محمد برادة - الطريق الطويل

مشاهدة المرفق 122
ليلة من ليالي الخريف وهو في غرفته يحاول أن يبعد عنه الهواجس والأفكار، ليستقبل النوم... إلا أن رياح الخريف كانت تهز خلال الأشجار فيبلغه صفيرها ويوقظ في نفسه أحاسيس حادة حاول بغير جدوى أن يتلافاها. لا يدري لماذا يذكره صفير الرياح بتجدد الطبيعة وتهيئها للتغير، كل شيء يتغير ويتجدد من حوله... الرياح تقطع أميالا طويلة ساحبة في طياتها بذور الثورة على ما خلفه الصيف، فتنزع الأوراق التي شاخت لتفسح المجال لأوراق نضرة خضراء. ودون شعور جعل يقارن حالته بحال الطبيعة. إن الأمل الذي يتعلق به هو أن يخلق ويجدد ولكن يخيل إليه أن الوسيلة التي تذرع بها بطيئة الخطى، ضعيفة المفعول.. كانت وسيلته الحرف يعتصره من نفسه اعتصارا ويحاول أن يعبر به عن الحياة. كان في بادئ الأمر يفعل ذلك معتقدا أن كل ما ستخطه يداه سيؤتي ثمرته المطلوبة، ولكن شيئا فشيئا أخذت تتضح له معالم الطريق التي اختارها..
وعادت الرياح تصفر، وشعر برغبة قوية في أن يكتب ويسجل ما تضطرم به نفسه، لكن لمن سيكتب؟ انه تذكر وجها صغيرا مستديرا يطفح بالحيوية، فتاة عرفها مدة وجيزة ولكنه أحس أنها أقرب إنسانة إلى نفسه إلا أنه تصرف معها تصرفا قد تعاتبه عليه... يتحتم أن يعتذر لها. وفي موجة الانفعال أمسك بالقلم ليكتب :
الآنسة منى :
أخشى أن تمزقي الرسالة قبل أن تتمي قراءتها، فنفسك البريئة قد لا تحتمل المراوغة وتعقيد الأمور، وقد تكفي رؤيتك للرسالة ممهورة باسمي لتمزقيها دون أن تكلفي نفسك عناء القراءة لأنني في نظرك أكتب بروح لا ألزمها في تصرفاتي ... لكن رجائي إليك أن تكملي قراءة الرسالة لأني لا أريد أن أخسر صديقة مثلك.
أنا ما زلت أذكر لقاءنا العابر حينما كنت في زيارة خالتي وقدمتك لي على أنك طالبة مجدة ثم التفت مثيرة إلي في اعتزاز وهي تقول :
- فقيه العائلة.
وأسرعت أنت بالابتسام كأنما لتفهميني أنك أدركت قصدها. وكانت بداية الحديث بيننا عادية غير أنك أثرت انتباهي أو غروري -لست أدري- حينما قلت :
- لقد قرأت لك بعض ما كتبت وأعجبت به.
وظننت إطراءك مجرد مجاملة ولكنك مضيت في إبداء الملاحظات مما أقنعني بأنني أمام إنسانة تفهم ما تقرأ وتتمتع بذوق أدبي رقيق.
على أن لقاءنا الثاني عندما كنا نسير في الضاحية مشرفين على المدينة، جعلني أشعر أنني على عتبة لحظة تكون خطيرة في حياة الإنسان، يرتبط فيها بشيء جديد يغير من حياته... كنت تثرثرين في براءة وتتحدثين حديثا وددت لو أنه لا ينتهي، ولكنني كنت سارحا بخيالي، وكأنما شعرت بشرودي فحولت كلامك إلى صيغة سؤال :
- ألست معي في أن الفنانين أفضل الناس، إنهم يحاولون أن يضيفوا شيئا إلى الحياة ؟ وأجبت في شرود : ربما.
وكأنما لم يقنعك جوابي فمضيت تسهبين في تبيان رسالة الفنانين.. أما أنا فكنت أدير في رأسي أفكارا أوحى بها لقاؤنا. كنت أحاول أن أجيب على سؤال خطر بذهني : هل يحق لي أن أحبك أن أربط بين مصيرينا ؟.
قد تبتسمين عند قراءة هذا السؤال لأنك لم تسمعي قط أن الحب عملية تتم بموافقة العقل، غير أنني لم أتساءل بدافع من العقل وحده بل بدافع من عاطفتي أيضا... حرصي على أن لا أشوه صورة جميلة أخذنا نرسم خطوطها الأولى هو الذي جعلني أحاول الجواب على هذا السؤال، وكان الجواب غامضا سلبيا في أكثر أجزائه.. صور كثيرة انبثقت في ذهني قبل أن أصل إلى الجواب... كانت أولاها صورة طريق طويل، طويل جدا... نهايته غير واضحة وأنا أشير في أوله لا تبدو على ملامحي مظاهر النشاط ولا علامات التعب...
وعادت إلى ذاكرتي صورة أمي وهي تسألني :
- لم تخبرني يا بني هل ستكون حقا طبيبا أم مهندسا ؟
- سأصبح أحدهما... أيهما تفضلين ؟
ومضت أمي تشرح مزايا مهنة الطبيب والمهندس كما تفهمهما، ولم أحاول أن أخبرها بحقيقة مطمحي لأنها لن تفهمني ولو فهمتني لضحكت مني بل لبكت لأن الآمال التي عقدتها علي ستنهار فجأة وستنظر على أنني خيبت أملها فحرمتها من عيشة أحسن، وستجد أن التضحيات التي تحملتها في سبيل تعليمي قد ذهبت أدراج الرياح... وأنا لا أستطيع أن أواجهها بالحقيقة، أفضل لها أن تعيش على هدهدة أمل كبير..
حديثك المتدفق، إني ما زلت أذكر كلماته المؤمنة المتوثبة. خيل إلى أنك إيمان خالص لا يعرف الشك ولا معاكسات القدر... كنت تتحدثين عن المستقبل الذي ينتظرني لو ظللت مخلصا فيما أكتب، وكنت تصورين ألا عظمة تضاهي عظمة الفنانين؛ وكانت تختلج في صدري شكوك ورؤى سوداء... كان الطريق الذي سرت فيه يبدو لي بغير نهاية، تفرشه الأشواك وتحفه المتاهات، وإيماني في أني سأصل يوما إلى آخره أخذ يتضاءل؛ ولكنني لم أرد أن أحدثك بشيء من هذا.. وخيل إلي أنك تجسمين حالتي قبل سنتين عندما كنت أحلم بأن أسير في هذا الطريق.. نفس الإيمان ونفس الحماس، إنه لم يتلاشى من نفسي ولكن بعض الشكوك أحاطت به فنشب الصراع.
وعندما افترقنا كان السؤال ما يزال يلح لأوجد له جوابا نهائيا. وفي هذه المرة حولت دفة التفكير إلى شخصك.. كنت كما أريد، سمرة خفيفة وعينان عسليتان تقربان من لون البشرة فيوحي مرآك بالدفء، والصدر في استدارته الأولى يعد بثورة خيوطها تنسج على مهل، وإيمانك بالطريق الذي سرت فيه يكاد يفوق إيماني.. ولكن هل ستظلين هكذا ملاكا في صورة إنسانة ؟ قد لا أصل إلى نهاية الطريق وقد يكلفني ذلك الحرمان والبؤس فهل ستتحملن في صبر وإصرار؟ ألن تستيقظ فيك غريزة الأنثى فتطلبي مني أن أشتري لك الفساتين والحلي لتباهي بها صديقاتك، وحينئذ قد أوافق في لحظة ضعف على تنفيذ رغباتك وأسلك لذلك سبلا ملتوية، فأتخلى عن مثلي وقيمي وأغمس قلمي في الوحل ؟؟
قد تقولين إنها مجرد شكوك ولكنها جد ممكنة، فالذي يطرق أبواب الناس بالحرف أمله ضعيف... يكفي أنني خيبت أمل امرأة عزيزة لدي، ويعز علي أن أكرر الأمر معك فأحرم من قلب أعجب في يوم ما بما كتبت.
قد لا يقنعك كل ما ذكرته وقد تجدينه مجرد أوهام لا تبرر خلف موعدنا الثالث وتركي رسالتك بغير جواب.. ولكنني فكرت بعد مضي سنة في أن أبعث إليك بهذه الرسالة لأشرح موقفي وأنا متأكد من أنك خير من سيفهم هذه السطور... أملي أن تظلي صديقتي من خلال ما أكتب ولو قدر لي أن أصل إلى نهاية الطريق فثقي أنك أول من ستمثل صورته في ذهني لينقلني إلى أجمل ذكرى عشتها في أول الطريق الطويل.
التفاعلات: محمد كريش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...