مدائن ليلات / مجموعة قصصية تضم 28 قصة ، ويأتي هذا الإبداع الجديد بعد إصداره لرواية تحت عنوان : قرية ابن السيد ، وقد اختار الكاتب حسن إمامي لمجموعته القصصية عنواناً : مدائن ليلات ، يشرق كالشمس على كل القصص ،فخلق مرايا متعددة للعنوان ، فأثقله بإيحاءات أسطورية تغرق في تاريخ الإنسان الأول ، وأخرى تمس الواقع الاجتماعي الحالي .
بدايات قصص المجموعة مختلفة ومتنوعة بناها على شكل طبقات نفسية وذاتية ،واجتماعية وثقافية . بدايات مركزة يهدف من ورائها القاص حسن إمامي فتح السرد وتنويره ، وركوب التخييل العميق ، مع حفز الحكي على الانطلاق لشد انتباه واهتمام القارئ ، بدايات يتخطى فيها الوظيفة الإخبارية للرفع من مستوى الوظيفة الإغرائية والوظيفة الدرامية انطلاقاً من ملفوظات سردية : / عللت لمحتها بخصلات شعرها المتدلية على طرف ومدار حاجبها الأيسر / قصة : بهو الاعتراف .
/ في حركة شبه احتفالية ،رفعت ذراعيها بشكل تراقصي يفتح قوساً متصاعداً إلى السماء / قصة : صهيل الخيول الجامحة .
فالجمل الفاتحة تنساب في حس شعري ،ولغة أنيقة ، حيث تنبجس اللغة القصصية كنبع تتفرع عنه سواقي متعددة ، كل ساقية تحمل إشارات خارجية متزامنة مع إشارات داخلية تستفز وتستنفر النفس والذات لتتصادم مع الواقع وتتشكل وتتغير من جديد ،فتخرج الشخصيات عن صمتها لتتفاعل مع وضعيات وحالات تتراوح بين السعادة والحزن ، بين الاستقرار والضياع ، بين الأمل والتشاؤم ، بين الشر والخير.
تعامل القاص حسن إمامي بوعي مع مكونات الطبيعة للكشف عن ما تحس به النفس من أحاسيس سرية من خلال علامات وإشارات لغوية ، من منظور فكري وثقافي أن الطبيعة تحمل من الأســــرار أغلبها خفية ، يتفاوت الناس في طريقة الحفر عنها ، واكتشاف ما تضم من جمالية فنية . ومن هنا حرص الكاتب على تحويل الكلمات ذاتها إلى أشياء بديلة عن الطبيعة تنبض بالحياة ، كأنه يدعو الطبيعة أن تشكل منه "الأنا " الإبداعية ..
/ قالت : سأزور مدينة هذا العاشق / سأزور الجبل وأطلال الديار / سأستنشق من ذلك الهواء / سأكون شجرة الكاليبتوس السامقة / وأزهار الرياحين / أو تاجاً فوق عالي أغصانها / ...
لم يغفل الكاتب حسن إمامي أن يحتفي بالحيوان ، لقد حفر في نفسية القط " مينوش " برؤية عميقة ترتبط بالإحساس الإنساني إذ يمكن للإنسان أن تحثه نظرات الحيوان وأصواته وحركاته فيتخيل نفسه داخل فكره وقلبه وعواطفه كما قال نتشيه ، وكثيراً من الديانات توصي باحترام الحيوان ، وتعلم الناس كيف يرون في الحيوان عمق روح البشر ..
يقول الملفوظ السردي التالي " لا يدري ، هل تخاطبه أم تخاطب نفسها ،أم شيئاً آخر لا يعلمه في صوتها ../ مينوش قل لي ...: هل ستأتي ؟ / يحرك ذيله ببطء ،كأنه يكنس به بساط الزربية الحمراء الناعمة .. /
يفترش فخدها وحجرها ، ويتمسح ببطنها وأسفل نهديها../ آ الخايب .. تتشابهان في رغباتكما .. هو الآخر يعجبه سلوكه الطفولي في النوم فوق فخذي ، حتى يتهيأ لذئبيه في الافتراس ..إياك أنت أن تفكر مثله .. سمعت /
تتشكل المجموعة القصصية " مدائن ليلات " من أحداث صامتة في معظمها ،متصلة بشخصيات فاعلة ،تعيش في فوضى على مستوى النفس والذات والفكر ، والعاطفة والإحساس والشعور ، بل تعيش تناقضاً صارخاً في السلوك والفعل والتوجه وتغير المواقف.. شخصيات أغلبها تنتمي إلى شريحة اجتماعية بسيطة ، تعيش مواقف متجادلة ومتناقضة مع نفسها حول فهم معنى الحياة ، ومنقسمة في توجهاتها نحو إخضاع الواقع لرغبات النفس لمسايرة تغيرات المجتمع والقفز نحو سلم اجتماعي أعلى .. والقاسم المشترك لشخوص بعض القصص هو امتطاء عاطفة الحب كنفق مضيء يؤدي إلى مخرج واحد وهو استنزاف هذا الحب وتحقيق الشبع منه بطرق شتى .. لكن الكاتب عرف كيف يشخص ذلك الالتباس العميق المكثف للحب الذي يكون في بعض الأحيان لا بريئا ولا صافياً مكتملا .. تقوم به شخصيات متناقضة في طبعها وفعلها وسلوكها تتأرجح بين الغرق في اللذة والمتعة ، والفساد والاحتيال والمغامرة والتجريب الطفولي للحب ..
قدرة فائقة على تتبع أبسط الحركات للشخصيات ، كأنه نصب كاميرا خفية لها ، تتنقل في تواز مع تنقلها في الزمان والمكان ، وليحقق هذه الوظيفة عمل على تقطيع المشاهد ،مشهد يفضي إلى آخر ، كأنه يصنع فيلما قصيراً يتكون من عدة لقطات ليعطينا صورة مكتملة عن هذه الذات / الإنسان ..
قصص حسن إمامي هي غزو للقلوب ، للأفكار ، للأحاسيس ، وللعواطف .هي اقتحام للبيوت ، لغرف النوم ، للحمامات ، فهو يصنع عوالم كفضاءات واسعة تستطيع أن تتنقل فيها الذات الفاعلة بحرية عبر البوح والإفصاح والجرأة في الانتقال من وضعية مريحة إلى أخرى مقلقة ، ومن حالة الانشراح إلى حالة اليأس والفشل ....لذلك نجده يعمق حكيه عن المغيب والخفي فيما وراء أسرار النفس البشرية وما يحدث لها من تقلبات فكرية وعاطفة ، وما ترغب فيه أن تكون ، عبر التخييل والتحليق والتصوير والتنقل في فضاءات خارجية متنوعة /القطار / المدينة / الطريق / السفر / الرحيل / المحطة / الفندق / الحانة / حادثة السير / المحكمة / فضاء الإعدام / المقهى / المدرسة / المؤسسات الخاصة والحكومية /عالم البحر/عالم الخرافة / عالم الصحافة / عالم الغربة / عالم الخادمات / والعالم الغربي /..
عوالم كأننا نتجول فيها ، نعيش في غموضها ووضوحها عن طريق السرد الأخاذ والوصف الدقيق لشغب النفس وتقلباتها ، والحفر في أسرارها .. عوالم ينزع الكاتب أسقفها ، يطل من ثقوب وفجوات أعدها سراً في المسار السردي لقصصه ، يرصد ، يسمع ، يتنصت ....
تلك الفضاءات المكانية لم تعد محصورة في الحيز الجغرافي لها ، إنها تتوازى مع فضاءات نفسية ، ذهنية ، عقلية ،اجتماعية وثقافية ..فضاءات يمتلكها السارد ويجعلها تحت تصرف شخصيات قصصه ،يجعلها هي التي تسافر،هي التي تختار الفضاءات التي تناسبها / ..
فإذا كانت المرأة / الأنثى "ليلات " مغيبة عن الحكي الشعبي والتي كانت قبل حواء ، فالحديث عن هذه المرأة / الأسطورة يدفعنا أن نتساءل : فهل تكون المرأة المذكورة " ليلات "هي أم لكل النساء اللواتي جئن
بعدها ؟ أم أن الكاتب يحفزنا على تلمس صوت المرأة والتقاط نغمتها الأنثوية محاولا تشخيص أسرارها داخل نصوصه السردية ؟ أم كون الأنوثة قوة محفزة للإبداع والمعرفة ؟
ليلات " المرأة / الأنثى الباحثة عن الرجل ،المندفعة نحوه ،المثيرة لحواسه ،المنتشية بلقائه ، المرتوية بعشقه ../ انقضت عليه مشتهية تفاحته / فالرجل لم يكن يعرفها في بدائيته ، لكنها عرفت بنفسها وأنوثتها ، ولما تمكنت من عاطفته تدللت وتمنعت ، فهي تريد الاستعلاء ،وهو يريد أن يفرض الاستقواء ، وفي النهاية أسقطته في عشقها ،فعملت على تطويعه وصقله للتأشير عن وجودها وقدرتها على إخضاع الرجل لرغبتها ، وقد قيل : " أنوثة المرأة أعمق لأنها أشد اختفاء "،
وكما يقال في الموروث الثقافي الشعبي " إن الأنثى أكبر مصيدة للرجل " ، تلك الأنثى التي تخلت عن طبيعتها الناعمة وارتدت أقنعة متعددة يتم اكتشافها من خلال قراءتنا للقصص الأخرى ، المرأة الإنسانة /المرأة المكافحة / المرأة العاشقة / المرأة المحتالة / المرأة المدافعة عن الرجل / المرأة المستغلة /المرأة المتعلمة / ...
وقد نجح الكاتب في الانتقال بالقارئ عبر تعرضه للمرأة الأنثى /الإنسانة من منظور ذاتي يعري واقعها المزري في العصر الحالي رغم بريق حضارة لا زالت فيها المرأة تحمل تلك الصور المشينة الموروثة عنها منذ القدم ، تقول الكاتبة نورة الجرموني عن الهوية الأنثوية :
"فلا هن قادرات على أن يقطعن كل صلة لهن مع عالم أورثهن ثقافة التهميش والإقصاء ،ولا هن قادرات على أن ينتمين إلى العالم الذي يعتقدن أنه يكفل أنوثتهن الإنسانية .. "
مجموعة قصصية قيمة تشير بقوة إلى حركة تغير مجتمعية ،تتجلى بأفعال وسلوكات تبدأ قليلة في الخفاء ، ثم تتضح وتكبر شيئاً فشيئاً لتصبح علنية ، تغطي فضاءات مختلفة من المجتمع ، تستفحل تحت ضغط المجتمع ، ومن هنا تتغير القيم الجميلة والأصيلة إلى قيم سلبية وضارة للفرد والمجتمع ..
إن القاص والروائي حسن إمامي عمل على ترويض وتطويع قصصه من خلال تجربته الذاتية وخبرته الفكرية والذهنية للواقع ولصور الحياة بأشكالها المختلفة ،فاستطاع أن ينتشل نماذج بشرية من الحياة ليجعلها مندمجة ومؤثرة في الحياة ، إذ لا يمكن للإبداع القصصي أن يلغي الواقع في صناعة الفن القصصي، ومن تم لجأ الكاتب حسن إلى ركوب تقنية اللعب التخييلي الذي ينقل الأحداث من الواقع من خلال التجربة الحية إلى فضاء الحكي للكشف عن ظواهر تتعلق بمختلف الفئات الاجتماعية ونماذجها ..
قصة : بهو الاعتراف ..
ينطلق السارد من العالم الخارجي للدخول في عوالم متعددة ، عالم الواقع ،عالم المرأة ، عالم الإثارة ، عوالم ينشطها الخيال ،التوجس ، الانتظار والترقب ..أحداث القصة صامتة في معظمها قد نتخيلها أنها منفصلة عن الذات ، لكنها صارخة ومدوية تحت سلطة الفعل والسلوك والحركات الصامتة ، وكأن القاص حسن إمامي يجسد نوعاً من العلاقة المبنية على الفهم والإعجاب بالآخر، دون التصريح والبوح الصارخ. إنها فوضى عمل على تجسيدها الكاتب على مستوى الفكر ،العاطفة ، الإحساس ، الشعور والاهتمام . لكنه عمل على تنظيمها وترتيبها على مستوى التوحد والإعجاب ورفع الحرج الذي أدى إلى الانسجام في آخر النص / لا عليك ..سأهتم بكل شيء ../ شكراً حبيبتي /
قصة صهيل الخيول الجامحة ..
فالعنوان وحده يرسم مشهداً اجتمع فيه الصوت والصورة ، صوت الصهيل المصحوب بحوافر الخيول وهي تثير الغبار من ورائها ، أعناقها ممتدة إلى الأمام ، وشعر أعناقها يهتـــــز بفعل الرياح ، خيول تجري بدون هدف محدد .. مشهد ينقل القارئ عبر زمان يفضي إلى آخر ، ومكان يتغير مع سرعة الجري والقفز والحركات غير المنتظمة .. قدرة فائقة على تتبع أبسط الحركات كأنه نصب كاميرا خفية لها تنتقل في تواز مع تنقلها عبر الزمان والمكان داخل فضاء مفتوح وغير محدد .. ومن تم عمد إلى تقطيع المشاهد ، مشهد يفضي إلى آخر ، كأنه يصنع فيلماً قصيراً مكونا من عدة صور لتوليد صورة كاملة عن الذات / الإنسان ..
تقابله هذه الصورة صورة أخرى تتجلى في الفقرة الأولى من القصة : " في حركة شبه احتفالية رفعت ذراعيها بشكل تراقصي يفتح قوساً متصاعداً إلى السماء ليلتقي في شبه استدارة لملاقاة شعر أسود على كتفيها وظهرها .. " إنها صورة بطلة تحتفي بجسدها فوق خشبة مسرح يشاهده الجمهور ، والواقع ، إنها تحتفي بشعورها وإحساسها في تحد للزمان والمكان .. صورة اختزلها القاص حسن في صورة سمكة سلمون التي لا تستقر في مكان معين ، تبحث دائما عن المنابع الصافية ، وهي لا تدري أنها تتجه نحو عوالم ملوحة هائجة وعريضة / المحطة / القطار / .يقول السارد :
" كسمكة سلمون بدأت رحلة الحياة من منابعها الصافية إلى عوالم ملوحة هائجة عريضة ،استقبلتها محطة القطار المحتضنة للغريب قبل القريب "
" بطلة تكابد من أجل أن تنسل من عالم يتسم بالاستقرار إلى عالم تغلفه أحلام فضفاضة ، براقة ،كما تحاول جاهدة أن تخلق لنفسها عوالم سارة عن طريق البناء التخيلي ، المغرق في التيه والغربة والضياع . فهي لم تستطع أن تغير الواقع ، ولم تستطع أن تجعل أحلامها الفوارة تحت سلطة واقع ممكن .. فهي تحلم باللقاء ، بالمصاحبة ، بالرفقة الدائمة ، يقول السارد : " أصبح الحلم حصاناً مارداً يجتر قطار السفر إلى خطوط سكة حديد عارجــــــة ، تركت له الحرية من عنان ، عساه أن يعوض الحنين باللقاء " إنها تسعى لهذا اللقاء بالآخر ، بالذات الأخرى من أجل الإنقاذ ،وانتشالها من الظلم الأسري والاجتماعي الذي لحق ذاتها الطرية وجسمها الفتي ، إنها تهرب من أجل نفسها وذاتها وجسدها لتحفظ على نضارتها وطراوتها .. فغامرت بحياتها ، مغامرة مجهولة العواقب والنتائج لأنها مبنية على الحب الفطري في النظر،في الاختيار، في نوع اللعب الطفولي الجامح..في الاستفادة من التجربة ..
إنها مغامرة طفولية جسدها السارد بعدما نقلنا عبر محطات كلها تتعلق بالذات والنفس وما يعتريها من فضول في ركوب هول التجربة دون قائد أو مرشد ، فقائدها هو التوق للمغامرة والتجريب يساعدها في ذلك جسدها الفوار ، وأنوثـــتها الطرية ..
فالقاص حسن يوهمنا بواقع ممكن الوقوع عن طريق التخيل مازجا بين الوصف والسرد .. وصف يتميز بالترصد ، والاستشراف ،وصف يركز كثيرا على التهيؤات النفسية والاستعدادات الجامحة للقاء مرتقب ومحتمل خارج الرقابة الأسرية والاجتماعية ،لقاء قد يجري في الخيال أولا ،والسعي له لاحقا بإنجازه بعيدا عن كل الأعين التي تكبل المراهقة الطفولية ،واعتبارها من الحركات الطائشة بدعوى أنها ما زالت لم تبلغ سن الرشد..
قصة : حق في الحب لا الخلود
أنثى تحتفل بأنوثتها احتفالا طفوليا عن طريق تحفيز مخيلتها لرسم عالم يتوافق مع رغبتها في إثبات ذاتها ، فكان الفراغ مؤنساً لها لما أعطاها فرصة أن تتـقرب من الوسادة أكثر ، تستفزها بعطرها ،بحركاتها ، يقول السارد :
ـــ تلتحف بالوسادة ،حيث تتناوبان على العناق والحراك والتوسد لخدود مستلقية لقدر النوم ..
حاول السارد أن يجمع بين محفزات مترابطة لصنع فضاء قابل للعيش ومحفز على الإحساس بالسعادة ، محفزات ولدت نقلة نوعية للبطلة وجعلتها تتخلص من رواسب الماضي ،والأحلام الفائتة التي تلاشت بفعل تغير الأيام والظروف . / الذات / الجسد / الماء / اللباس / العطر/ السرير / الوسادة / الشمس / الصباح /..
يقول السارد :
ـــ صفاء حسي ، في فتح العينين ، وخواء ذهني من كل ترسبات الماضي والحلم الفائت وأكبر رأسمال الصباح هو نفسية متخلصة من زوابع مشاكل الاجتماع ..
فالسارد يستغل الحاضر والماضي في بناء المستقبل عن طريق التخيل وتصور ما يمكن أن يقع في حالات متعددة : /التفكير في السفر / اللقاء / المكالمة الهاتفية / زيارة المدينة / لحظة التعارف / حالات تتأرجح فيها الذات الإنسانية بين الخوف والترقب والحذر والفشل ..
تصوير دقيق لخلجات النفس ، وتتبع مستمر لحركات البطلة ، بعدما أعطاها مساحة واسعة تتحدث عن نفسها وطلباتها ورغباتها ، بل دفعها أن تكتشف جسدها الفوار ،أن تنصت إلى قلبها ،أن تستغل فرصتها من أجل تخليد حب يساير الزمن ، فهي تقارع الزمن قبل أن تفقد طراوتها وتضيع أنوثتها مع مشاغل الحياة.
قصص سي حسن إمامي هي غزو للقلوب ، للأحاسيس ، للبيوت ،للرغبات .. فهو يصنع عوالم تتنقل فيها الذات بحرية عبر البوح والإفصاح عن ما تضمره النفس ،فهو يعمق حكيه عن المغيب والمتخفي وراء النفس البشرية وما ترغب فيه وما تتحدث عنه بجرأة وصراحة ، عبر التخيل والتحليق في فضاءات ممكنة واقعيا ، القطار / المدينة / السفر / الرحيل / التجوال / عوالم كأننا نشاهدها ، نمشي وراءه عن طريق السرد الأخاذ والوصف الدقيق لشغب النفس ورغباتها ..
ففي قصة : إلى فندق ريم : نجد الكاتب يرسم عالما يعج بالنساء والخمر ، عالما يتميز بظاهرة تستشري في العصر الحاضر ما أطلقت عليه/الاصطياد المقلوب /امرأة تصطاد زبونا في الحانة / عالما لا يخلو من النصب والاحتيال ، عالما يصور شريحة اجتماعية من النساء تعيش على فتات ضائع، هي أجساد فائضة على المجتمع تبيع الجسد عن طريق الكذب والمراوغة، للحصول على المال بأقل كلفة والمحفز والمسهل لذلك /الأنوثة والجسد /
قصص "مدائن ليلات " تغرف من الواقع المعيش ، لكن لا ينقله لن الكاتب كما هو ، بل يضفي عليه حسا إنسانيا، ورؤية يستشرف فيها التغيير من ما هو لا إنساني إلى إنساني يضمن الحياة للفرد والمجتمع.
فقصة كان يا ما كان : نجده الكاتب حسن إمامي يعري الواقع بفنية أدبية ، فمن خلال " حادثة سير " التي وقعت للمرأة الحامل ، والتي كانت مصحوبة ببنتين صغيرتين ، نجد الكاتب يرفع القضية إلى مستوى عال ، بعدما دق على الصحافة التي تضاربت في الأقوال وفهم أسباب الحادث ، فبقيت تلك التفسيرات والتأويلات مجرد مطية لرواج بيع الصحف ، بحيث لم يكن هناك رد فعل للمجتمع المدني.
إنها محاولة جادة لخلخلة مفاهيم الواقع ، والقوانين التي سنها الإنسان ضد الإنسان ، هذا الإنسان الذي سجدت له الملائكة ( آدم ).
ومن هنا ركز على مواضيع شائكة تلتصق بالإنسان والفرد والجماعة : / إلغاء عقوبة الإعدام / الاهتمام بالمؤسسات الحكومية / المقارنة بين التلاميذ من الناحية الاجتماعية والمادية / العنف الممارس على الزوجة من خلال قصة : جملة اعتراضية /حيث يقول على لسان البطل : أمك خطأ في التركيبة ، مجرد خادمة كانت في البيوت ../العلاقة بين الجيران / ..
قصص الكاتب حسن إمامي تسكن فضاءات واسعة متنوعة ومتعددة ،نستشف منها نوع الشريحة الاجتماعية ومكانتها الاجتماعية ، كأنه يرسم الحياة بجميع تناقضاتها ، فكل إنسان يعيش حياته كما سطرها لنفسه أو سطرتها له الظروف . ومن تم أعطى لكل شخصية مقامها في الفضاء الذي يناسبه /الفندق /الغرفة / محطة القطار / المدينة /العالم الباريزي / ممر المقطورة / مصعد العمارة /القرية / المقبرة / ...
فضاءات تكشف عن شخوصه الاجتماعية ، شخوص تتأرجح بين الجنس البشري " المتدني" فكريا ، واجتماعيا ، وماديا ، والجنس البشري " الراقي"، كل شريحة لها مواقفها الخاصة : من الحياة ،من الحب، من القوانين ،من ظلم المجتمع ، من الخضوع إلى العادات والتقاليد ..
شخصيات تعيش في حالة قلق ،وخوف وحذر ،وغموض في المجهول . بما في ذلك التيه والضياع . فالكاتب حسن يتوخي الإبحار في التحليل والتأويل ، والتساؤل ، ونسج الفرضيات التي تأتي على شكل نقد فني للواقع ، والسلوك والتصرف ،نقد ضمني للعلاقة المهتزة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، بين حياة وحيوات أخرى داخل المجتمع الواحد وداخل المجتمعات المتعددة ..
بدايات قصص المجموعة مختلفة ومتنوعة بناها على شكل طبقات نفسية وذاتية ،واجتماعية وثقافية . بدايات مركزة يهدف من ورائها القاص حسن إمامي فتح السرد وتنويره ، وركوب التخييل العميق ، مع حفز الحكي على الانطلاق لشد انتباه واهتمام القارئ ، بدايات يتخطى فيها الوظيفة الإخبارية للرفع من مستوى الوظيفة الإغرائية والوظيفة الدرامية انطلاقاً من ملفوظات سردية : / عللت لمحتها بخصلات شعرها المتدلية على طرف ومدار حاجبها الأيسر / قصة : بهو الاعتراف .
/ في حركة شبه احتفالية ،رفعت ذراعيها بشكل تراقصي يفتح قوساً متصاعداً إلى السماء / قصة : صهيل الخيول الجامحة .
فالجمل الفاتحة تنساب في حس شعري ،ولغة أنيقة ، حيث تنبجس اللغة القصصية كنبع تتفرع عنه سواقي متعددة ، كل ساقية تحمل إشارات خارجية متزامنة مع إشارات داخلية تستفز وتستنفر النفس والذات لتتصادم مع الواقع وتتشكل وتتغير من جديد ،فتخرج الشخصيات عن صمتها لتتفاعل مع وضعيات وحالات تتراوح بين السعادة والحزن ، بين الاستقرار والضياع ، بين الأمل والتشاؤم ، بين الشر والخير.
تعامل القاص حسن إمامي بوعي مع مكونات الطبيعة للكشف عن ما تحس به النفس من أحاسيس سرية من خلال علامات وإشارات لغوية ، من منظور فكري وثقافي أن الطبيعة تحمل من الأســــرار أغلبها خفية ، يتفاوت الناس في طريقة الحفر عنها ، واكتشاف ما تضم من جمالية فنية . ومن هنا حرص الكاتب على تحويل الكلمات ذاتها إلى أشياء بديلة عن الطبيعة تنبض بالحياة ، كأنه يدعو الطبيعة أن تشكل منه "الأنا " الإبداعية ..
/ قالت : سأزور مدينة هذا العاشق / سأزور الجبل وأطلال الديار / سأستنشق من ذلك الهواء / سأكون شجرة الكاليبتوس السامقة / وأزهار الرياحين / أو تاجاً فوق عالي أغصانها / ...
لم يغفل الكاتب حسن إمامي أن يحتفي بالحيوان ، لقد حفر في نفسية القط " مينوش " برؤية عميقة ترتبط بالإحساس الإنساني إذ يمكن للإنسان أن تحثه نظرات الحيوان وأصواته وحركاته فيتخيل نفسه داخل فكره وقلبه وعواطفه كما قال نتشيه ، وكثيراً من الديانات توصي باحترام الحيوان ، وتعلم الناس كيف يرون في الحيوان عمق روح البشر ..
يقول الملفوظ السردي التالي " لا يدري ، هل تخاطبه أم تخاطب نفسها ،أم شيئاً آخر لا يعلمه في صوتها ../ مينوش قل لي ...: هل ستأتي ؟ / يحرك ذيله ببطء ،كأنه يكنس به بساط الزربية الحمراء الناعمة .. /
يفترش فخدها وحجرها ، ويتمسح ببطنها وأسفل نهديها../ آ الخايب .. تتشابهان في رغباتكما .. هو الآخر يعجبه سلوكه الطفولي في النوم فوق فخذي ، حتى يتهيأ لذئبيه في الافتراس ..إياك أنت أن تفكر مثله .. سمعت /
تتشكل المجموعة القصصية " مدائن ليلات " من أحداث صامتة في معظمها ،متصلة بشخصيات فاعلة ،تعيش في فوضى على مستوى النفس والذات والفكر ، والعاطفة والإحساس والشعور ، بل تعيش تناقضاً صارخاً في السلوك والفعل والتوجه وتغير المواقف.. شخصيات أغلبها تنتمي إلى شريحة اجتماعية بسيطة ، تعيش مواقف متجادلة ومتناقضة مع نفسها حول فهم معنى الحياة ، ومنقسمة في توجهاتها نحو إخضاع الواقع لرغبات النفس لمسايرة تغيرات المجتمع والقفز نحو سلم اجتماعي أعلى .. والقاسم المشترك لشخوص بعض القصص هو امتطاء عاطفة الحب كنفق مضيء يؤدي إلى مخرج واحد وهو استنزاف هذا الحب وتحقيق الشبع منه بطرق شتى .. لكن الكاتب عرف كيف يشخص ذلك الالتباس العميق المكثف للحب الذي يكون في بعض الأحيان لا بريئا ولا صافياً مكتملا .. تقوم به شخصيات متناقضة في طبعها وفعلها وسلوكها تتأرجح بين الغرق في اللذة والمتعة ، والفساد والاحتيال والمغامرة والتجريب الطفولي للحب ..
قدرة فائقة على تتبع أبسط الحركات للشخصيات ، كأنه نصب كاميرا خفية لها ، تتنقل في تواز مع تنقلها في الزمان والمكان ، وليحقق هذه الوظيفة عمل على تقطيع المشاهد ،مشهد يفضي إلى آخر ، كأنه يصنع فيلما قصيراً يتكون من عدة لقطات ليعطينا صورة مكتملة عن هذه الذات / الإنسان ..
قصص حسن إمامي هي غزو للقلوب ، للأفكار ، للأحاسيس ، وللعواطف .هي اقتحام للبيوت ، لغرف النوم ، للحمامات ، فهو يصنع عوالم كفضاءات واسعة تستطيع أن تتنقل فيها الذات الفاعلة بحرية عبر البوح والإفصاح والجرأة في الانتقال من وضعية مريحة إلى أخرى مقلقة ، ومن حالة الانشراح إلى حالة اليأس والفشل ....لذلك نجده يعمق حكيه عن المغيب والخفي فيما وراء أسرار النفس البشرية وما يحدث لها من تقلبات فكرية وعاطفة ، وما ترغب فيه أن تكون ، عبر التخييل والتحليق والتصوير والتنقل في فضاءات خارجية متنوعة /القطار / المدينة / الطريق / السفر / الرحيل / المحطة / الفندق / الحانة / حادثة السير / المحكمة / فضاء الإعدام / المقهى / المدرسة / المؤسسات الخاصة والحكومية /عالم البحر/عالم الخرافة / عالم الصحافة / عالم الغربة / عالم الخادمات / والعالم الغربي /..
عوالم كأننا نتجول فيها ، نعيش في غموضها ووضوحها عن طريق السرد الأخاذ والوصف الدقيق لشغب النفس وتقلباتها ، والحفر في أسرارها .. عوالم ينزع الكاتب أسقفها ، يطل من ثقوب وفجوات أعدها سراً في المسار السردي لقصصه ، يرصد ، يسمع ، يتنصت ....
تلك الفضاءات المكانية لم تعد محصورة في الحيز الجغرافي لها ، إنها تتوازى مع فضاءات نفسية ، ذهنية ، عقلية ،اجتماعية وثقافية ..فضاءات يمتلكها السارد ويجعلها تحت تصرف شخصيات قصصه ،يجعلها هي التي تسافر،هي التي تختار الفضاءات التي تناسبها / ..
فإذا كانت المرأة / الأنثى "ليلات " مغيبة عن الحكي الشعبي والتي كانت قبل حواء ، فالحديث عن هذه المرأة / الأسطورة يدفعنا أن نتساءل : فهل تكون المرأة المذكورة " ليلات "هي أم لكل النساء اللواتي جئن
بعدها ؟ أم أن الكاتب يحفزنا على تلمس صوت المرأة والتقاط نغمتها الأنثوية محاولا تشخيص أسرارها داخل نصوصه السردية ؟ أم كون الأنوثة قوة محفزة للإبداع والمعرفة ؟
ليلات " المرأة / الأنثى الباحثة عن الرجل ،المندفعة نحوه ،المثيرة لحواسه ،المنتشية بلقائه ، المرتوية بعشقه ../ انقضت عليه مشتهية تفاحته / فالرجل لم يكن يعرفها في بدائيته ، لكنها عرفت بنفسها وأنوثتها ، ولما تمكنت من عاطفته تدللت وتمنعت ، فهي تريد الاستعلاء ،وهو يريد أن يفرض الاستقواء ، وفي النهاية أسقطته في عشقها ،فعملت على تطويعه وصقله للتأشير عن وجودها وقدرتها على إخضاع الرجل لرغبتها ، وقد قيل : " أنوثة المرأة أعمق لأنها أشد اختفاء "،
وكما يقال في الموروث الثقافي الشعبي " إن الأنثى أكبر مصيدة للرجل " ، تلك الأنثى التي تخلت عن طبيعتها الناعمة وارتدت أقنعة متعددة يتم اكتشافها من خلال قراءتنا للقصص الأخرى ، المرأة الإنسانة /المرأة المكافحة / المرأة العاشقة / المرأة المحتالة / المرأة المدافعة عن الرجل / المرأة المستغلة /المرأة المتعلمة / ...
وقد نجح الكاتب في الانتقال بالقارئ عبر تعرضه للمرأة الأنثى /الإنسانة من منظور ذاتي يعري واقعها المزري في العصر الحالي رغم بريق حضارة لا زالت فيها المرأة تحمل تلك الصور المشينة الموروثة عنها منذ القدم ، تقول الكاتبة نورة الجرموني عن الهوية الأنثوية :
"فلا هن قادرات على أن يقطعن كل صلة لهن مع عالم أورثهن ثقافة التهميش والإقصاء ،ولا هن قادرات على أن ينتمين إلى العالم الذي يعتقدن أنه يكفل أنوثتهن الإنسانية .. "
مجموعة قصصية قيمة تشير بقوة إلى حركة تغير مجتمعية ،تتجلى بأفعال وسلوكات تبدأ قليلة في الخفاء ، ثم تتضح وتكبر شيئاً فشيئاً لتصبح علنية ، تغطي فضاءات مختلفة من المجتمع ، تستفحل تحت ضغط المجتمع ، ومن هنا تتغير القيم الجميلة والأصيلة إلى قيم سلبية وضارة للفرد والمجتمع ..
إن القاص والروائي حسن إمامي عمل على ترويض وتطويع قصصه من خلال تجربته الذاتية وخبرته الفكرية والذهنية للواقع ولصور الحياة بأشكالها المختلفة ،فاستطاع أن ينتشل نماذج بشرية من الحياة ليجعلها مندمجة ومؤثرة في الحياة ، إذ لا يمكن للإبداع القصصي أن يلغي الواقع في صناعة الفن القصصي، ومن تم لجأ الكاتب حسن إلى ركوب تقنية اللعب التخييلي الذي ينقل الأحداث من الواقع من خلال التجربة الحية إلى فضاء الحكي للكشف عن ظواهر تتعلق بمختلف الفئات الاجتماعية ونماذجها ..
قصة : بهو الاعتراف ..
ينطلق السارد من العالم الخارجي للدخول في عوالم متعددة ، عالم الواقع ،عالم المرأة ، عالم الإثارة ، عوالم ينشطها الخيال ،التوجس ، الانتظار والترقب ..أحداث القصة صامتة في معظمها قد نتخيلها أنها منفصلة عن الذات ، لكنها صارخة ومدوية تحت سلطة الفعل والسلوك والحركات الصامتة ، وكأن القاص حسن إمامي يجسد نوعاً من العلاقة المبنية على الفهم والإعجاب بالآخر، دون التصريح والبوح الصارخ. إنها فوضى عمل على تجسيدها الكاتب على مستوى الفكر ،العاطفة ، الإحساس ، الشعور والاهتمام . لكنه عمل على تنظيمها وترتيبها على مستوى التوحد والإعجاب ورفع الحرج الذي أدى إلى الانسجام في آخر النص / لا عليك ..سأهتم بكل شيء ../ شكراً حبيبتي /
قصة صهيل الخيول الجامحة ..
فالعنوان وحده يرسم مشهداً اجتمع فيه الصوت والصورة ، صوت الصهيل المصحوب بحوافر الخيول وهي تثير الغبار من ورائها ، أعناقها ممتدة إلى الأمام ، وشعر أعناقها يهتـــــز بفعل الرياح ، خيول تجري بدون هدف محدد .. مشهد ينقل القارئ عبر زمان يفضي إلى آخر ، ومكان يتغير مع سرعة الجري والقفز والحركات غير المنتظمة .. قدرة فائقة على تتبع أبسط الحركات كأنه نصب كاميرا خفية لها تنتقل في تواز مع تنقلها عبر الزمان والمكان داخل فضاء مفتوح وغير محدد .. ومن تم عمد إلى تقطيع المشاهد ، مشهد يفضي إلى آخر ، كأنه يصنع فيلماً قصيراً مكونا من عدة صور لتوليد صورة كاملة عن الذات / الإنسان ..
تقابله هذه الصورة صورة أخرى تتجلى في الفقرة الأولى من القصة : " في حركة شبه احتفالية رفعت ذراعيها بشكل تراقصي يفتح قوساً متصاعداً إلى السماء ليلتقي في شبه استدارة لملاقاة شعر أسود على كتفيها وظهرها .. " إنها صورة بطلة تحتفي بجسدها فوق خشبة مسرح يشاهده الجمهور ، والواقع ، إنها تحتفي بشعورها وإحساسها في تحد للزمان والمكان .. صورة اختزلها القاص حسن في صورة سمكة سلمون التي لا تستقر في مكان معين ، تبحث دائما عن المنابع الصافية ، وهي لا تدري أنها تتجه نحو عوالم ملوحة هائجة وعريضة / المحطة / القطار / .يقول السارد :
" كسمكة سلمون بدأت رحلة الحياة من منابعها الصافية إلى عوالم ملوحة هائجة عريضة ،استقبلتها محطة القطار المحتضنة للغريب قبل القريب "
" بطلة تكابد من أجل أن تنسل من عالم يتسم بالاستقرار إلى عالم تغلفه أحلام فضفاضة ، براقة ،كما تحاول جاهدة أن تخلق لنفسها عوالم سارة عن طريق البناء التخيلي ، المغرق في التيه والغربة والضياع . فهي لم تستطع أن تغير الواقع ، ولم تستطع أن تجعل أحلامها الفوارة تحت سلطة واقع ممكن .. فهي تحلم باللقاء ، بالمصاحبة ، بالرفقة الدائمة ، يقول السارد : " أصبح الحلم حصاناً مارداً يجتر قطار السفر إلى خطوط سكة حديد عارجــــــة ، تركت له الحرية من عنان ، عساه أن يعوض الحنين باللقاء " إنها تسعى لهذا اللقاء بالآخر ، بالذات الأخرى من أجل الإنقاذ ،وانتشالها من الظلم الأسري والاجتماعي الذي لحق ذاتها الطرية وجسمها الفتي ، إنها تهرب من أجل نفسها وذاتها وجسدها لتحفظ على نضارتها وطراوتها .. فغامرت بحياتها ، مغامرة مجهولة العواقب والنتائج لأنها مبنية على الحب الفطري في النظر،في الاختيار، في نوع اللعب الطفولي الجامح..في الاستفادة من التجربة ..
إنها مغامرة طفولية جسدها السارد بعدما نقلنا عبر محطات كلها تتعلق بالذات والنفس وما يعتريها من فضول في ركوب هول التجربة دون قائد أو مرشد ، فقائدها هو التوق للمغامرة والتجريب يساعدها في ذلك جسدها الفوار ، وأنوثـــتها الطرية ..
فالقاص حسن يوهمنا بواقع ممكن الوقوع عن طريق التخيل مازجا بين الوصف والسرد .. وصف يتميز بالترصد ، والاستشراف ،وصف يركز كثيرا على التهيؤات النفسية والاستعدادات الجامحة للقاء مرتقب ومحتمل خارج الرقابة الأسرية والاجتماعية ،لقاء قد يجري في الخيال أولا ،والسعي له لاحقا بإنجازه بعيدا عن كل الأعين التي تكبل المراهقة الطفولية ،واعتبارها من الحركات الطائشة بدعوى أنها ما زالت لم تبلغ سن الرشد..
قصة : حق في الحب لا الخلود
أنثى تحتفل بأنوثتها احتفالا طفوليا عن طريق تحفيز مخيلتها لرسم عالم يتوافق مع رغبتها في إثبات ذاتها ، فكان الفراغ مؤنساً لها لما أعطاها فرصة أن تتـقرب من الوسادة أكثر ، تستفزها بعطرها ،بحركاتها ، يقول السارد :
ـــ تلتحف بالوسادة ،حيث تتناوبان على العناق والحراك والتوسد لخدود مستلقية لقدر النوم ..
حاول السارد أن يجمع بين محفزات مترابطة لصنع فضاء قابل للعيش ومحفز على الإحساس بالسعادة ، محفزات ولدت نقلة نوعية للبطلة وجعلتها تتخلص من رواسب الماضي ،والأحلام الفائتة التي تلاشت بفعل تغير الأيام والظروف . / الذات / الجسد / الماء / اللباس / العطر/ السرير / الوسادة / الشمس / الصباح /..
يقول السارد :
ـــ صفاء حسي ، في فتح العينين ، وخواء ذهني من كل ترسبات الماضي والحلم الفائت وأكبر رأسمال الصباح هو نفسية متخلصة من زوابع مشاكل الاجتماع ..
فالسارد يستغل الحاضر والماضي في بناء المستقبل عن طريق التخيل وتصور ما يمكن أن يقع في حالات متعددة : /التفكير في السفر / اللقاء / المكالمة الهاتفية / زيارة المدينة / لحظة التعارف / حالات تتأرجح فيها الذات الإنسانية بين الخوف والترقب والحذر والفشل ..
تصوير دقيق لخلجات النفس ، وتتبع مستمر لحركات البطلة ، بعدما أعطاها مساحة واسعة تتحدث عن نفسها وطلباتها ورغباتها ، بل دفعها أن تكتشف جسدها الفوار ،أن تنصت إلى قلبها ،أن تستغل فرصتها من أجل تخليد حب يساير الزمن ، فهي تقارع الزمن قبل أن تفقد طراوتها وتضيع أنوثتها مع مشاغل الحياة.
قصص سي حسن إمامي هي غزو للقلوب ، للأحاسيس ، للبيوت ،للرغبات .. فهو يصنع عوالم تتنقل فيها الذات بحرية عبر البوح والإفصاح عن ما تضمره النفس ،فهو يعمق حكيه عن المغيب والمتخفي وراء النفس البشرية وما ترغب فيه وما تتحدث عنه بجرأة وصراحة ، عبر التخيل والتحليق في فضاءات ممكنة واقعيا ، القطار / المدينة / السفر / الرحيل / التجوال / عوالم كأننا نشاهدها ، نمشي وراءه عن طريق السرد الأخاذ والوصف الدقيق لشغب النفس ورغباتها ..
ففي قصة : إلى فندق ريم : نجد الكاتب يرسم عالما يعج بالنساء والخمر ، عالما يتميز بظاهرة تستشري في العصر الحاضر ما أطلقت عليه/الاصطياد المقلوب /امرأة تصطاد زبونا في الحانة / عالما لا يخلو من النصب والاحتيال ، عالما يصور شريحة اجتماعية من النساء تعيش على فتات ضائع، هي أجساد فائضة على المجتمع تبيع الجسد عن طريق الكذب والمراوغة، للحصول على المال بأقل كلفة والمحفز والمسهل لذلك /الأنوثة والجسد /
قصص "مدائن ليلات " تغرف من الواقع المعيش ، لكن لا ينقله لن الكاتب كما هو ، بل يضفي عليه حسا إنسانيا، ورؤية يستشرف فيها التغيير من ما هو لا إنساني إلى إنساني يضمن الحياة للفرد والمجتمع.
فقصة كان يا ما كان : نجده الكاتب حسن إمامي يعري الواقع بفنية أدبية ، فمن خلال " حادثة سير " التي وقعت للمرأة الحامل ، والتي كانت مصحوبة ببنتين صغيرتين ، نجد الكاتب يرفع القضية إلى مستوى عال ، بعدما دق على الصحافة التي تضاربت في الأقوال وفهم أسباب الحادث ، فبقيت تلك التفسيرات والتأويلات مجرد مطية لرواج بيع الصحف ، بحيث لم يكن هناك رد فعل للمجتمع المدني.
إنها محاولة جادة لخلخلة مفاهيم الواقع ، والقوانين التي سنها الإنسان ضد الإنسان ، هذا الإنسان الذي سجدت له الملائكة ( آدم ).
ومن هنا ركز على مواضيع شائكة تلتصق بالإنسان والفرد والجماعة : / إلغاء عقوبة الإعدام / الاهتمام بالمؤسسات الحكومية / المقارنة بين التلاميذ من الناحية الاجتماعية والمادية / العنف الممارس على الزوجة من خلال قصة : جملة اعتراضية /حيث يقول على لسان البطل : أمك خطأ في التركيبة ، مجرد خادمة كانت في البيوت ../العلاقة بين الجيران / ..
قصص الكاتب حسن إمامي تسكن فضاءات واسعة متنوعة ومتعددة ،نستشف منها نوع الشريحة الاجتماعية ومكانتها الاجتماعية ، كأنه يرسم الحياة بجميع تناقضاتها ، فكل إنسان يعيش حياته كما سطرها لنفسه أو سطرتها له الظروف . ومن تم أعطى لكل شخصية مقامها في الفضاء الذي يناسبه /الفندق /الغرفة / محطة القطار / المدينة /العالم الباريزي / ممر المقطورة / مصعد العمارة /القرية / المقبرة / ...
فضاءات تكشف عن شخوصه الاجتماعية ، شخوص تتأرجح بين الجنس البشري " المتدني" فكريا ، واجتماعيا ، وماديا ، والجنس البشري " الراقي"، كل شريحة لها مواقفها الخاصة : من الحياة ،من الحب، من القوانين ،من ظلم المجتمع ، من الخضوع إلى العادات والتقاليد ..
شخصيات تعيش في حالة قلق ،وخوف وحذر ،وغموض في المجهول . بما في ذلك التيه والضياع . فالكاتب حسن يتوخي الإبحار في التحليل والتأويل ، والتساؤل ، ونسج الفرضيات التي تأتي على شكل نقد فني للواقع ، والسلوك والتصرف ،نقد ضمني للعلاقة المهتزة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، بين حياة وحيوات أخرى داخل المجتمع الواحد وداخل المجتمعات المتعددة ..