في هذا الجزء من المغرب الأقصى ، أين تـُقـبل السهول أقدام جبال" بني يزناسن" ، و تسرح في انبساط واسع يمتد جنوبا حتى النجود العليا ، كانت يد المَخـْزن الشريف ( الحكومة ) قصيرة ، تاركة العباد يتقلبون بين مد "السيبة " و جزر الطاعة . الطاعة التي تفرضها " حركات " المخزن بالقوة لجمع الإتاوات الشرعية و غير الشرعية ، و تـُقرع المخالفين و تضرب على أيديهم . هذا في أوقات قوة السلطة المركزية بفاس ، أما في حالات ضعفها، كان العصاة يستأسدون و يوزعون المنطقة بينهم إلى مناطق نفوذ ، يملكون فيها رقاب العباد و يعيثون الفساد في البلاد . و من هؤلاء " ولد عيشة " أو " المحروق ".
لما كان يذكر اسمه في هذه الربوع ، ترتعد فرائس الكبير و الصغير. كان زعيم عصابة من المجرمين لا ترحم . يترصد السابلة و قوافل التجار على طول الطرق و المسالك . يهجم وعصابته ، ينهبون و يسلبون
و يسبون، و ينسحبون بالسرعة التي هجموا بها . و في القليل من الأحيان كان يقبل ولد عيشة
" الزطاطة " و هي إتاوة تقدمها له القوافل و الناس شرط سلامة المرور بالمناطق التي يراقبها . و كان يستثني من غاراته كل من حمل إشارة من شيخ الزاوية أو من صاحبهم رسول من قبله . للاحترام
و التقدير الذي كان يكنهما لهذا الشيخ و مريديه. لذا كان الشيخ يعطي عمامته أو سلهامه لرؤساء القوافل
و التجار لخفر ذمتهم . فتمر القوافل في أغلبها بسلام .
ينحدر " ولد عيشة " من قبيلة " بني نْياط " الوضيعة النسب . و معناها في اللهجة المحلية قبيلة الحدّادة الذين يمارسون مهنة الحدادة الحقيرة في المخيال الاجتماعي لسكان المنطقة ، لارتباطها بنفخ الكير في النار لتطويع الحديد و طرقه لصناعة سنابك الخيل و البغال و الحمير و وسائل الإنتاج اليدوية ، فهي في حسبانهم في تماس مع القذارة .
بدأ ولد عيشة اليتيم متعلما منذ صغره لدى أحد الحدّادين من قبيلته . أبدى حذاقة و سرعة في تعلم أصول الصنعة ، و رغم ذلك كان يتعرض لكل أواع التنكيل من قبل معلمه الفظ لأدنى خطاء لا يتعمده . حمل آثار الضرب و الكي على أطرافه و وجهه بالخصوص ، فلقبه أقرانه بالمحروق.
فكان يهرب من معلمه لما يشتد به التنكيل . و في كل مرة كانت أمه الأرملة ترده إلى مشغله، فينكل به أكثر. لذا كان يهرب منه
و من ورشته إلى الزاوية و يحتمي بالشيخ و مريديه . فيكرمه الشيخ و يحسن وفادته و يطلب من المعلم أن يرأف به .
و لما اشتد عود" ولد عيشة " و قوية بنيته أصبحت ورشة الحدادة تلك لا تسعه ، و عاد معلمه صانع عقدته التي استفحلت مع الزمن ، عدوّه الأوحد . و كان دائم التفكير في أي طريقة سيرد له بها ذلك الإرث الثقيل من العقاب، حتى استقر رأيه على رميه في النار. و ذلك ما فعل، ليفر إلى مكان قصي ، جمع فيه بعض الأجلاف من قبائل المنطقة صنع منهم كتلة من المجرمين . قادرين على التحرك السريع في تضاريس جبلية صعبة المسالك يعرفونها تمام المعرفة .
و الذي يقتل مرة يمكن أن يعيد القتل مرات . و ولد عيشة بعد قتله لمعلمه بتلك الطريقة البشعة ، أصبح مطاردا من قبل أبناء الضحية و أهله ، طلبوه حيا أو ميتا ، مما جعله يحصن نفسه بسلاح ناري
( فردي من نوع بوخرصة ) و سيف مهند و خنجر بربري بلسانين . و كان لا يثق في أفراد عصابته .
كاتب الناس قائد المنطقة و العامل ، بل و كاتبوا حتى الحضرة العلية بفاس ، دون جدوى . فكانوا يلجئون دوما إلى شيخ الزاوية ليدرأ عنهم عصابة ولد عيشة .
أرسل الشيخ أحد مرديه من شرفاء المنطقة ليدعو ولد عيشة إلى التوبة و ترك الإجرام . و عرف هذا الرسول بوجاهته و سمو همته و بقدرته الخارقة على المفاوضة و انتزاع مبتغاه من غريمه . فخرج صحبة "طالبين" شابين سوسيين يطلب العصابة و رئيسها . تجشم الثلاثة عناء المسالك الوعرة في تلك التضاريس. و في منتصف الطريق اعترضتهم العصابة دون رئيسها و أمرتهم بفظاظة و دون مماحكة بالرجوع سالمين من حيث أتوا .
لما علم ولد عيشة بقدوم الوفد و فيه الشريف عبر عيونه التي لا تنام ، انسحب إلى كهف في الأعالي اعتاد التحصن فيه ، و أوفد عصابته لاعتراض الوفد و رده ، متجنبا الشريف
و مفاوضات يعلم أنه خاسرها سلفا .
احتار الشيخ من هذا الأمر مدة ، وعرضه على مريديه مرات حتى وقعت عينه على شاب نبيه حمّله أمر مفاوضة ولد عيشة بالطريقة الأصلح ، التي يراها . و زوده بالنصائح و مهادنة العصابة و الوصول إلى رئيسها و مخاطبته رأسا لرأس. و دعا له بالتوفيق و التمكين .
خرج هذا الشاب لوحده ليلا متسلحا بمعلومات جمعها حول العصابة و رئيسها ، و ركز أكثر على أصولهم و أنسابهم القبلية . قصد الكهف المجهول و هو يعلم أن عيون العصابة تراقبه منذ خروجه من القرية. أحس بها من وراء قعقعة الصخور و الغبار البعيد المتطاير أمامه و خلفه ، فضحها سكون الليل و ظلمته الحالكة الباعثة على الخوف و الرعب من أي حركة تصدر عن إنسان أو حيوان أو طير.
لكن الشاب و من خلال ملازمته للشيخ في الزاوية نهل من الورع ما ملأ قلبه بخوف الله دون غيره ، و امتاز بين أقرانه بالحيلة و المكر .رأى أن توظيفهما قد حان في هذه المهمة ليريح البلاد و العباد من عصابة ولد عيشة .
لما وصل إلى عرين العصابة و رئيسها ، استقبل بالترحاب و كرم الضيافة لكونه جاء من قبيل الشيخ يحمل السلام و دعوات الرجوع و التوبة و قبول إصلاح ذات البين مع عائلة القتيل . أبدا ولد عيشة استعدادا قبليا للعرض ، خاصة و أن الشيخ هو من كان سيتحمل دفع" الدّية" لأولاد القتيل و يشرف على طقوس المصالحة . لكن العصابة رفضت العرض رفضا باتا ، فتراجع رئيسها عن ذلك الاستعداد الذي أبداه للشاب في بداية اللقاء .
أبدا الشاب عدم الاكتراث بالأمر، و بقي في ضيافة العصابة أياما يتقرب من كل فرد فرد فيها ، و ركز على بعض الخرقى، يجالسهم و يحادثهم عن أهلهم و قبائلهم و يدس في كلامه سؤالا بطريقة أو بأخرى. مفاده : كيف لهذه العصابة قد سمحت لشخص يقودها في مثل ولد عيشة المنحدر من قبيلة
" بني نياط " الوضيعة، و العصابة فيها من هو أجدر منه بأمر الرياسة .
غادر الشاب العصابة و ترك السؤال يتحول إلى بذرة نمت على مهل ، أثارت النعرة بين القوم. و مع المدة تصدّعت العصابة ،و تكونت فيها أحلاف انبنت على العصبية القبلية، اقتتلت في يوم مشهود وصلت أصداءه إلى الناس . فمات من مات و جرح من جرح.
و انتهت حكاية ولد عيشة الذي قتله " اعبيدة " أخرق و أضعف عصابته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من صفحة قصص على الهواء
لما كان يذكر اسمه في هذه الربوع ، ترتعد فرائس الكبير و الصغير. كان زعيم عصابة من المجرمين لا ترحم . يترصد السابلة و قوافل التجار على طول الطرق و المسالك . يهجم وعصابته ، ينهبون و يسلبون
و يسبون، و ينسحبون بالسرعة التي هجموا بها . و في القليل من الأحيان كان يقبل ولد عيشة
" الزطاطة " و هي إتاوة تقدمها له القوافل و الناس شرط سلامة المرور بالمناطق التي يراقبها . و كان يستثني من غاراته كل من حمل إشارة من شيخ الزاوية أو من صاحبهم رسول من قبله . للاحترام
و التقدير الذي كان يكنهما لهذا الشيخ و مريديه. لذا كان الشيخ يعطي عمامته أو سلهامه لرؤساء القوافل
و التجار لخفر ذمتهم . فتمر القوافل في أغلبها بسلام .
ينحدر " ولد عيشة " من قبيلة " بني نْياط " الوضيعة النسب . و معناها في اللهجة المحلية قبيلة الحدّادة الذين يمارسون مهنة الحدادة الحقيرة في المخيال الاجتماعي لسكان المنطقة ، لارتباطها بنفخ الكير في النار لتطويع الحديد و طرقه لصناعة سنابك الخيل و البغال و الحمير و وسائل الإنتاج اليدوية ، فهي في حسبانهم في تماس مع القذارة .
بدأ ولد عيشة اليتيم متعلما منذ صغره لدى أحد الحدّادين من قبيلته . أبدى حذاقة و سرعة في تعلم أصول الصنعة ، و رغم ذلك كان يتعرض لكل أواع التنكيل من قبل معلمه الفظ لأدنى خطاء لا يتعمده . حمل آثار الضرب و الكي على أطرافه و وجهه بالخصوص ، فلقبه أقرانه بالمحروق.
فكان يهرب من معلمه لما يشتد به التنكيل . و في كل مرة كانت أمه الأرملة ترده إلى مشغله، فينكل به أكثر. لذا كان يهرب منه
و من ورشته إلى الزاوية و يحتمي بالشيخ و مريديه . فيكرمه الشيخ و يحسن وفادته و يطلب من المعلم أن يرأف به .
و لما اشتد عود" ولد عيشة " و قوية بنيته أصبحت ورشة الحدادة تلك لا تسعه ، و عاد معلمه صانع عقدته التي استفحلت مع الزمن ، عدوّه الأوحد . و كان دائم التفكير في أي طريقة سيرد له بها ذلك الإرث الثقيل من العقاب، حتى استقر رأيه على رميه في النار. و ذلك ما فعل، ليفر إلى مكان قصي ، جمع فيه بعض الأجلاف من قبائل المنطقة صنع منهم كتلة من المجرمين . قادرين على التحرك السريع في تضاريس جبلية صعبة المسالك يعرفونها تمام المعرفة .
و الذي يقتل مرة يمكن أن يعيد القتل مرات . و ولد عيشة بعد قتله لمعلمه بتلك الطريقة البشعة ، أصبح مطاردا من قبل أبناء الضحية و أهله ، طلبوه حيا أو ميتا ، مما جعله يحصن نفسه بسلاح ناري
( فردي من نوع بوخرصة ) و سيف مهند و خنجر بربري بلسانين . و كان لا يثق في أفراد عصابته .
كاتب الناس قائد المنطقة و العامل ، بل و كاتبوا حتى الحضرة العلية بفاس ، دون جدوى . فكانوا يلجئون دوما إلى شيخ الزاوية ليدرأ عنهم عصابة ولد عيشة .
أرسل الشيخ أحد مرديه من شرفاء المنطقة ليدعو ولد عيشة إلى التوبة و ترك الإجرام . و عرف هذا الرسول بوجاهته و سمو همته و بقدرته الخارقة على المفاوضة و انتزاع مبتغاه من غريمه . فخرج صحبة "طالبين" شابين سوسيين يطلب العصابة و رئيسها . تجشم الثلاثة عناء المسالك الوعرة في تلك التضاريس. و في منتصف الطريق اعترضتهم العصابة دون رئيسها و أمرتهم بفظاظة و دون مماحكة بالرجوع سالمين من حيث أتوا .
لما علم ولد عيشة بقدوم الوفد و فيه الشريف عبر عيونه التي لا تنام ، انسحب إلى كهف في الأعالي اعتاد التحصن فيه ، و أوفد عصابته لاعتراض الوفد و رده ، متجنبا الشريف
و مفاوضات يعلم أنه خاسرها سلفا .
احتار الشيخ من هذا الأمر مدة ، وعرضه على مريديه مرات حتى وقعت عينه على شاب نبيه حمّله أمر مفاوضة ولد عيشة بالطريقة الأصلح ، التي يراها . و زوده بالنصائح و مهادنة العصابة و الوصول إلى رئيسها و مخاطبته رأسا لرأس. و دعا له بالتوفيق و التمكين .
خرج هذا الشاب لوحده ليلا متسلحا بمعلومات جمعها حول العصابة و رئيسها ، و ركز أكثر على أصولهم و أنسابهم القبلية . قصد الكهف المجهول و هو يعلم أن عيون العصابة تراقبه منذ خروجه من القرية. أحس بها من وراء قعقعة الصخور و الغبار البعيد المتطاير أمامه و خلفه ، فضحها سكون الليل و ظلمته الحالكة الباعثة على الخوف و الرعب من أي حركة تصدر عن إنسان أو حيوان أو طير.
لكن الشاب و من خلال ملازمته للشيخ في الزاوية نهل من الورع ما ملأ قلبه بخوف الله دون غيره ، و امتاز بين أقرانه بالحيلة و المكر .رأى أن توظيفهما قد حان في هذه المهمة ليريح البلاد و العباد من عصابة ولد عيشة .
لما وصل إلى عرين العصابة و رئيسها ، استقبل بالترحاب و كرم الضيافة لكونه جاء من قبيل الشيخ يحمل السلام و دعوات الرجوع و التوبة و قبول إصلاح ذات البين مع عائلة القتيل . أبدا ولد عيشة استعدادا قبليا للعرض ، خاصة و أن الشيخ هو من كان سيتحمل دفع" الدّية" لأولاد القتيل و يشرف على طقوس المصالحة . لكن العصابة رفضت العرض رفضا باتا ، فتراجع رئيسها عن ذلك الاستعداد الذي أبداه للشاب في بداية اللقاء .
أبدا الشاب عدم الاكتراث بالأمر، و بقي في ضيافة العصابة أياما يتقرب من كل فرد فرد فيها ، و ركز على بعض الخرقى، يجالسهم و يحادثهم عن أهلهم و قبائلهم و يدس في كلامه سؤالا بطريقة أو بأخرى. مفاده : كيف لهذه العصابة قد سمحت لشخص يقودها في مثل ولد عيشة المنحدر من قبيلة
" بني نياط " الوضيعة، و العصابة فيها من هو أجدر منه بأمر الرياسة .
غادر الشاب العصابة و ترك السؤال يتحول إلى بذرة نمت على مهل ، أثارت النعرة بين القوم. و مع المدة تصدّعت العصابة ،و تكونت فيها أحلاف انبنت على العصبية القبلية، اقتتلت في يوم مشهود وصلت أصداءه إلى الناس . فمات من مات و جرح من جرح.
و انتهت حكاية ولد عيشة الذي قتله " اعبيدة " أخرق و أضعف عصابته .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من صفحة قصص على الهواء