كان في الخامسة عشر من العمر عندما هَرَست قدميه عربة مسرعة على طريق فارفيل السريع. وظل منذ وقوع تلك الحادثة يتسول الناس، وهو يجر جسده على الطرقات وعبر المزارع مستخدما عكازتين ترفعان كتفيه إلى مستوى أذنيه، ويبدو رأسه وكأنه مضغوط بين جبلين.
التقطه قسيس من دير لبييت عندما كان وليدا مُلْقًا على إحدى القنوات الترابية عشية يوم "كل القديسين"، وعمّدَه. ولهذا السبب رُبّيَ نيكولا توسان بصدقات المحسنين، دون أن يتلقى أدنى قدر من التعليم، وغدا معاقا بسبب تناوله لعدد من كؤوس البراندي منحها له خباز القرية (يا لها من قصة مضحكة!) وظل من بعد ذلك الحادث متشردا طوال حياته – كان كل ما يعرفه في هذه الدنيا هو أن يمد يده للناس يسألهم حَسَنَة.
وذات مرة سمحت له البارونة دآفاري أن ينام ليلا على قَشّ نُثر على أحد أركان حظيرة للدواجن في المزرعة المجاورة لقصرها، وكان يُمنح (وكأنه كان في حاجة لذلك) كأسا من عصير التفاح، مع كسرة من الخبز اليابس في المطبخ. وكانت البارونة العجوز تجود عليه أحيانا بقليل من البنسات، تلقيها له من النافذة. غير أنها لم تعد تفعل ذلك فقد توفيت الآن.
وكان سكان القرى التي يطوف عليها توسان متكفَّفاً للناس يعرفونه جيدا، وملوا من رؤيته، فلم يعودوا يعطونه إلا أقل القليل، وفي حالات نادرة جدا. فقد ظل مداوما يوما بعد يوم على مد يده لهم طالبا الصدقة والحسنة لأربعين عاما كاملة، وهو يجر جسده المشوه والمقطع من باب لباب على عكازتيه الخشبتين. وعلى الرغم من إدراكه لملل الناس من رؤيته يوميا طوال تلك السنوات، إلا أنه لم يشأ أن يغير من أماكن تسوله المألوفة، فهو لا يعرف في كل هذا العالم سوى ذلك الركن من البلاد، حيث تقع ثلاث أو أربع قرى قضى فيها كل سنوات وجوده التعيس. وظل يقصر عمليات التسول التي ألفها على حدود تلك الأماكن المعتادة.
لم يكن يعلم إن كان العالم يمتد لما بعد تلك الأشجار التي يراها في حدود بصره من بعيد. بل لم يخطر بباله قط أن يسأل نفسه ذلك السؤال. وكان عندما يسأله الزُرّاع الذين ضاقوا ذرعا برؤيته وهو يجوس دوما وسط حقولهم أو في طرقهم الضيقة: "لماذا لا تذهب إلى القرى الأخرى عوضا عن البقاء هنا وأنت تظلع هكذا؟" لم يكن يجيبهم، بل ينسل بهدوء من أمامهم وهو يحس بخوف مربك وغامض من المجهول – خوف رجل فقير بائس ومعوّق من آلاف الأشياء – خاصة من الجِدّة في الوجوه والاساءات المتهكمة المهينة، ومن نظرات الريبة والشك التي سيرمقها بها من لا يعرفونه من الناس، ورجال الشرطة الذين يجوبون الطرقات أزواجا. كان توسان لا يخشى أحدا مثل خشيته لرجال الشرطة، وكان يتحاشهم بصورة غريزية، ويختبئ منهم عندما يراهم قادمين من بعيد بأعجل بما تيسر له في وسط أقرب دَّغَل أو أكوام من الحجارة.
وكان عندما يلمحهم من بعيد، وأزياءهم الرسمية تلتمع تحت ضوء الشمس، يكتسب قدرة خارقة على التحرك بخفة – خفة حيوان بري يعدو سريعا نحو مخبأه. فكان يلقي بعكازتيه على وجه السرعة ويكبو على الأرض مثل خرقة رخوة، ويصغر من جسده إلى أقصى حد ممكن، ويجثم منحنيا مثل أرنب بري يحاول الاختباء عن أعين الصائدين. ويتماشَى لون الخرق الممزقة التي يرتديها مع لون أَدِيم الأَرضِ التي يجثم فوقها مرتعدا.
لم يسبق له أن وقع في أي مشكلة من أي نوع مع رجال الشرطة، غير أن غريزة البعد عنهم كانت تجري منه مجرى الدم. ويبدو أن كان قد ورثها من أبوين لم يعرفهما قط.
لم يعرف له طوال حياته البائسة ملجأ يؤويه، ولا سقفا من أي نوع يظله. فكان ينام في ليالي الصيف في العراء ملتحفا السماء. أما في الشتاء فكان يظهر مهارة فائقة في الاختباء في اسطبلات وحظائر المزارع دون أن تراه عين. وكان يعجل دوما بالرحيل قبل أن يكتشف وجوده. كان خبيرا بكل الفتحات التي يمكن منها للمرء النفاذ إلى أبنية أي مزرعة بالمنطقة. وكان استخدامه المتواصل للعكازتين الخشبيتين قد ضاعف من قوة عضلات ذراعيه بصورة عجيبة فصار بمقدوره أن يقفز بجسده أعلى تل صغير من القش معتمدا على قوة رسغيه فحسب، وأن يبقى فوقه لأربعة أو خمسة أيام متواصلة شريطة أن يكون قد جمع ما يكفيه من زاد من قبل.
كان يحيا حياة الحيوانات في الفَلَوات. كان يعيش في وسط البشر، ولكنه لم يعرف أحدا منهم، ولم يحب أحدا، ولا غرو فلم يكن أحد من الزراع يكن له سوى نوع من الازدراء المهمل والعداوة المستعرة. وكانوا يطلقون عليه اسما مستعارا هو "بيل Bell" أي الجرس، تعريضا بشكله الذي يبدو وهو معلق على عكازتيه مثل جرس الكنيسة المربوط بين دعامتين.
وفي مرة لم يذق طعاما ليومين متتاليين. ولم يتكرم عليه أحد من الناس في ذلك اليوم بأي شيء. فقد كان صبر الجميع عليه قد نفد، وكانت النساء يصحن فيه غاضبات من عتبات بيوتهن وهن يرونه قادما نحوهن.
" أغرب عن وجهي أيها المتشرد المزعج الحقير! ما الذي أتي بك الآن؟ ألم أعطك قطعة خبز قبل ثلاثة أيام فقط!"
وينتقل على عكازتيه إلى البيت التالي فيقابل بذات الطريقة.
وتبادلت النساء وهن يقفن على عتبات بيوتهن الحديث عن المتشرد:
"لا يمكننا إطعام ذلك الوحش الكسول طوال العام!"
غير أن ذلك " الوحش الكسول" كان يحتاج للطعام كل يوم. وكان قد طاف على سانت هيلير، وفاريفيل ولبييت دون أن يتكرم عليه أحد من السكان بقطعة عملة صغيرة واحدة، أو حتى قطعة يابسة من كسرة الخبز. لم يبق له من أمل سوى أن يذهب إلى تُورنول، إلا أن الوصول إليها يستلزم السير لمسافة لا تقل عن خمسة أميال عبر الطريق العام. أحس بتعب ممض لدرجة أنه لم يستطع أن يجر جسده لياردة واحدة أخرى. كانت معدته خاوية، مثل جيبه تماما، ولكنه قرر أن يواصل السير على كل حال.
كان ذلك في أحد أيام ديسمبر، والريح القارسة تهب على الحقول، محدثة صفيرا خلال أغصان الأشجار العارية، والسحب تتجمع بجنون في السماء السوداء المنذرة بمزيد من البرد والمطر. ومضي المتسول المعاق يجر جسده ببطء عبر الطريق الطويل، رافعا عكازة بعد أخرى بجهد مؤلم، وهو يعرج على رجل مشوهة واحدة، هي التي بقيت له منذ تلك الحادثة.
وكان يضطر للجلوس بين وقت وآخر على حافة إحدى القنوات الترابية لدقائق معدودة طلبا لقليل من الراحة. وكان الجوع يعض بأنيابه على كل عضو فيه. لم يدر بخلده المشوش المرتبك وعقله البطيء التفكير غير فكرة واحدة فحسب مفادها الحصول على شيء يأكله. كان عليه أن يفعل شيئا ليقوم بذلك، ولكن ما هو ذلك الشيء. لم يحر إجابة على ذلك السؤال. واصل رحلة المسير المؤلم لثلاث ساعات أخرى حتى لاح له من بعيد منظر أشجار القرية التي كان يقصدها، فمنحه ذلك المنظر طاقة جديدة لمواصلة السير.
قال له أول مزارع يقابله ردا على سؤاله: "أهو أنت مرة أخرى يا أيها النذل العجوز؟ أليس بالإمكان التخلص منك أبدا؟"
ومضى "بيل" في طريقه يسأل الناس الحافا، ولا يجد في كل مرة سوى أقسى الكلمات. طاف بكل بيوت القرية إلا أنه لم يحصل حتى على نصف بنس واحد، رغم كل ما عاناه في سبيل الوصول للقرية البعيدة.
وبعد ذلك طاف المتسول على المزارع القريبة وهو يعبر المناطق الطينية والوحل يغطي حذائه، وجسده مرهق للحد الذي كاد فيه أن يعجز عن رفع عكازتيه عن الأرض. وقابله الجميع هنا بذات ما قوبل به في القرية. كان ذلك اليوم واحدا من تلك الأيام الكالحة الشديدة البرودة التي يتجمد فيها القلب وتتوتر الأعصاب وتمتنع الأيادي عن البَسْط فلا تقدم مالا ولا طعاما لسائل أو محروم.
عندما أكمل الشحاذ طوافه على كل بيوت القرية التي يعرفها، دلف متثاقلا نحو ركن أحد القنوات الترابية التي تشق أرض مزرعة شيكيه وأَقْعَى على الأرض، بعد أن ألقى بعكازتيه على الأرض، وبقي ساكنا بلا حراك، والجوع يعض بأنيابه الحادة على سائر جسده. غير أنه لم يكن لديه من الذكاء ما يكفي ليدرك مدى بؤسه الذي يجل عن الوصف.
وظل منتظرا وهو على تلك الحال دون أن يدري ما سيصير عليه حاله. كان لديه فقط ذلك الأمل الغامض الذي يبقى كامنا في قلب الانسان رغم كل شيء. بقي في ركن تلك المزرعة تضرب وجهه ريح ديسمبر القارسة منتظرا عونا غامضا قد يأتي من رب العباد أو من عبيده، دون أي فكرة عن توقيت وصول ذلك العون. ومرت من أمامه دجاجات سوداء وهي تجري هنا وهناك تبحث عن طعامها الذي يقيم أودها فوق الأرض وبين شقوقها. وراقبها وهي تدخل في منقارها بعض حبات الذرة الشامية أو الحشرات الصغيرة، ثم تواصل البحث عن المزيد.
شاهد "بيل" ما يجري أمامه دون أن يفكر في شيء في بداية الأمر. ثم خطرت له فجأة فكرة، أتت أولا لبطنه، ثم لعقله. فكر في أن واحدة من تلك الدجاجات ستغدو طعاما شهيا إن طبخها على نار أغصان ميتة.
لم يخطر بباله أنه إن فعل ذلك فسيكون قد أرتكب جرم السرقة. التقط حجرا كان على مقربة منه وقذف به إحدى الدجاجات بمهارة وقوة فقتلها على الفور من الضربة الأولى. وقعت الدجاجة على جانبها وهي ترفرف بجناحيها، بينما فرت الأخريات في كل اتجاه. التقط "بيل" عكازتيه ومضي يعرج نحو المكان الذي ترقد عليه ضحيته.
ولكنه ما أن بلغ مكان ذلك الجسد الأسود الصغير برأسه القرمزي حتى تلقي جسده من الخلف ضربة عنيفة أطارت عكازتيه بعيدا وطارت بجسده على بعد عشر خطوات من حيث كان يقف. وقف فوق رأسه المزارع شيكيه والشرر يتطاير من عينيه من فرط الغضب، وقام بتكبيل اللص وركله بكل عنف المزارع عندما يحاول أحد اللصوص سرقة ممتلكاته. وظل "بيل" تحته بلا قدرة على الدفاع عن نفسه.
أقبل عمال المزارع شيكيه لمشاركة مخدمهم في تكبيل المتسول الأعرج. ولما تعبوا من ضربه حملوه وألقوا به في مخزن الحطب، وذهبوا ليستدعوا رجال الشرطة.
وبقي "بيل" على الأرض شبه ميت، ينزف من أماكن عديدة في جسده، ويموت جوعا. وأقبل المساء – ثم الليل – ثم أتى الفجر، وما زال لم يطعم شيئا.
ووصلت الشرطة عند منتصف النهار. فتحوا باب المخزن بأقصى درجات الحذر خوفا من أن يقوم المتسول المعتدي بمقاومتهم، إذ أن المزارع شيكيه كان قد أبلغهم بأن المتسول قد هاجمه بضراوة، وأنه وجدا عسرا شديدا في مقاومته.
صاح فيه الشاويش:
"هيا، انهض".
غير أن "بيل" لم يكن مقدوره أن يتحرك. حاول رفع جسده بعكازتيه دون جدوى. ظن الشرطي أن المتسول يتصنع الضعف فقام برفعه بقوه ووضع جسده بين العكازتين.
تملكه الفزع – فزعه المتأصل ممن يرتدون زيا رسميا. فزع الفار من القط. غير أنه أفلح في البقاء واقفا بمعجزة تفوق قدرة البشر.
صرخ فيه الشاويش: "هيا ... تحرك". فبدأ في التقدم وعمال المزرعة يتابعون مشهد رحيله عن مزرعتهم. لوحت النساء بقبضات أيديهن أمام وجهه، بينما اكتفى الرجال بالسخرية منه والإساءة له. أخيرا أُخذ بعيدا! "في ستين داهية"! ومضى في طريقه بين اثنين من الحراس. استطاع بصعوبة بالغة أن يستجمع ما يكفي من الطاقة - طاقة اليأس والقنوط – ليجر جسده في طريقه حتى أتى المساء، وكانت رأسه تدور وهو لا يعلم شيئا مما كان يدور حوله، والفزع يملأ جوانحه ويمنعه من الفهم.
كان من يمر بقربهم من الرجال يتوقفون ليراقبوه، ويتمتم المزارعون منهم بالقول: "لعله أحد السراق".
وعند المساء بلغ مدينة المنطقة. لم يكن قد رآها في حياته من قبل. لم يدرك تماما سبب وصوله لها، وما الذي سيفعلونه به فيها. وملأ الأسى والحزن والقنوط قلبه وهو يتذكر الأحداث الحزينة وغير المتوقعة التي وقعت له في اليومين الفائتين.
لم ينبت ببنت شفة، إذ لم يجد ما يقوله، فهو لم يفهم شيئا مما دار وبدور حوله. هذا بالإضافة إلى أنه لم يتكلم مع أي فرد لسنوات طويلة مضت، لدرجة أنه نسي استعمال لسانه في الكلام. وكانت أفكاره مشوشة لا يستطيع التعبير عنها بالكلمات.
ألقوه في سجن المدينة، ولم يخطر ببال الشرطة أنه يحتاج للطعام فبقي جائعا حتى اليوم التالي. وفي صباح اليوم التالي أتوا لتفقده فوجوده منبطحا وقد فارق الحياة. يا له من شيء بالغ الغرابة!
نبذة قصيرة عن المؤلف: قي دو موبسان (1850 – 1893م) قاص فرنسي مشهور يعد من أهم كتاب القصة القصيرة في العالم.ولد في نورمادي، وتوفي بداء الزهري في إحدى المصحات العقلية بباريس. درس موباسان القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل كاتبا في البحرية قبل التفرغ لحرفة الأدب.
المترجم
التقطه قسيس من دير لبييت عندما كان وليدا مُلْقًا على إحدى القنوات الترابية عشية يوم "كل القديسين"، وعمّدَه. ولهذا السبب رُبّيَ نيكولا توسان بصدقات المحسنين، دون أن يتلقى أدنى قدر من التعليم، وغدا معاقا بسبب تناوله لعدد من كؤوس البراندي منحها له خباز القرية (يا لها من قصة مضحكة!) وظل من بعد ذلك الحادث متشردا طوال حياته – كان كل ما يعرفه في هذه الدنيا هو أن يمد يده للناس يسألهم حَسَنَة.
وذات مرة سمحت له البارونة دآفاري أن ينام ليلا على قَشّ نُثر على أحد أركان حظيرة للدواجن في المزرعة المجاورة لقصرها، وكان يُمنح (وكأنه كان في حاجة لذلك) كأسا من عصير التفاح، مع كسرة من الخبز اليابس في المطبخ. وكانت البارونة العجوز تجود عليه أحيانا بقليل من البنسات، تلقيها له من النافذة. غير أنها لم تعد تفعل ذلك فقد توفيت الآن.
وكان سكان القرى التي يطوف عليها توسان متكفَّفاً للناس يعرفونه جيدا، وملوا من رؤيته، فلم يعودوا يعطونه إلا أقل القليل، وفي حالات نادرة جدا. فقد ظل مداوما يوما بعد يوم على مد يده لهم طالبا الصدقة والحسنة لأربعين عاما كاملة، وهو يجر جسده المشوه والمقطع من باب لباب على عكازتيه الخشبتين. وعلى الرغم من إدراكه لملل الناس من رؤيته يوميا طوال تلك السنوات، إلا أنه لم يشأ أن يغير من أماكن تسوله المألوفة، فهو لا يعرف في كل هذا العالم سوى ذلك الركن من البلاد، حيث تقع ثلاث أو أربع قرى قضى فيها كل سنوات وجوده التعيس. وظل يقصر عمليات التسول التي ألفها على حدود تلك الأماكن المعتادة.
لم يكن يعلم إن كان العالم يمتد لما بعد تلك الأشجار التي يراها في حدود بصره من بعيد. بل لم يخطر بباله قط أن يسأل نفسه ذلك السؤال. وكان عندما يسأله الزُرّاع الذين ضاقوا ذرعا برؤيته وهو يجوس دوما وسط حقولهم أو في طرقهم الضيقة: "لماذا لا تذهب إلى القرى الأخرى عوضا عن البقاء هنا وأنت تظلع هكذا؟" لم يكن يجيبهم، بل ينسل بهدوء من أمامهم وهو يحس بخوف مربك وغامض من المجهول – خوف رجل فقير بائس ومعوّق من آلاف الأشياء – خاصة من الجِدّة في الوجوه والاساءات المتهكمة المهينة، ومن نظرات الريبة والشك التي سيرمقها بها من لا يعرفونه من الناس، ورجال الشرطة الذين يجوبون الطرقات أزواجا. كان توسان لا يخشى أحدا مثل خشيته لرجال الشرطة، وكان يتحاشهم بصورة غريزية، ويختبئ منهم عندما يراهم قادمين من بعيد بأعجل بما تيسر له في وسط أقرب دَّغَل أو أكوام من الحجارة.
وكان عندما يلمحهم من بعيد، وأزياءهم الرسمية تلتمع تحت ضوء الشمس، يكتسب قدرة خارقة على التحرك بخفة – خفة حيوان بري يعدو سريعا نحو مخبأه. فكان يلقي بعكازتيه على وجه السرعة ويكبو على الأرض مثل خرقة رخوة، ويصغر من جسده إلى أقصى حد ممكن، ويجثم منحنيا مثل أرنب بري يحاول الاختباء عن أعين الصائدين. ويتماشَى لون الخرق الممزقة التي يرتديها مع لون أَدِيم الأَرضِ التي يجثم فوقها مرتعدا.
لم يسبق له أن وقع في أي مشكلة من أي نوع مع رجال الشرطة، غير أن غريزة البعد عنهم كانت تجري منه مجرى الدم. ويبدو أن كان قد ورثها من أبوين لم يعرفهما قط.
لم يعرف له طوال حياته البائسة ملجأ يؤويه، ولا سقفا من أي نوع يظله. فكان ينام في ليالي الصيف في العراء ملتحفا السماء. أما في الشتاء فكان يظهر مهارة فائقة في الاختباء في اسطبلات وحظائر المزارع دون أن تراه عين. وكان يعجل دوما بالرحيل قبل أن يكتشف وجوده. كان خبيرا بكل الفتحات التي يمكن منها للمرء النفاذ إلى أبنية أي مزرعة بالمنطقة. وكان استخدامه المتواصل للعكازتين الخشبيتين قد ضاعف من قوة عضلات ذراعيه بصورة عجيبة فصار بمقدوره أن يقفز بجسده أعلى تل صغير من القش معتمدا على قوة رسغيه فحسب، وأن يبقى فوقه لأربعة أو خمسة أيام متواصلة شريطة أن يكون قد جمع ما يكفيه من زاد من قبل.
كان يحيا حياة الحيوانات في الفَلَوات. كان يعيش في وسط البشر، ولكنه لم يعرف أحدا منهم، ولم يحب أحدا، ولا غرو فلم يكن أحد من الزراع يكن له سوى نوع من الازدراء المهمل والعداوة المستعرة. وكانوا يطلقون عليه اسما مستعارا هو "بيل Bell" أي الجرس، تعريضا بشكله الذي يبدو وهو معلق على عكازتيه مثل جرس الكنيسة المربوط بين دعامتين.
وفي مرة لم يذق طعاما ليومين متتاليين. ولم يتكرم عليه أحد من الناس في ذلك اليوم بأي شيء. فقد كان صبر الجميع عليه قد نفد، وكانت النساء يصحن فيه غاضبات من عتبات بيوتهن وهن يرونه قادما نحوهن.
" أغرب عن وجهي أيها المتشرد المزعج الحقير! ما الذي أتي بك الآن؟ ألم أعطك قطعة خبز قبل ثلاثة أيام فقط!"
وينتقل على عكازتيه إلى البيت التالي فيقابل بذات الطريقة.
وتبادلت النساء وهن يقفن على عتبات بيوتهن الحديث عن المتشرد:
"لا يمكننا إطعام ذلك الوحش الكسول طوال العام!"
غير أن ذلك " الوحش الكسول" كان يحتاج للطعام كل يوم. وكان قد طاف على سانت هيلير، وفاريفيل ولبييت دون أن يتكرم عليه أحد من السكان بقطعة عملة صغيرة واحدة، أو حتى قطعة يابسة من كسرة الخبز. لم يبق له من أمل سوى أن يذهب إلى تُورنول، إلا أن الوصول إليها يستلزم السير لمسافة لا تقل عن خمسة أميال عبر الطريق العام. أحس بتعب ممض لدرجة أنه لم يستطع أن يجر جسده لياردة واحدة أخرى. كانت معدته خاوية، مثل جيبه تماما، ولكنه قرر أن يواصل السير على كل حال.
كان ذلك في أحد أيام ديسمبر، والريح القارسة تهب على الحقول، محدثة صفيرا خلال أغصان الأشجار العارية، والسحب تتجمع بجنون في السماء السوداء المنذرة بمزيد من البرد والمطر. ومضي المتسول المعاق يجر جسده ببطء عبر الطريق الطويل، رافعا عكازة بعد أخرى بجهد مؤلم، وهو يعرج على رجل مشوهة واحدة، هي التي بقيت له منذ تلك الحادثة.
وكان يضطر للجلوس بين وقت وآخر على حافة إحدى القنوات الترابية لدقائق معدودة طلبا لقليل من الراحة. وكان الجوع يعض بأنيابه على كل عضو فيه. لم يدر بخلده المشوش المرتبك وعقله البطيء التفكير غير فكرة واحدة فحسب مفادها الحصول على شيء يأكله. كان عليه أن يفعل شيئا ليقوم بذلك، ولكن ما هو ذلك الشيء. لم يحر إجابة على ذلك السؤال. واصل رحلة المسير المؤلم لثلاث ساعات أخرى حتى لاح له من بعيد منظر أشجار القرية التي كان يقصدها، فمنحه ذلك المنظر طاقة جديدة لمواصلة السير.
قال له أول مزارع يقابله ردا على سؤاله: "أهو أنت مرة أخرى يا أيها النذل العجوز؟ أليس بالإمكان التخلص منك أبدا؟"
ومضى "بيل" في طريقه يسأل الناس الحافا، ولا يجد في كل مرة سوى أقسى الكلمات. طاف بكل بيوت القرية إلا أنه لم يحصل حتى على نصف بنس واحد، رغم كل ما عاناه في سبيل الوصول للقرية البعيدة.
وبعد ذلك طاف المتسول على المزارع القريبة وهو يعبر المناطق الطينية والوحل يغطي حذائه، وجسده مرهق للحد الذي كاد فيه أن يعجز عن رفع عكازتيه عن الأرض. وقابله الجميع هنا بذات ما قوبل به في القرية. كان ذلك اليوم واحدا من تلك الأيام الكالحة الشديدة البرودة التي يتجمد فيها القلب وتتوتر الأعصاب وتمتنع الأيادي عن البَسْط فلا تقدم مالا ولا طعاما لسائل أو محروم.
عندما أكمل الشحاذ طوافه على كل بيوت القرية التي يعرفها، دلف متثاقلا نحو ركن أحد القنوات الترابية التي تشق أرض مزرعة شيكيه وأَقْعَى على الأرض، بعد أن ألقى بعكازتيه على الأرض، وبقي ساكنا بلا حراك، والجوع يعض بأنيابه الحادة على سائر جسده. غير أنه لم يكن لديه من الذكاء ما يكفي ليدرك مدى بؤسه الذي يجل عن الوصف.
وظل منتظرا وهو على تلك الحال دون أن يدري ما سيصير عليه حاله. كان لديه فقط ذلك الأمل الغامض الذي يبقى كامنا في قلب الانسان رغم كل شيء. بقي في ركن تلك المزرعة تضرب وجهه ريح ديسمبر القارسة منتظرا عونا غامضا قد يأتي من رب العباد أو من عبيده، دون أي فكرة عن توقيت وصول ذلك العون. ومرت من أمامه دجاجات سوداء وهي تجري هنا وهناك تبحث عن طعامها الذي يقيم أودها فوق الأرض وبين شقوقها. وراقبها وهي تدخل في منقارها بعض حبات الذرة الشامية أو الحشرات الصغيرة، ثم تواصل البحث عن المزيد.
شاهد "بيل" ما يجري أمامه دون أن يفكر في شيء في بداية الأمر. ثم خطرت له فجأة فكرة، أتت أولا لبطنه، ثم لعقله. فكر في أن واحدة من تلك الدجاجات ستغدو طعاما شهيا إن طبخها على نار أغصان ميتة.
لم يخطر بباله أنه إن فعل ذلك فسيكون قد أرتكب جرم السرقة. التقط حجرا كان على مقربة منه وقذف به إحدى الدجاجات بمهارة وقوة فقتلها على الفور من الضربة الأولى. وقعت الدجاجة على جانبها وهي ترفرف بجناحيها، بينما فرت الأخريات في كل اتجاه. التقط "بيل" عكازتيه ومضي يعرج نحو المكان الذي ترقد عليه ضحيته.
ولكنه ما أن بلغ مكان ذلك الجسد الأسود الصغير برأسه القرمزي حتى تلقي جسده من الخلف ضربة عنيفة أطارت عكازتيه بعيدا وطارت بجسده على بعد عشر خطوات من حيث كان يقف. وقف فوق رأسه المزارع شيكيه والشرر يتطاير من عينيه من فرط الغضب، وقام بتكبيل اللص وركله بكل عنف المزارع عندما يحاول أحد اللصوص سرقة ممتلكاته. وظل "بيل" تحته بلا قدرة على الدفاع عن نفسه.
أقبل عمال المزارع شيكيه لمشاركة مخدمهم في تكبيل المتسول الأعرج. ولما تعبوا من ضربه حملوه وألقوا به في مخزن الحطب، وذهبوا ليستدعوا رجال الشرطة.
وبقي "بيل" على الأرض شبه ميت، ينزف من أماكن عديدة في جسده، ويموت جوعا. وأقبل المساء – ثم الليل – ثم أتى الفجر، وما زال لم يطعم شيئا.
ووصلت الشرطة عند منتصف النهار. فتحوا باب المخزن بأقصى درجات الحذر خوفا من أن يقوم المتسول المعتدي بمقاومتهم، إذ أن المزارع شيكيه كان قد أبلغهم بأن المتسول قد هاجمه بضراوة، وأنه وجدا عسرا شديدا في مقاومته.
صاح فيه الشاويش:
"هيا، انهض".
غير أن "بيل" لم يكن مقدوره أن يتحرك. حاول رفع جسده بعكازتيه دون جدوى. ظن الشرطي أن المتسول يتصنع الضعف فقام برفعه بقوه ووضع جسده بين العكازتين.
تملكه الفزع – فزعه المتأصل ممن يرتدون زيا رسميا. فزع الفار من القط. غير أنه أفلح في البقاء واقفا بمعجزة تفوق قدرة البشر.
صرخ فيه الشاويش: "هيا ... تحرك". فبدأ في التقدم وعمال المزرعة يتابعون مشهد رحيله عن مزرعتهم. لوحت النساء بقبضات أيديهن أمام وجهه، بينما اكتفى الرجال بالسخرية منه والإساءة له. أخيرا أُخذ بعيدا! "في ستين داهية"! ومضى في طريقه بين اثنين من الحراس. استطاع بصعوبة بالغة أن يستجمع ما يكفي من الطاقة - طاقة اليأس والقنوط – ليجر جسده في طريقه حتى أتى المساء، وكانت رأسه تدور وهو لا يعلم شيئا مما كان يدور حوله، والفزع يملأ جوانحه ويمنعه من الفهم.
كان من يمر بقربهم من الرجال يتوقفون ليراقبوه، ويتمتم المزارعون منهم بالقول: "لعله أحد السراق".
وعند المساء بلغ مدينة المنطقة. لم يكن قد رآها في حياته من قبل. لم يدرك تماما سبب وصوله لها، وما الذي سيفعلونه به فيها. وملأ الأسى والحزن والقنوط قلبه وهو يتذكر الأحداث الحزينة وغير المتوقعة التي وقعت له في اليومين الفائتين.
لم ينبت ببنت شفة، إذ لم يجد ما يقوله، فهو لم يفهم شيئا مما دار وبدور حوله. هذا بالإضافة إلى أنه لم يتكلم مع أي فرد لسنوات طويلة مضت، لدرجة أنه نسي استعمال لسانه في الكلام. وكانت أفكاره مشوشة لا يستطيع التعبير عنها بالكلمات.
ألقوه في سجن المدينة، ولم يخطر ببال الشرطة أنه يحتاج للطعام فبقي جائعا حتى اليوم التالي. وفي صباح اليوم التالي أتوا لتفقده فوجوده منبطحا وقد فارق الحياة. يا له من شيء بالغ الغرابة!
نبذة قصيرة عن المؤلف: قي دو موبسان (1850 – 1893م) قاص فرنسي مشهور يعد من أهم كتاب القصة القصيرة في العالم.ولد في نورمادي، وتوفي بداء الزهري في إحدى المصحات العقلية بباريس. درس موباسان القانون، والتحق بالجيش الفرنسي ثم عمل كاتبا في البحرية قبل التفرغ لحرفة الأدب.
المترجم