جمعَ القرويونَ الفلاسفة في أكياس الشعير المسوَّس الفارغة. كانت أكياس شعيرِ علفٍ. الفلاسفة أناس ذميمون ولسانهم طويل، لقد أفسدوا الحياة الهانئة بأسئلتهم الكثيرة اللّجوجة، وبأجوبتهم الغامضة التي لن نربح منها سوى أسئلة أخرى محيّرة للغاية، كألغاز بلا حلّ لا تصلح حتى للتسلية.
قبل قدوم الفلاسفة إلى هذه القرية الواحد تلو الآخر، كانت الأمطار تهطل في موعدها، والمحصول كان يأتي وفيرا، بل كل سنة كان يأتي أوفر من كل السنوات التي سبقتها. كانت الخيول تصهل وتحمحم كل مساء في الحصيدة اللامتانهية، والدجاجة تبيض بيضتين كل يوم، واحدة صباحا والأخرى مساء، والبطاطا كانت بحجم بطيخة صغيرة.
ماذا جنت القرية من الفلسفة الآن؟ سوى موسم الجفاف الطويل هذا؟
لم تمطر السماء فوق الحقول مذ وضع أول فيلسوف أقدامه غير المباركة على هذه الأرض. المحاصيل أكلها السّوس كلها، والتّبن أحرقته نيران القيظ التي شبّت أيضا في كل أكواخ الفلاحين وزرائبهم وإصطبلاتهم. الدجاجة صارت تبيض فقط بيضة واحدة فاسدة في الشهر عند اكتمال القمر، والبطاطا صارت بحجم حبة النَّبَقْ! حتى الأحصنة صارت كلها حزينة لا تصهل بل تبدو ساهية كأنها مستغرقة في التفكير لحل الألغاز حتى صارت هزيلة منهكة لا تقوى على الركض ولا على جر العربات.
ماذا جنت القرية الآن من الفلاسفة وفلسفتهم المبهمة غير القحط واللعنة؟
قال زعيم القرية: اقذفوا الأكياس واحدا بعد واحد داخل الشاحنة، وعقد يديه خلف ظهره، وقد ارتسمت على وجهه المتغضن كجذع شجرةٍ ملامح الوقار والجد والجَلَد في الأزمات. تطوع الرجال كلهم كي يصنعوا صفا من الحمالين الأقوياء، الأولُ يحمل الكيس من الأرض إلى ظهره ويناوله لصاحبه الذي على شماله، وصاحبهُ يناوله لصاحبه الآخر الذي على شماله في سلسلة طويلة من الرجال، وهكذا حتى يصل الفيلسوف داخل الكيس إلى الشاحنة.
بدا لهم بعد ساعة من نقل الشحنة من على الأرض، إلى الشاحنة، أن عدد الأكياس يزداد لوحده حين يستديرون! بل صار بسرعةِ البرقِ لا نهائيا كأسئلة الفلاسفة ذاتها، وأنهم سيستغرقون أعمارهم بطولها في نقل الأكياس إلى الشاحنة.
قال أحد القرويين: هذا غير معقول، لن أضيع حياتي كلها في نقل أكياس تتناسل!
قاطعه زعيم القرية بسرعة بغلق فمه بيده السميكة وتطويق حركته قبل أن يفسد عقول الرجال الآخرين أيضا مثلما فَسَُدَ عقله، وقال بلهجة متأسِّية محدقا في الشاحنة: ضعوه هو أيضا في كيس واقذفوه في الشاحنة مع الفلاسفة.
أوشكت الشمس على المغيب. لاحظ الزعيم أن عدد الأكياس يتضاعف كلما رمشت عينه رمشة واحدة، وحين أطل داخل الشاحنة لاحظ أن قعرها صار خياليّا لن تملئه أبدا حتى رمال الصحراء! لكنه منع عقله بسرعة عن طرح مزيد من الأسئلة، جارّا بذلك لجام تفكيره بقوة ليقف كبغل أرعن جفل بصاحبه في اتجاه حافة. وضع يده فوق جبينه كحافة قبعة وتطلع بِحيرة إلى سماء الغروب الصامتة، تهللت ملامحه بشكل مفاجئ، فصرخ بلهفة مشيرا بيده التي مدّها مستقيمة كبندقية صيد ذات فوهتين في اتجاه السماء الفارغة في تلك الساعة من أية أسراب طيور: أنظروا.. أنظروا.. السماء بدأت تغيم..
ردد الرجال منشرحين وقد توقفوا عن نقل الأكياس إلى شاحنة المواشي في استراحة قصيرة والعرق قد بلل ثيابهم فالتصقت بجلودهم وهم يحدقون في الأفق البعيد المعتم: السماء بدأت تغيم..! السماء بدأت تغيم..!
واصل الزعيم كلامه بثقة زائدة وحماس أكبر هذه المرة وهو يعتلي كومة أكياس مليئة بالفلاسفة تراكمت فوق بعضها كَتَلَّةٍ صغيرة، لِيَبْدُوَ واضحا للجميع من قدمه حتى رأسه وهو يخطب فيهم محركا يديه في كل الاتجاهات: سننقسم إلى فريقين، فريق ينقل الأكياس في النهار، وفريق يكمل العمل في الليل، في مناوبة مستمرة، حتى ننتهي منهم. هيّا.. أسرعوا.. مع آخر فيلسوف يُقذف في الشاحنة، سيتهاطل مطر غزير، وستحصدون حبة البطاطا بحجم بطيخة كبيرة.