محطَّةُ القطار تزدحم بالناس, ونسمةُ الخريفِ تترك برودتَها على الخلايا المتوتِّرة.
يحمل حقيبتَها الصغيرة، والحزنُ يرتسمُ على وجهه, يمشي بجانبها نحوَ بابِ المقطورة.
القلبُ ينبضُ بسرعة، والكلماتُ تتجمّد على الشفاه .
لحظةُ الوداعِ تأتي مسرعة...
تمدُّ يدَها, يمدُّ يدَه، يجذبها نحوه ليحتضنَها، تمنعُه بهدوء، يقبّل يدَها النّاعمة، تطبعُ قُبلةً سريعةً على خدِّه، وتغيبُ خلفَ الزّجاجِ البار.
"سأكتبُ إليكَ حالما أصل"، يمتزجُ صوتُها مع صافرة الوداع.
القطارُ يتململ، يبتعد، أفعواناً ضخماً يبتلع الليلَ، والمسافاتِ، والأحلامَ، واللقاءات.
* * *
مضى أسبوعٌ، وتبِعَه آخرُ، وهو ينتظرُ رسالتَها.
لمسةُ يدِها مازالتْ تدغدغ باطنَ يدِه، حرارة قُبلتِـها تشعُّ على خدِّه، نظرتُها الأخيرةُ، همستُها الأخيرةُ… والذكرى الأخيرة….
مبكّرةً جاءتْ ذلك الصباح, تحمل كتباً، وأشرطة تسجيلٍ، ووردةً صغيرة.
ـ هذه كتبك, وأشرطتكَ. أمّا الوردةُ فهي منّي. تصمتُ قليلاً ثمَّ تتابعُ:
ـ سأسافر غداً.
تأتيه مفاجأتُها صاعقة. كان يَعْلم أنّها ستغادر يوماً بعد أن تنهيَ دراستَها؛ لكنّه ما كان يظنُّ أنَّ هذا اليوم سيكون قريباً إلى هذا الحدِّ.
ـ مسافاتٌ ستفصلُ بيننا، قال كأنّه يحدِّث نفسَه.
ـ المسافاتُ لا تعني بُعداً، يأتيه ردُّها سريعاً.
ـ دائماً تجيدين الردَّ، تغلبينني بكلماتك الكبيرة.
* * *
شهرٌ يمضي, ويتبعه آخر… وهو ما يزال ينتظر.
تأخّرتْ أكثرَ ممّا ينبغي, حتّى باتَ يكرهُ أن تصلَ. وإنْ وصلتْ، فأيُّ سعادةٍ تركتْها ليالي الانتظار؟!
"من الأفضل ألاّ أنتظرَ أكثر، أن أنسى، أيأس، اليأسُ راحة، يغنينا عن إلحاح الحلمِ, ووجع الانتظار".
ولكنْ كيف ينسى، وكلُّ شيءٍ حوله يذكّره بـها!؟ تفاصيلُ غرفتِه تعيد تفاصيلَ لقاءاتِهما، جدرانُها تردِّدُ صدى كلماتها التي لا تنتهي… "هل من واجبي أن أكتبَ إليها أنا"، يسأل نفسَه، ويجيبُ: " كان يجبُ أن تعطِيَني العنوانَ لو كانت حقّاً تريد أن أكتبَ إليها".
تحاصِرُه ذكرياتُها, وكلماتها... يقرّرُ فكَّ الحصار.
في المدرسة، يسأله زميلُه مدرِّسُ التاريخ عن السّكن في أطرافِ المدينة.. يوافقُ على الفورِ:
ـ غرفةٌ صغيرةٌ فوق السطح, والعائلةُ محافِظة!.
ـ لا يهمُّ… مكانٌ ليس فيه ذكراها هو المكانُ المطلوبُ.
البيت قديمٌ بكلِّ شيءٍ، الأبُ يعمل حتى وقتٍ متأخّرٍ، الأبناءُ يأمرونَ وينهون, والأمُّ لا تعرفُ غيرَ تلبيةِ الطلباتِ، وبنتٌ وحيدةٌ، هادئةٌ دائماً، صامتةٌ دائماً؛ كأنّها غيرُ موجودة.
نافذة الغرفة تنفتح على غوطة دمشقَ، ما تبقَّى من الغوطة، وعلى السطح أريكةٌ قديمة ٌملقاةٌ منذ زمن.
بصمتٍ يدخلُ، يصعد الدّرجَ الجانبيَّ، وبصمتٍ يخرج؛ لا أحدَ يراه، أو يشعرُ بوجوده.
الطريقُ إلى مَوقِفِ الباص ضّيقةٌ، متعرِّجة، تحفُّها الأشجارُ من الجانبين. خطواتٌ مستعجلة تتبعُه، تعقـدُ منديلاً على رأسِها، تضمُّ كتبَها إلى صدرِها: "صباح الخيرِ!"، وتقفُ صامتةً حتى يأتيَ الباص، يذهب إلى مدرسته، وتذهب هي إلى كلّيَّتِها.
في المساءِ ـ والشمسُ مالت نحو الغروبِ، ورمت الأشجارُ ظلالَها على السَّطح ـ يجلسُ على الأريكةِ، يقـرأ، أو يكتبُ، أو يستمعُ إلى الموسيقى؛ أصواتُ الطيور تملأ الفضاءَ، تمتزج ُمع صوتِ الموسيقى. ترقُّ مشاعرُه، ويغرَقُ في تأمُّلاتِه.
تتسلل الذكرى داخلَه كما تتسللُ أشعّةُ الشّمسِ بينَ الأغصانِ العالية، تأخُذُه الذكرى بعيداً، إلى شتاءٍ مضى دافئاً: كان المطرُ يهطلُ بغزارة، وصلَ إلى المَوعِدِ وثيابُه تَقْطُر، انتظرَ قرب جهازِ التدفئة حتى وصلتْ، جلسا إلى الطاولةِ المعتادة قرب النافذة؛ كان يجيدُ الصَّمتَ، وكانت تُجيدُ الكلام، تبتكرُ الأساليب كي لا يسود الصّمت؛ تحدّثتْ عن الثقافة، والأدبِ، والحرّي،, ومكانةِ المرأةِ، قرأتْ قصيدةً جديدةً لدرويش نسختْها من إحدى المجلات، لم يقرأْ شيئاً؛ لكنَّه كان يصغي باهتمام، يرى فيها صورةَ أحلامِه.
على زاوية دفترها كتبتْ: "جميلٌ أنتَ مثلَ غابةٍ يغسلها المطر".
تابعتْ عيناه العبارةَ، قال مازحاً:
ـ لو قرأ شابٌّ ذكيٌّ ما كتبتِ، لعَشِقَكِ من الكلمةِ الأولى.
ردّتْ بنزقٍ مصطنع:
ـ لم أكتبْ هذا كي يعشقَني أحد.
وبهدوءٍ أجابها:
ـ لكنِّي لستُ ذكياً على أيّة حال!
صدَمها ردُّه الجريء، أغلقتْ دفترَها، وانكمشتْ في مقعدِها… سادَ صمتٌ طويل.
لم يبقَ في المقصف غيرُهما، والصمتُ المطبق. حتى فيروزُ، أغنيتُها سكنت دون أن ينتبها.
عند موقف الباص ودّعها، وهَمَسَ في أذنِها: "أنا أحبّكِ"؛ يدُها الصغيرة ُارتعشتْ داخلَ يدِه، عيناها لمعتا ببريقٍ أنثويٍّ؛ لا يدري: ابتسامةٌ، أم اختلاجة ُقلبٍ تلك التي اررتعشتْ على شفتيها؟!
صوتُ خطواتِ صاحب البيت ينشِله من تأمُّلاتِه، صعَدَ إلى السّـطح، يسألُ عن المستأجر الجديد، حيّاهُ بكلماتٍ طيّبةٍ، وهو يُبدي اهتماماً خاصاً "بالأسـتاذ".
لا يُطيلُ المُكوثَ، وقبل أن يغادرَ، يطلبُ منه أن يسـاعدَ ابنتَه التي تدرسُ في السّنة الأولى لغة عربية:
ـ إذا كان وقتك يسمح.
ـ أنت تأمر يا عم.
ساعاتُ المسـاءِ, صار يُمضيها في بيت العائـلة، يجلس سـاعةً، أو سـاعتين، تجلس أمامه صامتةً، تُصغي إليه باهتمامٍ، كما يجدُر بتلميذةٍ تجلس أمام معلمها، تستَرِقُ نحوه ـ بين الفينة والفينة ـ نظراتٍ خاطفة؛ أمُّها تتابعها من بعيدٍ، تراقب نظراتِها، وحركاتِها.
اكتسـب ثقةَ الأبِ، وصارت تصعد هي إلى السّـطح: تجلس على الأريكة القديمة في سـاعات المساء، وقبْلَ هبوطِ الليل، يُنهي الدّرسَ، وتغادر.
نظراتُها الخاطفةُ أصبحتْ متمهِّلة، تتمعَّن في ملامحه: حزنٌ غامضٌ يرتسم على وجهه، وفي نظرة عينيه؛ خطواتُها الصّباحيّةُ المستعجلة صارت أكثرَ هدوءاً، وهي تسير إلى جانبه نحو موقف الباص, وكلمة "صباح الخير" تخرج من شفتيها مع ابتسامةٍ مرتبِكة.
ساعات المساء بدأت تطولُ... بعد أن ينهيَ الدّرسَ، تتطرّق إلى مواضيعَ أخرى، تحاول أن تكتشفَ سرَّ هذا الحزن الذي يغلِّف ملامحَه، تتكلَّم بهدوءٍ، يتضرَّج وجهُها الصّافي بحُمْرةٍ ورديَّةٍ، حتّى طرَفِ أنفِها المستقيم.
لفَتَ نظرَها ـ منذ البدايةـ الكتبُ الكثيرة الموزّعة ُعلى الأرفِّ، وفوق الطاولة...
ـ هل قرأتَ كلَّ هذه الكتب؟ِ
أومأَ برأسه بالإيجاب.
طلبتْ منه كتاباً تقرأه. تمهَّلَ بالرّدِّ، ثم ّقال:
ـ اختاري الكتابَ الذي يناسبكِ، وخذيه.
ـ أريد أن تختارَ ليَ أنتَ… ورمتْ نحوه نظراتٍ مباشِرة.
امتدّتْ يدُه نحو أحدِ الأرفِّ، سحبَ روايةَ آلام فرتر, وقال مداعباً:
ـ انتبهي! هذه الروايةُ أبكت ـ في زمانها ـ بناتِ ألمانيا.
ابتسمت ابتسامةً فَرِحة، حملتْ كتبَها، ومَضَتْ.
الليل هبط قبل قليلٍ، ليلٌ هادئٌ رقيق. جلس يتأمّل النّجومَ المبعثرةَ؛ الماضي والحاضرُ يضطجعانِ على سرير قلبه، يتّسع قلبُه، يحتوي الكونَ بلا نهائيّتِه.
ليس الحزنُ ما يعاني، ولكنْ تعزُّ عليه الأيام ُالجميلة، كيف مضتْ بصمتٍ خجولٍ، مثلَ طفلٍ مذنب.
الأبُ لم يَعُدْ من عمله بعدُ، الأمُّ تنتـظرها بقلقٍ، توجّهتْ إلى غرفتها، أغلقتِ البابَ, وجلستْ على حافّةِ السّرير… شيءٌ كالسّـعادةِ, كالحزنِ، لا تدري؛ لكنَّ سكينةً شاملةً تملأ روحَها .
فتحت الكتاب… لم تقرأ حرفاً، ضمّتْ رُكبتَيها إلى صدرها، وراحت تحدّقُ في المجهول.
ظلت وقتاً طويلاً شاردةً في أفكارٍ لا تعرف ماهيّتَها، غارقةً في مشاعرَ متناقضةٍ،عذبةٍ، لذيذةٍ؛ لكنّها مرهِقةٌ وممضّةٌ في الوقت نفسه، تعيد في خيالها كلَّ كلمةٍ قالها، وكلَّ حركةٍ بَدَرَتْ منه.
ماذا أصابها؟… لا تدري، غيرَ أنَّ كلَّ شيءٍ فيه بات عزيزاً على قلبها، قريباً من مشاعرها البِكرِ الشّفّافة.
تفرح تارةً، تحزن تارة، وشعورٌ غامضٌ، جديد، يتصاعد في أعماقها… "ساعدني يا رب… ساعدني"، أسـندت رأسـها على ركبتيها، ودمعةٌ حارّة ٌتجمّدتْ بين رموشها.
امتدَّ الليلُ طويلاً، وضوءُ المصباح ينطلق من نافذة الغرفة الصغيرة.
في الصباح… لم يلتقِ بها في طريقه إلى موقف الباص، في المساء… لم تأتِ إلى الدّرس.
لم يأبهْ للأمر في البداية؛ لكنَّ غيابَها أسبوعاً كاملاً وَلّد في داخله القلقَ: "لعلها مريضة؟"، وقرَّر أن يسألَ عنها إذا لم يلتقِ بها صباح الغد.
كانت الشمس قد غابت منذ زمنٍ، والليل أسدل خيمتَه السوداءَ، حين سَمِعَ وقْع خطواتٍ هادئةٍ، تصعد إلى السّطح.
نظر إليها، في ملامحها شيءٌ مختلف: وجهها الشاحبُ، أين إشراقه وصفاؤه؟
عيناها المتعبتان، أين غارَ بريقهما؟…
- ما بكِ؟
هزّتْ رأسَها، ولم تنبسْ بكلمة، فَتَحَ الكتابَ، وتـهيّأ لِشَرْحِ الدرس، وهي صامتةٌ، شاردة، لا تجرؤ على النظرِ في عينيه.
فجأةً، وبدون مناسة، تسأله:
ـ هل قرأتَ الكتاب الذي أعطيتني إياّه؟
ــ قرأتُه منذ زمنٍ.
أرادت أن تقولَ شيئاً آ خرَ؛ لكنّها وجدتْ نفسها تسألُ من جديد:
ـ هل تكتبُ قصصاً؟
أجاب باقتضاب، وهو يزداد حيرةً؛ حاول أن يعيد الأمورَ إلى سِـياق الدرس، وشـعورٌ بالحرج بدأ ينتابه من تأخُّرِ الوقت؛ لكنّها تابعت دون أن تنظر إليه:
ـ كم أتـمنّى أن أكون مثلك: مثقَّفة، وعندي مكتبـةٌ كبيرةٌ مثلَ مكتبتك.
انزلقَ المنديلُ عن رأسها، خِصلةٌ سـوداءُ لامعةٌ تراقصت فوق جبينها، وهي ما تزال تتابع:
ـ في داخلي أحلامٌ كثيرةٌ لا تتسـعها جدران بيتنا.
الليل يرق،, والنسيم الرطب يحرِّك الأغصانَ، وهي منساقةٌ إلى الحديث عن نفسـها، يمتزج حفيفُ الأوراق مع كلماتها الراجفة، فيصغي إليها كأنّه في حلمٍ جميل.
ـ لو كان بجانبي إنسـانٌ مثلكَ، يأخذ بيدي، ولا يتخلى عنِّي… اختلجتْ شـفتاها، وتقطّعتْ كلماتها، وازداد احمرارُ وجنتيها، وهو ينظر إليها كأنه يراها للمرة الأولى...
"هذه الفتاةُ الوديعةُ، الصامتة، تخفي كلَّ هذه الأحلام!". الحَرَجُ يزداد داخله، فقد تأخّرَ الوقت كثيراً.
فجأةً… تظهر أمّها على السّطح.
رفعتْ منديلها بحركةٍ سـريعة، واعتدلتْ في جلسـتها؛ اقتربت الأمُّ منهما، رَمَـتْه بنظراتٍ حادّة، وعنَّفت ابنتَها بصوتٍ منخفض، لا تريد أن يسمعَ أحدٌ ما يجري، طلبت منها النزولَ فوراً.
رفضتِ النزول معها، ردّتْ عليها بكلماتٍ قاطعةٍ متحدية:
ـ لست ُ صغيرة!
أذهله ردُّها، و تحوّلَ حرجُه إلى خجلٍ وتوتُّر.
أُسـقِطَ في يد الأمّ، فضّلتِ النزولَ وحدَها "كي لا تثير فضيحة"؛ لكنّ نظراتِها الحادّة، وزمّة شفتيها، توحيان بالوعيد.
امتقع لونـها، وغابت الملامح عن وجهها، جمدت في مكانها صامتةً، تتنفّس أنفاساً متلاحقةً، وجسدُها كله يرتعش. لم يقلْ شـيئاً، خشي إن قال - ولو كلمةً واحدةً - أن تنفجر مباشرةً بالبكاء. مرّت دقائقُ تقيلةً، بطيئةً، كلٌّ منهما ينظر في اتجاهٍ؛ لكنّه يفكّر بالآخر. انسحبتْ بعد قليل، ألقتْ كلماتٍ راجفةً، ومضتْ.
ظلَّ ساكناً، شاردَ الذهن، مأخوذاً بهذه القوَّة التي فاجأته بها هذه الفتاة الرقيقة.
لم ينمْ ليلته، وفي الصباح، خرج مبكِّراً، لا يريد أن يلتـقيَ أحداً من العائلة، ظلّ طيلة النهار يفكر في ما حصل، ونظراتُ أمِّها الحادّة المؤنِّبة لا تغيب عن خياله..."لأيِّ سببٍ؟ وكيف ستنفِّذ الأمُّ وعيدَها؟… مـا موقف أبيها الذي منحني ثقته؟ وكيف سيفهم الأمر؟… يجب أن أتركَ البيتَ قبل أن أتسبّب لها بمشاكلَ لا تستحقّها"
عاد متأخّراً، دخل بحذر، يريد أن يأخذ الأشـياء الضروريّة، ويغادر إلى أيّ سكنٍ مؤقّت.
سمع خطواتٍ مستعجلةً تتبعه.
ـ لماذا تأخّرْتَ ؟… انتظرتكَ طول النهار.
كانت تتحدَّثُ بنـبرةٍ منهَكة, معاتِبة، وإصرارٌ غريب ينبعث من عينيها المتعبتين، رمَتْ في يده ورقةً صغيرةً مطويّةً عدّة طيّاتٍ...
ـ لا أستـطيع التأخّرَ. إذا أردتَ أن تعطيني ردّاً اتركْه تحت فرشـةِ الأريكة… ثمّ غادرتْ مسرعةً.
لم يدخل الغرفة، جلس على الأريكة منهدّاً؛ النسـمة باردةٌ، أو لعلَّ خلاياه الملتهبة جعلته يشعر بلسع النسمات.
فتح الورقة… كلماتٌ قليلة، يبدو من خطّها أنها كُتبت على عجل، قرأ:
"ضربني أخي، منعني من الصّعود إلى السّطح، وهدّدني بترك الجامعة… قلتُ لهم إنّك طلبتَ منّي المغادرةَ أكثر من مرّة، ولكنْ أنا التي رفضت… لا يهمّني الضرب، مستعدّةٌ أن أتحمّل أكثر من ذلك… أنا أحبّك… ولا شيء بعدك يهمّني".
وضع الورقة جانباً، غيرَ مصدِّقٍ ما يجري، أخذ نفَسـاً عميقاً، ورفع نظره نحو السّـماء... القمرُ يبدو مكتملاً، يجري مسـرعاً خلف غيمةٍ كبيرةٍ تحجبُ نورَه عن الأرض، وفي داخله تجري الأحداث مسـرعةً: تلك المشاعرُ القديمة، والرسـالة التي انتظرها شـهوراً ولم تأت، وهذه الرسالة التي تأتيه على غير انتظار، وما رافقها من مشاعر...
الغيمة تنزاحُ شـيئاً فشـيئاً، ليَظهرَ وجهُ القمر بهيّاً ساطعاً، يرسل إلى الأرض أشعّته الفضّيةَ؛ وفي قلبه نورٌ جديدٌ، يشعُّ دافئاً، وفتيّاً.
منذر فالح الغزالي
يحمل حقيبتَها الصغيرة، والحزنُ يرتسمُ على وجهه, يمشي بجانبها نحوَ بابِ المقطورة.
القلبُ ينبضُ بسرعة، والكلماتُ تتجمّد على الشفاه .
لحظةُ الوداعِ تأتي مسرعة...
تمدُّ يدَها, يمدُّ يدَه، يجذبها نحوه ليحتضنَها، تمنعُه بهدوء، يقبّل يدَها النّاعمة، تطبعُ قُبلةً سريعةً على خدِّه، وتغيبُ خلفَ الزّجاجِ البار.
"سأكتبُ إليكَ حالما أصل"، يمتزجُ صوتُها مع صافرة الوداع.
القطارُ يتململ، يبتعد، أفعواناً ضخماً يبتلع الليلَ، والمسافاتِ، والأحلامَ، واللقاءات.
* * *
مضى أسبوعٌ، وتبِعَه آخرُ، وهو ينتظرُ رسالتَها.
لمسةُ يدِها مازالتْ تدغدغ باطنَ يدِه، حرارة قُبلتِـها تشعُّ على خدِّه، نظرتُها الأخيرةُ، همستُها الأخيرةُ… والذكرى الأخيرة….
مبكّرةً جاءتْ ذلك الصباح, تحمل كتباً، وأشرطة تسجيلٍ، ووردةً صغيرة.
ـ هذه كتبك, وأشرطتكَ. أمّا الوردةُ فهي منّي. تصمتُ قليلاً ثمَّ تتابعُ:
ـ سأسافر غداً.
تأتيه مفاجأتُها صاعقة. كان يَعْلم أنّها ستغادر يوماً بعد أن تنهيَ دراستَها؛ لكنّه ما كان يظنُّ أنَّ هذا اليوم سيكون قريباً إلى هذا الحدِّ.
ـ مسافاتٌ ستفصلُ بيننا، قال كأنّه يحدِّث نفسَه.
ـ المسافاتُ لا تعني بُعداً، يأتيه ردُّها سريعاً.
ـ دائماً تجيدين الردَّ، تغلبينني بكلماتك الكبيرة.
* * *
شهرٌ يمضي, ويتبعه آخر… وهو ما يزال ينتظر.
تأخّرتْ أكثرَ ممّا ينبغي, حتّى باتَ يكرهُ أن تصلَ. وإنْ وصلتْ، فأيُّ سعادةٍ تركتْها ليالي الانتظار؟!
"من الأفضل ألاّ أنتظرَ أكثر، أن أنسى، أيأس، اليأسُ راحة، يغنينا عن إلحاح الحلمِ, ووجع الانتظار".
ولكنْ كيف ينسى، وكلُّ شيءٍ حوله يذكّره بـها!؟ تفاصيلُ غرفتِه تعيد تفاصيلَ لقاءاتِهما، جدرانُها تردِّدُ صدى كلماتها التي لا تنتهي… "هل من واجبي أن أكتبَ إليها أنا"، يسأل نفسَه، ويجيبُ: " كان يجبُ أن تعطِيَني العنوانَ لو كانت حقّاً تريد أن أكتبَ إليها".
تحاصِرُه ذكرياتُها, وكلماتها... يقرّرُ فكَّ الحصار.
في المدرسة، يسأله زميلُه مدرِّسُ التاريخ عن السّكن في أطرافِ المدينة.. يوافقُ على الفورِ:
ـ غرفةٌ صغيرةٌ فوق السطح, والعائلةُ محافِظة!.
ـ لا يهمُّ… مكانٌ ليس فيه ذكراها هو المكانُ المطلوبُ.
البيت قديمٌ بكلِّ شيءٍ، الأبُ يعمل حتى وقتٍ متأخّرٍ، الأبناءُ يأمرونَ وينهون, والأمُّ لا تعرفُ غيرَ تلبيةِ الطلباتِ، وبنتٌ وحيدةٌ، هادئةٌ دائماً، صامتةٌ دائماً؛ كأنّها غيرُ موجودة.
نافذة الغرفة تنفتح على غوطة دمشقَ، ما تبقَّى من الغوطة، وعلى السطح أريكةٌ قديمة ٌملقاةٌ منذ زمن.
بصمتٍ يدخلُ، يصعد الدّرجَ الجانبيَّ، وبصمتٍ يخرج؛ لا أحدَ يراه، أو يشعرُ بوجوده.
الطريقُ إلى مَوقِفِ الباص ضّيقةٌ، متعرِّجة، تحفُّها الأشجارُ من الجانبين. خطواتٌ مستعجلة تتبعُه، تعقـدُ منديلاً على رأسِها، تضمُّ كتبَها إلى صدرِها: "صباح الخيرِ!"، وتقفُ صامتةً حتى يأتيَ الباص، يذهب إلى مدرسته، وتذهب هي إلى كلّيَّتِها.
في المساءِ ـ والشمسُ مالت نحو الغروبِ، ورمت الأشجارُ ظلالَها على السَّطح ـ يجلسُ على الأريكةِ، يقـرأ، أو يكتبُ، أو يستمعُ إلى الموسيقى؛ أصواتُ الطيور تملأ الفضاءَ، تمتزج ُمع صوتِ الموسيقى. ترقُّ مشاعرُه، ويغرَقُ في تأمُّلاتِه.
تتسلل الذكرى داخلَه كما تتسللُ أشعّةُ الشّمسِ بينَ الأغصانِ العالية، تأخُذُه الذكرى بعيداً، إلى شتاءٍ مضى دافئاً: كان المطرُ يهطلُ بغزارة، وصلَ إلى المَوعِدِ وثيابُه تَقْطُر، انتظرَ قرب جهازِ التدفئة حتى وصلتْ، جلسا إلى الطاولةِ المعتادة قرب النافذة؛ كان يجيدُ الصَّمتَ، وكانت تُجيدُ الكلام، تبتكرُ الأساليب كي لا يسود الصّمت؛ تحدّثتْ عن الثقافة، والأدبِ، والحرّي،, ومكانةِ المرأةِ، قرأتْ قصيدةً جديدةً لدرويش نسختْها من إحدى المجلات، لم يقرأْ شيئاً؛ لكنَّه كان يصغي باهتمام، يرى فيها صورةَ أحلامِه.
على زاوية دفترها كتبتْ: "جميلٌ أنتَ مثلَ غابةٍ يغسلها المطر".
تابعتْ عيناه العبارةَ، قال مازحاً:
ـ لو قرأ شابٌّ ذكيٌّ ما كتبتِ، لعَشِقَكِ من الكلمةِ الأولى.
ردّتْ بنزقٍ مصطنع:
ـ لم أكتبْ هذا كي يعشقَني أحد.
وبهدوءٍ أجابها:
ـ لكنِّي لستُ ذكياً على أيّة حال!
صدَمها ردُّه الجريء، أغلقتْ دفترَها، وانكمشتْ في مقعدِها… سادَ صمتٌ طويل.
لم يبقَ في المقصف غيرُهما، والصمتُ المطبق. حتى فيروزُ، أغنيتُها سكنت دون أن ينتبها.
عند موقف الباص ودّعها، وهَمَسَ في أذنِها: "أنا أحبّكِ"؛ يدُها الصغيرة ُارتعشتْ داخلَ يدِه، عيناها لمعتا ببريقٍ أنثويٍّ؛ لا يدري: ابتسامةٌ، أم اختلاجة ُقلبٍ تلك التي اررتعشتْ على شفتيها؟!
صوتُ خطواتِ صاحب البيت ينشِله من تأمُّلاتِه، صعَدَ إلى السّـطح، يسألُ عن المستأجر الجديد، حيّاهُ بكلماتٍ طيّبةٍ، وهو يُبدي اهتماماً خاصاً "بالأسـتاذ".
لا يُطيلُ المُكوثَ، وقبل أن يغادرَ، يطلبُ منه أن يسـاعدَ ابنتَه التي تدرسُ في السّنة الأولى لغة عربية:
ـ إذا كان وقتك يسمح.
ـ أنت تأمر يا عم.
ساعاتُ المسـاءِ, صار يُمضيها في بيت العائـلة، يجلس سـاعةً، أو سـاعتين، تجلس أمامه صامتةً، تُصغي إليه باهتمامٍ، كما يجدُر بتلميذةٍ تجلس أمام معلمها، تستَرِقُ نحوه ـ بين الفينة والفينة ـ نظراتٍ خاطفة؛ أمُّها تتابعها من بعيدٍ، تراقب نظراتِها، وحركاتِها.
اكتسـب ثقةَ الأبِ، وصارت تصعد هي إلى السّـطح: تجلس على الأريكة القديمة في سـاعات المساء، وقبْلَ هبوطِ الليل، يُنهي الدّرسَ، وتغادر.
نظراتُها الخاطفةُ أصبحتْ متمهِّلة، تتمعَّن في ملامحه: حزنٌ غامضٌ يرتسم على وجهه، وفي نظرة عينيه؛ خطواتُها الصّباحيّةُ المستعجلة صارت أكثرَ هدوءاً، وهي تسير إلى جانبه نحو موقف الباص, وكلمة "صباح الخير" تخرج من شفتيها مع ابتسامةٍ مرتبِكة.
ساعات المساء بدأت تطولُ... بعد أن ينهيَ الدّرسَ، تتطرّق إلى مواضيعَ أخرى، تحاول أن تكتشفَ سرَّ هذا الحزن الذي يغلِّف ملامحَه، تتكلَّم بهدوءٍ، يتضرَّج وجهُها الصّافي بحُمْرةٍ ورديَّةٍ، حتّى طرَفِ أنفِها المستقيم.
لفَتَ نظرَها ـ منذ البدايةـ الكتبُ الكثيرة الموزّعة ُعلى الأرفِّ، وفوق الطاولة...
ـ هل قرأتَ كلَّ هذه الكتب؟ِ
أومأَ برأسه بالإيجاب.
طلبتْ منه كتاباً تقرأه. تمهَّلَ بالرّدِّ، ثم ّقال:
ـ اختاري الكتابَ الذي يناسبكِ، وخذيه.
ـ أريد أن تختارَ ليَ أنتَ… ورمتْ نحوه نظراتٍ مباشِرة.
امتدّتْ يدُه نحو أحدِ الأرفِّ، سحبَ روايةَ آلام فرتر, وقال مداعباً:
ـ انتبهي! هذه الروايةُ أبكت ـ في زمانها ـ بناتِ ألمانيا.
ابتسمت ابتسامةً فَرِحة، حملتْ كتبَها، ومَضَتْ.
الليل هبط قبل قليلٍ، ليلٌ هادئٌ رقيق. جلس يتأمّل النّجومَ المبعثرةَ؛ الماضي والحاضرُ يضطجعانِ على سرير قلبه، يتّسع قلبُه، يحتوي الكونَ بلا نهائيّتِه.
ليس الحزنُ ما يعاني، ولكنْ تعزُّ عليه الأيام ُالجميلة، كيف مضتْ بصمتٍ خجولٍ، مثلَ طفلٍ مذنب.
الأبُ لم يَعُدْ من عمله بعدُ، الأمُّ تنتـظرها بقلقٍ، توجّهتْ إلى غرفتها، أغلقتِ البابَ, وجلستْ على حافّةِ السّرير… شيءٌ كالسّـعادةِ, كالحزنِ، لا تدري؛ لكنَّ سكينةً شاملةً تملأ روحَها .
فتحت الكتاب… لم تقرأ حرفاً، ضمّتْ رُكبتَيها إلى صدرها، وراحت تحدّقُ في المجهول.
ظلت وقتاً طويلاً شاردةً في أفكارٍ لا تعرف ماهيّتَها، غارقةً في مشاعرَ متناقضةٍ،عذبةٍ، لذيذةٍ؛ لكنّها مرهِقةٌ وممضّةٌ في الوقت نفسه، تعيد في خيالها كلَّ كلمةٍ قالها، وكلَّ حركةٍ بَدَرَتْ منه.
ماذا أصابها؟… لا تدري، غيرَ أنَّ كلَّ شيءٍ فيه بات عزيزاً على قلبها، قريباً من مشاعرها البِكرِ الشّفّافة.
تفرح تارةً، تحزن تارة، وشعورٌ غامضٌ، جديد، يتصاعد في أعماقها… "ساعدني يا رب… ساعدني"، أسـندت رأسـها على ركبتيها، ودمعةٌ حارّة ٌتجمّدتْ بين رموشها.
امتدَّ الليلُ طويلاً، وضوءُ المصباح ينطلق من نافذة الغرفة الصغيرة.
في الصباح… لم يلتقِ بها في طريقه إلى موقف الباص، في المساء… لم تأتِ إلى الدّرس.
لم يأبهْ للأمر في البداية؛ لكنَّ غيابَها أسبوعاً كاملاً وَلّد في داخله القلقَ: "لعلها مريضة؟"، وقرَّر أن يسألَ عنها إذا لم يلتقِ بها صباح الغد.
كانت الشمس قد غابت منذ زمنٍ، والليل أسدل خيمتَه السوداءَ، حين سَمِعَ وقْع خطواتٍ هادئةٍ، تصعد إلى السّطح.
نظر إليها، في ملامحها شيءٌ مختلف: وجهها الشاحبُ، أين إشراقه وصفاؤه؟
عيناها المتعبتان، أين غارَ بريقهما؟…
- ما بكِ؟
هزّتْ رأسَها، ولم تنبسْ بكلمة، فَتَحَ الكتابَ، وتـهيّأ لِشَرْحِ الدرس، وهي صامتةٌ، شاردة، لا تجرؤ على النظرِ في عينيه.
فجأةً، وبدون مناسة، تسأله:
ـ هل قرأتَ الكتاب الذي أعطيتني إياّه؟
ــ قرأتُه منذ زمنٍ.
أرادت أن تقولَ شيئاً آ خرَ؛ لكنّها وجدتْ نفسها تسألُ من جديد:
ـ هل تكتبُ قصصاً؟
أجاب باقتضاب، وهو يزداد حيرةً؛ حاول أن يعيد الأمورَ إلى سِـياق الدرس، وشـعورٌ بالحرج بدأ ينتابه من تأخُّرِ الوقت؛ لكنّها تابعت دون أن تنظر إليه:
ـ كم أتـمنّى أن أكون مثلك: مثقَّفة، وعندي مكتبـةٌ كبيرةٌ مثلَ مكتبتك.
انزلقَ المنديلُ عن رأسها، خِصلةٌ سـوداءُ لامعةٌ تراقصت فوق جبينها، وهي ما تزال تتابع:
ـ في داخلي أحلامٌ كثيرةٌ لا تتسـعها جدران بيتنا.
الليل يرق،, والنسيم الرطب يحرِّك الأغصانَ، وهي منساقةٌ إلى الحديث عن نفسـها، يمتزج حفيفُ الأوراق مع كلماتها الراجفة، فيصغي إليها كأنّه في حلمٍ جميل.
ـ لو كان بجانبي إنسـانٌ مثلكَ، يأخذ بيدي، ولا يتخلى عنِّي… اختلجتْ شـفتاها، وتقطّعتْ كلماتها، وازداد احمرارُ وجنتيها، وهو ينظر إليها كأنه يراها للمرة الأولى...
"هذه الفتاةُ الوديعةُ، الصامتة، تخفي كلَّ هذه الأحلام!". الحَرَجُ يزداد داخله، فقد تأخّرَ الوقت كثيراً.
فجأةً… تظهر أمّها على السّطح.
رفعتْ منديلها بحركةٍ سـريعة، واعتدلتْ في جلسـتها؛ اقتربت الأمُّ منهما، رَمَـتْه بنظراتٍ حادّة، وعنَّفت ابنتَها بصوتٍ منخفض، لا تريد أن يسمعَ أحدٌ ما يجري، طلبت منها النزولَ فوراً.
رفضتِ النزول معها، ردّتْ عليها بكلماتٍ قاطعةٍ متحدية:
ـ لست ُ صغيرة!
أذهله ردُّها، و تحوّلَ حرجُه إلى خجلٍ وتوتُّر.
أُسـقِطَ في يد الأمّ، فضّلتِ النزولَ وحدَها "كي لا تثير فضيحة"؛ لكنّ نظراتِها الحادّة، وزمّة شفتيها، توحيان بالوعيد.
امتقع لونـها، وغابت الملامح عن وجهها، جمدت في مكانها صامتةً، تتنفّس أنفاساً متلاحقةً، وجسدُها كله يرتعش. لم يقلْ شـيئاً، خشي إن قال - ولو كلمةً واحدةً - أن تنفجر مباشرةً بالبكاء. مرّت دقائقُ تقيلةً، بطيئةً، كلٌّ منهما ينظر في اتجاهٍ؛ لكنّه يفكّر بالآخر. انسحبتْ بعد قليل، ألقتْ كلماتٍ راجفةً، ومضتْ.
ظلَّ ساكناً، شاردَ الذهن، مأخوذاً بهذه القوَّة التي فاجأته بها هذه الفتاة الرقيقة.
لم ينمْ ليلته، وفي الصباح، خرج مبكِّراً، لا يريد أن يلتـقيَ أحداً من العائلة، ظلّ طيلة النهار يفكر في ما حصل، ونظراتُ أمِّها الحادّة المؤنِّبة لا تغيب عن خياله..."لأيِّ سببٍ؟ وكيف ستنفِّذ الأمُّ وعيدَها؟… مـا موقف أبيها الذي منحني ثقته؟ وكيف سيفهم الأمر؟… يجب أن أتركَ البيتَ قبل أن أتسبّب لها بمشاكلَ لا تستحقّها"
عاد متأخّراً، دخل بحذر، يريد أن يأخذ الأشـياء الضروريّة، ويغادر إلى أيّ سكنٍ مؤقّت.
سمع خطواتٍ مستعجلةً تتبعه.
ـ لماذا تأخّرْتَ ؟… انتظرتكَ طول النهار.
كانت تتحدَّثُ بنـبرةٍ منهَكة, معاتِبة، وإصرارٌ غريب ينبعث من عينيها المتعبتين، رمَتْ في يده ورقةً صغيرةً مطويّةً عدّة طيّاتٍ...
ـ لا أستـطيع التأخّرَ. إذا أردتَ أن تعطيني ردّاً اتركْه تحت فرشـةِ الأريكة… ثمّ غادرتْ مسرعةً.
لم يدخل الغرفة، جلس على الأريكة منهدّاً؛ النسـمة باردةٌ، أو لعلَّ خلاياه الملتهبة جعلته يشعر بلسع النسمات.
فتح الورقة… كلماتٌ قليلة، يبدو من خطّها أنها كُتبت على عجل، قرأ:
"ضربني أخي، منعني من الصّعود إلى السّطح، وهدّدني بترك الجامعة… قلتُ لهم إنّك طلبتَ منّي المغادرةَ أكثر من مرّة، ولكنْ أنا التي رفضت… لا يهمّني الضرب، مستعدّةٌ أن أتحمّل أكثر من ذلك… أنا أحبّك… ولا شيء بعدك يهمّني".
وضع الورقة جانباً، غيرَ مصدِّقٍ ما يجري، أخذ نفَسـاً عميقاً، ورفع نظره نحو السّـماء... القمرُ يبدو مكتملاً، يجري مسـرعاً خلف غيمةٍ كبيرةٍ تحجبُ نورَه عن الأرض، وفي داخله تجري الأحداث مسـرعةً: تلك المشاعرُ القديمة، والرسـالة التي انتظرها شـهوراً ولم تأت، وهذه الرسالة التي تأتيه على غير انتظار، وما رافقها من مشاعر...
الغيمة تنزاحُ شـيئاً فشـيئاً، ليَظهرَ وجهُ القمر بهيّاً ساطعاً، يرسل إلى الأرض أشعّته الفضّيةَ؛ وفي قلبه نورٌ جديدٌ، يشعُّ دافئاً، وفتيّاً.
منذر فالح الغزالي