منذ سنوات أتنقل عبر الحافلة، لا أهتم كثيرا للركاب ولا إلى السائق، دوما تأخذ النافذة المساحة الأكبر من اهتماماتي فأختار بعناية مقعدا مجاورا لها. أغوص بأعماق السحب التي تركض بسرعة الرياح شتاء، وبزرقة السماء الصافية صيفا، دوما هناك رغبة جميلة تجتاحني كلما تخيلتُني أركض بتلك المساحات التي تطويها الحافلة على عجل، فلا تمنحني فرصة اقتناص صور لي بها.
اليوم... وبعد عشر سنوات سفر، أحسُّني كبرت كثيرا... تعبت كثيرا... ترهلت صور النوافذ بمخيلتي، فلا أنا عدتُ أنتبه لوجود جبال تشمخ بطولها، ولا همّتني عصافير محلقة أسرابا في لوحة بديعة. ولا هو مكاني بالقرب من النافذة صار يغريني.
تموت فينا الرغبات حين نفقد السبب الذي كنا نناضل من أجله، وتقلّ حاجتنا للمرح. قليل من الابتسامة المتعبة تكفي ليوم عمل مضن. ما عدتُ أختار بعناية مساحيق التجميل أو أقف لساعات طوال أمام المرآة أزين ربطة خماري البهي الألوان. الآن صار السواد يكتسحه فأرميه بعشوائية وألقي نظرة سريعة بالمرآة قبل خروجي. غيرتُ جلّ عاداتي إلا تلك النظرة السريعة بالمرآة أحس من خلالها أني لا أزال أحتفظ ببعض من طقوس الأنثى. كنت أسافر سابقا على أمل لقاء جميل يجمعني بأقدار العمر التي تستحق. كنت وأنا أجلس بالحافلة أتفقّد وجوه الركاب من حولي... أبتسم لهم... أقاسمهم ما أحضرت معي من زاد مهما كان قليلا... أثرثر، أحكي لهم عني وأسمع قصصهم، أواسيهم بأحزانها وأشاركهم فرحتها. كان قلبي يخفق كالطائر كلما اقتربتُ من الوصول، لأحضن عائلتي، أنزع عني ثوب الإرهاق وألبس على مقاس فرحهم، فتغدو الحياة بعيني أجمل وأحلى. وإذ أفرغت شحنات شوقي أحملُني لمنزل أحد الأقارب، أجلس على فنجان قهوة وبسكويت وأحاديث لا تنتهي إلا بأذان المغرب.
ياااه... كم تغير الزمن... غاب الأصدقاء في زحام العمر... غيرتهم الظروف... وعرّتهم المواقف... حتى أولئك الذين راهنتُ لأجلهم وتوقعت الجفاء من الجميع إلا منهم... خذلوني... كنتُ أبصم بنبضات قلبي أنهم لن يعوضوا أبدا، وأن الزمن سيتغير ولا يتغيرون، لكن، بقي الزمن وفياً...وما وفوا... بقيتْ جلسات القهوة وفية على طاولتنا المسائية، لكنها غدت باهتة، حتى ذلك الإصّيص الذي كان يذبل شتاء ويزهر ربيعا، ظل شاهدا، ولم يظل الأقربون كذلك. شوهتهم المصالح، أغوتهم الدنيا التي ضحكت... لكن... بدوننا. صاروا قادرين على الابتسامة والضحك عاليا حتى دون أن أشاركهم ذلك كما كنا نفعل.
صاروا يتبادلون التهاني بعيدا عن عناقنا... آه... ما عادت تهمني الآن نوافذ الحافلات، فمثلهم صارت تنغلق على هواء ملوث. ما عدتُ أنظر لساعة يدي وقلبي يسارع الكيلومترات ليصل، تشابهت كل الأشياء، كل الأوقات، كل الأماكن، كل الانكسارات بداخلنا صارت كأنها شريط مسجل يعاد برتابة كل يوم. ما عاد يهمني أمر الركاب ولا حزنهم أو سعادتهم تثير مشاعري... بالأحرى... ما عادت لمشاعري مشاعر... أحسّها صارت ركاما من الذكريات فقط... صرتُ كثيرا ما أغتاظ لرؤية أشخاص يضحكون فيلفتون انتباه المسافرين. وفي سري أتساءل : أيوجد ما يستحق كل هذا الضحك ؟.
! غريبة عني... ولا أشبهني... ولا أعنيني في شيء سوى أن الانكسارت المتتالية قتلت براءة إحساسي وحولتني مجرد امرأة تركض بهوامش العمر.
اليوم... وبعد عشر سنوات سفر، أحسُّني كبرت كثيرا... تعبت كثيرا... ترهلت صور النوافذ بمخيلتي، فلا أنا عدتُ أنتبه لوجود جبال تشمخ بطولها، ولا همّتني عصافير محلقة أسرابا في لوحة بديعة. ولا هو مكاني بالقرب من النافذة صار يغريني.
تموت فينا الرغبات حين نفقد السبب الذي كنا نناضل من أجله، وتقلّ حاجتنا للمرح. قليل من الابتسامة المتعبة تكفي ليوم عمل مضن. ما عدتُ أختار بعناية مساحيق التجميل أو أقف لساعات طوال أمام المرآة أزين ربطة خماري البهي الألوان. الآن صار السواد يكتسحه فأرميه بعشوائية وألقي نظرة سريعة بالمرآة قبل خروجي. غيرتُ جلّ عاداتي إلا تلك النظرة السريعة بالمرآة أحس من خلالها أني لا أزال أحتفظ ببعض من طقوس الأنثى. كنت أسافر سابقا على أمل لقاء جميل يجمعني بأقدار العمر التي تستحق. كنت وأنا أجلس بالحافلة أتفقّد وجوه الركاب من حولي... أبتسم لهم... أقاسمهم ما أحضرت معي من زاد مهما كان قليلا... أثرثر، أحكي لهم عني وأسمع قصصهم، أواسيهم بأحزانها وأشاركهم فرحتها. كان قلبي يخفق كالطائر كلما اقتربتُ من الوصول، لأحضن عائلتي، أنزع عني ثوب الإرهاق وألبس على مقاس فرحهم، فتغدو الحياة بعيني أجمل وأحلى. وإذ أفرغت شحنات شوقي أحملُني لمنزل أحد الأقارب، أجلس على فنجان قهوة وبسكويت وأحاديث لا تنتهي إلا بأذان المغرب.
ياااه... كم تغير الزمن... غاب الأصدقاء في زحام العمر... غيرتهم الظروف... وعرّتهم المواقف... حتى أولئك الذين راهنتُ لأجلهم وتوقعت الجفاء من الجميع إلا منهم... خذلوني... كنتُ أبصم بنبضات قلبي أنهم لن يعوضوا أبدا، وأن الزمن سيتغير ولا يتغيرون، لكن، بقي الزمن وفياً...وما وفوا... بقيتْ جلسات القهوة وفية على طاولتنا المسائية، لكنها غدت باهتة، حتى ذلك الإصّيص الذي كان يذبل شتاء ويزهر ربيعا، ظل شاهدا، ولم يظل الأقربون كذلك. شوهتهم المصالح، أغوتهم الدنيا التي ضحكت... لكن... بدوننا. صاروا قادرين على الابتسامة والضحك عاليا حتى دون أن أشاركهم ذلك كما كنا نفعل.
صاروا يتبادلون التهاني بعيدا عن عناقنا... آه... ما عادت تهمني الآن نوافذ الحافلات، فمثلهم صارت تنغلق على هواء ملوث. ما عدتُ أنظر لساعة يدي وقلبي يسارع الكيلومترات ليصل، تشابهت كل الأشياء، كل الأوقات، كل الأماكن، كل الانكسارات بداخلنا صارت كأنها شريط مسجل يعاد برتابة كل يوم. ما عاد يهمني أمر الركاب ولا حزنهم أو سعادتهم تثير مشاعري... بالأحرى... ما عادت لمشاعري مشاعر... أحسّها صارت ركاما من الذكريات فقط... صرتُ كثيرا ما أغتاظ لرؤية أشخاص يضحكون فيلفتون انتباه المسافرين. وفي سري أتساءل : أيوجد ما يستحق كل هذا الضحك ؟.
! غريبة عني... ولا أشبهني... ولا أعنيني في شيء سوى أن الانكسارت المتتالية قتلت براءة إحساسي وحولتني مجرد امرأة تركض بهوامش العمر.