مشاهدة المرفق 944
...وأنا في طريقي ...بدأت أتخلص شيئا فشيئا من الأفكار التي ركبتني ساعات... هبطت كل الأزمنة بحثا عن ساعة خلوة، وساعة حنين، وساعة صفاء...
كالوشاح لفتني الذكريات... وتزاحمت في طريقي كل الصور.. جففت شفتي من كل ابتسامة ، وألبست وجهي بعضا من الصرامة غير المعهودة في... ووقفت أمام" عبد الجبار" عون السلطة بدائرتنا الحضرية...
- ما كاينش القايد....
صفعني بهذه الجملة ، قبل أن أنطق بأي لفظ... شيء غريب... هي المرة السادسة التي أسمع فيها هذا الموال :(ما كاينش القايد)... خلال هذا الأسبوع...
احتضنت كبريائي.. ولملمت غضبي.. وأطلقت لهواجسي العنان... وقلت في نفسي:" لا بد أن أثور على هذا الوضع اللاقانوني... خاصة وأن الأيام بدأت تزاحمني... لم يبق على موعد دفع ملف مباراة المظليين إلا ثلاثة أيام."..
بينما أنا أقلب خياراتي.. وإذا بيد والدي اليابسة ، تجرني بلطف من كتفي....
- واش صاوبتي أوراقك؟....
- القايد ما كاينش... أبي...
- راك ما كتسمعش.. راسك قاصح... ألم أقل لك دعني أتكلف أنا بالأمر... هات عقد ازديادك والصورتين... وتوصيل الكراء...
أخذ مني أوراق طلب شهادة السكنى اللازمة... وغاص وسط الحشود... ثم ابتلعه مكتب المقدمين والشيوخ (أعوان السلطة)... لأشاهد بعد ثوان المقدم عبد الجبار ، يخرج من المكتب مهرولا نحو الطابق الثاني ، حيث مكتب القائد... ويعود بنفس الهرولة إلى المكتب حيث والدي... محملا بكومة من الأوراق البيضاء...
كان استغرابي كبيرا ، إلى درجة أن فرحي بالوثيقة التي سلمني إياها والدي ، لم يكن بحجم السؤال عن السرعة التي أنجز بها والدي هذه المهمة...
تقدمت في فرح... يوم المباراة حاملا كل أوراقي المطلوبة إلى الثكنة العسكرية لإصلاح العتاد العسكري(البيريم 35)... قرب مطار أنفا... وجدت مئات من الشباب ينتظرون أمام باب الثكنة... وما هي إلا دقائق حتى طلب منا بعض الجنود الاصطفاف مثنى مثنى ... والتوجه نحو مستودع مسقف بقرميد رمادي... داخله صفت طاولات وكراس كالتي تخصص للأكل في المطاعم الشعبية.. امتدت ثلاثين مترا وأكثر... تكونت منها صفوف تزيد على العشرين... طلب منا أن يأخذ كل واحد مكانا.. فأصبح المنظر كأننا في وليمة...
بدأ الاختبار اللغوي، والتقني، والرياضي الحسابي على الساعة العاشرة.. كل هذه المواد في ورقة واحدة.. يتطلب الإجابة عنها في ساعتين...وبعد الانتهاء ، طلب منا الانتظار لمعرفة النتيجة، التي ستظهر على الساعة الواحدة زوالا..
تشتتنا في الساحة المقابلة لهذا المخزن الواسع.. كأغنام تفر من لهيب الهجير... ننتظر النتائج بفارغ الصبر.. ونتساءل في استغراب: كيف سيصحح هذا الركام من الأوراق في أقل من ساعة...
ابتلعتني الذكريات.. وتذكرت والدتي .. وزعيقها:
- يا لصكع.. تا نوض شوف ليك جَرْيَا... تا شوف آش تدير.... واش ما عييتيش من النعاس... الشمس ولات تحرق... انعس يا بارد القلب...
زعيقها هذا كان يدفعني رغما عني إلى البحث في (لوبينيون) و(لوبوتي ماروكان) و(المحرر) عن المباريات المعلن عليها... وكنت أحتار في أي مباراة أختار... وأنا المطرود من الدراسة من سلكها الأول...
كانت أذناي تتابعان الحديث الذي يتلاطم بالقرب مني... أما عيناي فقد كانتا تتجولان ، وتتنقلان بين هذا العتاد الحربي المركون في هذه الساحة:شاحنات، مصفحات، ومدافع صدئة.. وبعض الجنود المتدربين ، وهم يمارسون بعض التمارين الرياضية تحت شمس يوليوز اللاهبة.
بين الفينة والأخرى، أعود بعيني جهة المتحدثين الذين أثار حديثهم انتباهي.. ثم أعود ثانية إلى الساحة لأحشر عيني في مشاهد عسكرية مثيرة...تجعلني أتمنى في قرارة نفسي لو كنت منخرطا فيها...
وما إن حلت الساعة الواحدة ، حتى طلب منا الاصطفاف في أربعة صفوف منتظمة... وإذا بضابط يضع نظارة شمسية سوداء من النوع الرفيع... يرتدي قميصا كاكيا قصير الأكمام... ذا أزرار صفراء... يزين صدره نسر ذهبي...ونجمتان تعلوان كتفيه...
خاطبنا بصوت جهوري صارم، معلنا نجاح كل المتبارين...ومصدرا أوامره بأخذنا إلى مستودع التموين لإعطائنا بذلة التدريب العسكرية.. وحلق رؤوسنا، ثم إجراء الفحص الطبي...
انطلقت من عيني خطوط ملونة.. ولبست وجهي بشاشة غير منتظرة وأنا ألبس بذلتي العسكرية، والتي زلزلت زغردات أمي أرجاء العمارة طويلا لرؤيتها وأنا فيها... ومن يومها أصبحت أمي تعرف في حارتنا ب(أم العسكري)...
ما إن مرت ثلاثة أشهر على وجودي بهذه الثكنة، حتى وجدتني مع التجريدية العسكرية المغربية بالأراضي السورية على هضبة الجولان... أتموقع داخل خندق ...ننتظر ساعة الصفر لمواجهة العدو الإسرائيلي...
كنت أحس أنني كلي حماس للقتال... ومستعد للشهادة على التراب السوري... كنا كجنود نمقت الانتظار... ونتقطر قطرة قطرة لملاقاة العدو...
في السابع من أكتوبر 1973 تسلم والدي برقية عسكرية من أركان الحرب ،يطلب منه فيها الحضور عاجلا إلى القاعدة العسكرية بالرباط..
كانت صدمته كبيرة .. عندما وجد صورتي الملصقة بملفي العسكري قد طبعت بخاتم أحمر غطى كل وجهي.. وتحتها بلون أحمر كبير " Décédé"...وتسلمني في صندوق خشبي بني اللون...
ومن يومها أصبح الكل في الحارة ينادي أمي ب" أم الشهيد"...//..
...وأنا في طريقي ...بدأت أتخلص شيئا فشيئا من الأفكار التي ركبتني ساعات... هبطت كل الأزمنة بحثا عن ساعة خلوة، وساعة حنين، وساعة صفاء...
كالوشاح لفتني الذكريات... وتزاحمت في طريقي كل الصور.. جففت شفتي من كل ابتسامة ، وألبست وجهي بعضا من الصرامة غير المعهودة في... ووقفت أمام" عبد الجبار" عون السلطة بدائرتنا الحضرية...
- ما كاينش القايد....
صفعني بهذه الجملة ، قبل أن أنطق بأي لفظ... شيء غريب... هي المرة السادسة التي أسمع فيها هذا الموال :(ما كاينش القايد)... خلال هذا الأسبوع...
احتضنت كبريائي.. ولملمت غضبي.. وأطلقت لهواجسي العنان... وقلت في نفسي:" لا بد أن أثور على هذا الوضع اللاقانوني... خاصة وأن الأيام بدأت تزاحمني... لم يبق على موعد دفع ملف مباراة المظليين إلا ثلاثة أيام."..
بينما أنا أقلب خياراتي.. وإذا بيد والدي اليابسة ، تجرني بلطف من كتفي....
- واش صاوبتي أوراقك؟....
- القايد ما كاينش... أبي...
- راك ما كتسمعش.. راسك قاصح... ألم أقل لك دعني أتكلف أنا بالأمر... هات عقد ازديادك والصورتين... وتوصيل الكراء...
أخذ مني أوراق طلب شهادة السكنى اللازمة... وغاص وسط الحشود... ثم ابتلعه مكتب المقدمين والشيوخ (أعوان السلطة)... لأشاهد بعد ثوان المقدم عبد الجبار ، يخرج من المكتب مهرولا نحو الطابق الثاني ، حيث مكتب القائد... ويعود بنفس الهرولة إلى المكتب حيث والدي... محملا بكومة من الأوراق البيضاء...
كان استغرابي كبيرا ، إلى درجة أن فرحي بالوثيقة التي سلمني إياها والدي ، لم يكن بحجم السؤال عن السرعة التي أنجز بها والدي هذه المهمة...
تقدمت في فرح... يوم المباراة حاملا كل أوراقي المطلوبة إلى الثكنة العسكرية لإصلاح العتاد العسكري(البيريم 35)... قرب مطار أنفا... وجدت مئات من الشباب ينتظرون أمام باب الثكنة... وما هي إلا دقائق حتى طلب منا بعض الجنود الاصطفاف مثنى مثنى ... والتوجه نحو مستودع مسقف بقرميد رمادي... داخله صفت طاولات وكراس كالتي تخصص للأكل في المطاعم الشعبية.. امتدت ثلاثين مترا وأكثر... تكونت منها صفوف تزيد على العشرين... طلب منا أن يأخذ كل واحد مكانا.. فأصبح المنظر كأننا في وليمة...
بدأ الاختبار اللغوي، والتقني، والرياضي الحسابي على الساعة العاشرة.. كل هذه المواد في ورقة واحدة.. يتطلب الإجابة عنها في ساعتين...وبعد الانتهاء ، طلب منا الانتظار لمعرفة النتيجة، التي ستظهر على الساعة الواحدة زوالا..
تشتتنا في الساحة المقابلة لهذا المخزن الواسع.. كأغنام تفر من لهيب الهجير... ننتظر النتائج بفارغ الصبر.. ونتساءل في استغراب: كيف سيصحح هذا الركام من الأوراق في أقل من ساعة...
ابتلعتني الذكريات.. وتذكرت والدتي .. وزعيقها:
- يا لصكع.. تا نوض شوف ليك جَرْيَا... تا شوف آش تدير.... واش ما عييتيش من النعاس... الشمس ولات تحرق... انعس يا بارد القلب...
زعيقها هذا كان يدفعني رغما عني إلى البحث في (لوبينيون) و(لوبوتي ماروكان) و(المحرر) عن المباريات المعلن عليها... وكنت أحتار في أي مباراة أختار... وأنا المطرود من الدراسة من سلكها الأول...
كانت أذناي تتابعان الحديث الذي يتلاطم بالقرب مني... أما عيناي فقد كانتا تتجولان ، وتتنقلان بين هذا العتاد الحربي المركون في هذه الساحة:شاحنات، مصفحات، ومدافع صدئة.. وبعض الجنود المتدربين ، وهم يمارسون بعض التمارين الرياضية تحت شمس يوليوز اللاهبة.
بين الفينة والأخرى، أعود بعيني جهة المتحدثين الذين أثار حديثهم انتباهي.. ثم أعود ثانية إلى الساحة لأحشر عيني في مشاهد عسكرية مثيرة...تجعلني أتمنى في قرارة نفسي لو كنت منخرطا فيها...
وما إن حلت الساعة الواحدة ، حتى طلب منا الاصطفاف في أربعة صفوف منتظمة... وإذا بضابط يضع نظارة شمسية سوداء من النوع الرفيع... يرتدي قميصا كاكيا قصير الأكمام... ذا أزرار صفراء... يزين صدره نسر ذهبي...ونجمتان تعلوان كتفيه...
خاطبنا بصوت جهوري صارم، معلنا نجاح كل المتبارين...ومصدرا أوامره بأخذنا إلى مستودع التموين لإعطائنا بذلة التدريب العسكرية.. وحلق رؤوسنا، ثم إجراء الفحص الطبي...
انطلقت من عيني خطوط ملونة.. ولبست وجهي بشاشة غير منتظرة وأنا ألبس بذلتي العسكرية، والتي زلزلت زغردات أمي أرجاء العمارة طويلا لرؤيتها وأنا فيها... ومن يومها أصبحت أمي تعرف في حارتنا ب(أم العسكري)...
ما إن مرت ثلاثة أشهر على وجودي بهذه الثكنة، حتى وجدتني مع التجريدية العسكرية المغربية بالأراضي السورية على هضبة الجولان... أتموقع داخل خندق ...ننتظر ساعة الصفر لمواجهة العدو الإسرائيلي...
كنت أحس أنني كلي حماس للقتال... ومستعد للشهادة على التراب السوري... كنا كجنود نمقت الانتظار... ونتقطر قطرة قطرة لملاقاة العدو...
في السابع من أكتوبر 1973 تسلم والدي برقية عسكرية من أركان الحرب ،يطلب منه فيها الحضور عاجلا إلى القاعدة العسكرية بالرباط..
كانت صدمته كبيرة .. عندما وجد صورتي الملصقة بملفي العسكري قد طبعت بخاتم أحمر غطى كل وجهي.. وتحتها بلون أحمر كبير " Décédé"...وتسلمني في صندوق خشبي بني اللون...
ومن يومها أصبح الكل في الحارة ينادي أمي ب" أم الشهيد"...//..