ان الحديث عن المسرح والتداوليات هو حديث لا يخلو من تعقيد، وحين نتناوله فإننا نطرح بذلك موضوعا شائكا ومترامي الأطراف، ومرد ذلك إلى لبس يفرض نفسه انطلاقا من الموضوع ذاته. فمازال من الصعب تحديد موقع التداوليات باعتبارها مبحثا لسانيا في حقلها الأصلي أي اللسانيات، أحرى أن يتم ضبط مستويات العلاقة التي تربطها بالمسرح. وفي مقدمة الاعتبارات التي تفرض هذا اللباس أن التداوليات درس جديد وغزير إلا انه لا يملك حدودا واضحة، وتتيه هذه الحدود ويغيب وضوحها بين حقول معرفية مختلفة من حيث كون التداوليات تقع في تقاطع الأبحاث الفلسفية واللسانية. ومما يعمق هذا اللبس أنه يصعب الحديث عن تداولية واحدة بل تداوليات، فنجد سعيد علوش في ترجمته لكتاب الباحثة “فرانسواز أرمينكو F.ARMENGAUD” لا يستغرب وهو يكتب مقدمة الترجمة أن يصادف العديد من التداوليات:
– تداولية البلاغيين الجدد
– تداولية السيكو ـ سوسيولوجيين
– تداولية اللسانيين
– تداولية المناطقة و الفلاسفة
بل يمكن التنبؤ بتداولية للأدباء(2)، والتداولية اللسانية نفسها نجدها موزعة بين مجموعة من الطروحات : فهذه “فرانسواز أرمينكو” تميز بين العديد من الطروحات والبرامج في مقدمتها مشروع “شارل وليام موريس” القائم على تداوليةٍ في سيميائية ثلاثية، وبرنامج “ستالناكر” الرامي إلى تداولية شكلية، وبرنامج “هاستون” الذي يجعل التداولية ثلاث درجات: درجة أولى تتضمن دراسة الرموز الإشارية مع محاولات كل من”روسل” و”بارهيل” و”كوشي”، درجة ثانية تتضمن دراسة المعنى الحرفي والمعنى التواصلي حيث وجهتا نظر “سورل” و “ديكرو”، ثم درجة ثالثة تتضمن نظرية أفعال اللغة مع “أوستن”.
إلى جانب تمييزات “أرمينكو” نجد “كاترين كاربرا أورشيوني C.K.ORECCIONI” التي تميز من جهتها بين ثلاث تداوليات: تداولية التلفظ Pragmatique énonciative، وتداولية التخاطب Pragmatique illocutoire، وتداولية التحاور Pragmatique conversationnelle.
وعلى الرغم مما يكتنف التداولية من التباسات وتعدد وانفتاح في الحدود الضابطة يبقى موضوعها الأساسي هو الإجابة على مجموعة من القضايا في مقدمتها الأسئلة: من يتكلم؟ وإلى من يتكلم؟ ماذا نقول بالضبط حين نتكلم؟ ما هو مصدر التشويش والإيضاح؟ كيف نتكلم بشيء ونريد شيئا آخر؟(3). وتفضي هذه الأسئلة إلى وضع العديد من المبادئ موضع تساؤل وهي:
ـ أسبقية النظام والبنية على الاستعمال.
ـ أسبقية القدرة على الانجاز.
ـ أسبقية اللغة على الكلام (4).
هذه التساؤلات حول الأسبقيات تفضي بدورها إلى ضبط المفاهيم الأكثر أهمية في التداولية التي تتدخل لدراسة علاقة العلامات بمستعمليها، وهي مفهوم الفعل والسياق والانجاز.
إن التداولية مبحث صعب الضبط في ذاته أحرى ضبط مستويات علاقته بالمسرح، فالتداولية المسرحية بدورها تطرح إشكالات خاصة يوجزها حسن يوسفي(5) في ثلاثة إشكالات أساسية هي: الإشكال الإبستمولوجي، والإشكال النظري، والإشكال الإجرائي.
يتحدد الإشكال الإبستمولوجي في السؤال: أي الحقلين يشكل نموذجا بالنسبة للآخر التداولية أم المسرح؟، فالتداوليات أرادت أن تكون وسيلة لتحليل الخطاب المسرحي على سبيل النمذجة، فوجدت نفسها تفكر في العديد من القضايا اللغوية عبر التلفظ المسرحي، يقول “دومينيك مانكونو D.MAINGUENEAU”: “… نصل إلى خلاصة مهمة: أردنا أن نستعمل التداولية لأجل تحليل التلفظ المسرحي، فلاحظنا أن التداولية تفكر في اللغة من خلال هذا التلفظ المسرحي« (6).
أما الإشكال النظري فيُطرح من خلال صعوبة اختيار النموذج التداولي الملائم لتحليل الخطاب المسرحي، بمعنى: أي تداولية من هذه التداوليات تتوفر على الكفاية ـ وهي كفاية نسبية على كل حال ـ في مقاربة الخطاب المسرحي؟
أما إجرائيا، فالإشكال يأتي من طبيعة الخطاب المسرحي ذاته القائم على ثنائية نص ـ عرض، بينما المقاربة التداولية تمس أساسا الجانب النصي، ويستعصي عليها العرض، فتختزله بدوره في نص. يقول “باتريس بافيس P.PAVIS”: “تتجه التداولية اللسانية نحو أخذ النص الدرامي وحده بعين الاعتبار مقلصة العرض إلى نص. من السهولة في الواقع نقل الدراسات التداولية للبرهنة في الخطاب العادي إلى مستوى النص الدرامي، و تبقى النتائج المستخلصة جد صحيحة بالنسبة لهذا النص الخصوصي وليس بالنسبة للعرض ككل، لهذا تُقصى الوضعية المشهدية Scénique مع العلم أن الاستعمال المحسوس للتلفظ المشهدي هو العنصر الذي يحدد المعنى التداولي للنص المعروض. يستحسن، إذن، اختيار الروابط المنطقية، تحت أي شكل كانت، التي استعملت من لدن الممثل الواحد والخشبة لمعرفة ماذا غيرت في الروابط المنطقية للنص(7).
ورغم هذه الصعوبات/ الإشكالات التي تواجه التداولية المسرحية، فإن ذلك لم يمنع من وجود محاولات دؤوبة تُنبئ عن حضور التداولية في الخطاب المسرحي، إما بتسطير هذا الحضور وتأكيده باعتباره مكونا جوهريا، أو تشير إليه بشكل عرضي. ويأتي في مقدمة هذه المحاولات مشروع “آن أوبير سفيلد A.UBERSFELD” في كتاب “قراءة المسرحLire le théâtre ” (سنة 1977)، حيث حضرت التداولية عَرَضا، ثم سرعان ما تأتي طبعة ثانية للكتاب (سنة 1982) تحمل حضورا صريحا للتداولية عبر إفراد فصل خاص بها تحت عنوان: “نحو تداولية للحوار المسرحي Pour une pragmatique du dialogue théâtral”، وبعدها محاولات أخرى لكل من “كاترين كاربرا أورشيوني C.K.ORECCIONI” سنة 1984 في دراسة بعنوان من “أجل مقاربة تداولية للحوار المسرحي”، وفي السنة نفسها تظهر دراسة “أندريه جان بوتي A.J.PETIT” تحت عنوان المحادثة في المسرح La conversation au théâtre. ثم تعود “أوبيرسفيلد” مرة أخرى بدراسة بعنوان “بيداغوجية الفعل المسرحي Pédagogie du fait théâtral” سنة (1987)، حيث تحضر التداولية ضمن مشروع قراءة الخطاب المسرحي الذي تقترحه، وبعدها تأتي دراسة “مانكونوMAINGUENEAU” التي هي عبارة عن فصل أخير من كتابه “تداولية للخطاب الأدبي Pragmatique pour le discours littéraire” (سنة 1990) بعنوان “ازدواجية الحوار المسرحي Duplicité du dialogue théâtral”.
تتوحد هذه المحاولات جميعها في استحضارها للتداولي Le Pragmatique ضمن المسرحي Le théâtral بنسب متفاوتة في الاجتهاد وأشكال الاستحضار، وقد آثرت في هذه الورقة أن أقف عند مشروع “آن أوبير سفيلد” من خلال نموذجين، الأول كتاب “قراءة المسرح Lire le théâtre”(Cool، حيث استحضار التداولي باعتباره مكوناً لا بد من أخذه بعين الاعتبار ضمن خصوصية الخطاب المسرحي، والثاني “بيداغوجية الفعل المسرحيfait théâtral Pédagogie”(9) باعتباره اقتراحا للقراءة لا يخلو من إعطاء أهمية للبعد التداولي في مقاربة الخطاب المسرحي.
بالنسبة لـ “قراءة المسرح”، فمنذ طبعته الأولى سنة 1977، و منذ فصله الأول علاقة نص ـ عرض ، نجد حضورا للبعد التداولي أثناء حديث “أوبير سفيلد” عن خصوصية النص المسرحي، من أن هذا الأخير يتكون من جزأين متمايزين لكنهما متداخلان، هما: الحوار Dialogue، والإرشادات Didascalies، وتمايز هذين الجزئين يجيب على السؤال: من يتكلم؟ بما هو تمييز لِسْنِي يتعلق بذات التلفظ، و للإرشادات على الخصوص دور تداولي هام من حيث كونها تجيب على سؤالي الـ “من: والـ “أين”، ومن حيث كونها تشير إلى سياق التواصل، فهي تضعنا بصدد تداوليةٍ حين تؤطر الشروط المصاحية لاستعمال الكلام. إضافة إلى هذا، فالإرشادات تشكل مفاتيح العرض ومن ثمة فهي أرضية ـ تتحقق بنسب متفاوتة من رؤية إخراجية إلى أخرى ـ تشكل السياق الخاص للعرض، وتؤسس عالما ممكنا يشكل بدوره شروط التلفظ في العرض التي توجد في النص بالقوة ويفجرها الإخراج بالفعل.
من ناحية أخرى، فإن السؤال الذي يطرحه التمييز اللسني بين الحوار والإرشادات: من يتكلم؟ يجعلنا أمام تمييز بين صوتين، صوت المؤلف باعتباره الذات المتكلمة التي تمارس الخطاب بشكل مباشر من خلال الإرشادات، وعبر قناة وسيطة من خلال الحوار، ثم صوت الشخصية باعتباره الذات المتلفظة التي يخصها المؤلف بحيز من الكلام و جزء من الخطاب. أمام وجود هذين الصوتين/ الذاتين في الخطاب المسرحي في شقه النصي، نجدنا بصدد التمييز الذي أقامه “ديكروDUCROT ” بين الذات المتكلمة التي لا تمارس خطابها مباشرة بالضرورة، والذات المتلفظة التي تنقل الكلام دون إنتاجية، أي تكتفي بتلفظه، (وإلا تحولت إلى ذات متكلمة).
يأتي هذا البعد التداولي في الفصل الأول من كتاب “قراءة المسرح” استحضارا تفسيريا وليس مقصودا لذاته، مادامت الغاية الأولى من هذا الفصل هي الوقوف عند الخصائص المميزة لمكونات الخطاب المسرحي ( نص/ عرض)، والسمات الداخلية التي تحدد كل مكون، والبعد التداولي فرض نفسه أثناء الحديث عن خاصية النص المسرحي التي تميزه عن باقي الأنماط النصية ذات الاستعمال اللغوي. لكن ورود البعد التداولي لذاته يأتي صريحا في الطبعة الثانية لكتاب “قراءة المسرح” (1982) حين أفردت “أوبير سفيلد” فصلا خاصا بالتداولية المسرحية تحت عنوان: “نحو تداولية للحوار المسرحي”.
نجد في هذا الفصل تبنيا واضحا لنظرية أفعال اللغة Acte de langage لدى “أوستن” هذا التبني الذي كان مرجعا/ خلفية في صياغة تصور للبعد التداولي في المسرح، و هي صياغة يمكن تلمس عناصرها على امتداد الفصل كالتالي :
ضرورة ضبط حالة التلقظ situation d`énonciation لفهم الملفوظ، “إن كل ملفوظ من الملفوظات التي تدلي بها شخصية من شخوص المسرح لا يمكن أن يكون ملفوظا خارج حالة تلفظه”(10)، وحالة التلفظ ( وضعية/ ظرف) لا يمكن أن تضبط ألا بمعرفة المرسل والمستقبل والزمان والمكان، أي معرفة المتخاطبين، والسياق. وضبط وضعية التلفظ في الخطاب المسرحي مشروطة بمراعاة إحدى خصوصيات تلفظه القائمة على تراكب Superposition وضعية التلفظ المشهدي Scénique مع وضعية التلفظ التخيلي Fictif.
توفر الاتفاق الضمني على مجموعة من التقديرات ،Présuppositionsوهذا الاتفاق الضمني ضروري لكي يشتغل التبادل الكلامي بين المتخاطبين، فكل ملفوظ لا يعمل داخل إجراء تبادل القول إلا متى اتفق المتخاطبان ضمنيا بصدد مجموعة من التقديرات(11)، فحين يقول أحد المتخطبين “إلى المساء”، فهذا يفترض اتفاقا ضمنيا بينهما أن المساء لم يحل بعد.
كل ملفوظ يشكل جزءا من المعنى الذي يريد التعبير عنه “فالملفوظ لا يعبر عن شيء ما فقط وإنما يقوم بأمر ما، ودون أن نقلب لفظة ما في كل أوجهها من حيث المعنى، فإننا نقول إن هذا الفعل جزء لا يتجزأ من معناه” (12).
ضبط العلاقات المتبادلة بين الشخوص، الشيء الذي يسهل عملية فهم وتأويل ملفوظ كل شخصية، وإجراء هذه العملية مرهون بتوقيع ميثاق بين المتكلم والمخاطب يخضع لقواعد حوار/ محادثة منطقية و سوسيو ـ ثقافية قد يمكن الاتفاق بصددها.
بعد صياغة تصور للبعد التداولي القائم على العناصر المذكورة، تعمل أوبير سفيلد على إبراز خصوصية أفعال الكلام في المسرح انطلاقا ـ أولا ـ من تحديد الأفعال المصاحبة للتلفظ بكل جملة، وهي بالفعل التعبيري Locutoireحيث الجمع بين العناصر الصوتية والنحوية والدلالية لإنتاج دلالة معينة، ويتضمن هذا الفعل في المسرح إجراءين، أولهما إلقاء الكلام و ثانيهما إنتاج معنى لهذا الكلام، ثم الفعل التخاطبي Illocutoire الذي يتميز بالصعوبة مادام الفعل اللغوي مموها و ليس حقيقيا، ثم الفعل التأثيري Perlocutoire القائم على تأسيس ميثاق بين الأنا والآخر/ المتكلم والمخاطب، يتضمن تأثيرا ينتج عنه نوع من العلائقية الاتفاقية مع الآخر، ويتمثل في المسرح على مستوى إحداث أثر فعلي واقعي على المتفرج الذي يوازيه تأثير مصطنع على الشخصية التي تتقاسم الدور مع الممثل.
ورغم تبني نظرية أفعال اللغة من لدن أوبير سفيلد إلا أنها تأخذ عليها إهمالها قسما من وظائف اللغة، خاصة الوظيفة الشعرية والتركيز على قصدية الباث، ومع ذلك، وكيفما كان الحذر المطلوب لا تفضل أوبير سفيلد في هذا المجال “سوى نظريات أفعال اللغة التي قد تقدم كشوفا حاسمة لتحليل الخطاب المسرحي” (13)، وفي هذا الصدد تقدم نموذجا تطبيقيا من خلال محاولتها تحليل جزء من مسرحية Phèdre بالاعتماد على نظرية الأفعال اللغوية ومراعاة تراكب وضعيتين تلفظيتين، مشهدية وتخيلية.
ولتحاور وضعية الانغلاق على الذات في المقاربة التداولية، “تحاول أوبير سفيلد فتح آفاق جديدة تتجلى في تحليل الايديولوجي والشعري في علاقتهما بالأفعال التي يحققها كل ملفوظ في إطار وضعية تلفظية معينة” (14).
وتنتهي أوبير سفيلد في نهاية هذا الفصل من “قراءة المسرح” الى توضيح الفائدة من التحليل التداولي للمسرح والمتمثل في “الكشف عن كيف أن القسم الأساسي من النص المسرحي هو صورة القول الفاعلة والحية في كل أبعادها، بما في ذلك البعد الشعري المتحكم بشكل دينامي في العلائق البشرية، والذي ينطلق من مجموع ما يحكى وما يفعل دراميا”(15).
يتجلى المستوى الآخر في استحضار البعد التداولي عند أوبير سفيلد من خلال مقالتها “بيداغوجية الفعل المسرحي” المتضمنة في كتاب جماعي بعنوان:”المسرح: صيغ المقاربة ـ Théâtre: modes d’approche”، وهيمقالة، كما يبدو من عنوانها، تنحو منحى بيداغوجيا في اقتراح مشروع لقراءة الخطاب المسرحي يراعي خصوصية هذا الخطاب، يُقَدَّم بلغة إجرائية عملية تتجاوز القراءات الفضفاضة، وذلك عبر تحديد خطوات التحليل، ويحضر البعد التداولي، بطبيعة الحال، باعنباره مكونا أساسيا في عملية التحليل، خاصة في الشق المتعلق بتحليل النص الذي يتضمن ستة إجراءات. وتبدو أولى تجليات البعد التداولي من خلال الإجراء الثاني المتعلق بتحديد شروط التلفظ حيث ترى أوبيرسفيلد أنها شروط تخييلية تتعلق بفضاء وزمان الخطاب الدرامي في الخيال لا على الخشبة، وشروط التلفظ هاته تتحدد عبر مجموعة من المكونات، في مقدمتها الإرشادات باعتبارها الطبقة النصية الوحيدة حيث المتلفظ هو المؤلف الذي ينتج السياق (من خلال الفضاء بكل مكوناته)، ثم تأتي ـ بعد الإرشادات ـ التوضيحات التي تؤطر الحوار باعتبارها إرشادات داخلية.
يبرز التجلي الثاني في خضم الإجراء التحليلي الخامس المتعلق بالشخصية، خاصة الشق المتعلق بكلام الشخصيات. إلا أن التجلي الأوضح للتداولية هو حضورها المكثف في الإجراء التحليلي السادس المتعلق بالخطاب المسرحي حيث الوقوف عند الشخصية وتلفظها، من حيث أن كل ملفوظ موضوع على لسان شخصية مسرحية لا معنى له خارج شروط تلفظه، وحيث الوقوف عند المسكوت عنه لضبط ضمنيات الخطاب والوضعية الاستدلالية للشخصية، ثم ـ أخيرا ـ حيث الوقوف عند “أفعال اللغة والحوار”..وههنا يُقَنَّن خطاب الشخصية المسرحية بوضعية تلفظها وركام الافتراضات الضمنية..وههنا ـ أيضا ـ تقف أوبيرسفيلد عند الحوار المؤسس على القوى القائمة بين المتكلمين (أي ضبط عملية التخاطب). وضمن المحور نفسه ـ “أفعال اللغة والحوار” ـ تذكر أوبيرسفيلد أن كل ملفوظ لا يمكن تحليله إلا من خلال ثلاثة مكونات: الفعل التعبيري (أي مجموع علامات الملفوظ نفسه)، والفعل التخاطبي (أي قوة الملفوظ نفسه) ثم الفعل التأثيري (أي التوقع الذي ينتج لدى المتلقي/ الحوار).
هذه إذن محاولة لتلمس حضور التداولي داخل المسرحي لدى أوبيرسفيلد من خلال نموذج لتحديد الخطاب المسرحي (قراءة المسرح)، ونموذج قرائي لمشروع تحليله ومقاربته (بيداغوجية الفعل المسرحي). وذلك كله عبارة عن نموذج لعلاقة المسرح بالتداوليات من خلال “آن أوبيرسفيلد” التي كانت سباقة إلى طرح هذا البعد في الخطاب المسرحي قبل محاولات كل من “ج. بوتي” و”مانكونو”. بل إن الجزء الثالث من مشروعها القرائي المتكامل “قراءة المسرح” هو عبارة عن “عمل تداولي بالأساس عنونته بـ»الحوار المسرحي: قراءة المسرح3« وهو ينصب على أشكال التداول المسرحي”(16).
الهوامش والإحالات:
(1) فرانسواز أرمينكو: »المقاربة التداولية ت : سعيد علوش ـ المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع ـ الدار البيضاء 1987 ـ ص 11.
(2) مقدمة المترجم للكتاب المذكور ـ ص 8.
(3) نفسه ـ ص 8.
(4) فرانسواز أرمينكو ـ مرجع سابق ـص 9.
(5) انظر حسن يوسفي : المسرح و مفارقاته ـ مطبعة سيندي ـ مكناس 1996 ـ ص 113.
(6) D.maingueneau : pragmatique pour le discours littéraire-Bordas – Paris 1990-P :157
(7) عن حسن يوسفي ـ مرجع سابق ـ ص 114 ـ 115.
(Cool Anne UBERSFELD : Lire le théâtre- de Sociales – Paris 1982.
(9) Anne UBERSFELD : Pédagogie du fait théâtral- in – Théâtre : modes d’approche (ouvrage collectif ) – ed. labor – Bruxelle 1987.
(10) آن أوبيرسفيلد: » نحو تداولية للخطاب المسرحي« ت: سعيد يقطين وبشير قمري ـ » مجلة شؤون أدبية « ( مجلة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات) ـ العدد 12 ـ خاص بالمسرح ـ ربيع 1990 ـ ص 80.
(11) ـ (12) نفسه ـ ص 81.
(13) نفسه ـ ص 83.
( 14) حسن يوسفي ـ مرجع سابق ـ ص 91 .
(15) آن أوبير سفيلد: » نحو تداولية للخطاب المسرحي«.. مرجع سابق ـ ص 91
(16) من حوار مع »آن أوبير سفيلد «أجراه حسن يوسفي ـ العلم الثقافي ـ السبت 21 مارس 1998 ـ ص 11
مصدر الموضوع مدونة أبو إياد عن المسرح و التداوليات: نموذج آن اوبيرسفيلد / د.عبد المجيد شكير « موقع الكاتب والفنان المسرحي
محسن النصار عن المسرح و التداوليات: نموذج آن اوبيرسفيلد / د.عبد المجيد شكير « موقع الكاتب والفنان المسرحي محسن النصار
عن المسرح و التداوليات: نموذج آن اوبيرسفيلد / د.عبد المجيد شكير « موقع الكاتب والفنان المسرحي محسن النصار
– تداولية البلاغيين الجدد
– تداولية السيكو ـ سوسيولوجيين
– تداولية اللسانيين
– تداولية المناطقة و الفلاسفة
بل يمكن التنبؤ بتداولية للأدباء(2)، والتداولية اللسانية نفسها نجدها موزعة بين مجموعة من الطروحات : فهذه “فرانسواز أرمينكو” تميز بين العديد من الطروحات والبرامج في مقدمتها مشروع “شارل وليام موريس” القائم على تداوليةٍ في سيميائية ثلاثية، وبرنامج “ستالناكر” الرامي إلى تداولية شكلية، وبرنامج “هاستون” الذي يجعل التداولية ثلاث درجات: درجة أولى تتضمن دراسة الرموز الإشارية مع محاولات كل من”روسل” و”بارهيل” و”كوشي”، درجة ثانية تتضمن دراسة المعنى الحرفي والمعنى التواصلي حيث وجهتا نظر “سورل” و “ديكرو”، ثم درجة ثالثة تتضمن نظرية أفعال اللغة مع “أوستن”.
إلى جانب تمييزات “أرمينكو” نجد “كاترين كاربرا أورشيوني C.K.ORECCIONI” التي تميز من جهتها بين ثلاث تداوليات: تداولية التلفظ Pragmatique énonciative، وتداولية التخاطب Pragmatique illocutoire، وتداولية التحاور Pragmatique conversationnelle.
وعلى الرغم مما يكتنف التداولية من التباسات وتعدد وانفتاح في الحدود الضابطة يبقى موضوعها الأساسي هو الإجابة على مجموعة من القضايا في مقدمتها الأسئلة: من يتكلم؟ وإلى من يتكلم؟ ماذا نقول بالضبط حين نتكلم؟ ما هو مصدر التشويش والإيضاح؟ كيف نتكلم بشيء ونريد شيئا آخر؟(3). وتفضي هذه الأسئلة إلى وضع العديد من المبادئ موضع تساؤل وهي:
ـ أسبقية النظام والبنية على الاستعمال.
ـ أسبقية القدرة على الانجاز.
ـ أسبقية اللغة على الكلام (4).
هذه التساؤلات حول الأسبقيات تفضي بدورها إلى ضبط المفاهيم الأكثر أهمية في التداولية التي تتدخل لدراسة علاقة العلامات بمستعمليها، وهي مفهوم الفعل والسياق والانجاز.
إن التداولية مبحث صعب الضبط في ذاته أحرى ضبط مستويات علاقته بالمسرح، فالتداولية المسرحية بدورها تطرح إشكالات خاصة يوجزها حسن يوسفي(5) في ثلاثة إشكالات أساسية هي: الإشكال الإبستمولوجي، والإشكال النظري، والإشكال الإجرائي.
يتحدد الإشكال الإبستمولوجي في السؤال: أي الحقلين يشكل نموذجا بالنسبة للآخر التداولية أم المسرح؟، فالتداوليات أرادت أن تكون وسيلة لتحليل الخطاب المسرحي على سبيل النمذجة، فوجدت نفسها تفكر في العديد من القضايا اللغوية عبر التلفظ المسرحي، يقول “دومينيك مانكونو D.MAINGUENEAU”: “… نصل إلى خلاصة مهمة: أردنا أن نستعمل التداولية لأجل تحليل التلفظ المسرحي، فلاحظنا أن التداولية تفكر في اللغة من خلال هذا التلفظ المسرحي« (6).
أما الإشكال النظري فيُطرح من خلال صعوبة اختيار النموذج التداولي الملائم لتحليل الخطاب المسرحي، بمعنى: أي تداولية من هذه التداوليات تتوفر على الكفاية ـ وهي كفاية نسبية على كل حال ـ في مقاربة الخطاب المسرحي؟
أما إجرائيا، فالإشكال يأتي من طبيعة الخطاب المسرحي ذاته القائم على ثنائية نص ـ عرض، بينما المقاربة التداولية تمس أساسا الجانب النصي، ويستعصي عليها العرض، فتختزله بدوره في نص. يقول “باتريس بافيس P.PAVIS”: “تتجه التداولية اللسانية نحو أخذ النص الدرامي وحده بعين الاعتبار مقلصة العرض إلى نص. من السهولة في الواقع نقل الدراسات التداولية للبرهنة في الخطاب العادي إلى مستوى النص الدرامي، و تبقى النتائج المستخلصة جد صحيحة بالنسبة لهذا النص الخصوصي وليس بالنسبة للعرض ككل، لهذا تُقصى الوضعية المشهدية Scénique مع العلم أن الاستعمال المحسوس للتلفظ المشهدي هو العنصر الذي يحدد المعنى التداولي للنص المعروض. يستحسن، إذن، اختيار الروابط المنطقية، تحت أي شكل كانت، التي استعملت من لدن الممثل الواحد والخشبة لمعرفة ماذا غيرت في الروابط المنطقية للنص(7).
ورغم هذه الصعوبات/ الإشكالات التي تواجه التداولية المسرحية، فإن ذلك لم يمنع من وجود محاولات دؤوبة تُنبئ عن حضور التداولية في الخطاب المسرحي، إما بتسطير هذا الحضور وتأكيده باعتباره مكونا جوهريا، أو تشير إليه بشكل عرضي. ويأتي في مقدمة هذه المحاولات مشروع “آن أوبير سفيلد A.UBERSFELD” في كتاب “قراءة المسرحLire le théâtre ” (سنة 1977)، حيث حضرت التداولية عَرَضا، ثم سرعان ما تأتي طبعة ثانية للكتاب (سنة 1982) تحمل حضورا صريحا للتداولية عبر إفراد فصل خاص بها تحت عنوان: “نحو تداولية للحوار المسرحي Pour une pragmatique du dialogue théâtral”، وبعدها محاولات أخرى لكل من “كاترين كاربرا أورشيوني C.K.ORECCIONI” سنة 1984 في دراسة بعنوان من “أجل مقاربة تداولية للحوار المسرحي”، وفي السنة نفسها تظهر دراسة “أندريه جان بوتي A.J.PETIT” تحت عنوان المحادثة في المسرح La conversation au théâtre. ثم تعود “أوبيرسفيلد” مرة أخرى بدراسة بعنوان “بيداغوجية الفعل المسرحي Pédagogie du fait théâtral” سنة (1987)، حيث تحضر التداولية ضمن مشروع قراءة الخطاب المسرحي الذي تقترحه، وبعدها تأتي دراسة “مانكونوMAINGUENEAU” التي هي عبارة عن فصل أخير من كتابه “تداولية للخطاب الأدبي Pragmatique pour le discours littéraire” (سنة 1990) بعنوان “ازدواجية الحوار المسرحي Duplicité du dialogue théâtral”.
تتوحد هذه المحاولات جميعها في استحضارها للتداولي Le Pragmatique ضمن المسرحي Le théâtral بنسب متفاوتة في الاجتهاد وأشكال الاستحضار، وقد آثرت في هذه الورقة أن أقف عند مشروع “آن أوبير سفيلد” من خلال نموذجين، الأول كتاب “قراءة المسرح Lire le théâtre”(Cool، حيث استحضار التداولي باعتباره مكوناً لا بد من أخذه بعين الاعتبار ضمن خصوصية الخطاب المسرحي، والثاني “بيداغوجية الفعل المسرحيfait théâtral Pédagogie”(9) باعتباره اقتراحا للقراءة لا يخلو من إعطاء أهمية للبعد التداولي في مقاربة الخطاب المسرحي.
بالنسبة لـ “قراءة المسرح”، فمنذ طبعته الأولى سنة 1977، و منذ فصله الأول علاقة نص ـ عرض ، نجد حضورا للبعد التداولي أثناء حديث “أوبير سفيلد” عن خصوصية النص المسرحي، من أن هذا الأخير يتكون من جزأين متمايزين لكنهما متداخلان، هما: الحوار Dialogue، والإرشادات Didascalies، وتمايز هذين الجزئين يجيب على السؤال: من يتكلم؟ بما هو تمييز لِسْنِي يتعلق بذات التلفظ، و للإرشادات على الخصوص دور تداولي هام من حيث كونها تجيب على سؤالي الـ “من: والـ “أين”، ومن حيث كونها تشير إلى سياق التواصل، فهي تضعنا بصدد تداوليةٍ حين تؤطر الشروط المصاحية لاستعمال الكلام. إضافة إلى هذا، فالإرشادات تشكل مفاتيح العرض ومن ثمة فهي أرضية ـ تتحقق بنسب متفاوتة من رؤية إخراجية إلى أخرى ـ تشكل السياق الخاص للعرض، وتؤسس عالما ممكنا يشكل بدوره شروط التلفظ في العرض التي توجد في النص بالقوة ويفجرها الإخراج بالفعل.
من ناحية أخرى، فإن السؤال الذي يطرحه التمييز اللسني بين الحوار والإرشادات: من يتكلم؟ يجعلنا أمام تمييز بين صوتين، صوت المؤلف باعتباره الذات المتكلمة التي تمارس الخطاب بشكل مباشر من خلال الإرشادات، وعبر قناة وسيطة من خلال الحوار، ثم صوت الشخصية باعتباره الذات المتلفظة التي يخصها المؤلف بحيز من الكلام و جزء من الخطاب. أمام وجود هذين الصوتين/ الذاتين في الخطاب المسرحي في شقه النصي، نجدنا بصدد التمييز الذي أقامه “ديكروDUCROT ” بين الذات المتكلمة التي لا تمارس خطابها مباشرة بالضرورة، والذات المتلفظة التي تنقل الكلام دون إنتاجية، أي تكتفي بتلفظه، (وإلا تحولت إلى ذات متكلمة).
يأتي هذا البعد التداولي في الفصل الأول من كتاب “قراءة المسرح” استحضارا تفسيريا وليس مقصودا لذاته، مادامت الغاية الأولى من هذا الفصل هي الوقوف عند الخصائص المميزة لمكونات الخطاب المسرحي ( نص/ عرض)، والسمات الداخلية التي تحدد كل مكون، والبعد التداولي فرض نفسه أثناء الحديث عن خاصية النص المسرحي التي تميزه عن باقي الأنماط النصية ذات الاستعمال اللغوي. لكن ورود البعد التداولي لذاته يأتي صريحا في الطبعة الثانية لكتاب “قراءة المسرح” (1982) حين أفردت “أوبير سفيلد” فصلا خاصا بالتداولية المسرحية تحت عنوان: “نحو تداولية للحوار المسرحي”.
نجد في هذا الفصل تبنيا واضحا لنظرية أفعال اللغة Acte de langage لدى “أوستن” هذا التبني الذي كان مرجعا/ خلفية في صياغة تصور للبعد التداولي في المسرح، و هي صياغة يمكن تلمس عناصرها على امتداد الفصل كالتالي :
ضرورة ضبط حالة التلقظ situation d`énonciation لفهم الملفوظ، “إن كل ملفوظ من الملفوظات التي تدلي بها شخصية من شخوص المسرح لا يمكن أن يكون ملفوظا خارج حالة تلفظه”(10)، وحالة التلفظ ( وضعية/ ظرف) لا يمكن أن تضبط ألا بمعرفة المرسل والمستقبل والزمان والمكان، أي معرفة المتخاطبين، والسياق. وضبط وضعية التلفظ في الخطاب المسرحي مشروطة بمراعاة إحدى خصوصيات تلفظه القائمة على تراكب Superposition وضعية التلفظ المشهدي Scénique مع وضعية التلفظ التخيلي Fictif.
توفر الاتفاق الضمني على مجموعة من التقديرات ،Présuppositionsوهذا الاتفاق الضمني ضروري لكي يشتغل التبادل الكلامي بين المتخاطبين، فكل ملفوظ لا يعمل داخل إجراء تبادل القول إلا متى اتفق المتخاطبان ضمنيا بصدد مجموعة من التقديرات(11)، فحين يقول أحد المتخطبين “إلى المساء”، فهذا يفترض اتفاقا ضمنيا بينهما أن المساء لم يحل بعد.
كل ملفوظ يشكل جزءا من المعنى الذي يريد التعبير عنه “فالملفوظ لا يعبر عن شيء ما فقط وإنما يقوم بأمر ما، ودون أن نقلب لفظة ما في كل أوجهها من حيث المعنى، فإننا نقول إن هذا الفعل جزء لا يتجزأ من معناه” (12).
ضبط العلاقات المتبادلة بين الشخوص، الشيء الذي يسهل عملية فهم وتأويل ملفوظ كل شخصية، وإجراء هذه العملية مرهون بتوقيع ميثاق بين المتكلم والمخاطب يخضع لقواعد حوار/ محادثة منطقية و سوسيو ـ ثقافية قد يمكن الاتفاق بصددها.
بعد صياغة تصور للبعد التداولي القائم على العناصر المذكورة، تعمل أوبير سفيلد على إبراز خصوصية أفعال الكلام في المسرح انطلاقا ـ أولا ـ من تحديد الأفعال المصاحبة للتلفظ بكل جملة، وهي بالفعل التعبيري Locutoireحيث الجمع بين العناصر الصوتية والنحوية والدلالية لإنتاج دلالة معينة، ويتضمن هذا الفعل في المسرح إجراءين، أولهما إلقاء الكلام و ثانيهما إنتاج معنى لهذا الكلام، ثم الفعل التخاطبي Illocutoire الذي يتميز بالصعوبة مادام الفعل اللغوي مموها و ليس حقيقيا، ثم الفعل التأثيري Perlocutoire القائم على تأسيس ميثاق بين الأنا والآخر/ المتكلم والمخاطب، يتضمن تأثيرا ينتج عنه نوع من العلائقية الاتفاقية مع الآخر، ويتمثل في المسرح على مستوى إحداث أثر فعلي واقعي على المتفرج الذي يوازيه تأثير مصطنع على الشخصية التي تتقاسم الدور مع الممثل.
ورغم تبني نظرية أفعال اللغة من لدن أوبير سفيلد إلا أنها تأخذ عليها إهمالها قسما من وظائف اللغة، خاصة الوظيفة الشعرية والتركيز على قصدية الباث، ومع ذلك، وكيفما كان الحذر المطلوب لا تفضل أوبير سفيلد في هذا المجال “سوى نظريات أفعال اللغة التي قد تقدم كشوفا حاسمة لتحليل الخطاب المسرحي” (13)، وفي هذا الصدد تقدم نموذجا تطبيقيا من خلال محاولتها تحليل جزء من مسرحية Phèdre بالاعتماد على نظرية الأفعال اللغوية ومراعاة تراكب وضعيتين تلفظيتين، مشهدية وتخيلية.
ولتحاور وضعية الانغلاق على الذات في المقاربة التداولية، “تحاول أوبير سفيلد فتح آفاق جديدة تتجلى في تحليل الايديولوجي والشعري في علاقتهما بالأفعال التي يحققها كل ملفوظ في إطار وضعية تلفظية معينة” (14).
وتنتهي أوبير سفيلد في نهاية هذا الفصل من “قراءة المسرح” الى توضيح الفائدة من التحليل التداولي للمسرح والمتمثل في “الكشف عن كيف أن القسم الأساسي من النص المسرحي هو صورة القول الفاعلة والحية في كل أبعادها، بما في ذلك البعد الشعري المتحكم بشكل دينامي في العلائق البشرية، والذي ينطلق من مجموع ما يحكى وما يفعل دراميا”(15).
يتجلى المستوى الآخر في استحضار البعد التداولي عند أوبير سفيلد من خلال مقالتها “بيداغوجية الفعل المسرحي” المتضمنة في كتاب جماعي بعنوان:”المسرح: صيغ المقاربة ـ Théâtre: modes d’approche”، وهيمقالة، كما يبدو من عنوانها، تنحو منحى بيداغوجيا في اقتراح مشروع لقراءة الخطاب المسرحي يراعي خصوصية هذا الخطاب، يُقَدَّم بلغة إجرائية عملية تتجاوز القراءات الفضفاضة، وذلك عبر تحديد خطوات التحليل، ويحضر البعد التداولي، بطبيعة الحال، باعنباره مكونا أساسيا في عملية التحليل، خاصة في الشق المتعلق بتحليل النص الذي يتضمن ستة إجراءات. وتبدو أولى تجليات البعد التداولي من خلال الإجراء الثاني المتعلق بتحديد شروط التلفظ حيث ترى أوبيرسفيلد أنها شروط تخييلية تتعلق بفضاء وزمان الخطاب الدرامي في الخيال لا على الخشبة، وشروط التلفظ هاته تتحدد عبر مجموعة من المكونات، في مقدمتها الإرشادات باعتبارها الطبقة النصية الوحيدة حيث المتلفظ هو المؤلف الذي ينتج السياق (من خلال الفضاء بكل مكوناته)، ثم تأتي ـ بعد الإرشادات ـ التوضيحات التي تؤطر الحوار باعتبارها إرشادات داخلية.
يبرز التجلي الثاني في خضم الإجراء التحليلي الخامس المتعلق بالشخصية، خاصة الشق المتعلق بكلام الشخصيات. إلا أن التجلي الأوضح للتداولية هو حضورها المكثف في الإجراء التحليلي السادس المتعلق بالخطاب المسرحي حيث الوقوف عند الشخصية وتلفظها، من حيث أن كل ملفوظ موضوع على لسان شخصية مسرحية لا معنى له خارج شروط تلفظه، وحيث الوقوف عند المسكوت عنه لضبط ضمنيات الخطاب والوضعية الاستدلالية للشخصية، ثم ـ أخيرا ـ حيث الوقوف عند “أفعال اللغة والحوار”..وههنا يُقَنَّن خطاب الشخصية المسرحية بوضعية تلفظها وركام الافتراضات الضمنية..وههنا ـ أيضا ـ تقف أوبيرسفيلد عند الحوار المؤسس على القوى القائمة بين المتكلمين (أي ضبط عملية التخاطب). وضمن المحور نفسه ـ “أفعال اللغة والحوار” ـ تذكر أوبيرسفيلد أن كل ملفوظ لا يمكن تحليله إلا من خلال ثلاثة مكونات: الفعل التعبيري (أي مجموع علامات الملفوظ نفسه)، والفعل التخاطبي (أي قوة الملفوظ نفسه) ثم الفعل التأثيري (أي التوقع الذي ينتج لدى المتلقي/ الحوار).
هذه إذن محاولة لتلمس حضور التداولي داخل المسرحي لدى أوبيرسفيلد من خلال نموذج لتحديد الخطاب المسرحي (قراءة المسرح)، ونموذج قرائي لمشروع تحليله ومقاربته (بيداغوجية الفعل المسرحي). وذلك كله عبارة عن نموذج لعلاقة المسرح بالتداوليات من خلال “آن أوبيرسفيلد” التي كانت سباقة إلى طرح هذا البعد في الخطاب المسرحي قبل محاولات كل من “ج. بوتي” و”مانكونو”. بل إن الجزء الثالث من مشروعها القرائي المتكامل “قراءة المسرح” هو عبارة عن “عمل تداولي بالأساس عنونته بـ»الحوار المسرحي: قراءة المسرح3« وهو ينصب على أشكال التداول المسرحي”(16).
الهوامش والإحالات:
(1) فرانسواز أرمينكو: »المقاربة التداولية ت : سعيد علوش ـ المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع ـ الدار البيضاء 1987 ـ ص 11.
(2) مقدمة المترجم للكتاب المذكور ـ ص 8.
(3) نفسه ـ ص 8.
(4) فرانسواز أرمينكو ـ مرجع سابق ـص 9.
(5) انظر حسن يوسفي : المسرح و مفارقاته ـ مطبعة سيندي ـ مكناس 1996 ـ ص 113.
(6) D.maingueneau : pragmatique pour le discours littéraire-Bordas – Paris 1990-P :157
(7) عن حسن يوسفي ـ مرجع سابق ـ ص 114 ـ 115.
(Cool Anne UBERSFELD : Lire le théâtre- de Sociales – Paris 1982.
(9) Anne UBERSFELD : Pédagogie du fait théâtral- in – Théâtre : modes d’approche (ouvrage collectif ) – ed. labor – Bruxelle 1987.
(10) آن أوبيرسفيلد: » نحو تداولية للخطاب المسرحي« ت: سعيد يقطين وبشير قمري ـ » مجلة شؤون أدبية « ( مجلة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات) ـ العدد 12 ـ خاص بالمسرح ـ ربيع 1990 ـ ص 80.
(11) ـ (12) نفسه ـ ص 81.
(13) نفسه ـ ص 83.
( 14) حسن يوسفي ـ مرجع سابق ـ ص 91 .
(15) آن أوبير سفيلد: » نحو تداولية للخطاب المسرحي«.. مرجع سابق ـ ص 91
(16) من حوار مع »آن أوبير سفيلد «أجراه حسن يوسفي ـ العلم الثقافي ـ السبت 21 مارس 1998 ـ ص 11
مصدر الموضوع مدونة أبو إياد عن المسرح و التداوليات: نموذج آن اوبيرسفيلد / د.عبد المجيد شكير « موقع الكاتب والفنان المسرحي
محسن النصار عن المسرح و التداوليات: نموذج آن اوبيرسفيلد / د.عبد المجيد شكير « موقع الكاتب والفنان المسرحي محسن النصار
عن المسرح و التداوليات: نموذج آن اوبيرسفيلد / د.عبد المجيد شكير « موقع الكاتب والفنان المسرحي محسن النصار