في زاويةٍ بعيدةٍ خارج خيمته يجلس وحيداً .
لاشيءَ حوله سوى الليل، يرخي عباءتَه السوداءَ على الكائنات النائمة.
عيناه تنظران إلى النجوم ِ البعيدة المتناثرةِ مثلَ حبّات عِقد ٍ انقطع خيطُه.
لا صوتَ حوله، سوى صوتِ جندبٍ يصرّ في مكانٍ ما فوق الصحراء الممتدّة, يطغى عليه بين حينٍ وآخر صوتُ محرّك ٍ بعيدٍ، أو هديرُ طائرةٍ تجوبُ السماء.
رغم نداوةِ الليل, وهذا السكون الشامل, فإنَّ فكرَه يغوص عميقاً، يحرّك رمادَ الروح ِ ليوقدَ الجمرة َ الكامنة.
شيء ٌ ما في رأسه ِ لا يهدأ، ولا يدَعُه يهدأ.
شعورٌ ما، لعلّه الحزنُ, لعلَّهُ النَّدمُ، لعلَّها الغربة… شعورٌ عميقٌ، مؤلمٌ وممضٌّ، يفجّر الذكرياتِ دفعة ً واحدة.
الذكريات ُكلّها ـالبعيدةُ منها والقريبةـ تنساب في وجدانِه، وهو يستسلمُ لها بـهدوءٍ وطواعية.
ذكرى الشباب ِ الأوّلِ… وذلك الاندفاع, والإيمان الساذج بمبادئَ استلهمها من كتب والده التي قرأها في فتوّته المبكّرة.
ذكرى أيام الجامعة، والكتبِ الكثيرة التي جمعها واحداً, واحداً… لكلِّ كتابٍ ذكرى, ولكلِّ ذكرى أفراحُها, وعذاباتها، وخصوصيّاتها التي لا تُمحى.
اشتاق إلى رائحة الكتب, إلى تناثرها الفوضويِّ فوق الطاولة والكراسي، وفي كلِّ زاويةٍ من زوايا غرفته.
كم اختلفَ مع أمِّـه على ترتيبِ الغـرفـة! كم اشتكتْ من الفوضى المنتشرةِ فيها! وكم رجاها ألاّ تشغلَ بالها بأمر غر فتهِ وترتيبها!
أمُّه التي هرمتْ قبل الأوان: هدَّها موتُ أبيه المبكّر، وهدَّها أكثر همُّه, وهمُّ أخوتِه.
شهاب ٌ منفلتٌ من نجم ٍبعيدٍ يمزّق جدارَ الظلمة, يدوم لحظاتٍ، ثـمَّ يتلاشى .
وشهابٌ آخر يلمع في رأسِه… ذلك اليومُ, حين قرَّر الالتحاقَ بخدمة العَلم.
كانت رسالة ُ الماجستير لم تنتهِ بعدُ؛ لكنَّ العمرَ يمضي، وقد تجاوزَ الثلاثين.
محاضرته الأخيرةُ كانت محاضرةَ وداع، رؤيتَـه للتاريخ الذي أحـبَّه، والذي استلبه من حياتِه، حتى عَجِز عن الارتباط بالفتاة الوحيدةِ التي أحبَّها, والتي طالما ارتجف قلبُه كلَّما جلستْ بجانبه في المدرَّج, أو على مقعدٍ في حديقة الكلّيَّة: أنوثتها الفتيّة تلهِبُ مشاعرَه, وعيناها المشاكستان تُربكان هدوءه… يحمرُّ وجهُه, ويصمت، أو يهربُ من ارتباكه, فيحدّثَها عن المحاضرات, والتخرّج... وعن التاريخ.
كانت تمهِّـدُ له الطرقَ المقفلة َ في نفسِه، بحركاتِ يديها, بتعبيرات وجهِها, بالأحاديثِ التي تخترعُها عنها, وعن أهلها، علَّهُ ينطقُ تلك الكلمة َ التي تنتظرُها, فترتبط به إلى الأبد.
وانقضت السنواتُ الأربعُ, وهو يجلس بجانبها في المدرّج, أو في حديقة الكلّيَّة: يحمرُّ وجهه، ويصمت، أو يتحدّث عن التاريخ.
مضتْ في طريقها، وبقيَ في الكليَّة مُعيداً, وبقيتْ تلك المشاعرُ في قلبه مثلَ زهرةٍ محنّطة.
وها هو ـوقد مضى عمر الفتوَّةِ، والمشاعرِ الملتهبةـ يودِّعُ طلابَه:
"الحدثُ التاريخيُّ يصنعه الناس, كلُّ الناسِ… حتى التقاليدُ التي تعشّش في رؤوسِ الناس, تحدِّدُ مسارَ الحدث التاريخي… إراداتُ الناس في مجتمعٍ محدّدٍ, تتشابك, وتتصادم, فينتجُ عنها محصِّلةٌ واحدة ٌ هي الشعاع الذي يحدِّد اتجاهَ التاريخ".
أحَسَّ بوخزةِ ضميرٍ, وقد داهمَته ذكرى ذلك اليوم.القريب, حين جاء الأمرُ بتحرُّكِ القطعة العسكريّة التي يخدمُ فيها لتشاركَ قواتِ التحالف الغربي في تحرير الكويت.
" إرادة ُالناس, والظروفُ السياسيةُ والاقتصادية, هي التي تصنع ُ الحدث َ التاريخيَّ"، صحَّحَ لنفسه هازئاً، وأصبعه ترسم خطوطاً على الرمال الدافئة.
سيطرتِ الذكرى على حواسِّه, َصدْمتُها مازالت حارّة… ذلك الحوارُ الطويل الذي كاد أن يتسبَّبَ له بمشاكلَ كثيرةٍ لولا تفهُّم ِ قائدِه.
طلبَ الاعتذارَ عن المشاركة, وهو يَعلم أنَّ هذا أمرٌ غيرُ ممكن.
طلبَ نقلَه إلى قطعةٍ عسكريَّةٍ أخرى لا تغادر أرض الوطن… إلى خطِّ الجبهة, إلى أيّ مكان ٍ شعاعُ الواقع ِ فيه لا يتناقض مع شعاع مبادئه .
وامتدّ الحوار طويلاً...
ـ أفهم حقَّ الأمم في التحرُّر… أفهم أن نساعد الأمم في التحرر، ولكن ما لا أفهمه, أو أستطيع تفسيره: كيف نقدّمُ الشهداءَ في جبهةٍ للتصدي (للهجمة الإمبريالية الشرسة!)، وفي جبهةٍ أخرى نشاركُ في حربٍ تقودها هذه الإمبرياليةُ الشرسة نفسُها؟
وتوقّّف الحوارُ قبل أن يصلَ إلى مناطقَ أكثرَ سخونةً، أوقفَه القائد بأمرٍ عسكريّ.
استجاب للأمـر؛ لكنَّ عقـله لم يستجِبْ، ظلَّ يطرح عليه أسئلة ًلا أجوبة َلها، ويجيب عن أسئلةٍ لم يسألْها أحد.
وخزة ُ الضمير أصبحت إبراً تخِـزُه في كلِّ خليّـةٍ من جسمه.
الليل النديُّ صار أكثر برودةً، ورأسُه صارت خليـّة َ نحـل ٍ هائجة، النجوم تشعُّ في السماء، آلافُ العيون تنظرُ نحوه, تراقبُه, أو تَشْهَدُ عليه.
اتَّكأ على كفّه المضمومة… رمالُ الصحراءِ لا تزال دافئـة ًرغم برودةِ الليل، رَفَعَ جسدَه المتعبَ، وتوجَّه نحو خيمته.
أضواء مدنٍ بعيدةٍ تشعُّ مثلَ نجوم ليلته الطويلة، مدنٍ يسكنها بشرٌ يعملون, أو يسهرون, أو ينامون بين أهلهم… شعور الغربة يزداد ضغطاً على مشاعره.
أطفأ النورَ، ورمى رأسَه الثقيلَ على المخدّة؛ لكنّ خليَّةَ النحل في رأسه لم تهدأ، تقلّب كثيراً, وهو يعلم أنَّ معركته مع النوم ستظلُّ خاسرة.
راح يُغريه بأحلام يقظةٍ هادئة… ومن أين يأتي بالهدوء, وهو يشعر أنَّ خلاياه تحترق؟!
لا يدري كم مضى من الوقت, وهو يستجدي حارسَ النوم… استعاد طفولته البعيدة، صورَ إخوتـِه الصغارِ معفَّرين بتراب القرية، والشمسُ تلفحُ وجوهَهم الرقيقة.
صورةََ َأمِّه القانعةِ، الراضية بما قدَّرَه الله, تهزُّ سريرَ أخته الصغرى كي تنامَ.
أغنيتها الحزينة، وشرودُها الطويلُ, تثير الحزنَ في داخله، يلصق جسده الصغيرَ بها، وهو يهرب من البكاء، يدُها الناعمة ُتمتدُّ نحوه، تُهَدْهِدُه، تداعب وجهَه، تمسحُ الدمعَ المنسابَ على وجنتيه، يُلقي رأسه في حضنها باطمئنان، العَرَق ُ ينزُّ من جبهتِه, واليدُ الحنونُ تمسِّدُ الوجهَ الصغيرَ… تنتقلُ إلى عنقِه، تصبح ثقيلةً، يشعرُ بها تضغط على كتفِه, وصدرِه… يفتحُ عينيه فزِعاً: ضوءٌ ساطعٌ يبهرُ العينين اللتين لم يفارقْهما النومُ, يعْرُكُهما بيديه، يرفعُ جفنيه بصعوبة. تختفي صورةُ أمِّه، وتغيب أغنيتُها الحزينة.
لا يرى سوى خيمةٍ يخترقُ بابَها المفتوحَ شعاعُ شمسٍ حادَّة، وقائـدِ الجماعة الأولى يُوقِظه. عرقٌ غزيرٌ يبلِّل جسمَه، وقشعريرةٌ حادَّةٌ تجتاح خلاياه. دخل المرضُ إلى جسده, تخلَّلَ العظامَ، وجميعَ الخلايا؛ لكنْ، ليس المرضُ ما يهمُّه... ليلة ُأمسِ, وليالي الأرق ِ والتفكيرِ التي سبقتها، وهذا الواقعُ الغريبُ الذي فُرِضَ عليه هو الذي يهمُّه, ويؤلمه.
لبسَ هندامَه, وغسل بقايا النوم ِالعالق ِعلى جفونه, وخرج.
الصحراء تمتـدّ على كلِّ الاتجاهات, قدماه تغوصان في رمالها عند كلِّ خطوةٍ. صوتُ طائر بعيدٍ يأتي من الأعالي. يرفع رأسَه, يحاول أن يراه؛ لكنَّ الشمسَ الساطعة َتغمضُ عينيه عنوةً.
في مكتبِ قائد الكتيبة, اجتمع قادة ُالسرايا والفصائل. كان قائد الكتيبةِ ُينهي كلامَه حين حيّا ودخل...
وانفضَّ الاجتماعُ، وأدرَك أنَّ المعركة َستبدأ قريباً. توجَّه إلى قطّاع فصيلته لا يدري ماذا يفعل.
الطائر البعيدُ مازال يصرخُ في السماء, والشمسُ ترسل ِسياطَ أشعّتِها, فتنعكسَ على الرمالِ وهَجاً يترك على الوجه والأذنين لفحَ حرارته. الرطوبة ُالخانقة، واللزوجةُ التي تلتصق ُ بجسده، وهذا الحرُّ الشديدُ، تمتزجُ مع أفكاره المحمومةِ، فتتصاعدُ في صدرِه غضباً مكبوتاً يكاد أن يفجّرُ شرايينَه. دخل الخيمة َالقريبةَ، تهيّأ قائدُ الجماعةِ لتقديم ِالصفِّ؛ لكنَّه أشار بيده أنْ " تابِعْ".
الجنودُ منهمكون بتنظيفِ بنادقِهم، علبُ زيتٍ, وفرشايات, وقطعُ قماش ٍ تناثرتْ حولهم.
عاد إلى ذاكرته ذلك الشهابُ الذي رآه ليلة َ أمس, كيف مزَّقَ جدارَ الظلام لحظاتٍ, ثمّ اختفى كأنّه لم يكن، ومثلَ هذا الشهابِ أحسّ أن معاناتَه ستتلاشى, وتزولُ كأنّ شيئاً لم يكن. وبصوتٍ تعمَّدَ أن يسمَعَه الجميعُ، طلبَ من قائدِ الجماعة قليلاً من الزيت، وقطعة قماشٍ لينظِّفَ مسدَّسَه.
* * *
المسدَّس في يده اليسرى، وهو جالسٌ على السرير ينظر إليه، هيّأه, فأرتج على طلقةٍ واحدة، نزَعَ المخزنَ بهدوء، وضعه على الطاولةِ القريبةِ بجانبِ علبةِ الزيتِ الصغيرة. سبَّابته تحتضن الزنادَ، وعيناه تتمعَّنان في كفّه اليمنى…
"الكفُّ التي أمسكتِ القلمَ, وكتبتْ محاضـراتٍ في التاريخ، لن تُشاركَ في"... يشيحُ وجهَه، ويشْهق:
شعلة ٌ لامعة ٌ بَرَقَتْ في عينيه، وصوتٌ حادٌّ صمَّ أذنيه، ألمٌ شديدٌ يمتدّ من كفّه النازفةِ إلى كلِّ جزءٍ في جسدِه .
خيمته امتلأتْ بالجنودِ، وصفِّ الضباط، والضباط .
الطنينُ يملأ رأسَه, والألمُ تحوَّلَ إلى خـدرٍ يسري في الجسد المتهالك، الوجوه أمامـه بلا ملامح… غبشٌ، وضباب ٌ، وصـورُ أشباح.
صوتُ النسر يرتفع في أذنيه، يراه يحلّق فوقه، يصفّق بجناحيه.
تنفرج ُ شفتاه عن ابتسامة… ويغيبُ كلُّ شيء.
سيَّارةُ الإسعافِ تنقله إلى المستشفى، وفي البعيدِ… كانت مئاتُ المدافع، والطائراتِ تطلقُِ قذائفَها... تمزِّق جسدَ الصحراء المنهكة.
لاشيءَ حوله سوى الليل، يرخي عباءتَه السوداءَ على الكائنات النائمة.
عيناه تنظران إلى النجوم ِ البعيدة المتناثرةِ مثلَ حبّات عِقد ٍ انقطع خيطُه.
لا صوتَ حوله، سوى صوتِ جندبٍ يصرّ في مكانٍ ما فوق الصحراء الممتدّة, يطغى عليه بين حينٍ وآخر صوتُ محرّك ٍ بعيدٍ، أو هديرُ طائرةٍ تجوبُ السماء.
رغم نداوةِ الليل, وهذا السكون الشامل, فإنَّ فكرَه يغوص عميقاً، يحرّك رمادَ الروح ِ ليوقدَ الجمرة َ الكامنة.
شيء ٌ ما في رأسه ِ لا يهدأ، ولا يدَعُه يهدأ.
شعورٌ ما، لعلّه الحزنُ, لعلَّهُ النَّدمُ، لعلَّها الغربة… شعورٌ عميقٌ، مؤلمٌ وممضٌّ، يفجّر الذكرياتِ دفعة ً واحدة.
الذكريات ُكلّها ـالبعيدةُ منها والقريبةـ تنساب في وجدانِه، وهو يستسلمُ لها بـهدوءٍ وطواعية.
ذكرى الشباب ِ الأوّلِ… وذلك الاندفاع, والإيمان الساذج بمبادئَ استلهمها من كتب والده التي قرأها في فتوّته المبكّرة.
ذكرى أيام الجامعة، والكتبِ الكثيرة التي جمعها واحداً, واحداً… لكلِّ كتابٍ ذكرى, ولكلِّ ذكرى أفراحُها, وعذاباتها، وخصوصيّاتها التي لا تُمحى.
اشتاق إلى رائحة الكتب, إلى تناثرها الفوضويِّ فوق الطاولة والكراسي، وفي كلِّ زاويةٍ من زوايا غرفته.
كم اختلفَ مع أمِّـه على ترتيبِ الغـرفـة! كم اشتكتْ من الفوضى المنتشرةِ فيها! وكم رجاها ألاّ تشغلَ بالها بأمر غر فتهِ وترتيبها!
أمُّه التي هرمتْ قبل الأوان: هدَّها موتُ أبيه المبكّر، وهدَّها أكثر همُّه, وهمُّ أخوتِه.
شهاب ٌ منفلتٌ من نجم ٍبعيدٍ يمزّق جدارَ الظلمة, يدوم لحظاتٍ، ثـمَّ يتلاشى .
وشهابٌ آخر يلمع في رأسِه… ذلك اليومُ, حين قرَّر الالتحاقَ بخدمة العَلم.
كانت رسالة ُ الماجستير لم تنتهِ بعدُ؛ لكنَّ العمرَ يمضي، وقد تجاوزَ الثلاثين.
محاضرته الأخيرةُ كانت محاضرةَ وداع، رؤيتَـه للتاريخ الذي أحـبَّه، والذي استلبه من حياتِه، حتى عَجِز عن الارتباط بالفتاة الوحيدةِ التي أحبَّها, والتي طالما ارتجف قلبُه كلَّما جلستْ بجانبه في المدرَّج, أو على مقعدٍ في حديقة الكلّيَّة: أنوثتها الفتيّة تلهِبُ مشاعرَه, وعيناها المشاكستان تُربكان هدوءه… يحمرُّ وجهُه, ويصمت، أو يهربُ من ارتباكه, فيحدّثَها عن المحاضرات, والتخرّج... وعن التاريخ.
كانت تمهِّـدُ له الطرقَ المقفلة َ في نفسِه، بحركاتِ يديها, بتعبيرات وجهِها, بالأحاديثِ التي تخترعُها عنها, وعن أهلها، علَّهُ ينطقُ تلك الكلمة َ التي تنتظرُها, فترتبط به إلى الأبد.
وانقضت السنواتُ الأربعُ, وهو يجلس بجانبها في المدرّج, أو في حديقة الكلّيَّة: يحمرُّ وجهه، ويصمت، أو يتحدّث عن التاريخ.
مضتْ في طريقها، وبقيَ في الكليَّة مُعيداً, وبقيتْ تلك المشاعرُ في قلبه مثلَ زهرةٍ محنّطة.
وها هو ـوقد مضى عمر الفتوَّةِ، والمشاعرِ الملتهبةـ يودِّعُ طلابَه:
"الحدثُ التاريخيُّ يصنعه الناس, كلُّ الناسِ… حتى التقاليدُ التي تعشّش في رؤوسِ الناس, تحدِّدُ مسارَ الحدث التاريخي… إراداتُ الناس في مجتمعٍ محدّدٍ, تتشابك, وتتصادم, فينتجُ عنها محصِّلةٌ واحدة ٌ هي الشعاع الذي يحدِّد اتجاهَ التاريخ".
أحَسَّ بوخزةِ ضميرٍ, وقد داهمَته ذكرى ذلك اليوم.القريب, حين جاء الأمرُ بتحرُّكِ القطعة العسكريّة التي يخدمُ فيها لتشاركَ قواتِ التحالف الغربي في تحرير الكويت.
" إرادة ُالناس, والظروفُ السياسيةُ والاقتصادية, هي التي تصنع ُ الحدث َ التاريخيَّ"، صحَّحَ لنفسه هازئاً، وأصبعه ترسم خطوطاً على الرمال الدافئة.
سيطرتِ الذكرى على حواسِّه, َصدْمتُها مازالت حارّة… ذلك الحوارُ الطويل الذي كاد أن يتسبَّبَ له بمشاكلَ كثيرةٍ لولا تفهُّم ِ قائدِه.
طلبَ الاعتذارَ عن المشاركة, وهو يَعلم أنَّ هذا أمرٌ غيرُ ممكن.
طلبَ نقلَه إلى قطعةٍ عسكريَّةٍ أخرى لا تغادر أرض الوطن… إلى خطِّ الجبهة, إلى أيّ مكان ٍ شعاعُ الواقع ِ فيه لا يتناقض مع شعاع مبادئه .
وامتدّ الحوار طويلاً...
ـ أفهم حقَّ الأمم في التحرُّر… أفهم أن نساعد الأمم في التحرر، ولكن ما لا أفهمه, أو أستطيع تفسيره: كيف نقدّمُ الشهداءَ في جبهةٍ للتصدي (للهجمة الإمبريالية الشرسة!)، وفي جبهةٍ أخرى نشاركُ في حربٍ تقودها هذه الإمبرياليةُ الشرسة نفسُها؟
وتوقّّف الحوارُ قبل أن يصلَ إلى مناطقَ أكثرَ سخونةً، أوقفَه القائد بأمرٍ عسكريّ.
استجاب للأمـر؛ لكنَّ عقـله لم يستجِبْ، ظلَّ يطرح عليه أسئلة ًلا أجوبة َلها، ويجيب عن أسئلةٍ لم يسألْها أحد.
وخزة ُ الضمير أصبحت إبراً تخِـزُه في كلِّ خليّـةٍ من جسمه.
الليل النديُّ صار أكثر برودةً، ورأسُه صارت خليـّة َ نحـل ٍ هائجة، النجوم تشعُّ في السماء، آلافُ العيون تنظرُ نحوه, تراقبُه, أو تَشْهَدُ عليه.
اتَّكأ على كفّه المضمومة… رمالُ الصحراءِ لا تزال دافئـة ًرغم برودةِ الليل، رَفَعَ جسدَه المتعبَ، وتوجَّه نحو خيمته.
أضواء مدنٍ بعيدةٍ تشعُّ مثلَ نجوم ليلته الطويلة، مدنٍ يسكنها بشرٌ يعملون, أو يسهرون, أو ينامون بين أهلهم… شعور الغربة يزداد ضغطاً على مشاعره.
أطفأ النورَ، ورمى رأسَه الثقيلَ على المخدّة؛ لكنّ خليَّةَ النحل في رأسه لم تهدأ، تقلّب كثيراً, وهو يعلم أنَّ معركته مع النوم ستظلُّ خاسرة.
راح يُغريه بأحلام يقظةٍ هادئة… ومن أين يأتي بالهدوء, وهو يشعر أنَّ خلاياه تحترق؟!
لا يدري كم مضى من الوقت, وهو يستجدي حارسَ النوم… استعاد طفولته البعيدة، صورَ إخوتـِه الصغارِ معفَّرين بتراب القرية، والشمسُ تلفحُ وجوهَهم الرقيقة.
صورةََ َأمِّه القانعةِ، الراضية بما قدَّرَه الله, تهزُّ سريرَ أخته الصغرى كي تنامَ.
أغنيتها الحزينة، وشرودُها الطويلُ, تثير الحزنَ في داخله، يلصق جسده الصغيرَ بها، وهو يهرب من البكاء، يدُها الناعمة ُتمتدُّ نحوه، تُهَدْهِدُه، تداعب وجهَه، تمسحُ الدمعَ المنسابَ على وجنتيه، يُلقي رأسه في حضنها باطمئنان، العَرَق ُ ينزُّ من جبهتِه, واليدُ الحنونُ تمسِّدُ الوجهَ الصغيرَ… تنتقلُ إلى عنقِه، تصبح ثقيلةً، يشعرُ بها تضغط على كتفِه, وصدرِه… يفتحُ عينيه فزِعاً: ضوءٌ ساطعٌ يبهرُ العينين اللتين لم يفارقْهما النومُ, يعْرُكُهما بيديه، يرفعُ جفنيه بصعوبة. تختفي صورةُ أمِّه، وتغيب أغنيتُها الحزينة.
لا يرى سوى خيمةٍ يخترقُ بابَها المفتوحَ شعاعُ شمسٍ حادَّة، وقائـدِ الجماعة الأولى يُوقِظه. عرقٌ غزيرٌ يبلِّل جسمَه، وقشعريرةٌ حادَّةٌ تجتاح خلاياه. دخل المرضُ إلى جسده, تخلَّلَ العظامَ، وجميعَ الخلايا؛ لكنْ، ليس المرضُ ما يهمُّه... ليلة ُأمسِ, وليالي الأرق ِ والتفكيرِ التي سبقتها، وهذا الواقعُ الغريبُ الذي فُرِضَ عليه هو الذي يهمُّه, ويؤلمه.
لبسَ هندامَه, وغسل بقايا النوم ِالعالق ِعلى جفونه, وخرج.
الصحراء تمتـدّ على كلِّ الاتجاهات, قدماه تغوصان في رمالها عند كلِّ خطوةٍ. صوتُ طائر بعيدٍ يأتي من الأعالي. يرفع رأسَه, يحاول أن يراه؛ لكنَّ الشمسَ الساطعة َتغمضُ عينيه عنوةً.
في مكتبِ قائد الكتيبة, اجتمع قادة ُالسرايا والفصائل. كان قائد الكتيبةِ ُينهي كلامَه حين حيّا ودخل...
وانفضَّ الاجتماعُ، وأدرَك أنَّ المعركة َستبدأ قريباً. توجَّه إلى قطّاع فصيلته لا يدري ماذا يفعل.
الطائر البعيدُ مازال يصرخُ في السماء, والشمسُ ترسل ِسياطَ أشعّتِها, فتنعكسَ على الرمالِ وهَجاً يترك على الوجه والأذنين لفحَ حرارته. الرطوبة ُالخانقة، واللزوجةُ التي تلتصق ُ بجسده، وهذا الحرُّ الشديدُ، تمتزجُ مع أفكاره المحمومةِ، فتتصاعدُ في صدرِه غضباً مكبوتاً يكاد أن يفجّرُ شرايينَه. دخل الخيمة َالقريبةَ، تهيّأ قائدُ الجماعةِ لتقديم ِالصفِّ؛ لكنَّه أشار بيده أنْ " تابِعْ".
الجنودُ منهمكون بتنظيفِ بنادقِهم، علبُ زيتٍ, وفرشايات, وقطعُ قماش ٍ تناثرتْ حولهم.
عاد إلى ذاكرته ذلك الشهابُ الذي رآه ليلة َ أمس, كيف مزَّقَ جدارَ الظلام لحظاتٍ, ثمّ اختفى كأنّه لم يكن، ومثلَ هذا الشهابِ أحسّ أن معاناتَه ستتلاشى, وتزولُ كأنّ شيئاً لم يكن. وبصوتٍ تعمَّدَ أن يسمَعَه الجميعُ، طلبَ من قائدِ الجماعة قليلاً من الزيت، وقطعة قماشٍ لينظِّفَ مسدَّسَه.
* * *
المسدَّس في يده اليسرى، وهو جالسٌ على السرير ينظر إليه، هيّأه, فأرتج على طلقةٍ واحدة، نزَعَ المخزنَ بهدوء، وضعه على الطاولةِ القريبةِ بجانبِ علبةِ الزيتِ الصغيرة. سبَّابته تحتضن الزنادَ، وعيناه تتمعَّنان في كفّه اليمنى…
"الكفُّ التي أمسكتِ القلمَ, وكتبتْ محاضـراتٍ في التاريخ، لن تُشاركَ في"... يشيحُ وجهَه، ويشْهق:
شعلة ٌ لامعة ٌ بَرَقَتْ في عينيه، وصوتٌ حادٌّ صمَّ أذنيه، ألمٌ شديدٌ يمتدّ من كفّه النازفةِ إلى كلِّ جزءٍ في جسدِه .
خيمته امتلأتْ بالجنودِ، وصفِّ الضباط، والضباط .
الطنينُ يملأ رأسَه, والألمُ تحوَّلَ إلى خـدرٍ يسري في الجسد المتهالك، الوجوه أمامـه بلا ملامح… غبشٌ، وضباب ٌ، وصـورُ أشباح.
صوتُ النسر يرتفع في أذنيه، يراه يحلّق فوقه، يصفّق بجناحيه.
تنفرج ُ شفتاه عن ابتسامة… ويغيبُ كلُّ شيء.
سيَّارةُ الإسعافِ تنقله إلى المستشفى، وفي البعيدِ… كانت مئاتُ المدافع، والطائراتِ تطلقُِ قذائفَها... تمزِّق جسدَ الصحراء المنهكة.