غي دي موباسان - الحلية.. ترجمة : أحمد الزيات

كانت من أولئك الفتيات الأنيقات اللاتي يحسبن و لادتهن في أسرة من اسر الموظفين مصيبة ،لم يكن لديها صداق يحقق الزواج السعيد،ولا رجاء يضمن العيش الرغيد،ولا وسيلة تكشفها للناس فتعرف وتفهم وتحب وتتزوج من رجل غني ثري امثل ؛فتركت قيادها للخط ، فزوجها بموظف ضعيف من موظفي وزارة المعارف العمومية.

كانت بسيطة الهندام ،لانها لم تجد زينتها وكانت معذبة النفس لانها لم تعايش طبقتها، والنساء ليس لهن طبقة و لا جنس،و إنما يقوم لهن الجمال والظرف والفتنة مقام الأصل والأسرة ،فلا تري فيهن من تفاوت ، ولا تمايز، الا بالرقة الفطرية، والأناقة الغريزية،والذهن المتصرف المرن فهي التي تجعل من سواسية بنات الشعب سيدات و عقائل.

كان الألم يلح عليها عنيفا كلما شعرت بأنها خلقت للنعيم والترف ،وهي إنما تعيش في هذا المسكن الحقير بين هذه الجدران العاطلة ،والمقاعد الحائلة،والقماش الزري . كانت هذه الأشياء التي لا تفطن إليها امرأة أخري في طبقتها تحرق نفسها بالألم , وتوقد صدرها بالغضب. وكان منظر الخادمة الصغيرة البريوتية التي تقوم على تدبير بيتها المتواضع و توقد في قلبها الحسرات اللاذعة والأحلام الحائرة. كانت تحلم بالاواوين الصامتة تدبجها الطنافس الشرقية, وتضيئها المصابيح البرنزية , وبالخادمين الفارهين في السراويل القصيرة,يرقدان في المقعد الوسيع .

وكانت تحلم بالبهو الفخم يغشية الديباج القديم , وبالاثاث الدقيق. يجمله الرياش الكريم , و بالصالون الانيق العطر يجعل لأحاديث العصر مع اخص الأصدقاء وانبه الكبراء , ممن تشتهي النساء استقبالهم.

ولما جلست إلى العشاء على المائدة المستديرة امام زوجها , وقد رفع غطاء الحساء , وقال في وجه منبسط واهجة راضية :الله ! ما أطيب هذا اللحم ! أني لم أشهي منه ولا ألذ , كانت هي تفكر في الأعشية الناعمة الجامعة و وفي الأدوات الفضية الامعة ,
وفي نسائج الوشي تزين الجدار بصور الاعلام البارزة في التاريخ, والاطيار الغريبة في غابة. من غاب عبقر ! كانت تفكرفي الألوان الشهية تقدم في الصحاف العجيبة و وفي الملاطفات الغزلة الهامسة وهي تأكل لحم السمك المورد و او الدراج المسمن.

لم تكن تملك زينة ولا حلية ولا شيئا مما تتزين به المرأة ,وهي لا تريد إلا ذلك, و لا تظن نفسها خلقت لغير ذلك. وطالما ودت أن تكون موضع الإعجاب والغبطة , ومنتجع العيون والافئدة.
وقد كان لها صديقة غنية من رفيقات الدراسة , فكانت تكره ان تزورها , لان الالم الممض كان يرافقها وهي عائدة . وربما ظلت الايام الطوال تسفح الدموع الغزار إجابة لدواعي الأسف واليأس والحزن.

ففي ذات مساء عاد زوحها وعلى وجهه سمة الجلال , وفي يده غلاف عريض و فقال : خذي ! هاك شيئا لك. ثم فض الغلاف بقوة ةأخرج منه بطاقة مطبوعة كتب فيها :



وزير المعارف العمومية وعقيلته يرجوان السيد (لوازيل) وعقيلته أن يشرفاهما بحضور الحفلة الساهرة التي ستقام في ديوان الوزارة يوم الاثنين الثامن عشر من كانون الثاني .

ولكنها بدل أن تنبسط وتغتبط وتدهش كما كان يرجو زوجها رمت البطاقة على المائدة في غضب وسخط وهي تقول

- ماذا تريد ان اصنع بهذه ؟
- و لكنني ظننت انك تسرين بهذا. إنك لا تخرجين ابدا , وهذه فرصة جميلة , حقا جميلة ! ولقد احتملت في سبيل الحصول على هذه البطاقة مالا تتصورين من الجهد والمشقة . كل الناس يرغبون فيها كل الرغبة , ويسعون لها كل السعي. وهم لا يعطون الموظفين منها إلا بقدر. سترين هناك العام الرسمي كله, فنظرت اليه نظرة الغضب , ثم انفجرت قائلة :

- ماذا تريد ان اضع علي جسمي هذه الحفلة ؟

لم يكن الزوج قد فكر في هذا, ولكنه أجاب في خفوت وغمغمة:

- عندك الثوب الذي تذهبين بت الي المسرح , إنه على ما أرى ملائم كل الملائمة …

ثم أخذه الدهش و والتوى عليه الكلام حين رأى زوجته تبكيو ةابصر دمعتين غليظتين تنحدران من زاويتي عينيها إالى زاويتي فمها , وقال في تمتمة :

- ماذا بك ؟ ماذا بك ؟

فتحاملت على نفسها بالجهد العنيف , وأجابتة بصةت هادئ وهي تمسح الدمع علي خديها:
- لا شئ غير انني لا أملك ما أتزين به , ولذلك لا أستطيع الذهاب الى الحفلة , فأعط هذه البطاقة زميلا من زملائك تكزن امرأته أحسن مني جهازا, وأتم أهبة. فابتأس الزوج وقال : لنظر في الامر يا ماتيلدة ! كم تكلفنا الزينة البسيطة الملاءمة التي تغنيك في مثل هذه المناسبة؟ ففكرت بضع ثوان تحرر الحساب , وتتحرى المبلغ الذي اذا طلبته لا يثير دهش الموظف الصغير , ولا يوجب رفض الزوج المقتصد, ثم أجابت جواب المتردد :
- لا أعرف ذلك على وحه الدقة, وأظن اربعمئة فرنكتبلغبي الى هذه الغاية!

اصفر وجه الزوج قليلا, لانه كان ادخر هذه المبلغ بتمامه ليشتري به بندقية يصطاد بها في الصيف مع بعض الاصدقاء في سهل (ننتير), ومع ذلك قال لامرأته:

ليكن! سأعطيك أربعمئة فرنك. فاجتهدي أن يكون لك منها ثوب جميل.

دنا يوم الحفل, وهيئت زينة السيدة لوازيل ,ولكنها لا تزال كما يظهر حزينة مهمومة قلقة. فقال لها زوجها ذات ليلية :

- ماذا تجدين؟ إنك منذ ثلاثة أيام في حال غريبة.

فأجابته:أني ليحزنني ألا تكون لي حلية. فلا أملك مما تتحلي به النساء شيئا من معدن أو حجر , وسأكون أسوأ من في الحفل زيا وهيئة , وأرى من الخير ألا أذهب في هذه الأمسية

فعقب علي قولها بقةله:

تتحلين بالزهور الطبيعية. ذلك أجمل شئ وأطرفه في هذا الفصل. وبعشرة فرنكات تبتاعين وردتين او ثلاثم من اندر انواع الورد. فلم يند هذا الكلام عل كبدها القريحة وقالت :كلاوفإن أشد الأشياء هوانا وضراعة أن نظهر في محضر الأغنياء بمظهر الفقراء.
ولكن زوجها صاح بها قائلا: ما اشد غباءك! اذهبي غال صديقتك السيدة فورستييه فاستعيري منها بعض الحلي, فإن بينكما من قديم الصداقة ووثيق العلاقة ما يتسع لمثل ذلك, فصاحت صيحة فرح وقالت: هذا صحيح! ومن العجب انه لم يجر عل بالي.

وفي صبيحة الفد ذهبت الى صديقتها ,فقصت عليها ما همها وغمها. فلم تكد تسمع شكوتها حتى أسرعت الى خزانتهاو فأخرجت منها صندوقا عريضا وفتحته, وقدمتة الى السيدة لوازيل وهي تقولك اختاري يا عزيزتي.

فوقع بصرها أول ما وقع على الأساور , ثم على عقد من اللؤلؤ, ثم على صليب بندقي من الذهب قد رصعته بالحجارة يد صناع. فجربت على نفسها الحلي في المرأة , ثم أخذتها حيرة فلم تقطع العزم على ما تأخذ وما تدع و فقالت لصديقتها: ألم يعد لديكي شئ آخر؟
فأجابتها : بلى! ابحثي. فإني لا أعرف ماذا يعجبك؟ وعلى حين بغتة وجدت في علبة من الديباج الاسود قلادة فاخرة من الماس, فخفق قلبها خفوق الرغبة الملحة, ثم تناواتها بيد مضطربة,
وتقلدتها على ثوبها المجهز فإذا هي على ما صورت في الخيال وما قدرت في الامل . فسألت صديقتها غي تردد وقلق: اتستطيعين أن تعيريني هذه القلادة! لا شئ إلا هذه القلادةو فاجابتها صديقتها: نعم ولا شك. فأهوت على نحرها تقبله في حمية وطرب, ثم ولت مسرعة بهذا الكنز.

أقيمت الحفلة الساهرة , ونجحت السيدة لوازيل , فكانت أكثر من حضرها من النساء رشاقة ولباقة وبهجة . تدفقت في السرور متأنقة متألقة , فاسترعت الأنظار, واستهوت القلوب , فتسابق الرجال خاصة موظفي مجلس الوزراء إالى السؤال عنها, والتعرف إليها ,والرقص معها.حتي الوزير نفسه ألقى إليها باله.
كانت ترقص في نشوة من الغبظة , وقد امحى من ذهنها كل شئ, فلم تعد تفكر إلا في انتصار جمالها ,وفي مجد انتصارها, وفي ظل رقيق من ظلال السعادة بسطته عليها التحيات التي قدمت إليها , والإعجاب الذي انثال عليها, والرغبات التي تيقظت فيها, والفوز الكامل الذي يبهج بسحره فؤاد المرأة.

تركت الحفل زهاء الساعة الرابعة من الصباح, وكان زوجها منذ منتصف الليل قد غلبه النوم فأخذ مرقده في بهو صغير خلا من الناس هو وثلاثة من المدعوين كان نسؤهم لا يزلن يقصفن في نشاط ومرح. فلما همت هي وهو بالانصراف ألقى على كتفيها الثياب التي اعدها للخروج, وهي ثياب متواضعة مبتذلة تتنافر بحقارتها مع أناقة ما تلبس من زينة المرقص. وقد شعرت هي بذلك فأرادت ان تتسلل حتى لا يلمحها النساء الأخر وهن يرتدين معاطف الفراء الفاخر . غير أن زوجها اعتاقها قائلا: انتظري ,فقد يصيبك البرد, وسأطلب عربة . ولكنها تصامت كلامه , وانحدرت مسرعة علي السلم. فلما صارا في الشارع لم يجدا مركبة فمشيا, وكلما ابصرا على البعد حوذيا صاحا بت, فلا يقف.

أخذا سبيلهما إلى(السين) هابطين قانطين يقرقفان من البرد, فوجدا بعد لأي على رصيفه مركبة عتيقة من تلك المراكب التي تسير وهي نائمة, ثم لا تري في باريس إلا تحت الليل كأنما تخزى أن تظهر مهانتها في وضح النهار.

ركباها إلى دارهما في شارع (الشهداء) ودخلاها حزينين

أما هي فلأنها تتحسر على انقضاء ما كانت فيه, أما هو فلأنه يتذكر أن من واجبه أن يكون في ديوان الوزارة الساعة العاشرة. نضت عن كتفيها امام المراة الثياب التي تدثرت بها حتي تنظر الي نفسها مرة اخيرة وهي في مجدها .

ولم تكد تجيل اللحظ في جيدها حتي صاحت صيحة منكرة ! إنها لم تجد على نحرها تلك الفلادة!

فأقبل عليها زوجها في نصف ثيابه يسألها ماذا أصابها فالتفتت إليه هالعة تقول: أنا .. أنا .. لا أجد قلادة السيدة فورستييه! فانتفض قائما وقد هفا قلبه من الجزع.

- ماذا ؟ كيف ؟ لا يمكن أن يكون هذا!

و طفقا يبحثان في ثنايا الثوب ، وفي طوايا المعطف ، وفي جيوب هذا وذاك ، وفي كل مكان هنا وهناك ،فلم يجداها . فقال الزوج للزوجة : أأنت على يقين من ان القلادة كانت في عنقك ساعة تركت المرقص؟ فأجابته : نعم ، ولقد لمستها بيدي وأنا في دهليز الوزارة .فقال لها: ولكنك لو فقدتها ونحن في الشارع لكنا سمعنا وقعها حين سقطت , فلا بد أن تكون في المركبة . فقالت له:نعم . هذا جائز . فهل تذكر رقم المركبة ؟ فأجابها كلا , وأنت الم تلحظيها؟ فأجابته كلا , فرنا إليها , ورنت إليه , وكلاهما لا يملك فؤاده من الجزع .

وأخيرا , مضى لوازيل فلبس ثيابه وقال : سأرجع في الطريق التي قطعناها على الأقدام فلعلي أجدها . ثم خرج وترك امرأته في ثياب السهرة , وقد استلقت من الخور علي أحد المقاعد , لا تشتهي النوم , ولا تطلب الدفء , ولا تملك الفكر . ثم عاد في الساعة السابعة دون ان يجد شيئا . وما لبث أن ارتد غالى دائرة الشرطة يسجل المفقود , ثم إلى إدارات الصحف يعلن المكافأة , ثم إلى شركة العربات الصغيرة ينشد المركبة , ثم إلى كل مكان يهديه إليه بصيص من الأمل .

وكانت هي تنتظر طول النهار علي حالها الأليمة من الذهول والوله . وفي المساء عاد لوازيل ساهم الوجه , كاسف البال , لأنه لم يكتشف شيئا. ولما أعياه الأمر قال لزوجته : لا بد أن تكتبي إلى صديقتك تخبرينها ان مشبك القلادة انكسر , وأنك بسبيل تصليحه . ذلك يعطينا المهلة لنتخذ تدبيرا آخر . فكتبت ما أملاه عليها .

وفي آخر الأسبوع وقفت أمالها على شفا اليأس , فأعلن لوازيل أنه لا بد من وسيلة لشراء قلادة بدل القلادة.

وفي صباح الغد أخدا علبة الحلية , وذهبا بها إلى الجوهري الذي كتب اسمه عليها فسألاه عنها . فقال بعد أن رجع إلى سجلاته : لست أنا يا سيدتي الذي صنع القلادة , وإنما صنعت هذه العلبة فقط . فذهبا يضطربان في سوق الجواهر ينتقلان من صائغ إلى صائغ يسألان , ويبحثان وجدا آخر الأمر في دكان من الدكاكين قلادة من الماس تشبه في نظرهما القلادة المفقودة كل الشبه… كان ثمنها أربعين ألف فرنك , ولكن الجوهري رضي أن ينزل عنها بستة وثلاثين ألفا . فرجوا منه ألا يبيعها لأحد قبل ُثلاثة أيام , وشرطا عليه أن يعود فيشتريها منهما بأربعة وثلاثين ألف فرنك إذا هما وجدا القلادة الأولى آخر شباط .

كان لوازيل يملك ثمانية عشر ألف فرنك تركها له أبوه , فلا مناص من أن يقترض الباقي . اقترض ألفا من هذا و خمسمئة من ذاك , وخمس ليرات من هنا وثلاثا من هناك .

كتب على نفسه الصكوك المحرجة , وتردد على كل مراب , واختلف إلى كل مقرض .

عرض آخرة عمرة للخطر ,وغامر بإمضائه وهو لا يضمن الوفاء بما التزم . وفي حال يرجف لها القلب فرقا , مما يتجرعه من هموم المستقبل , وما يتوقعه من بؤس العيش , وما يخشاه من حرمان الجسم ولوعة القلب , ذهب يشتري القلادة الجديدة . وضع علي منضدة الجوهري ستة وثلاثين ألف فرنك ؟

ولما أخذت السيدة فورستييه الحلية من السيدة لوازيل , قالت في هيئة من غاضبة ولهجة عاتبة : لقد كان ينبغي أن ترديها قبل ذلك , فقد كنت بحاجة إليها .
ثم رفعت العلبة من دون ان تفتحها , فكفت بذلك صديقتها ما كانت تخشاه . فلقد كانت تقول لنفسها : ماذا عسى ان تظن السيدة فورستييه إذا لحظت أن القلادة غير القلادة ؟ إلا تحسبني لصة ؟!

ذاقت السيدة لوازيل عيش المعوزين المر الخشن , وحملت نصيبها من ذلك دفعة واحدة في بسالة وقوة.

كان لا بد من قضاء هذا الدين الفادح وستقضيه . استغنت عن الخادم , وانتقلت من المنزل , واستأجرت غرفة على أحد السطوح , وزاولت الأعمال الغليظة في البيت و وباشرت الأمور البغيضة في المطبخ و فغسلت الأطباق ة وأتلفت أظافرها الوردية في صدأ القدور ودسم الأواني (وصبنت) القذر من الابيضة والأقمصة والخرق ونشرتها على الحبل , ثم هبطت الشارع كل صباح لتصعد بالماء وتقف عند كل طبقة تتنفس الصعداء من التعب , ولبست لباس السوقة , واختلفت إلى الفاكهاني والبقال والجزار وعلى ذراعها السلة , فتساوم ,وتقاوم وتدفع الغبن عن كل (بارة) من نقودها القليلة . فإذا تصرم الشهر وجب عليها أن توفي صكا , وتجدد صكا , وتطلب مهلة .

وكان الزوج في المساء يشتغل بتبييض الحساب لتاجر , وفي الليل بنسخ صور لبعض الأصول , كل صفحة بربع فرنك , ودأب الزوجان على هذه الحال عشرة سنين . وفي نهاية هذه المدة كانا قد أديا الدين كله بسعره الفاحش و وربحه المركب , وكانت السيدة لوازيل قد أخلقت جدتها و وبدت في رأسها رواعي المشيب . وكان من طول قيامها بشؤون المنزل أصبحت قوية غليظة جافية . لا تكاد تراها إلا شعثاء الشعر ,حمراء اليد , مقلوبة الثوب , ترفع صوتها في الكلام , وتغسل ارض الغرف بالماء الغمر , ولكنك تراها في بعض أوقاتها تجلس إلى النافذة حين يجلس زوجها إلى المكتب , فتفكر في تلك الأمسية الذاهبة في تلك الحفلة الساهرة التي كانت فيها مهوى القلوب , ومراد الأعين . ما الذي يحدث لو أن هذه الحلية لم تفقد؟ من يدري ؟ إن الحياة غريبة الأطوار سريعة التقلب ! وإن موتك أو حياتك قد يكونان رهنا بأحقر الأشياء !

وفي ذات أحد من الآحاد بينما كانت ماتيلدة ترغه عن نفسها عناء الأسبوع في رياض (الشانزليزيه) وقع بصرها فجأة على السيدة فورستييه ,ومعها طفل تنزهه وتروضه. وكانت لا تزال رفافة البشرة , رائقة الحسن ’ فتانة الملامح ,فاعتراها لدى مرآها اضطراب وقلق . أتذهب إليها فتكلمها! نعم! ولم لا ؟ لقد أدت الآن كل ما عليها , فلم لا تفضي بكل شئ إليها ؟

دنت السيدة لوازيل من صديقتها القديمة وقالت لها:
صباح الخير يا جان!

ولكن صديقتها أنكرتها , وأدهشها أن تسمع امرأة مع عرض الطريق بهذه الألفة , وتناديها من غير كلفة ,فقالت مغمغمة:
ولكن .. سيدتي … لا بد أن يكون الأمر قد اشتبه عليك . فقالت لها: كلا! أنا ماتيلدة لوازيل .

فصاحت السيدة صيحة الدهش , وقالت : أوه! صديقتي المسكينة ماتيلدة ! لشدة ما تغيرت بعدي !

فقالت: نعم! لقد كابدت برحاء الهموم عانيت بأساء منذ غبت عنك , وذلك كله بسببك .

- بسببي؟ وكيف ذلك؟
- إنك تذكرين ولا شك تلك القلادة الماسية التي أعرتني إياها يوم حفلة الوزارة.
- نعم , وبعد؟
- إنني أضعتها.
- وكيف أضعتها وقد رددتها إلي؟
- لقد رددت إليك قلادة أخرى تشبهها كل الشبه.

وها هي تلك عشرة أعوام قضيناها في أداء ثمنها . وليس ذلك باليسير علينا كما تعلمين, فاليد خالية, والمورد ناضب, والجهد قليل ,وقد انتهى الأمر والحمد لله , وأصبحت على هذه الشدة راضية مغتبطة , فقالت السيدة فورستييه في تؤدة وبطء:

- أتقولين إنك اشتريت قلادة من الماس بدل قلادتي؟

- نعم. ألم تلاحظي ذلك؟ هه ؟ إنها لا تختلف عنها في شئ .

وكانت شفتاها قد افترتا عن ابتسامة تنم على الكبر والسذاجة , ولكن السيدة فورستييه أخذت يديها في يديها , وقالت لها في لهجة الإشفاق والعجب :

- مسكينة يا صديقتي ماتيلدة !
إن قلادتي كانت كاذبة !

وما كان ثمنها يزيد عن خمسمئة فرنك !!
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...