منذر فالح الغزالي - خالد السوري.. قصة قصيرة

لا أحدَ يعرف متى جاء خالدٌ الصـالح؛ لكنَّ أكثر السـوريين الذين يعملون في بيروتَ يعرفونه، أو يسمعون عنه، وقد يزورون الضاحية الجنوبية للتعرُّف عليه, أو لطلب مساعدته في أمر ٍ ما.
وخالدٌ الصالح, الشهير بـ (أبو راس) رجلٌ ممتلئ الجسـم، مشدود العضلات، لحيته كثَّةٌ، عيناه الصغيرتان اللامعتان لا تتناسبان مع رأسه الكبير الذي أخذ شهرتَه منه .
والذي لا يعرف (أبو راس)، لا يشكُّ أنه من أهل الجنوب: اكتسب لـهجتهم: وطريقة تعاملِهم… حتى في معيشته يتصرّف كأنه لبناني أباً عن جد.
رجل يحبُّ الحياة, مقبلٌ عليها بنهم، يعيش يومه، والغد لا يعنيه. بالرغم من حبِّه الشديد للمرأة، وتجاوزِه الثلاثين من العمر, فهو لا يزال أعزب.
اشتغل في مهنٍ مختلفة، حتى عَمِلَ - قبل سنواتٍ - عند مقاول الطرق "الخواجة يعقوب".
هيبته ونفوذه على العمّال جعلا الخواجة يعتمد عليه في كثيرٍ من أمور العمل. حتى أنّه دعاه إلى بيته الواسع الجميل، المشرف على سفح الجبل أكثرَ من مرّةٍ .
ـ خالد رجل شغّيل، وكلمته تمشي على الكبير قبل الصغير, والأهمُّ أنَّه إنسان أمين .
هكذا عرّفَ السيد يعقوب زوجتَه على خالد أبو راس, الذي - رغم سعادته بهذا الإطراء أمام المرأة الجميلة - ردَّ بتواضعٍ صادق:
ـ ثقتك على رأسي من فوق يا خواجة؛ لكنّ الأمانة مطلوبة في كل إنسان.
أُعجِبَتِ السيِّدة بثقته بنفسه وهو يردُّ على زوجها، وأعجبتْ أكثر بجسده القويِّ، هزَّها البريقُ المتدفِّق من عينيه اللامعتين حين وجّه نحوها نظرته الأولى .
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ، حتى أصبح ( أبو راس ) المؤتمنَ في البيت، كما في العمل .
وفي السهرات -حين يعود العمّال إلى السكن, وتبدأ أحاديثُ الشباب- تكون قصّةُ السيّدةِ مع أبو راس الموضوعَ المحبَّبَ للتندُّر.
يتجاهلهم عادةً، حتى إذا تجاوزَ أحدُهم الحدَّ، صوَّبَ نحوه نظرةً حادّة، فيصمتُ الجميعُ، وينتهي الكلام.
ذاتَ مرّةٍ سأله عليٌّ, وهو أقرب العمّال إلى نفسه:
ـ أمرك غريب يا خالد.
ـ كيف؟
ـ عندما تضع امرأة في رأسك تدفع كلَّ ما تملك للوصول إليها، وهذه السيِّدة تقدِّم لكَ نفسَها، وأنت تهرب منها!
أغمضَ عينيه قليلاً, ثمَّ التفتَ نحوه وقال:
ـ إلا الخيانة يا علي...إلا الخيانة.
أطرق عليٌّ خجلاً، وكي يغيِّر الموضوع سأل:
ـ وماذا عن بتول؟
نظر أبو راس نحو النافذة بشرودٍ, وارتسـمتْ بسمةٌ ناعمةٌ بين شعرات لحيته الكثيفة.
رقصتْ في داخله حروفُ اسمها, عزفتْ على أوتار القلب لحناً عذباً, وغَرِقَ في أفكارٍ عميقةٍ لا يعلمُ طبيعتَها أحد...
"بتول! ... زهرة الروح, الحلم البعيد, المرفأ الأخير الذي أتـمنَّى أن تنتهي فيه رحلتي".
****
الصيفُ هذه السنة حارٌّ. ما زلنا في بداية تمُّوز، والحرُّ لا يُطاق.
حمل أبو راس كرسـيّاً, وخرج يجلس على الرصيف أمام مدخل البناء, وتبعَه الآخرون.
المساء ساكنٌ، والرطوبة تملأ الجوَّ, الهواء يعبق برائحة الزهور والياسمين المعرِّش على الأسيجة والبوَّابات.
الناس خرجوا يتمشّون, أو يسهرون أمام البيوت.
على الرصيف المقابل, بقالة الحاج حسين, ومنزله: رجلٌ في الخمسينيّات, هادئٌ, لطيفٌ، لحيته الخفيفة يـملؤها الشيب، عنده بنتان, وولدٌ وحيدٌ اسمه حيدر ما زال في المرحلة المتوسّطة, والبنت الصغرى زينب, في المرحلة الثانوية .
أما الكبرى, فهي بتول، أكثرُهم شبهاً بأبيها، تجاوزتِ العشرين قليلاً، كثيراً ما تجلس في الدكان, تساعد والدَها، أو تسدُّ غيبته إذا غاب.
ها هي تطلُّ من باب الدكان..ديراها، يرقص الفرح في داخله, ينهض عن كرسـيّه:
" ما رأيكم بكأس عصيرٍ بارد؟" يسأل رفاقه، ويتوجّه نحوها.
وجهُها المشرقُ يزيدُه الحجابُ بهاءً. تستقبله بابتسامة:
ـ أهلا خالد!
ـ كيف حالك؟
ـ نشكر الله.
يتعثّر بكلماته، ولا يكمل، يقف أمامها صامتاً، يفتّش عن الكلمات، كأنّها غاصَتْ في قاع روحه.
ـ أين الحاجّ أبو حيدر؟...منذ مدّة ٍ لم نرَه.
ـ الحاجّ مشغول...لا يمكث في البيت طويلاً .
ـ أين يذهب؟
تتجاهل سؤاله...
ـ أين أغنية أمّ كلثوم ؟...لماذا تبخلُ علينا اليوم بالسماع؟
ـ ماذا تحبِّين أن تسمعي؟
ـ على ذوقك.
ـ إذن سأهديك الأغنية...هل تقبلينها؟
ـ طبعاً. كلك ذوق.
حملَ العصيرَ، وعاد. رفاقه يتهامسون، ويتغامزون, وهو ينظر إليهم, ويضحك :
ـ بدأ شوط النميمة؟!، يخاطبهم وقد أدرك معنى ابتساماتهم.
ـ انظروا إلى وجهه كيف أصبح أحمر، يقول أحدهم ضاحكاً.
ـ والله، ما أحمر من وجهي إلا حضرتك... يردُّ عليه, وتعلو الضحكات.
امتدَّ الليـلُ بهم، اسـتمعوا إلى أمِّ كلثوم, واستمع الجيران...وطبعاً بتولُ.
ما كادوا ينامون حتى استفاقوا هَلِعين على صوت انفجارٍ هائل.
ماذا حدث؟، كلُّ واحدٍ يسـألُ نفسَه، أو يسألُ صاحبَه.
انفجارٌ آخرُ يتبعه, وآخر، هديرُ طائراتٍ تملأ السماءَ...وتتوالى الانفجارات.
نظر خالدٌ من النافذة, وأشعل آخرُ التلفازَ: إسرائيل تشنُّ عدواناً على لبنان.
تسمَّـروا أمام الشاشة, وتابعوا الانفجارات من النافذة. أصواتها تهزُّ النوافذ, وبريقها يشعل الليل. اسـتيقظ الناس في الضاحية الجنوبيّة, وقرى الجنوب...في كلِّ لبنان على عدوانٍ إسـرائيليٍّ جديد، خرجوا إلى الشارع، تلفَّتَ خالدٌ نحو بيت الحاج حسين: بتولُ وأخوتُها يقفون أمام الباب.
توجَّه نحوهم مسرعا: خوفٌ شديدٌ يغلِّف ملامحَهم، بتولُ تلهج بالدعاء, تمسح وجهَها, وصدرَها.
ـ أين أبوكِ ؟ ألم يأتِ بعد؟
ترفع رأسَها نحو السماء, وتبتهلُ بصوتٍ راجف.
ـ بتول...ألم تسمعي؟ أين الحاج حسين؟، يكرِّرُ السؤالَ قلقاً.
ـ الحاج حسين ذهب منذ ثلاثة أيام.
ـ أين ذهب؟
ـ ذهب...مع المقاومة.
ـ المقاومة ...!!
بُهتَ خالد أبو راس، كأنّه يسمعُ الكلمةَ للمرّة الأولى, مجرّد النطق بها أثار في نفسه حالة ًمن الرهبةِ والكبرياء.
ارتسـمتْ أمامه صورة ُالحاجّ حسـين, بوجهه الطّيّب, وابتسامته الوديعة, والشيبِ الذي يغطّي رأسَه ولحيتَه. وتذكّرَ السنين التي عاشها في لبنان, وكلَّ أعماله, ومغامراتِه، أحسَّ بالاشمئزاز من نفسه..."حرفٌ واحدٌ من هذه الكلمة, يعادل كلَّ ما فعلتُه طيلة هذه السنين"
نظر في وجهها، ووجهِ أختها, وأخيها...شعر برغبةٍ في احتضانهم.
"ما أروع هذه الفتاة!، ما أروع تلك الكلمة وهي تخرج من شفتيها!!، هكذا...ببساطة, دون تبجُّحٍ أو ادِّعاء...منذ اليوم أنا المسؤول عن هذه العائلة ".
***
جُنّتِ الأيّامُ, وتداخل الليلُ بالنهار, وهو يمرُّ عليهم كلَّ حين، يؤمّن احتياجاتهم, يسأل عن أيّ احتياجاتٍ أخرى.
ذاتَ ليلةٍ, ارتجّتِ المنازل في الحيِّ, وخرج الناس من بيوتـهم, حملوا أطفالهم مبتعدين.
سقطت قذيفةٌ على مبنىً قريب, دويُّها صمَّ الآذان, والغبارُ ملأ الفضاء. رائحة ُالموتِ والدّمارِ عمَّتِ المكان. توجَّهَ الناس دون هدف، وصل طاقم الإنقاذ لإخلاء المواطنين.
السيارات تمتلئ بالناس. خرجت أمُّ حيدر تقود زينب و حيدر, تصيح على بتولَ كي تتبعَهم؛ لكنَّ بتولَ ترفض.
تتوسّل خالداً, وترجوه أن يُجبرَ ابنتها على المغادرة.
يحملها بيديه, يضعها داخل السيّارة, وهي تصرخ في وجهه.
يسأل بصوتٍ مرتفع:
ـ إلى أين تذهبون ؟
لكنَّ أحداً لم يسمعْه, أو ينتبهْ إليه.
صاح ببتول:
ـ اذهبوا إلى سوريا، إلى قريتنا, سأكتب لكم العنوان.
ـ لن أغادرَ يا خالد، لن أغادرَ حتى تغادر، تَرُدُّ عليه بصراخٍ يخترق الضجيج.
يدُه تُمِسكُ يدَها، تشدُّ عليها بقوَّة. السّيارة تَهِمُّ بالحركة، الناس مازالوا يصعدون، والجَلَبَةُ تملأ الشارع.
فجأةً . يسألها بصوتٍ مرتفع:
ـ تتزوَّجينني يا بتول ؟.
يباغتها طلبه:
ـ أنت مجنون؟!
يكرّر السؤال بإصرارٍ أكبر:
ـ تتزوجينني يا بتول؟
تضرب يدها على جنبها, وهي تهزُّ رأسها، تصرخ في وجهه:
ـ كلَّ الزمن الذي مرَّ، لم تجدْ أنسبَ من هذا الوقتِ لتقولها؟!
ـ سأنتظركِ يا بتول.
السيارة تتحرّك.
ـ سأنتظرك يا بتول, وستعودين.
يدُها تتشبَّث بيده, لا تريد أن تتركَها. السيارة تبتعد...وتُفلِتُ اليدينِ المتشابكتين.
وردةُ فرحٍ تنبثق بين حطام نفسه...لقد قالها أخيراً، وَسمِع ردَّها.
***
جنونُ الحربِ يسَـتعِرُ, الناس يسقطون تحتَ البيوت, وعلى الطرقات, حتى في الملاجئ والمستشفيات، وخالدٌ الصالح ُيذهب من مبنىً إلى مبنى, ومن حيٍّ إلى حيّ، يشارك في رفعِ الحطام عن الأجسادِ المتساقطة.
طواقمُ الإنقاذ صارتْ تعرفُه، وتدعوه: "خالد السوري".
بعد ثلاثةٍ وثلاثين يوماً من الجنون, وقفتِ الأعمالُ العدائيّة.
الخرابُ يملأ الأماكن, كلُّ شيءٍ مدمَّرٌ, كلُّ شيءٍ محترق.
وفي قريةٍ من جنـوبِ لبنان, بيتٌ مهـدَّمٌ، فوق الركام رجلٌ ضخمٌ, لحيته كثيفةُ، قميصُه الغارقُ بالدّم يلتصق بجثّته، سـألوا عنه، فعرفوا أنه خالدٌ السوري.
عن الكاتب
نبذة عن السيرة الأدبية

الاسم: منذر فالح الغزالي

مواليد سوريا - درعا 1968، أعيش في ألمانيا منذ العام 2015
مهندس مدني منذ العام 1995
قاص وروائي وأكتب في النقد الأدبي.
بدأت بالنشر في الصحف السورية منذ العام ٢٠٠٨
هاجرت إلى ألمانيا العام ٢٠١٥

صدر لي:

1. "الهجرة إلى الوطن"، مجموعة قصصية، دار بعل / دمشق 2010

2. "الربيع يأتي متأخراً" رواية، دار المختار، القاهرة 2018.

3. "الريح تكنس أوراق الخريف" مجموعة قصصية، دار ميزر، السويد ٢٠٢١

4. "منمنمات سردية – قراءات في القصة القصيرة جداً" نقد أدبي، الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد ٢٠٢٤

5. "كُلَيب أو نحرق البلد"، كتاب مشترك مع كتّاب عرب، في القصة القصيرة جداً، دار فلورز، القاهرة ٢٠١٦

6. "قراءات نقدية بأقلام عربية"، كتاب في النقد الأدبي (نقد الشعر)، مشترك مع كتّاب عرب، دار المختار، القاهرة ٢٠١٨

7. "تراتيل الحرف"، كتاب في نقد القصة القصيرة جداُ، مشترك مع كتّاب عرب، دار المتن، بغداد ٢٠١٩

8. "قراءات نقدية في نصوص أدبية" كتاب مشترك عن الهيئة الاستشارية للتجمع الثقافي الإنساني، سيدني، أستراليا، إصدار دار النهضة، بيروت ٢٠٢٣

9. بالإضافة إلى مقدّمات كتب لكتّاب عرب من سوريا، والعراق والمغرب والسعودية.

10. كتابات متنوعة، منشورة في مجلات وصحف عربية في الوطن العربي وأوروبا وأستراليا

جوائز وشهادات:

· جائزة "قصص على الهواء - مجلة العربي 2010"

· شهادة تقدير من الحملة الأهلية لاحتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية، سوريا - درعا 2010

· شهادة تقدير من منظمة إدراك - العراق، لمساهمتي في لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة خبر الدولية للقصة القصيرة جداً، أكثر من دورة.

· شهادة تقدير من وزارة الثقافة العراقية، لمساهمتي في لجنة تحكيم مسابقة خبر الدولية للقصة القصيرة جداً.

· شهادة دكتوراه فخرية من أكاديمية السلام في ألمانيا

· تسميتي سفيراً للإنسانية والثقافة العربية في ألمانيا، من منتدى ثورة قلم لبناء إنسان أفضل.

· عضو هيئة استشارية للتجمّع الثقافي الإنساني

· عضو لجنة التحكيم لمسابقة خبر للقصة القصيرة جداً - العراق، خمس دورات.

· عضو لجنة التحكيم لمسابقة سوريا الدولية للقصة القصيرة / الدروة الأولى، هولندا 2020.

· رئيس فرع ألمانيا لاتحاد الأدباء الدولي.

· عضو ملتقى القصة القصيرة جداً في العراق.

· عضو مشارك في غرفة النقد التابعة لمنصة ثقافة إنسانية، وشاركت في عدد من الحلقات النقدية بُثّت عبر تطبيق زوم بالمشاركة مع نقاد عرب.

· أقامت مؤسسة المختار الثقافية في مصر ندوة نقدية حول مجموعتي القصصية (الهجرة إلى الوطن) بمشاركة مجموعة من كتاب ونقاد من الوطن الغربي، ونشرت القراءات التقدية في كتاب الكتروني.

· اختار الناقد المصري د. مختار أمين قصتي (حدث الآن- حدث أمس) مثالاً عن اللغة القصصية في كتابه (فن كتابة القصة القصيرة).

· أقام المركز العالمي للدراسات العربية والبحوث الفلسفية والتاريخية بباريس ندوة نقدية حول روايتي (الربيع يأتي متأخراً) وبُثّت على الهواء عبر تطبيق زوم.

· أقامت غرفة النفد التابعة لمنصة ثقافة إنسانية ندوة نقدية حول مجموعتي القصصية (الريح تكنس أوراق الخريف) بتقنية زوم بُثّت مباشرة.

· نشرت صحيفة الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب حواراً معي حول عدة محاور في الكتابة القصصية.

· شاركت بأمسياتٍ قصصيّة في سوريا منذ العام ٢٠١٠.


مشاريع قادمة:

1. مخطوط رواية.

2. مخطوط مجموعة قصصية ثالثة

٢. ثلاثة كتب في النقد الأدبي، (قصة قصيرة، رواية، شعر)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...