسجام. راودها شوق إلى العودة لرؤيتهما، ولكن كيف ستعود بيدين فارغتين؟ في كل الأحوال، لم تعد القرية سوى مشهد بعيد في ذاكرتها.
حياتها أصبحت هنا، في البار، بين حشد من الغرباء التائهين، المطرودين من النعمة. لم تعد من الجيل إلي ينتمي إلى الأرض والمحاصيل والرياح والقمر. لم يعد من حقها الرقص وممارسة الجنس تحت ضوء القمر، حيث تعانق التلال السماء. تذكرت فتاة من قريتها، انتحرت رغم حياتها الرغدة في بيت رجل ثري. أصبح موت الفتاة نكتة، فقد قال الناس إن حياتها كانت متزنة وخالية من الألم. حاولت “بياترس” أن تعيش حياة متزنة، إلا أنها لم تستطيع.
كانت تريد الحب، كانت تريد الحياة.
تم افتتاح بار جديد في “إلموروج”، بار وفندق ومطعم، يحمل اسم “قمة الشجرة”. يتكون المبنى من طوابق متعددة. يوجد مقهى في الطابق الأرضي، وبار في الطابق الثاني، وبقية الغرف لنزلاء الخمس دقائق أو الليلة الواحدة. صاحب البار موظف متقاعد مازال يمارس السياسة. كان فاحش الثراء، ويمتلك العديد من المشروعات في كل مدن كينيا. جاء زبائن أثرياء إلى البار من جميع أنحاء البلاد. أثرياء في سيارات فارهة، يغفو فيها السائق من الملل.
يأتي آخرون ليسوا بنفس الثراء ليقدموا الاحترام للأثرياء. يتحدثون غالباً في السياسة، وحول أعمالهم، ويثرثرون عن من حصل على ترقية، ومن طُرد من عمله، ومن اختلس من أموال الدولة. كانوا يتناقشون ويتجادلون وأحياناً يتعاركون بالأيدي، خاصة وقت الحملات الانتخابية. الأمر الوحيد الذي اتفقوا بشأنه كان أن قبيلة “لو” هي سبب كل المشاكل في كينيا، وأن طلاب الجامعة والمثقفون يعيشون في أبراج عاجية، وأن العمال الأفارقة كسالى. وبخلاف ذلك، يمدح كل شخص ذاته، أو يشكو أحواله. وحين يستبد السكر بأحدهم، قد يطلب زجاجتي بيرة لكل شخص في البار. وحتى فقراء المدينة يأتون إلى البار طمعاً في مثل هذه الهبات التي يوزعها محدثو النعمة..
حصلت “بياترس” على وظيفة عاملة نظافة. شعرت لعدة أسابيع أنها تقترب من العظمة، إنها ترتب السرير لشخصيات كانت تسمع عنها فقط. كما راقبت طريقة الفقراء في التشبه بالأغنياء. ورأت الفتيات يتدفقن على البار الجديد، فتيات عرفتهن من قبل في “ليمورو”، وأغلبهن ارتبطن بواحد أو أكثر من الأثرياء، وأحياناً كن يتهربن من العشاق. وجاءت “نيجوثي” لتجلس خلف طاولة الحساب، تتعلق بها عيون الفقراء والأثرياء. وهي كما هي بعينيها الواسعتين، والأساور حول معصميها، والقرطان يتدليان من أذنيها، ونفس الملل والحياد. بينما “بياترس” عاملة نظافة، توارت عن الأنظار أكثر من ذي قبل، وأصبحت الفتيات اللاتي ابتسم لهن الحظ تحتقرنها.
حاربت الحياة بالأحلام. بين تغيير المفارش التي شهدت صراعات الخمس دقائق؛ والتي تنتهي غالباً بصرخة مكتومة، كانت تقف في النافذة، تتطلع إلى السيارات والسائقين، حتى عرفت صاحب كل سيارة وأرقام السيارات، وأزياء السائقين.
حلُمت بعشاق يأتون إليها في سيارات مرسيدس مكشوفة. ترى نفسها وهي تمسك يد عشيقها، وهما يسيران معاً في شوارع “نيروبي” و”مومباسا”، بخطوات رشيقة، ثم تتوقف فجأة أمام نافذة عرض، وتقول: “حبيبي، هل يمكن أن تشتري لي هذه، وهذه، وتلك؟ يسأل بغضب مصطنع: “تريدين شراء ماذا؟”، أريد شراء تلك الجوارب. تفكر في أنها لن تصلح جواربها الممزقة بعد الآن، ولن تقترض جوارب من أحد. لديها جوارب كثيرة، ولديها شعر مستعار بكل الألوان، شعر أصفر وأحمر وأسود، لديها كل أنواع الشعر المستعار في العالم، يتغنى العالم بجمال “بياترس” المتفردة في مثل تلك اللحظات، تشعر بالبهجة إلى حد الطيران عن الأرض في مثل تلك اللحظات، لا تصير خادمة تغير مفارش الأسرة لعشق يدوم خمس دقائق، في مثل تلك اللحظات، بل “بياترس” سليلة “وانجو ماكيري”، التي تجعل الرجال يرتجفون من الرغبة عندما يرون جسدها العاري وهي تستحم في ضوء القمر. “بياترس”، ابنة “نيانجيندو”، مؤسسة المدينة والقادرة على إنهاك عدة رجال.
ثم رأته في الحقيقة، كان يختلف تماماً عن عشيقها في الأحلام. جاء يوم سبت يقود شاحنة كبيرة، ركنها بحرص إلى جوار السيارات الفارهة. كان يرتدي سترة رمادية واسعة، فوقها معطف عسكري ثقيل. خلع المعطف وطواه بحرص، ثم وضعه على المقعد الأمامي. أغلق باب السيارة، ونفض الغبار عن سترته ودار حول الشاحنة ليتفحصها. ألقى عليها نظرة أخيرة وهو في طريقه إلى البار. جلس في أحد الأركان وطلب زجاجة “كينا” بصوت مرتفع، وشربها في جرعة واحدة، نظر حوله بحثاً عن شخص يعرفه. وبالفعل تعرف على أحد الأثرياء، وطلب له نصف زجاجة خمر غالية. تم قبولها بهزة رأس وابتسامة مُتعالية، وحين حاول أن يتبع كرمه بحوار تم تجاهله بحزم.
تجمد مكانه، وغرق في كأس المارتيني لبعض الوقت. حاول من جديد، فواجه تجهماً. كانت محاولات انضمامه إليهم تثير الرثاء، كان يضحك على النكات بصوت مرتفع، فيتوقف الأثرياء عن الضحك ليتركوه يضحك وحده. وفي المساء، نهض وأخرج عدة مئات من الشلنات وقدمها إلى “نيجوثي” خلف منضدة الحساب، بافتعال. تهامس الناس، وضحك بعضهم، وتأثر البعض بما فعل، إلا أن هذا لم يكسبه اعترافاً من الأثرياء. ترنح باتجاه الغرفة رقم سبعة، التي استأجرها. ناولته “بياترس” المفاتيح. ألقى عليها نظرة عابرة، ثم فقد اهتمامه بها.
أصبح يأتي كل سبت في الخامسة، حين يكون الأثرياء قد حضروا بالفعل، ويكرر نفس الطقوس عدا التظاهر عند دفع الحساب. وفي كل مرة يتلقى نفس الهزيمة. كان يجلس في نفس الركن، ويستأجر الغرفة رقم سبعة. بدأت “بياترس” تنتظر حضوره، فبعد أن يتعرض للإذلال على يد الأثرياء، كان يستبقيها ويتحدث إليها، أو يتحدث لنفسه في وجودها. كانت حياته صعبة، لم يذهب إلى مدرسة ومع ذلك كان طموحه الحصول على بعض التعليم. كان والده مالك أرض في المنطقة التي يستقر فيها الأوروبيون، وكان هذا شأن عظيم أيام الاستعمار، لكنه كان يعني أيضاً أن يكدح الرجل وأولاده في خدمة الأسياد الأوروبيون وأولادهم.
انضم إلى المُناضلين من أجل الحرية، وتعرض للاعتقال، وخرج من المُعتقل كما ولدته أمه. لا يملك شيئاً. وبعد التحرير، لم يكن لديه تعليم يؤهله لمكانة لائقة بين الكبار. كافح حتى أصبح سائقاً ينقل الخضراوات من الريف إلى “نيروبي”، وكان فخوراً بما حقق من إنجاز، إلا أنه يشعر بالاستياء لأن من أصبحوا أثرياء بفضل القروض والتعليم المجاني، لا يقدرونه حق قدره. تحدث عن الفرص التي سيتيحها لأولاده، ثم عد نقوده بحرص ووضعها تحت الوسادة، وطلب من “بياترس” أن تنصرف. كان يعتبر النساء على التهام أموال الرجال، رغم أنه لم يتزوج بعد.
ضاجعها ذات ليلة. وفي الصباح، أعطاها عشرين شلناً. قبلت المال وهي تحس بالذنب. كرر ما فعل عدة أسابيع. لم ترفض المال، فهو مفيد. إلا أنه كان يدفع لها كما يدفع ليحصل على كيلو بطاطس. إنه يدفع ليشتري إنصاتها له ولشكواه من الأثرياء. بمرور الوقت ملت ذاته المُتضخمة، وأحست أن بداخله نار موقدة، أو بذرة، أو زهرة تختنق. ورأت فيه ضحية مثلها، وأصبحت تنتظر زيارته بلهفة، وتتوق إلى شخص تتحدث إليه، شخص يفهمها.
فعلت هذا ذات ليلة، قاطعت قصة صعوبة وصوله إلى القمة فجأة. لم تعرف لماذا قاطعته، ربما كان السبب صوت انهمار المطر على حديد النافذة، وما سببه من حياد دافئ. قد يستمع إليها، عليه أن يستمع إليها. جاءت من قرية “كاراتينا”، قتل الجنود البريطانيون أخويها بالرصاص، ومات أخوها الثالث في المُعتقل. لقد كانت طفلة وحيدة لأبوين فقيرين، إلا أنهما كانا يكدحان حتى يدبران لها مصاريف المدرسة الابتدائية. اجتهدت في السنوات الست الأولى، ولم تحصل في السنة السابعة على درجة جيدة. وبالطبع تعرف زميلات حصلن على نفس الدرجة، والتحقن بمدارس ثانوية حكومية جيدة. وتعرف زميلات حصلن على درجات أقل، والتحقن بأفضل المدارس بفضل نفوذ عائلاتهن. لم تجد لها مكاناً في مدرسة بمصاريف رخيصة، فبقيت في المنزل مع أبويها، تساعد في الأعمال المنزلية.
ولكن تخيل: لقد عاشت لست سنوات مع أبويها بمنطق مختلف عن منطقهما. حياة الريف مملة. بدأت تبحث عن عمل في القرية، وفي مدينة “نيري”. كانوا يسألون نفس الأسئلة: أي عمل تريدين؟ ما هي خبرتك؟ هل تجيدين الكتابة على الآلة الكاتبة؟ هل تعرفين طريقة الاختزال في الكتابة؟ أصابها الإحباط. وحدث أن كانت تشرب “فانتا” في أحد المحال في “نيري”، والدموع تسيل من عينيها، حين التقت شاباً يرتدي سُترة ويضع على عينيه نظارة شمسية. لاحظ أنها في محنة فتحدث إليها: هل تبحثين عن عمل؟ إنه أمر بسيط. فرص العمل كثيرة في المدن الكبيرة. كان يود مساعدتها بالطبع. كيف تذهب؟ لديه سيارة “بيجو” بيضاء. الجنة. رحلة رائعة بالسيارة، وعود معسولة. نيروبي. توقف بالسيارة أمام بار “تيراس”. شربا بيرة وتحدثا عن نيروبي. ترى عبر النافذة أضواء النيون، وتعرف أن هناك أمل في هذه المدينة. سلمت نفسها له في تلك الليلة، بسبب وعوده المعسولة.
نامت بعمق في تلك الليلة، ولم تجده في الصباح، ولم تقابله مرة أخرى. وهكذا بدأت حياتها كعاملة بار. ولم تقابل أبويها منذ عام ونصف. بدأت “بياترس” تنتحب، وتبكي حالها. تعرضها للإذلال وترحالها الدائم مازالا ماثلين في مخيلتها. لم تنسجم مع أجواء البارات، واعتقدت أنها ستصادف شيئاً أفضل، إلا أنها وقعت في فخ، فهي لا تعرف غير هذه الحياة، رغم أنها لا تعرف كل قوانينها وأعرافها. أخذت تتنفس بصعوبة، والدموع تنهمر، ثم تجمدت فجأة، كان الرجل قد غطى نفسه ونام منذ وقت طويل، ويغط الآن في النوم بشكل واضح.
شعرت بفراغ غريب، ومرارة متراكمة تنشطر بداخلها. أرادت أن تبكي فشلها الجديد. لقد قابلت العديد من الرجال الذين عاملوها بقسوة أو سخروا منها، لما اعتبروه محاولة مكشوفة لادعاء البراءة. تقبلت تلك المهانة من قبل، ولكن ليس بهذه الطريقة، ليس بهذه الطريقة يا إلهي. ألم يكن هذا الرجل ضحية مثلها؟ ألا يُفضي أليها بألمه كل سبت؟ لقد دفع لها مقابل خدماتها الإنسانية، كما دفع لها ثمن قضاء الليل معها.
دفعها نومه الهادئ إلى الجنون. انفجر بداخلها شيء على نحو مفاجئ. توجه كل الغضب والإذلال الذي تعرضت له طوال عام ونصف ضد هذا الرجل. وما قامت به بعد ذلك، اتسم بدقة اليد الخبيرة.
لمست عينيه. كان في سبات عميق. رفعت رأسه، وتركتها تسقط. عيناها باردان، ثابتتان، وبلا دموع. سحبت الوسادة من تحته وفتشتها، وأخذت النقود ووضعتها في حمالة صدرها.
خرجت من الغرفة رقم سبعة. المطر ما زال ينهمر في الخارج. لم ترغب في العودة إلى مكانها. لن تحتمل ضيق الغرفة أو ثرثرة زميلتها. سارت في المطر والطين حتى وصلت إلى غرفة “نيجوثي”؛ وطرقت الباب، ولم تسمع رداً في البداية، ثم سمعت صوت “نيجوثي” النائم يعلو على صوت زخات المطر.
من الطارق؟
أنا، افتحي من فضلك.
من؟
بياترس
في مثل هذه الساعة من الليل؟
من فضلك.
أضاءت النور، وأزاحت المزلاج، وفتحت الباب. دخلت “بياترس”. وقفت أمام “نيجوثي”، التي كانت ترتدي قميص نوم شفاف، ووضعت معطفاً على كتفيها.
سألتها في النهاية بصوت تعلوه نبرة قلق: “هل هناك مشكلة يا بياترس؟”. قالت “بياترس” بصوت واثق: “هل يمكن أن أستريح لديك لبعض الوقت؟ أنا متعبة، وأود التحدث أليكِ”.
“ولكن، ماذا حدث؟”
“أود أن أوجه إليك سؤلاً، يا نيجوثي”.
كانتا تقفان حتى تلك اللحظة، ثم جلستا معاً على السرير.
سألتها “بياترس”: “لماذا تركت منزلك يا نيجوثي؟”. ساد الصمت مرة أخرى، يبدو أن “بيجوثي” كانت تفكر في السؤال، بينما “بياترس” تنتظر الإجابة. خرج صوت “نيجوثي” مرتبكاً: إنها قصة طويلة. كان أبي وأمي ثريان، وملتزمان دينياً. كنا نعيش وفق أعراف محددة، لا ينبغي التحدث مع الوثنيين، لا يجب ارتداء نفس ملابسهم، لا يجب الرقص. هناك قوانين وقواعد تحدد متى وأين وكيف تأكلين. عليك المشي كامرأة مسيحية، ولا يجب أن يراكِ أحد مع الأولاد. قواعد وقوانين، لكل شيء. وذات يوم، بدلاً من العودة من المدرسة إلى المنزل، هربت أنا وفتاة لها نفس ظروفي. لم أعد إلى المنزل منذ أربعة أعوام. هذه هي الحكاية.
صمت جديد. نظرت كل واحدة إلى الأخرى بتفهم.
“سؤال آخر يا نيجوثي، يمكن ألا تجيبي عليه. أظن دائماَ أنك تكرهينني وتحتقرينني”.
“لا يا بياترس، لا. لم أكرهك أبداً. لم أكره أحداً على الإطلاق. سبب هذا أنني لا أهتم بشيء. حتى الرجال لا يثيرون اهتمامي. ومع ذلك، أحتاج إلى الإثارة والاستمتاع دوماً. أريد اهتمام تلك العيون المتملقة كي أشعر بذاتي، ذاتي. أما أنت، أنت في نظري أكبر من هذا.. لديك شيء ليس لدي.
حاولت “بياترس” أن تحبس دموع عينيها بصعوبة.
في الصباح الباكر، استقلت حافلة متجهة إلى “نيروبي”. تمشت في شارع “بازار” بحثاً عن المحال التجارية، ثم دخلت شارع “الحكومة”، وميدان “كينياتا”، وشارع “كيماثي”. دخلت أحد المحال بقرب شارع “حسين سليماني”، واشترت منه عدة جوارب، وارتدت واحداً منها. اشترت فستاناً بعد ذلك، وارتدته بدل القديم.
دخلت محل “باتا” واشترت حذاءً بكعب عالٍ، لبسته وألقت بالقديم في القمامة. اشترت لنفسها قرطاً واتجهت نحو مرآة لترى شكلها الجديد. شعرت بالجوع فجأة، كأنها لم تأكل طوال حياتها. ترددت في دخول مطعم فخم، تمشت قليلاً ثم دخلت مطعم “فرانزي”. في عينيها وميض شد عيون الرجال إليها. اختارت طاولة عند الزاوية وطلبت كاري هندي. ترك رجل طاولته واتجه إليها. نظرت إليه وفي عينيها سعادة. كان يرتدي سترة سوداء والرغبة تطل من عينيه. طلب لها مشروباً، وحاول أن يفتح معها حواراً، إلا أنها تناولت الطعام في صمت. مد يده أسفل المنضدة وتحسس ركبتها. تركته يفعل ذلك. صعدت اليد إلى أعلى فوق فخذها.
نهضت فجأة وتركت بقية الطعام والمشروب وخرجت من المطعم. تبعها. عرفت ذلك دون أن تستدير لتلقي نظرة. سار إلى جوارها عدة خطوات. ابتسمت لنفسها ولم تنظر إليه. بدأ يفقد ثقته في نفسه. تركته يحدق في نافذة عرض أحد المحال. في الحافلة المتجهة إلى “ألموروج”، تخلى لها الرجال عن مقاعدهم، فجلست في المقعد الذي يناسبها.
حين وصلت إلى البار، اتجهت نحو طاولة الحساب مباشرة. كان حشد الأثرياء هناك. توقف الحديث بينهم لحظة دخولها. تبعتها عيونهم الشهوانية. الفتيات حملقن فيها. حتى “نيجوثي” تخلت عن حيادها. اشترت لهن “بياترس” مشروبات. تقدم المدير منها بحذر، وأراد أن يفتح معها حواراً. لماذا تركت العمل؟ وأين كانت؟ وهل يمكن أن تعمل في البار من جديد، تساعد “نيجوثي” من حين لآخر؟. أحضرت إحدى عاملات البار ورقة لها. أحد الأثرياء يريد أن يعرف إن كان لها أن تجلس إلى طاولته. وصلتها أوراق كثيرة تحمل سؤلاً واحداً: هل هي غير مشغولة الليلة؟
رحلة إلى “نيروبي” فعلت كل هذا. لم تغادر مكانها، ولكنها قبلت هداياهم من المشروبات كحق لها. شعرت بسلطة جديدة، وثقة في النفس. أخرجت شلناً، ووضعته في صندوق الموسيقى، فانطلق صوت “روبنسون موانجي” وهو يغني. كان يغني عن الفتيات الريفيات اللاتي تحتقرهن فتيات المدينة. كان الرجال يرغبون في الرقص معها، إلا أنها تجاهلتهم رغم استمتاعها بوجودهم حولها. كان جسدها حراً. كانت حرة. ركلت التوتر والقلق.
وفجأة، اقتحم الرجل صاحب الشاحنة البار قرابة الساعة السادسة. في هذه المرة يرتدي معطفه العسكري، وخلفه ضابط شرطة. تلفت حوله، والعيون كلها تنظر نحوه. استمرت “بياترس” تهز خاصرتها. في البداية لم يعرف أن “بياترس” هي الفتاة التي تقف إلى جوار صندوق الموسيقى، وتحتفل بلحظات مجدها القصيرة. صاح وكأنه انتصر: “ها هي الفتاة! اللصة! اللصة!”.
تراجع الناس في مقاعدهم، واتجه الشرطي نحوها. وضع القيود في يديها دون أن تقاوم. وقبل أن تخرج من الباب، استدارت وبصقت، ثم خرجت وخلفها الشرطي.
تحول الصمت التام في البار إلى ضحك صاخب حين ألقى أحدهم نكتة عن السرقة الحلوة دون عنف. تناقشوا في أمرها. قال أحدهم: “كان لا بد من ضربها”، وتحدث الآخرون عن طبيعة “فتيات البارات”، لكن غيرهم تحدثوا بقلق، كشفته حركات رؤوسهم غير المصدقة، عن ارتفاع معدلات الجريمة. أضاف آخر: “ألا يمتد حكم الإعدام على جرائم السرقة؟”. ودون أن يشعر الجميع، تحول الرجل صاحب الشاحنة إلى بطل. أحاطوه بالأسئلة، وطلبوا منه سرد تفاصيل القصة. اشترى له البعض مشروبات. استمعوا إليه بإنصات يتخلله الضحك. الخوف على ممتلكاتهم حوّلهم مؤقتًا إلى عائلة واحدة. وقبلوا الرجل بينهم للمرة الأولى، فسرد عليهم القصة باستمتاع. وحدها “نيجوثي” كانت تجلس خلف الطاولة الحساب، وتبكي.
https://sadazakera.wordpress.com/2019/02/23/لحظات-المجد-قصة-نغوجي-واثينجو-كينيا-ت/#more-991
هي طائر جُرح أثناء طيرانه، واضطر للهبوط أرضاً، ومع ذلك يتقافز من مكان لمكان. لذلك قد تراها في كل بارات مدينة “ليمورو”. أحياناً يرى صاحب البار أحدها لا تجذب الزبائن فيطردها دون أن يعطيها أجرها؛ فتقفز إلى البار التالي. وأحياناً تمل من العمل في مكان واحد؛ حيث تتكرر نفس المشاهد والمواقف. بعد موعد إغلاق البار، يتشاجر الزبائن على فتيات أقل منها جمالاً. تسأل نفسها وقد ضربها الإحباط: ماذا لديهن أكثر مني؟
تتخيل باراً بحجم مملكة، تكون هي أحد حكامه على الأقل، يقدم لها المُتملقون كؤوساً من البيرة، ويبتسمون لها ابتسامات إحباط، ويوجهون لها شتائم تنم عن شهوة وعشق، لا كراهية.
غادرت مدينة “ليمورو” لتجرب حظها في مدن مجاورة. عملت في “نجاراريجا”، و”كاميرثو”، و”ريروني”، وحتى في “تيكانو”، إلا أن الحال لم يتغير. قد تحظى بزبون من حين لآخر، إلا أن أحداً لا يهتم بها كما تتمنى، أو يرغبها لدرجة القتال من أجلها. لقد كان الزبون يختارها إن لم يجد غيرها، أو يختارها بعد الزجاجة الخامسة. وفي اليوم التالي، يتظاهر أنه لا يعرفها، ويحاول أن يُجرب سطوة نقوده مع فتيات لهن عدد كبير من المُعجبين.
كانت تشعر بالاستياء من هذا، وكانت ترى في كل فتاة خصماً لها، وتتعامل معهن بغضب. اعتبرت “نيجوثي”، على نحو خاص، شوكة مغروسة في جرحها المفتوح؛ لأنها متغطرسة وتحب العزلة، والرجال يحومون حولها رغم أنها تنهرهم. يقدمون لها الهدايا فتقبلها كأنها أحد حقوقها. تبدو “نيجوثي” قلقة وشاردة، ومع ذلك يتعلق بها الرجال، وكأنهم يستمتعون بكلماتها اللاذعة، وشفتيها المتماوجتين، وعينيها الشاردتين، وإحساسها بأنها حرة. “نيجوثي” طائر مُحلق، لا يقبل الاستقرار في مكان واحد، لأنها تتوق إلى التغيير والحياة المثيرة.. تبحث عن وجوه جديدة، عن أرض جديدة تحقق فيها انتصارات جديدة. تكرهها “بياترس”، تكره ظلها حتى، وترى فيها ما تمنت أن تكونه؛ فتاة منغمسة في عالم البارات والعنف والجنس، وفي ذات الوقت منفصلة عنه تماماً. ظل “نيجوثي” يُلاحق “بياترس” أينما ذهبت.
هربت من “ليمورو” إلى “إلموروج” في مقاطعة “شيري”. كانت “إلموروج” في الماضي قرية أشباح. إلا أن الحياة دبت فيها من جديد بفضل “نيانجيندو”؛ تلك المرأة الأسطورية التي تحترمها كل فرق البوب، ومن أجلها غنى المطرب والراقص الشاب “موثوو”: حين غادرت نيروبي متجهاً إلى “إلموروج”، لم أكن أعلم أن قبلي سيهوى الجميلة “نيانجيندو”.
أصبحت المدينة أملاً لمن سحقتهم الدنيا، فهناك يجدون ما يتوقون إليه. إلا أن “نيجوثي” تبعتها إلى هناك.
اكتشفت أن”إلموروج” لا تختلف عن “ليمورو”، رغم الأساطير والغناء والرقص. جربت العديد من الحيل، إلا أنها لم تكسب ما يكفي لشراء فستان براق. فما قيمة خمس وسبعين شلناً في الشهر بخلاف بدل السكن، ودون صديق ذو دخل ثابت؟ وفي تلك الأثناء، وصل كريم تفتيح البشرة “آمبي” إلى “ألموروج”، واعتقدت “بياترس” أن فيه الحل. ألم تعرف بنفسها فتيات لهن بشرة أكثر دكنة من بشرتها، تحولن من داعرات إلى نجمات لهن بشرة بيضاء بلمسة واحدة من كريمات تفتيح البشرة؟ يغمز لهن الرجال، ويتحدثون بفخر عن صديقاتهن البيضاوات. اعتقدت “بياترس” أن الرجال مخلوقات غريبة؛ يكرهون كريمات تفتيح البشرة والشعر المُستعار والشعر المفرود، ومع ذلك يذهبون إلى الفتيات اللاتي تستخدمن الكريمات وترتدين الشعر المُستعار ويُقلدن الأوروبيات والهنديات.
لم تحاول “بياترس” أن تجد سبب كراهية السود للون بشرتهم، وقبلت هذا التناقض ببساطة، واستخدمت كريم تفتيح البشرة؛ كان عليها أن تمحو عارها الأسود. ولكن لا يمكنها تحمل نفقات استخدام الكثير من الكريم؛ يمكنها دهان وجهها وذراعيها فقط، وتظل رقبتها وساقيها بلونهم الأسود. كما أن هناك مناطق لا تستطيع دهانها مثل خلف الأذن وفوق الجفون، وسوف تشعر بالعار والقلق من جسدها المدهون بكريم “آمبي”.
ستحتفظ بذكرى مرحلة “آمبي” كأكثر لحظات حياتها إذلالاً، قبل أن تعيش لحظات المجد بعد ذلك. عملت في بار وفندق “ضوء النجوم”. تقف “نيجوثي” خلف طاولة الحساب بالكثير من الأساور حول معصميها، وقرطين كبيرين يتدليان من أذنيها. كان صاحب البار طيب القلب، يذهب إلى الكنيسة بانتظام، ويتبرع للأعمال الخيرية. له كرش كبير وشعر أشيب وصوت ناعم، كما يعرفه الجميع في “إلموروج”، ومع ذلك يعمل بجد ولا يغادر المكان سوى وقت الإغلاق، أو بالأحرى حين تغادر “نيجوثي”. لم يكن يهتم بفتاة غيرها، يحوم حولها باستمرار، ويقدم لها الهدايا دون عرفان منها. وعود فقط، وأمل في الغد فقط. كان يعطي الفتيات الأخريات ثمانين شلناً في الشهر.
منح “نيجوثي” غرفة وحدها، وكانت تستيقظ وقتما تريد. الفتيات الأخريات يستيقظن في الخامسة صباحاً، ويصنعن الشاي للنزلاء ويقمن بتنظيف الأكواب والأواني قبل أن يتجهن إلى البار. يأخذن استراحة في الثانية ظهراً، ويعدن للعمل في الخامسة لاستقبال الزبائن. يُقدمن لهم البيرة والابتسامات بحماس حتى منتصف الليل.
وما كان يغضب “بياترس” كثيراً، رغم عدم أهميته بالنسبة لها، هو إصرار صاحب البار على نوم الفتيات في الفندق حتى لا يتأخرن على العمل في الصباح. كان يريد أجسادهن لجذب نزلاء جدد للفندق. أغلب الفتيات رفضن، وقدمن رشوة للحارس حتى يسمح لهن بالدخول والخروج ليقابلن زبائنهن أو أصدقائهن في أماكن أخرى يشعرن فيها بالحرية. كانت “بياترس” تنام في الفندق دائماً، فزبائنها العابرون يرغبون في إنفاق أقل قدر من المال. وذات ليلة، اقترب منها صاحب البار بعد أن رفضته “نيجوثي”، وبدأ يبحث عن أخطاء في عملها، ويوجه لها السباب، ثم بدأ يغازلها فجأة بطريقة فظة. جذبها بقوة، وحاول احتضانها. شعرت باشمئزاز من الرجل، لا يمكنها أن تقبل ما رفضته “نيجوثي” للتو. سألت نفسها: “ماذا لديها وليس لدى؟” أذل الرجل نفسه أمامها، ووعدها بالهدايا ومع ذلك لم تسلم نفسها له. خرقت القانون في تلك الليلة، وقفزت من النافذة. بحثت لنفسها عن سرير في فندق آخر، وعادت في السادسة صباحاً. نادى عليها صاحب البار وطردها أمام الجميع.
ظلت شهراً بلا عمل، وتنقلت من غرفة إلى أخرى تحت رحمة الفتيات الأخريات. لم ترغب في السفر إلى مدينة جديدة لتبدأ من جديد. الجرح مؤلم. كما سئمت من الترحال. توقفت عن استخدام كريم “آمبي”، فلم يعد لديها مال. نظرت في المرآة، تقدم بها العمر بعد عام واحد من طردها من النعمة. لديها رعب من العشاق ومقايضة جسدها بالمال صعب المنال. أرادت عملاً لائقاً ورجلاً يحنو عليها، أو ربما عدة رجال. ربما اصطحبت رغبتها في رجل ومنزل وأطفال معها إلى السرير، هذا التوق الذي يخيف الرجال الذين يريدون أشياء أخرى من عاملة في بار. بكت طوال الليل، وتذكرت موطنها. في تلك اللحظات، تبدو قرية أمها في “نيي”،أجمل بقعة فوق أرض الرب. كان بإمكانها العيش كأبويها الفلاحين، بأوهام رومانسية، وسلام وانسجام. راودها شوق إلى العودة لرؤيتهما، ولكن كيف ستعود بيدين فارغتين؟ في كل الأحوال، لم تعد القرية سوى مشهد بعيد في ذاكرتها.
حياتها أصبحت هنا، في البار، بين حشد من الغرباء التائهين، المطرودين من النعمة. لم تعد من الجيل إلي ينتمي إلى الأرض والمحاصيل والرياح والقمر. لم يعد من حقها الرقص وممارسة الجنس تحت ضوء القمر، حيث تعانق التلال السماء. تذكرت فتاة من قريتها، انتحرت رغم حياتها الرغدة في بيت رجل ثري. أصبح موت الفتاة نكتة، فقد قال الناس إن حياتها كانت متزنة وخالية من الألم. حاولت “بياترس” أن تعيش حياة متزنة، إلا أنها لم تستطيع.
كانت تريد الحب، كانت تريد الحياة.
تم افتتاح بار جديد في “إلموروج”، بار وفندق ومطعم، يحمل اسم “قمة الشجرة”. يتكون المبنى من طوابق متعددة. يوجد مقهى في الطابق الأرضي، وبار في الطابق الثاني، وبقية الغرف لنزلاء الخمس دقائق أو الليلة الواحدة. صاحب البار موظف متقاعد مازال يمارس السياسة. كان فاحش الثراء، ويمتلك العديد من المشروعات في كل مدن كينيا. جاء زبائن أثرياء إلى البار من جميع أنحاء البلاد. أثرياء في سيارات فارهة، يغفو فيها السائق من الملل.
يأتي آخرون ليسوا بنفس الثراء ليقدموا الاحترام للأثرياء. يتحدثون غالباً في السياسة، وحول أعمالهم، ويثرثرون عن من حصل على ترقية، ومن طُرد من عمله، ومن اختلس من أموال الدولة. كانوا يتناقشون ويتجادلون وأحياناً يتعاركون بالأيدي، خاصة وقت الحملات الانتخابية. الأمر الوحيد الذي اتفقوا بشأنه كان أن قبيلة “لو” هي سبب كل المشاكل في كينيا، وأن طلاب الجامعة والمثقفون يعيشون في أبراج عاجية، وأن العمال الأفارقة كسالى. وبخلاف ذلك، يمدح كل شخص ذاته، أو يشكو أحواله. وحين يستبد السكر بأحدهم، قد يطلب زجاجتي بيرة لكل شخص في البار. وحتى فقراء المدينة يأتون إلى البار طمعاً في مثل هذه الهبات التي يوزعها محدثو النعمة..
حصلت “بياترس” على وظيفة عاملة نظافة. شعرت لعدة أسابيع أنها تقترب من العظمة، إنها ترتب السرير لشخصيات كانت تسمع عنها فقط. كما راقبت طريقة الفقراء في التشبه بالأغنياء. ورأت الفتيات يتدفقن على البار الجديد، فتيات عرفتهن من قبل في “ليمورو”، وأغلبهن ارتبطن بواحد أو أكثر من الأثرياء، وأحياناً كن يتهربن من العشاق. وجاءت “نيجوثي” لتجلس خلف طاولة الحساب، تتعلق بها عيون الفقراء والأثرياء. وهي كما هي بعينيها الواسعتين، والأساور حول معصميها، والقرطان يتدليان من أذنيها، ونفس الملل والحياد. بينما “بياترس” عاملة نظافة، توارت عن الأنظار أكثر من ذي قبل، وأصبحت الفتيات اللاتي ابتسم لهن الحظ تحتقرنها.
حاربت الحياة بالأحلام. بين تغيير المفارش التي شهدت صراعات الخمس دقائق؛ والتي تنتهي غالباً بصرخة مكتومة، كانت تقف في النافذة، تتطلع إلى السيارات والسائقين، حتى عرفت صاحب كل سيارة وأرقام السيارات، وأزياء السائقين.
حلُمت بعشاق يأتون إليها في سيارات مرسيدس مكشوفة. ترى نفسها وهي تمسك يد عشيقها، وهما يسيران معاً في شوارع “نيروبي” و”مومباسا”، بخطوات رشيقة، ثم تتوقف فجأة أمام نافذة عرض، وتقول: “حبيبي، هل يمكن أن تشتري لي هذه، وهذه، وتلك؟ يسأل بغضب مصطنع: “تريدين شراء ماذا؟”، أريد شراء تلك الجوارب. تفكر في أنها لن تصلح جواربها الممزقة بعد الآن، ولن تقترض جوارب من أحد. لديها جوارب كثيرة، ولديها شعر مستعار بكل الألوان، شعر أصفر وأحمر وأسود، لديها كل أنواع الشعر المستعار في العالم، يتغنى العالم بجمال “بياترس” المتفردة في مثل تلك اللحظات، تشعر بالبهجة إلى حد الطيران عن الأرض في مثل تلك اللحظات، لا تصير خادمة تغير مفارش الأسرة لعشق يدوم خمس دقائق، في مثل تلك اللحظات، بل “بياترس” سليلة “وانجو ماكيري”، التي تجعل الرجال يرتجفون من الرغبة عندما يرون جسدها العاري وهي تستحم في ضوء القمر. “بياترس”، ابنة “نيانجيندو”، مؤسسة المدينة والقادرة على إنهاك عدة رجال.
ثم رأته في الحقيقة، كان يختلف تماماً عن عشيقها في الأحلام. جاء يوم سبت يقود شاحنة كبيرة، ركنها بحرص إلى جوار السيارات الفارهة. كان يرتدي سترة رمادية واسعة، فوقها معطف عسكري ثقيل. خلع المعطف وطواه بحرص، ثم وضعه على المقعد الأمامي. أغلق باب السيارة، ونفض الغبار عن سترته ودار حول الشاحنة ليتفحصها. ألقى عليها نظرة أخيرة وهو في طريقه إلى البار. جلس في أحد الأركان وطلب زجاجة “كينا” بصوت مرتفع، وشربها في جرعة واحدة، نظر حوله بحثاً عن شخص يعرفه. وبالفعل تعرف على أحد الأثرياء، وطلب له نصف زجاجة خمر غالية. تم قبولها بهزة رأس وابتسامة مُتعالية، وحين حاول أن يتبع كرمه بحوار تم تجاهله بحزم.
تجمد مكانه، وغرق في كأس المارتيني لبعض الوقت. حاول من جديد، فواجه تجهماً. كانت محاولات انضمامه إليهم تثير الرثاء، كان يضحك على النكات بصوت مرتفع، فيتوقف الأثرياء عن الضحك ليتركوه يضحك وحده. وفي المساء، نهض وأخرج عدة مئات من الشلنات وقدمها إلى “نيجوثي” خلف منضدة الحساب، بافتعال. تهامس الناس، وضحك بعضهم، وتأثر البعض بما فعل، إلا أن هذا لم يكسبه اعترافاً من الأثرياء. ترنح باتجاه الغرفة رقم سبعة، التي استأجرها. ناولته “بياترس” المفاتيح. ألقى عليها نظرة عابرة، ثم فقد اهتمامه بها.
أصبح يأتي كل سبت في الخامسة، حين يكون الأثرياء قد حضروا بالفعل، ويكرر نفس الطقوس عدا التظاهر عند دفع الحساب. وفي كل مرة يتلقى نفس الهزيمة. كان يجلس في نفس الركن، ويستأجر الغرفة رقم سبعة. بدأت “بياترس” تنتظر حضوره، فبعد أن يتعرض للإذلال على يد الأثرياء، كان يستبقيها ويتحدث إليها، أو يتحدث لنفسه في وجودها. كانت حياته صعبة، لم يذهب إلى مدرسة ومع ذلك كان طموحه الحصول على بعض التعليم. كان والده مالك أرض في المنطقة التي يستقر فيها الأوروبيون، وكان هذا شأن عظيم أيام الاستعمار، لكنه كان يعني أيضاً أن يكدح الرجل وأولاده في خدمة الأسياد الأوروبيون وأولادهم.
انضم إلى المُناضلين من أجل الحرية، وتعرض للاعتقال، وخرج من المُعتقل كما ولدته أمه. لا يملك شيئاً. وبعد التحرير، لم يكن لديه تعليم يؤهله لمكانة لائقة بين الكبار. كافح حتى أصبح سائقاً ينقل الخضراوات من الريف إلى “نيروبي”، وكان فخوراً بما حقق من إنجاز، إلا أنه يشعر بالاستياء لأن من أصبحوا أثرياء بفضل القروض والتعليم المجاني، لا يقدرونه حق قدره. تحدث عن الفرص التي سيتيحها لأولاده، ثم عد نقوده بحرص ووضعها تحت الوسادة، وطلب من “بياترس” أن تنصرف. كان يعتبر النساء على التهام أموال الرجال، رغم أنه لم يتزوج بعد.
ضاجعها ذات ليلة. وفي الصباح، أعطاها عشرين شلناً. قبلت المال وهي تحس بالذنب. كرر ما فعل عدة أسابيع. لم ترفض المال، فهو مفيد. إلا أنه كان يدفع لها كما يدفع ليحصل على كيلو بطاطس. إنه يدفع ليشتري إنصاتها له ولشكواه من الأثرياء. بمرور الوقت ملت ذاته المُتضخمة، وأحست أن بداخله نار موقدة، أو بذرة، أو زهرة تختنق. ورأت فيه ضحية مثلها، وأصبحت تنتظر زيارته بلهفة، وتتوق إلى شخص تتحدث إليه، شخص يفهمها.
فعلت هذا ذات ليلة، قاطعت قصة صعوبة وصوله إلى القمة فجأة. لم تعرف لماذا قاطعته، ربما كان السبب صوت انهمار المطر على حديد النافذة، وما سببه من حياد دافئ. قد يستمع إليها، عليه أن يستمع إليها. جاءت من قرية “كاراتينا”، قتل الجنود البريطانيون أخويها بالرصاص، ومات أخوها الثالث في المُعتقل. لقد كانت طفلة وحيدة لأبوين فقيرين، إلا أنهما كانا يكدحان حتى يدبران لها مصاريف المدرسة الابتدائية. اجتهدت في السنوات الست الأولى، ولم تحصل في السنة السابعة على درجة جيدة. وبالطبع تعرف زميلات حصلن على نفس الدرجة، والتحقن بمدارس ثانوية حكومية جيدة. وتعرف زميلات حصلن على درجات أقل، والتحقن بأفضل المدارس بفضل نفوذ عائلاتهن. لم تجد لها مكاناً في مدرسة بمصاريف رخيصة، فبقيت في المنزل مع أبويها، تساعد في الأعمال المنزلية.
ولكن تخيل: لقد عاشت لست سنوات مع أبويها بمنطق مختلف عن منطقهما. حياة الريف مملة. بدأت تبحث عن عمل في القرية، وفي مدينة “نيري”. كانوا يسألون نفس الأسئلة: أي عمل تريدين؟ ما هي خبرتك؟ هل تجيدين الكتابة على الآلة الكاتبة؟ هل تعرفين طريقة الاختزال في الكتابة؟ أصابها الإحباط. وحدث أن كانت تشرب “فانتا” في أحد المحال في “نيري”، والدموع تسيل من عينيها، حين التقت شاباً يرتدي سُترة ويضع على عينيه نظارة شمسية. لاحظ أنها في محنة فتحدث إليها: هل تبحثين عن عمل؟ إنه أمر بسيط. فرص العمل كثيرة في المدن الكبيرة. كان يود مساعدتها بالطبع. كيف تذهب؟ لديه سيارة “بيجو” بيضاء. الجنة. رحلة رائعة بالسيارة، وعود معسولة. نيروبي. توقف بالسيارة أمام بار “تيراس”. شربا بيرة وتحدثا عن نيروبي. ترى عبر النافذة أضواء النيون، وتعرف أن هناك أمل في هذه المدينة. سلمت نفسها له في تلك الليلة، بسبب وعوده المعسولة.
نامت بعمق في تلك الليلة، ولم تجده في الصباح، ولم تقابله مرة أخرى. وهكذا بدأت حياتها كعاملة بار. ولم تقابل أبويها منذ عام ونصف. بدأت “بياترس” تنتحب، وتبكي حالها. تعرضها للإذلال وترحالها الدائم مازالا ماثلين في مخيلتها. لم تنسجم مع أجواء البارات، واعتقدت أنها ستصادف شيئاً أفضل، إلا أنها وقعت في فخ، فهي لا تعرف غير هذه الحياة، رغم أنها لا تعرف كل قوانينها وأعرافها. أخذت تتنفس بصعوبة، والدموع تنهمر، ثم تجمدت فجأة، كان الرجل قد غطى نفسه ونام منذ وقت طويل، ويغط الآن في النوم بشكل واضح.
شعرت بفراغ غريب، ومرارة متراكمة تنشطر بداخلها. أرادت أن تبكي فشلها الجديد. لقد قابلت العديد من الرجال الذين عاملوها بقسوة أو سخروا منها، لما اعتبروه محاولة مكشوفة لادعاء البراءة. تقبلت تلك المهانة من قبل، ولكن ليس بهذه الطريقة، ليس بهذه الطريقة يا إلهي. ألم يكن هذا الرجل ضحية مثلها؟ ألا يُفضي أليها بألمه كل سبت؟ لقد دفع لها مقابل خدماتها الإنسانية، كما دفع لها ثمن قضاء الليل معها.
دفعها نومه الهادئ إلى الجنون. انفجر بداخلها شيء على نحو مفاجئ. توجه كل الغضب والإذلال الذي تعرضت له طوال عام ونصف ضد هذا الرجل. وما قامت به بعد ذلك، اتسم بدقة اليد الخبيرة.
لمست عينيه. كان في سبات عميق. رفعت رأسه، وتركتها تسقط. عيناها باردان، ثابتتان، وبلا دموع. سحبت الوسادة من تحته وفتشتها، وأخذت النقود ووضعتها في حمالة صدرها.
خرجت من الغرفة رقم سبعة. المطر ما زال ينهمر في الخارج. لم ترغب في العودة إلى مكانها. لن تحتمل ضيق الغرفة أو ثرثرة زميلتها. سارت في المطر والطين حتى وصلت إلى غرفة “نيجوثي”؛ وطرقت الباب، ولم تسمع رداً في البداية، ثم سمعت صوت “نيجوثي” النائم يعلو على صوت زخات المطر.
من الطارق؟
أنا، افتحي من فضلك.
من؟
بياترس
في مثل هذه الساعة من الليل؟
من فضلك.
أضاءت النور، وأزاحت المزلاج، وفتحت الباب. دخلت “بياترس”. وقفت أمام “نيجوثي”، التي كانت ترتدي قميص نوم شفاف، ووضعت معطفاً على كتفيها.
سألتها في النهاية بصوت تعلوه نبرة قلق: “هل هناك مشكلة يا بياترس؟”. قالت “بياترس” بصوت واثق: “هل يمكن أن أستريح لديك لبعض الوقت؟ أنا متعبة، وأود التحدث أليكِ”.
“ولكن، ماذا حدث؟”
“أود أن أوجه إليك سؤلاً، يا نيجوثي”.
كانتا تقفان حتى تلك اللحظة، ثم جلستا معاً على السرير.
سألتها “بياترس”: “لماذا تركت منزلك يا نيجوثي؟”. ساد الصمت مرة أخرى، يبدو أن “بيجوثي” كانت تفكر في السؤال، بينما “بياترس” تنتظر الإجابة. خرج صوت “نيجوثي” مرتبكاً: إنها قصة طويلة. كان أبي وأمي ثريان، وملتزمان دينياً. كنا نعيش وفق أعراف محددة، لا ينبغي التحدث مع الوثنيين، لا يجب ارتداء نفس ملابسهم، لا يجب الرقص. هناك قوانين وقواعد تحدد متى وأين وكيف تأكلين. عليك المشي كامرأة مسيحية، ولا يجب أن يراكِ أحد مع الأولاد. قواعد وقوانين، لكل شيء. وذات يوم، بدلاً من العودة من المدرسة إلى المنزل، هربت أنا وفتاة لها نفس ظروفي. لم أعد إلى المنزل منذ أربعة أعوام. هذه هي الحكاية.
صمت جديد. نظرت كل واحدة إلى الأخرى بتفهم.
“سؤال آخر يا نيجوثي، يمكن ألا تجيبي عليه. أظن دائماَ أنك تكرهينني وتحتقرينني”.
“لا يا بياترس، لا. لم أكرهك أبداً. لم أكره أحداً على الإطلاق. سبب هذا أنني لا أهتم بشيء. حتى الرجال لا يثيرون اهتمامي. ومع ذلك، أحتاج إلى الإثارة والاستمتاع دوماً. أريد اهتمام تلك العيون المتملقة كي أشعر بذاتي، ذاتي. أما أنت، أنت في نظري أكبر من هذا.. لديك شيء ليس لدي.
حاولت “بياترس” أن تحبس دموع عينيها بصعوبة.
في الصباح الباكر، استقلت حافلة متجهة إلى “نيروبي”. تمشت في شارع “بازار” بحثاً عن المحال التجارية، ثم دخلت شارع “الحكومة”، وميدان “كينياتا”، وشارع “كيماثي”. دخلت أحد المحال بقرب شارع “حسين سليماني”، واشترت منه عدة جوارب، وارتدت واحداً منها. اشترت فستاناً بعد ذلك، وارتدته بدل القديم.
دخلت محل “باتا” واشترت حذاءً بكعب عالٍ، لبسته وألقت بالقديم في القمامة. اشترت لنفسها قرطاً واتجهت نحو مرآة لترى شكلها الجديد. شعرت بالجوع فجأة، كأنها لم تأكل طوال حياتها. ترددت في دخول مطعم فخم، تمشت قليلاً ثم دخلت مطعم “فرانزي”. في عينيها وميض شد عيون الرجال إليها. اختارت طاولة عند الزاوية وطلبت كاري هندي. ترك رجل طاولته واتجه إليها. نظرت إليه وفي عينيها سعادة. كان يرتدي سترة سوداء والرغبة تطل من عينيه. طلب لها مشروباً، وحاول أن يفتح معها حواراً، إلا أنها تناولت الطعام في صمت. مد يده أسفل المنضدة وتحسس ركبتها. تركته يفعل ذلك. صعدت اليد إلى أعلى فوق فخذها.
نهضت فجأة وتركت بقية الطعام والمشروب وخرجت من المطعم. تبعها. عرفت ذلك دون أن تستدير لتلقي نظرة. سار إلى جوارها عدة خطوات. ابتسمت لنفسها ولم تنظر إليه. بدأ يفقد ثقته في نفسه. تركته يحدق في نافذة عرض أحد المحال. في الحافلة المتجهة إلى “ألموروج”، تخلى لها الرجال عن مقاعدهم، فجلست في المقعد الذي يناسبها.
حين وصلت إلى البار، اتجهت نحو طاولة الحساب مباشرة. كان حشد الأثرياء هناك. توقف الحديث بينهم لحظة دخولها. تبعتها عيونهم الشهوانية. الفتيات حملقن فيها. حتى “نيجوثي” تخلت عن حيادها. اشترت لهن “بياترس” مشروبات. تقدم المدير منها بحذر، وأراد أن يفتح معها حواراً. لماذا تركت العمل؟ وأين كانت؟ وهل يمكن أن تعمل في البار من جديد، تساعد “نيجوثي” من حين لآخر؟. أحضرت إحدى عاملات البار ورقة لها. أحد الأثرياء يريد أن يعرف إن كان لها أن تجلس إلى طاولته. وصلتها أوراق كثيرة تحمل سؤلاً واحداً: هل هي غير مشغولة الليلة؟
رحلة إلى “نيروبي” فعلت كل هذا. لم تغادر مكانها، ولكنها قبلت هداياهم من المشروبات كحق لها. شعرت بسلطة جديدة، وثقة في النفس. أخرجت شلناً، ووضعته في صندوق الموسيقى، فانطلق صوت “روبنسون موانجي” وهو يغني. كان يغني عن الفتيات الريفيات اللاتي تحتقرهن فتيات المدينة. كان الرجال يرغبون في الرقص معها، إلا أنها تجاهلتهم رغم استمتاعها بوجودهم حولها. كان جسدها حراً. كانت حرة. ركلت التوتر والقلق.
وفجأة، اقتحم الرجل صاحب الشاحنة البار قرابة الساعة السادسة. في هذه المرة يرتدي معطفه العسكري، وخلفه ضابط شرطة. تلفت حوله، والعيون كلها تنظر نحوه. استمرت “بياترس” تهز خاصرتها. في البداية لم يعرف أن “بياترس” هي الفتاة التي تقف إلى جوار صندوق الموسيقى، وتحتفل بلحظات مجدها القصيرة. صاح وكأنه انتصر: “ها هي الفتاة! اللصة! اللصة!”.
تراجع الناس في مقاعدهم، واتجه الشرطي نحوها. وضع القيود في يديها دون أن تقاوم. وقبل أن تخرج من الباب، استدارت وبصقت، ثم خرجت وخلفها الشرطي.
تحول الصمت التام في البار إلى ضحك صاخب حين ألقى أحدهم نكتة عن السرقة الحلوة دون عنف. تناقشوا في أمرها. قال أحدهم: “كان لا بد من ضربها”، وتحدث الآخرون عن طبيعة “فتيات البارات”، لكن غيرهم تحدثوا بقلق، كشفته حركات رؤوسهم غير المصدقة، عن ارتفاع معدلات الجريمة. أضاف آخر: “ألا يمتد حكم الإعدام على جرائم السرقة؟”. ودون أن يشعر الجميع، تحول الرجل صاحب الشاحنة إلى بطل. أحاطوه بالأسئلة، وطلبوا منه سرد تفاصيل القصة. اشترى له البعض مشروبات. استمعوا إليه بإنصات يتخلله الضحك. الخوف على ممتلكاتهم حوّلهم مؤقتًا إلى عائلة واحدة. وقبلوا الرجل بينهم للمرة الأولى، فسرد عليهم القصة باستمتاع. وحدها “نيجوثي” كانت تجلس خلف الطاولة الحساب، وتبكي.
https://sadazakera.wordpress.com/2019/02/23/لحظات-المجد-قصة-نغوجي-واثينجو-كينيا-ت/#more-991