كتاب كامل عبد الفتاح القرقني - بَابُورُ أُمِّي زَعِيمَةَ


زَوَالَ العَاشِرِ مِنْ شَهْرِ فِيفْرِي سنة 2019 أَدَّى عَبْدُ الْفَتَّاحِ زِيَارَةً إِلَى مَدْرَسَةِ غِيزِن الَّتِي دَرَّس فِيهَا ثَمَانيَ سَنَوَاتٍ انْتَهَتْ بِحُصُولِهِ عَلى التَّقَاعُدِ . وَ خِلاَلَ هَذِهِ الزِّيَارَةِ طَافَ فِي أَرْجَاءِ قِسْمِ التَّحْضيريِّ رِفْقَةَ مُدِيرِ الْمَدْرَسَةِ السَّيِّدِ رِضا المستاوي . قَدْ لَفَتَتْ انْتِبَاهَهُ مُنْذُ الْوَهْلَةِ الأُولَى غَيْر بَعِيدٍ عَنِ الْمَدْخَلِ وَ فِي رُكْنٍ عَلَى الْيَمِينِ مِنْضَدَةُ بَالِيَةٌ، بَاهِتَةُ اللَّوْنِ ، رُصِّفَتْ عَلَيْهَا فِي نِظَامٍ فَائِــــقٍ أَوانٍ قَدِيمَةٌ مِنَ الْأَلِمِنَيُومِ : صُحُـــونٌ وَ مَلاَعِـــــقُ
وَ مِرْجَـــــــلٌ وَ مِغْرَفَةُ عِمْلاَقَةٌ طُولُهَا مَا يَرْبُو عَنِ الذِّرَاعِ يُسْتَعَانُ بِهَا فِي تَحْرِيكِ الطَّعَامِ وَ غَرْفِهِ .
وَ الَّذِي أَثَارَ اسْتِغْرَابَ أَدِيبِنَا الْفَاضِلِ اهْتِدَاؤُهُ إِلَى « بَابُورٍ» يَتَّسِعُ خَزَّانُهُ لِحَواليْ لِتْرَيْنِ مِنَ النَّفْطِ مَكْتُــــــــوبٌ عَلَيْهِ بِخَطٍّ غَلِيظٍ ، أَبْيَضَ زَعِيمَـــةُ وَ حَسِينِيَّةُ . مَا أَسْعَدَهُ وَ هْوَ يُمْعِنُ النَّظَرَ فِيهِ بِعَيْنَيْنِ مُتْرَعَتَيْنِ بِالْإعْجَـابٍ وَ قَلْبٍ طَافِحٍ بِالْغِبْطَةِ !. مَا انْفَكَّ عَبْدُ الْفَتّاحِ يَتَلَمَّسُهُ بِيَدِ مُرْتَعِشَةِ وَ يَضًعُهُ فِي إِطَارِهِ المُنَاسِبِ . كَانَتْ أُمِّي زَعِيمَةُ كُلَّ أُسْبُوعٍ تَحْرِسُ عَلى تَنْظِيفِهِ بِالْمَاءِ وَ الرَّمْلِ وَ لُبِّ اللَّيْمُونِ وَ لاَ يَهْدَأُ لَهَا بَالٌ إِلاَّ إِذَا اسْتَعَادَ بَرِيقَــــــــهُ
و أَلَقَـــــهُ وَ صَارَ صَقِيلاً كَالْمِرْآةِ . أَيُّهَا البابورُ المِسْكِينُ أَنْتَ الْآَنَ فِي أســــــوئِ حَالٍ مُهْمَلٌ ، مُغْبَرٌّ ، وَ صَدِئٌ لاَ مَكَانَةَ لَكَ فِي الْمَطْبَخِ بَعْدَ أَنْ حَلَّ مَحَلَّكَ الْمَوْقِدُ الْغَازِيُّ .
حَامَتْ ذِكريات الدّراسةِ فِي ذِهْنِ عَبْد الفَتَّاحِ أَيَّ حَوْمٍ وَ رَحَلَتْ بِهِ بَعِيدًا وَ بَعِيدًا ثُمَّ حَطَّتْ رِحَالَهَا فِي سَنَةَ 1960 أَيَّامَ كَانَ تِلْمِيذًا بِالسَّنَةِ الْأُولَى. كَانَ آنَذَاكً نَحِيفَ الْجِسْمِ، وَسِيطَ الْقَامَةِ ، أَبْيَضَ الْبَشَرَةِ ، فَاحِمَ الشَّعْرِ ، رَثَّ الثَوْبِ ، مَعْرُوفًا بَيْنَ أَنْدَادِهِ بِشِدَّةِ بُؤْسِهِ وَ جَسَامَةِ خَجَلِهِ وَ فَدَاحَةِ خُمُولِهِ . مِنَ الْغَرِيبِ فِي الْأَمْرِ أَنَّ مُعَلِّمَهُ لاَ يُعِيرهُ أَيَّ اهْتِمَامٍ عَلَى الرَّغْــــمِ مِنٍ نَبَاهَتِـــــهِ وَ نُبُوغِهِ الْمُبكِّرِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَ الْحِسَابِ .
فَاضَتْ فِي مُخَيِّلَةِ السَّيِّدِ عَبْدِ الْفَتَّاحِ ذِكْرَيَاتٌ مُذْهِلَةٌ وَ طَفَرَتْ مِنْ مَخْبَئِهَا الدَّامِسِ تَنْشُدُ النُّورَ ِ. مَا أجْمَلَ هَذِهِ الذِّكْرَيَات المتحرّرةَ مِنْ أَغْلاَلِ النِّسيَانِ وَ هْيَ فِي قِمَّةِ فُتُوَّتِهَا وَ ذَرْوَةِ عُنْفُوَانِهَا !
أَنْتِ أَيَّتُهَا الذِّكْرَيَاتُ كَالْبَدْرِ فِي الضِّيَاءِ
أَنْتِ أَيَّتُهَا الذِّكْرَيَاتُ كَالْحَسْنَاءِ فِي الرَّوْنَقِ وَ الْبَهَاءِ
أَنْتِ أَيَّتُهَا الذِّكْرَيَاتُ كَعَبَرَاتِ يَتِيمٍ فِي لَيْلَةٍ خَرْسَاءَ
أَنْتِ عَالمٌ مُخمليّ ، مُزدانٌ بقلوبٍ كالدُرر آيَةً فِي الشَّفافِيَّةِ وَ النَّقَاءِ
أَنْتِ خَيْمَة بَاذِخةُ الْعِمَادِ أَلْتَجِئُ إِلَيْهَا عِنْدَ الْعَواصِفِ الْهَوْجَاءِ
آَنَ الْأَوَانُ أَنْ تَتَدَفَّقِي تَدَفُّقَ الْيَنَابِيعِ فِي وَاحَةِ الطُّفُولَة النَّضِرَةِ، الغنّاءِ
هَيَّا ارْتَعِي كَغَزَالٍ أَهْيَف فِي الْبَيْدَاءِ
هَيَّا اقْفِزِي بِسَلاَمٍ مُتَحَدِّيَةً وِعَارَ الْعَقَباتِ النَّكْدَاءِ
هَيَّا اُنْثُرِي فِي فُؤَادِي الْجَرِيحِ مَبَاهِجَ الرَّبِيعِ وَ عَطِّرِيهِ بِرَحِيقِ الرَّجَاءِ
اِبْتَسَمَ السَّيِّدُ رِضَا ابْتِسَامَةٌ عَرِيضَةً كَشَفَتْ عَنْ أَسْنَانٍ مُرَصَّفَةٍ ، نَاصِعَةِ الْبَيَاضِ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي اسْتِغْرَابٍ لاَحَ فِي شَكْلِ عُبُوسٍ عَلَى جَبِينِهِ الْمُقَطَّبِ :
- « مَاذَا دَهَاكَ يَا سَيِّدِي الْفَاضِلُ ؟ لَقَدْ كنْتَ مُنْذُ هُنَيْهَةٍ صَقِيلَ النَّفْسِ ، نَاعِمَ الْبَالِ ، بَاسِمَ الثَّغْرِ تَتَأَمَّلُ بَرَاعَاتِ الْأَطْفَالِ فِي انْبِهَارٍ وَ تُبَارِكُ سَعْيَهُمْ فِي هَذَا الْفَضَاءِ الْفَسِيحِ المُؤَثَّثِ بَأَحْدَثِ التَّجْهِيزَاتِ لَكِنْ سُرْعَانَ مَا اكْفَهْرَرْتَ كَالسَّمَاءِ الغضوبِ فَخَيَّمَ عَلَيْكَ حُزْنٌ كَثِيفٌ وَ تَنَاثَرَتْ الدُّمُوعُ عَلَى وَجْنَتَيْكَ المُسَتَدِيرَتَيْنِ كَمَا يَتَنَاثَرُ الْعِقْدُ عَلَى جِيدِ الْحِسَانِ ؟ ».
أَجَابَ عَبْدُ الْفَتَّاحِ فِي لَهْجَةٍ مِلْؤُهَا الْمَراَرةُ وَ الأَلَمُ :
- « إِنَّهُ شَجَنُ ذِكْرَيَاتِ طُفُولَةِ بَائِسَةٍ مَازَالَتْ مَنْقُوشَةً فِي ذِهْنِي رَغْمَ اشْتِعَالِ رَاْسِي شَيْبًا وَ تَغَضُّنِ وَجْهِي »
- « هَلْ أَنّكَ تَخْجَلُ مِنْ قَصِّهَا عَلَيَّ فَأَنَا وَاثِقٌ يَا زَمِيلِي مِنْ مَهَارَتِكَ فِي السَّرْدِ بِلِسَانٍ مُبِينٍ ؟ »
- «الْآَنَ أَنَا غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْحَدِيثِ عَنِ الذِّكْرَيَاتِ الَّتِي جَلاَّهَا بَابورِ أُمِّي زَعِيمَةَ »
- « مَا السَّبَبُ يَا تُرَى ؟»
- «إِنَّنِي أَشْعُرُ الْآَنَ بِصُدَاعٍ حَادٍّ يَكَادُ يَشْطُرُ رَأْسِي إِلَى نِصْفَيْنِ وَ أُحِسُّ بِقُشَعْرِيَرَةٍ مُؤْلِمَةٍ تَسْرِي فِي كَامِلِ جَسَدِي »
زَفَرَ عَبْدُ الْفَتّاحِ زَفَراتٍ عَمِيقَةً وَ اسْتَطْرَدَ قَائلاَ بِانْكِسَارِ مَهِينٍ لاَ يُحْتَمَلُ :
- « يَا سِي رِضَا لاَ أخْفِي عَنْكَ أَنَّنِي أَشْعُر كَذَلِكَ بتوعُّك في مزاجي وأحسُّ بكآبة عميقة تستحوذ على مشاعري وتقبض على قلبي »
- « أَسْأَلُ اللّهَ أَنْ يَلْطفَ بِحَالِكَ. هَلْ أُحْضِرُ لَكَ قَهْوَةً سَاخِنَةً تُخَفّفُ مِنْ وَطْأَةِ أوجاعِكَ »
- « لاَ دَاعِيَ لِذَلِكَ فَهَذِهِ الآلاَمُ مَصْدَرُهَا شُرُودٌ ذِهْنِيٌّ يَنْتَابُنِي سَاعَةً أَوْ بِضْعًا مِنْ سَاعَـةٍ ثُمَّ يَزُولُ »
- « هَلْ يَتَلاَشَى هَذَا الذُّهُولُ الْمُبَاغِتُ بِالْأَدْوِيَةِ وَ المُسَكِّنَاتِ ؟»
صَرَّ عَبْدُ الْفَتَّاحِ أَسْنَانَهُ فِي تَبَرُّمٍ وَ تَنَهَّدَ فِي حُرْقَةٍ كَادَتْ تُفَجِّرُ صَدْرَهُ تَفْجِيرًا ثُمَّ قَـــالَ وَ فِي لِسَانِهِ لَكْنَةٌ غَيْرُ
مَعْهُودَة :
- « هَذا الْبَابورُ الْقَدِيمُ أَيْقَظَ ذِكْرَيَاتِي الْهَاجِعَةً فَتَعَاقَبَتْ رُسُومُهَا عَلَى نَفْسِي الْهَائِمَةِ وَ السَّائِمَةِ كَغُيومِ
الرَّبِيــــعِ وَ تَحَرَّكَتْ حَوَالَيَّ كَنَسِيمِ السَّحَــــــــــــرِ وَ تَعَاَنَقَتْ دَاخِلَ جِنَانِي الْخَفَّاقِ كَمَرْجٍ تَمَايَلَتْ سَنَابِلُهُ
المُتَرَاصّةُ يُمْنَــــــةً و يُسٍرَةً »
- « أَنَا أَتَضَايَقُ مِنْ رُؤْيَتِكَ مَصْهُودًا ، مَكْمُودًا هَيَّا عَجِّلْ بِسَرْدِهَا فِي أَنَاةٍ حَتَّى يَرْتَاحَ بَالُكَ وَيَعْتَدِلَ مِزَاجُـكَ وَ يَفْتَرَّ ثَغْرُكَ عَنْ ابْتِسَامَةٍ كأنّها الْبَرْقُ المُتَلَأْلِئُ فِي إِشْعَاعِهَا و أَلَقِهَا »
- « أَنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ أَخْتَلِيَ بِنَفْسِي فِي مَكَانٍ في هَادِئٍ حَتّى أَسْتَدِرَّ هَذِهِ الذِكْرَيَاتِ كَمَا تَسْتَدِرُّ أُمِّي اللَّبَنَ مِنْ ضَرْعِ مِعْزَاتِهَا الْحَلوبِ . وَ إِثْرَ ذَلِكَ كَمْ يَسُرُّنِي تَحْبِيرُهَا فِي اهْتِمَامٍ بِمِدَادِ قَلَمِي عَلَى مُفَكِّرَةٍ لاَ تُفَارِقُ جَيْبَ كِسْوَتِي آنَاءَ اللَّيْلِ وَ أَطْرَافَ النَّهَارِ !»
- « تَصَرَّفْ كَمَا تَشَاءُ يَا صَدِيقِي الْكَرِيمُ فَالمُهِمُّ بِالنِّسْبَةِ لِي هُوَ أَنْ تَكُونَ طَلْقَ الْمُحَيَّا ، مُنْبَسِطَ الأَسَارِيرِ ، مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ ، نَاعِمَ البَالِ »
- « إِلَى اللِّقَاءِ فَإِنَّ هَوَسَ الكِتَابَةِ يُغْرِقُنِي فِي جَحِيمٍ مِنَ الْعَرَقِ وَ لَكِنَّهُ رَغْمَ كُلِّ هَذَا الْعَذَابِ يُحَرِّرُ أَفْكَارِي المُتَزَاحِمَةَ مِنْ قُيُودِهَا الْبَالِيَةِ فَتَضِـــجّ وَ تَثُــــور وَ تَبْسُط أَجْنِحَتَهَا المُزْدَانَةَ فِي أَرْجَاءِ الْفَضَاءِ المُنِيِرِ»
- « فِي أَمَانِ اللَّهِ عَلَى أَمَلِ أَنْ تَزُورَ هَذِهِ الْمَدْرَسَةَ الْعَرِيقَةَ كُلَّمَا بَرَّحَ بِكَ الشَّوْقُ إِلَيْهَا فَأَنَا أَنْتَظِرُ فِي لَهْفَةٍ اُقْصُوصَتَكَ الْجَدِيدَةَ »
- «أَيُّهَا الزَّمِيلُ سَتَكُونُ هَذِهِ الْاُقْصُوصةُ بَيْنَ يَدَيْكَ الْكَرِيمَتَيْنِ فِي احْتِفَاليَةِ الْمَدْرَسةِ بِمُنَاسَبَةِ عِيدِ مِيلاَدِهَا
الثَّمَانِينَ »
- « رَحَمَ الله الْحَاجَ شَعْبَانَ أَرْوَاي وَ طَيَّـــــبَ ثَرَاهُ وَ أَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَ جَعَلَ الجَنَّةَ مُسْتَقَــــرَّهُ وَ مَأْوَاهُ »
- « أَنَا أَعْرِفُ اسْمَ مُؤَسِّسِهَا وَ أَجْهَلُ تَارِيخُ تَشْيِيدِهَا »
- « تاريخ تأسيس هذه المنارة العلميّة الْعَرِيقَة هو 13 فيفري 1939 »
وَلَّى عَبْدُ الْفَتَّاحِ وَجْهَهُ شَطْرَ مَنْزِلِهِ وَ هْوَ مَهْمُومٌ ، مَغْمُومٌ ، مَحْمُومٌ يَسِيرُ عَلى طَرِيقٍ رَمْلِيٍّ بِخَطَوَاتٍ وَاهِنَةٍ يَشُوبُهَا الأَسَى . وَ بَعْدَ زُهَاءِ نِصْفِ سَاعَةٍ مِنَ الْمَشْيِ الْبَطِيئِ اِهْتَدَى إِلَى زَيْتُونَةِ عَرِيقَةٍ دَاخِلَ حَقْلٍ بَهِيجٍ يَسُرُّ النَّاظِرِينَ . مَا أَجْمَلَ هَذَا الْحَقْلَ الَّذِي كَسَاهُ الْخَالِقُ بِثَوْبٍ سُنْدُسِيٍّ قَشِيبٍ تَقَنَّــــنَ فِي تَطْرِيزِهِ بِالأُقْحُــوانِ و شَقَائِقِ النُّعْمَــــــانِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَزْهَارِ الْبَدِيعَةِ ! كَأَنَّ هَذَا الْحَقْــــلَ عَرُوسٌ بَهِيَّــــــةٌ تَزَيَّنَـــــــــتْ بِحُلَلِـــــهَا
وَ حِلْيِهَـــــــــا و دِيبَاجِهَا . كَانَتْ الْأزهارُ ، غَرِيرَةً ، ضَحُوكًا تُدَغْدِغُهَا شّمْسُ الأَصِيلِ بِنُورِهَا الذَّهَبِيِّ وَ تُحَرِّكُهَا نَسَائمُ رَخْوَةٌ ، عَطِرَةٌ . وَ كَانَتْ تُزَخْرِفُ أَطْرَافَ الأفق الأَزْرَقِ غَمَائِمُ مُتَنَاثِرَةٌ هُنَا وَ هُنَالِكَ
وَ حَمَائمُ بَيْضَاءُ وَ عَصَافِيرُ مُزَرْكَشَةٌ لَهَا أَغَارِيدُ رَخِيمَةٌ تُطْرِبُ النَّفْـــــــسَ وَ تُجْلِي عَنْهَا الْحَزَنَ .
وَ فِي هَذَا الْوَسَطِ الشِّعْرِيِّ الْخَلاَّبِ جَلَسَ عَبْدُ الْفَتّاحِ الْقُرْفُصَاءَ وَحِيدًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى زيْتُونَةٍ عَرِيقَةٍ. كانَ تَارَةً يَتَمَلَّـــى بِجَمَـــــــالِ الوُجُـــــــودِ وَ طَوْرًا يَتَسَلَّى بِنَفْحِ ذِكْرَيَاتٍ تَرَاقَصَتْ أَطْيَافُهَا حَوْلَ
البَابُور فِي مُجُونٍ وَ جُنُونٍ .
وَ لَمَّا شُعُرَ عبدُ الفتّاحِ بِنَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ الْارْتِيَاحِ امْتَطَى صَهْوَةَ قَلَمِهِ الْجَمُوحِ وَ اِنْغَمَسَ فِي سَرْدِ ذِكْرَيَاتٍ مِنْ وَحْيِ بابور أُمِّي زَعِيمَةَ طَاوِيَا فِي لَمْحِ الْبَصَرِ بِيدَ الزَّمَانِ وَ مُنْتَحِلاً دَوْرَ طِفْلٍ تَلَظَّى عَلَى جَمْرِهَا حَافِيَ القَدَمَيْنِ ، مُتَمَرِّدًا فَكَانَتْ لَهُ بَرْدًا وَ سَلامًا .
1) هَا هِيَ أُمِّي زَعِيمَـةَ بَادِيَةٌ أَمامَ عَيْنَيَّ بِقَامَتِهَا الْفَارِعَةِ وَ بَشَرَتِهَا السَّودَاءِ وَ ابْتِسَامَتِهَا اللَّطِيفَةِ
وَ مِلْحَفَتِهَا الْأَنِيقَةِ .
إِنَّهَا وَضَعَتْ فِي تُؤَدَةٍ مُنْذُ الصَّبَاحِ البَاكِرِ قِدْرًا مَمْلُوءًا بِالْمَاءِ عَلَى بَابُورٍ اشْتَدَّ لَهِيبُهُ الأَزْرَقُ وَ احْتَدَّ أَزِيزُهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُنَفِّرًا بَلْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ مُنَغِّمًا أَجْذَلَ مِنْ سِمْفُونِيَاتِ بِيتْهُوفَن عِنْدَ الرومانسيين وَ أَعْمَقَ أَثَرًا فِي نُفُوسِ الْأَطْفَالِ المُتَعَطِّشِينَ إِلَى نُزْرٍ مِنَ الطَّعَامِ يَسُــــــــــدُّ رَمَقَهُــــــــــمْ وَ يَقِيهِمْ مِنْ غَائِلَةِ الجُوعِ .
وَ حِينَمَا تَأَكَّدَتْ مِنْ دِفْءِ الْمَاءِ فَتَحَتْ بِالسّكّينِ كِيسًا كُتِبَ عَلَيْهِ هَدِيَّةٌ مِنَ الشَّعْبِ الأمريكـــيِّ وَ كَالَتْ مْنْهُ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ عِدَّةَ صِيعَانٍ مِنَ الْحَلِيبِ المَسْحُوقِ ثُمَّ مَزَجَتْ الْخَلِيطَ فِي سُرْعَةٍ فَائقَةٍ بِوَاسِطَةِ رَكّاضَةِ يَدَوِيَّةٍ لِلْحُصُولِ عَلَى حَلِيبٍ سَائِلٍ لَذَّةٍ للشَّارِبينَ .
وَ حَوَالَيْ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ إِلاَّ خَمْسَةِ دَقَائِقَ كَانَ الْحَلِيبُ جَاهِزًا للشُّرْبِ . كَانَ تَلاَمِيذُ يَنْتَظِرُونَ دَوْرَهُمْ
فِي صَفِّ مُنْتَظِمٍ مُحَافِظِينَ عَلَى هُدُوئِهِمْ . وَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنْهُمْ السَّيِّدُ محمَّدُ الشَّابّي يُرَاقِبُ عَنْ كَثَبٍ
حَرَكَاتِهِمْ وَ سَكَنَاتِهِمْ وَ هَرَجَهُمْ وَ مَرَجَهُمْ. وَ مَا إِنْ يَنَالُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَصِيبَهُ مِنَ الْحَلِيبِ الدَّافِئِ حَتَّى يَشْرِبَهُ عَلى مَهَلٍ مُسْتَسِيغًا طُعْمَهُ اللَّذِيذَ ثُمَّ يُهَرْوِلُ نَحْوَ السَّاحَةِ مُبْتَهِجًا لِإِزْجَاءِ مَا تَبَقّى مِنْ وَقْتِ الاسْتِرَاحَةٍ فيِ اللَّهْوِ وَ الْمَرَحِ .
هَالــَــنِي امتدادُ الصّـفِّ و أَشْفَقْتُ عَلَى نفسي من طولِ الانتظارِ فحاولتُ أن أَندسّ خلسة في أوّله دُونَ أن تَتَفَطَّنَ إليَّ أُمّي زَعِيمَةُ. ًآنذاك حدجَنِي الْمُدِيرُ بنظراتِ استنكارٍ وَ جذبَنِي في قَسْوَةِ من يدي اليمنى حَتَّى كَادَ يَخْلِعُ كَتِفِي ثُمَّ أوقفنِي حيث انتهى الصّـــفّ وَ الشَّرَرُ يَتَطَايَرُ مِنْ مُقْلَتَيْهِ الزَّرْقَاوَيْنِ :« أَيُّهَا الصَّبِيُّ الْأَحْمَقُ انتظِرْ دورك في جَلَدٍ فالصّبر مفتاح الفرج » . لم أَنْبُسْ ببنت شفة و خيّرت السّكوت على الكـــــــــــلام فَانَا فِي مَوْقِفٍ مُخْجِلٍ لاَ أُحْسَدُ عَلَيْـــهِ : احْمَرَّ وَجْـــــــــــــهِي خَفَــــــرًا وَ ارْتَجَــــــــفَتْ فَرَائِصِــــــي وَ تَسَارَعَتْ نَبَضاتُ قَلْبِي. وَكَيْفَ لا أَكُونُ مَذْعُورًا وَ مُرْتَبِكًا ؟ أَنَا أَعْرِفُ جَيِّدًا أَنَّ هَذَا الْمُدِيرَ شَدِيدٌ لاَ يَخْشَى فِي الْحَقِّ لَوْمَةَ لاَئمٍ يُعَامِلُ الْأَطْفَالَ بِقَسْوَةٍ عِنْدَ ارْتِكَابِهِمْ لِأَدْنَى زَلَّةٍ فَهْوَ قَلَّ و نَدَرَ أَنْ يَشْملَهُمْ بِعَفْوِهِ.
وَ مِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ جَاءَ دَوْرِي فِي ظَرْفِ خَمْسِ دَقَائِقَ فَتَنَفَّسْتُ الصُّعَدَاءَ وَ انْزَاحَ عَنْ صَدْرِي حِمْلٌ ثَقِيلٌ. سَلَّمَتْنِي أُمِّي زَعِيمَةُ فِنْجَــــانَ حَلِيــــبٍ وَ أَسَارِيرُ وَجْهِهَا مُشْرِقَةٌ بِنُورِ بَهِيٍّ .عَنْ مَضَضً اِجْتَرَعْتُ مِنْ هَذا الْحَلِيبِ الْفَاتِرِ جُرْعَتَيْنِ وَ أَنَا أُدَاري كَآَبَتِي لَكِنَّ دُمُوعِي فَضَحَتْنِي وَ هْيَ تَنْسَكِبُ عَلَى وَجْنَتَيَّ القُرُنْفُلِيَّتَيْنِ كانْسِكَابِ الْغَيْثِ مِنَ المُزْنِ فَوْقَ تِلاَلٍ تَوَشَّتْ بِشَقَائِقِ النُّعْمَانِ. أَشْفَقَتْ أُمِّي زَعِيمَةُ عَلَيَّ فَرَبَّتَتْ عَلــــى كَتِفِــــي وَ جَفَّفَتْ بِمِنْدِيلِهَا دُمُوعِي وَ دَسَّتْ فِي جَيْبِي حَفْنَةً مِنَ الْحَلْوَى وَ هْيَ تَهْمِسُ فِي أُذُنِي مَازِحَةً :
- « يَا جَعْدَ الشَّعْرِ لِمَاذَا لَمْ تُكْمِلْ شُرْبَ حَلِيبِكَ ؟ »
- « كُلُّ مَا فِي الأَمْرِ أَنَّنِي رَيَّانُ فَأُمِّي الْعَزِيزَةُ طَبَخَتْ لِي ذَاكَ الفَجْرَ السَّحْلَبَ بِلَبَنِ مِعْزَاتِي الْبُنِّيَّةِ فَوْقَ مَوْقِدِهَا النَّفْطِيِّ »
- « قُلْ الْحَقَّ وَ لَوْ كَانَ مُرًّا »
- « يَاأُمِّي زَعِيمَةُ إِذا كان الكَذِبُ يُنَجِّي فالصِدْق أنجى و أنْجَى ...»
- « اُنْطُقْ ، قُلْ الحَقِيقَةَ ، أَفْصِحْ عَمَّا جَرَى لَكَ بِلِسَانٍ مُبِينٍ لاَ يَعْرِفُ اللُّكْنَةَ وَ التَّلَعْثُمَ فِي الْكَلاَم ِ»
- « الْآَنَ لَيْسَتْ عِنْدِي رَغْبَةٌ فِي الْحَدِيثِ »
- « يًبْدُو لِي أَنَّ المُدِيرَ صَفَعَكَ عَلِ وَجْهِكَ صَفْعًا شَنِيعًا ، ذَمِيمًا »
- « لَمْ يَمُسَّنِي بِسُوءٍ بَلْ اكْتَفًى بِنَهْرِي بِلَهْجَةٍ قَاسِيةٍ ثُمَّ اقْتَادَنِي مِنْ أُذُنِي إِلَى مُؤَخِّرَةِ الصَّفِّ كَمَا يُقْتَادُ الْحِمَارُ إِلَى مَرْبَضِهِ دَاخِلَ الْإِسْطَبْلِ »
رَقَّتْ أُمِّي زَعِيمَةُ لِحَالِي فَطَوّقَتْ رَقَبَتِي بِذِرَاعَيْهَا الْمَدِيدَيْنِ وَ غَمَرَتنِي بِقُبُلاَتٍ عَذْبَةٍ ثُمَّ سَأَلَتْنِي فِي اخْتِصَار شَدِيدٍ :
- « هَلْ أَنْتَ يَتِيمٌ ؟ »
- « عُمُرِي عِنْدَ وَفَاةِ أَبي أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ فَحَسْبُ وَ عُمُرُ شَقِيقِي أَحْمَدُ أَرْبَعَةُ شُهُورٍ »
- « لاَ تَحْزَنْ وَ لاَ تَبْتَئِسْ فَاللهُ أَوْصَانَا أَنْ لا نَقْهَرَ الْيَتِيمَ »
- « مِنْ خِلاَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الضُّحَى أَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ »
- « هَلْ تَحْفِظُ عِدَّةَ سُوَرِ قَصِيرَةٍ مِنَ القُرْآنِ الْكَرِيمِ ؟ »
- « بَلَى وَ الْفَضْلُ فِي ذَلكَ يَعُودُ لِأُمِّي وَ لِمُؤَدِّبِ الْقَرْيَةِ »
- « يَا لَكَ مِنْ وَلَدٍ فَطِنٍ قَوِيِّ الْحَافظَةِ فَمِنَ الْغَدِ بِحَولِ اللهِ سَتَكُونُ فِي مُسْتَهَلِّ الصَّفِّ وَ سَتَشْرَبُ كَأْسَيْنِ
مِنَ الْحَلِيبِ »
- « جَازَاكِ اللهُ خَيْرًا .مَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ فَأَنَا بَعْدَ اسْتِشَارَةِ أمّي الْفَاضِلَةِ سَاُمَكِّنُكِ مِنْ نِصْفِ لِتْرٍ
لَبَنًا كُلَّ يَوْمٍ طِيلَةً شَهْرٍ كَامِلٍ بِمَا أَنِّكِ لاَ تَمْلِكِينَ مِعْزَاةً حَلُوبًا »
- « لاَ يَا وَلَدِي لِتَبِعْ أُمُّكَ مَا زَادَ عَنْ الْاسْتِهْلاَكِ الْعَائِلِيِّ مِنَ الحَلِيــــــبِ وَ تَنْتَفِعْ بِمَا يَدُرُّهُ مِنْ مَالِ فِي مُجَابَهَةِ الْبُؤْسِ وَ لَوْ بِمِقْدَارٍ ضَئِيلٍ »
- « نِعْمَ الرَّأْيُ يَا لكِ مِنْ حَكِيمَةٍ »
- « اِنْصَرِفْ إِلَى قِسْمِكَ مُسَابِقًا الرِّيحَ فَفَتْرَةُ الْاسْتِرَاحَةِ قَدْ نَفِدَتْ»
- « حَانَ الْوَقْتُ لِحِفْظِ القُرْآنِ فِي الْكُتَّابِ عَلَى يَدِ مُؤَدِّبِنَا الْجَلِيلِ »
2) هَا هُوَ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ الْفحل يَصُولُ وَ يَجُولُ فِي أَرْجَاءِ قَاعَةِ السَّنَةِ الأُولَى وَ هْوَ غَاضِبٌ يَضْرِبُ كَفَّا بِكَفٍّ مِنْ هَوْلِ الْخَبَرِ الَّذِي سَاقَتْهُ إِلَيْهِ أُمِّي زَعِيمَةُ فِي هَذَا الْيَومِ الْقَرِّ .
سَأَلَ الْأَطْفَالَ فِي غِلَظَةٍ وَ الحَنَقُ يُغَشِّي وَجْهَهُ الْمَسْمُومَ :
- « مَنْ اخْتَلَسَ طَعَامَ عَبْدَ الْفَتَّاحِ وَ الْتَهَمَهُ خَلْفَ مَطْبَخِ الْمَدْرَسَةِ دُونَ أَنْ يَكْتَشِفَ أَمْرَهُ أَحَدٌ »
نُكِّسَتِ الرُّؤُوسُ وَ خَيَّمَ عَلَى الْقَاعةِ صَمْتٌ رَهِيبٌ كَصَمْتِ الْقُبُورِ فَالْجَمِيعُ أَخْرَسُوا أَلْسِنَتَهُمْ وَ مَا نَبَسُوا بِبِنْتِ شَفَةٍ وَ لَوْ هَمْسًا خَوفًا مِنْ بَطْشِ هَذا المُعَلِّمِ فَعَصَاهُ مَسْعُودَةٌ الَّتِي فِي غِلْظِ الْإِصْبِعِ لاَ تَرْحَمُ أَحَدًا .
وَ مَا هِيَ إِلاَّ دَقَائقُ مَعْدُودَةٌ حَتَّى انتفخَتْ أَوْدَاجُ سَيِّدِي وَ اسْتَشَاطً غَضَبًا فَمَسَكَ مَسْعُودَةً بِيَدٍ مُرْتَعِشَةٍ وَ هَمَّ بِضَرْبِ أَتْرَابِي ضَرْبًا مُبَرَّحًا. عِنْدَئِذٍ غَمَزَنَا عَلِيُّ خِفْيَةً وَ نَطًقَ بِصَوْتٍ خَافِــــتٍ ، مُتَهَدِّجٍ يَغْلُبُ عَلَيْهِ الزُّورُ
وَ الْبُهْتَانُ :
- « مُصْطَفَى مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَقْرَانِهِ بِمُكْرِهِ وَ دَهَائِهِ»
- « هَلْ هُوَ مُحْتَالٌ»
- « بَلْ قُلْ شِرِّيرٌ مِنْ أَعْلَى طِرَازٍ يَا سَيِّدِي لَقْدْ لَمَحْتُهُ خَلْفَ الْمُرَكَّبِ الصِّحِيِّ يَلْتَهِمُ الكسكسى فِي شرَاهَــــةٍ وَ بَعْدَ الْفَراَغِ مِنَ الأَكْلِ أَلْقى " الكبطاسة "فَارِغَةً تَحْتَ صَنَوْبَرَةِ بَاسِقَةٍ فِي آخِرِ السّاحةِ »
- « يَا لَهُ مِنْ طِفْلٍ مَاكِرٍ لاَ يَسْلِمُ مِنْ أَذَاهُ أَحَدٌ لَكِنْ عَلَيَّ أَنْ أَتَأَكَّدَ مْنْ وَجَاهَةِ حَدِيثِكَ يا عَلِيّ »
خَاطَبَ المُعَلِّمُ صَدِيقِي مُصْطَفَى فِي لَهْجَةٍ قَاسِيَةٍ وَ هْوَ يُدِيرُ مَسْعُودَةَ فِي يَدِهِ كَمَا يُدِيرُ الصَّعِيدِيُونَ هِرَاوَاتِهِمْ أَثْنَاءَ رَقَصَاتِهِمْ الْبَهْلَوَانِيَّةِ فِي الأَعْرَاسِ :
« أَيُّهَا الْجَبَانُ كَيْفَ سَوَّلْتْ لَكَ نَفْسُكَ سَرِقَةَ غَدَاءِ صَدِيقِكَ ؟ أَلاَ تَعْلَمُ أَيُّهَا الثَّعْلَبُ الْمَاكِرُ أَنَّهُ بَقِيَ خَاوِيَ الْبَطْــنِ يَتَضَـــوَّرُ مِنَ الْجُوعِ ؟ »
لَمْ يُحَرِّكْ مُصْطَفَى سَاكِنَا و لَمْ يَصْدَعْ بالحَقِّ . لَقًدْ وَدَّ أنْ يَنْطِقَ بِالْحَقِيقَةِ جِهَرًا وَ عَلاَنِيَةً إِلاَّ أَنَّ الذُّعْرَ أَلْجَمً لِسَانًهُ
وَ هَزَمَ حَرَكَتَهُ و جَمَّدَ الدُّمُوعَ فِي مُقْلَتَيْهِ الذَّابِلَتَيْنِ . يَا لَهُ مِنْ مِسْكِينٍ ! مَا هَذَا الذُّلُّ ... مَا هَذَا الانْكِمَاشُ ... ما هَذَا الاِنْهِزَامُ ؟ لاَ تُفَوِّتْ الْفُرْصَةَ . لاَ تَكْتُمْ الحَقِيقَةَ فِي صَدْرِكَ وَ قُلْ بِصَوْتٍ مُجَلْجِلٍ أَنَّكَ بَرِيءٌ وَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ
الْجَانِي وَ مَا قَالهُ هُوَ مُجَرَّدُ افْتِرَاءٍ مَحْضٍ لاَ أَسَاسَ لَهُ مِنَ الصّحَّةِ.
فِي الْحِينِ أَوْصَدَ الْمُعَلِّمُ بَابَ الْقِسْمِ وَ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدَيْهِ وَرَقَصَ مَسْعُودَةَ بَيْنَ أَنَامِلهِ الْغَلِيظَةِ وَ انْهَال
ضَرْبًا مُبَرَّحًا عَلَى قَدَمَيْ مُصْطَفَى الْبَضَّتَيْنِ ، النَّاعِمَتَيْنِ حَتَّى أَدْمَاهُمَا ثُمَّ أَمَرَهُ فِي قَسْوَةٍ أَنْ يُقَضِّيَ الْحِصَّةً الْمَسَائِيَّةَ بَعِيدًا عَنْ وَجْهِهِ فِي آخِرِ الْقِسْمِ وَاقِفًا قُبَالَةَ الْجِدَارِ عَلَى سَاقٍ وَاحِدَةٍ وَ يَدَاهُ مَرْفُوعَتَانِ .
أَطْلَقَ مُصْطَفَى الْعِنَانَ لِحُنْجُرَتِهِ بِالعَوِيلِ . يَا لَيْتَ هَذَا الْمِسْكِينَ لمْ يُضْرَبْ و لَمْ يُسْجَنْ إِلاَّ بَعْدَ التَّحَرِّي مِنْ أَقْوَالِ عَلِيٍّ . يَا لَيْتَهُ لَمْ يَكْبُتْ فِي صَدْرٍهِ الحِقْدَ و الضَّغِينَةَ تُجَاهَ مُعَلِّمِهِ الظَّالِمِ ، المُسْتَبِدِّ وَ رَفِيقِهِ الْكَذَّابِ.
3) كَانَ طَرِيقُ الْعَوْدَةِ هَذَا الْعَشِيَّ عَلَى غَيْرِ الْمَأْلُوفِ مَحْفُوفًا بِالْمَخَاطِرِ فَهَا هُوَ مُصْطَفَى ذَاكَ الطِّفْلُ
الْمَاكِرُ يَقْتَفِي أَثَرِي . وَ فِي مَكَانٍ مُقْفَرٍ خَالٍ مِنَ السَّابِلَةِ رَشَقَنِي بِوَابِلِ مِنَ الحِجَارَة وَ مِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ لَمْ أُصَبْ بِسُوءِ إِذْ أَنَّ كُلُّ الرَّمْيَاتِ الصَّاروخِيَّةَ أَخْطَأَت المَرْمَى . حِينَئِذٍ اِقْتَرَبَ مِنِّي فِي حَذَرٍ وَ عَلَى حِينِ غِرَّة رَكَلَنِي رَكْلَةً قَاسِيَةً طَرَحَتْنِي أَرْضًا عَلَى الرِّمَالِ قُرْبَ حِجَارَةٍ مُسَنَّنَةٍ كَادَتْ تَشُجُّ رَاْسِي . دَافَعْتُ عَنْ نَفْسِي بِكُلِّ مَا أُوتِيتُ مِنْ جُهْدٍ فَأَنَا أَحَدُّ ذَكَاءً مِنْهُ وَ أَقْوَى مِنْهُ بُنْيَةً . لاَ يَصْعُبُ عَلَيَّ قَلْبُ المُعَادَلَةِ وَ التَّشَفِّي مِنْهُ فِي غَيْظٍ وَ جُنُونٍ وَ أَنَا أَهْدِرُ كَالْجَمَلِ الْهَائجِ فِي أَعْتَى أَيَّامِ الشِّتَاءِ .
رَفَسْتُهُ رَفْسًا شَدِيدًا وَ لَكَمْتُهُ لَكْمًا مُوجِعًا وَ عَفَّرْتُ وَجْهَهُ فِي الرِّمَالِ تَعْفِيرًا بَلِيغًا . وَ لَمَّا هَمَمْتُ بِخَمْشِ وَجْهِهِ بِأَظَافِرِي الْحَادَّةِ انْتِقَامًا وَ تَحْوِيلِهِ إِلَى خَرِيطَةٍ صَامِتَةٍ تَنْزِفُ حُدُودُهَا دَمًا قَانِيًا قَالً بِصَوْتٍ خَافِتٍ يَكْتَسِحُهُ الأَنِينُ :
- « أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ أَنْ تَشْفَقَ لِحَالِي فَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ أَتْرَابِكَ المُسَالِمِينَ . اعْلَمْ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ عَلَيًّا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ الْبَاغِيَةُ الْتِهَامَ طَعَامِكَ وَ الَّذِي زَادَ الطِّينَ بَلَّةً هُوَ ادِّعَاؤهُ ظُلْمًا أَنَّنِي لِصٌّ »
- « الْمَعْذِرَةُ يَا صَدِيقِي مُصْطَفَى عَنْ كُلِّ مَا صدَرَ مِنِّي مِنْ إِهَانَةٍ وَ إِذْلاَلٍ »
- « عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ يَا عَبْدَ الفَتّاحِ فَنَحْنُ بِدَايَةً مِنَ الآنَ خِلاَّنٌ أَوْفِيَاءُ نَمْزَحُ وَ نَمْرَحُ مَعَ بَعْضِنَا وَ نَتَآزَرُ فِي اليُسْرِ الْعُسْــــرِ »
-« مَعَ السَّلاَمَةِ يَا مُصْطَفَى عَلَيْنَا أَنْ نُعَجِّلْ فِي الْعَوْدَةِ إلى المَنْزِلِ فَشَمْسُ الأَصِيلِ تَوَّجَتْ سَعَفَ النَّخِيل بِأَكَالِيلَ ذَهَبِيَّــــــةٍ وَ جِبَالٌ مِنَ الْغَمَامِ مَا فَتِئَتْ تُغَشِّي السَّماءَ الزَّرْقَاءَ شَمَالاً مُنْذِرَةً بِنُزُولِ الْمَطَرِ »
نَفَضَ مُصْطَفَى التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَ قَالَ بِثَغْرٍ شِبْهِ بَاسِمٍ :
- « إِلَى اللِّقَاءِ أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْوَدُودُ فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى حُسْنِ استِثْمَارِ الْوَقْتِ فَكَمَا يُقَالُ الْوَقْتُ كَالسَّيْفِ إِنْ لَمْ تَقْطَعَهُ قَطَعَكَ »
عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ فِي الْيَومِ الْمُوَالِي حَيَّانِي المُدِيرُ تَحِيَّةً رَقِيقَةً و هْوَ يَبْتَسِمُ ابْتِسَامَةً وَضِيئَةً ثُمَّ حَثَّنِي
حَثًّا وَ هْوَ مُمْسِكٌ بِيَدِي لِاصْطِحَابِهِ إِلَى الْمَطْعَمِ الْمَدْرَسِيّ . وَ فَوْرَ وُصُولِنَا إِلَى رِوَاقٍ فَسِيحٍ مُسَقَّفٍ بِالْقِرْمِيدِ الأَحْمَرِ أَجْلَسَنِي حِذْوَ صَدِيقِي عَلِيٍّ عَلى مَقْعَدٍ خَشَبِيِّ مُمْتَدِّ يَتَصَدَّرُهُ خِوَانٌ طُولُهُ قُرَابَةَ أَرْبَعَةِ أَمْتَارٍ رَتَّبَتْ عَلَيْهِ أُمِّي زَعِيمَةُ فِي عِنَايَةٍ وَ ذَوْقٍ سَلِيمٍ صُحُونا وَ مَلاَعِق وَ دَوَارِق مَاءٍ وَ كُؤُوسا مِنَ الْبِلَّورِ .
قَال لِي السَّيِّدُ مُحَمّدُ الشَّابِي بِصَوْتٍ جَهُورٍ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ المُمَازَحَةِ وَ الاِنْشِرَاحِ :
- « مًنْ هُوَ الشَّاعِرُ التُونِسِيُّ الَّذِي جَادَتْ قَرِيحَتُهُ بِهَذَا الْبَيْتِ الشِّعْرِيِّ الْجَمِيلِ
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـــالِ
يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر»
- « هَذَا الْبَيْتُ الْأَنِيقُ مُقْتَطَفٌ مِنْ قَصِيدِ إِرَادَةِ لِلشَّاعِرِ لِأَبِي الْقَاسَمِ الشَّابِي أَصِيلِ مَدِينَةِ تُوزَرَ »
- « أَحْسَنْتَ ، أَحْسَنْتَ ... أَنْتَ يَا بُنَيَّ سَيَكُونُ لَكَ شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي الْفِكْرِ وَ الأَدَبِ يُبَشِّرُ بِكُلِّ خَيْرٍ . وَ مُنْذُ هَذَا اليَوْمِ سَتَتَنَاوَلُ الْغَدَاءَ مَجَانًا فِي الْمَطْعَمِ الْمَدْرَسِيِّ »
- « ارْتَحْتُ مِنَ "الكَبِطَاسَةِ " وَ مَشَاكِلِهَا الَّتِي شَيَّبَتْ لِي شَعْرِي مُنْذُ حَدَاثَةِ سِنِّي ههههه »
رَمَتْنِي أُمِّي زَعِيمَةُ بِنَظْرَةِ عَطْفٍ وَ سَلَّمَتْ لِي بُرْتُقَالةً كَبِيرَةَ الَحَجْمِ وَ صَحْنًا مُكَوَّمًا بِالْأَرُزِّ يَتَصَاعَدُ مِنْهُ بُخَارٌ
كَثِيفٌ وَ قَالَتْ لِي وَ عَلَى شَفَتَيْهَا ابْتِسَامَةُ أَزْهَارٍ :
- « كُلْ هَذَا الطَّعَامَ هَنِيئًا مَرِيئًا دُونَ أَنْ تُوَسِّخً مِنْدِيلِكَ الأَزْرَقِ لِأَنَّ الْمِنْضَدَةَ عَالِيَةٌ عَلَيْكَ بَعْضَ الشَّيْءِ »
- « شُكْرًا جَزِيلاً سَأَلْتَزِمُ بِآدَابِ الأَكْلِ عَمَلاً بِنَصَائِحِكِ وَ نَصَائِحِ أُمِّي »
وَ بَعْدَ سَاعَةٍ وَ جُزْءٍ مِنْ سَاعَةٍ استفاق عَبْدُ الْفَتّاحِ مِنْ أَحْلاَمِهِ السَّاحِرَةِ وَ هْوَ يَتَثَاءَبُ وَ يَبْحَثُ بِبَصَرٍ
مِنْ حَدِيدٍ عَنْ أولئك الّذين رَبَّوْهُ وَ وَاسَوْهُ فِي السَرّاءِ وَ الضَّرَّاء وَ أَطْعَمُوه لِوَجْهِ اللهِ . أَيْنَ هِي أُمِّي
زَعِيمَةُ ؟ أَيْنَ هُوَ المُدِيرُ ؟ أَيْنَ هُوَ مُعَلِّمِي ؟ كَمْ وَدَدْتُ تَقْبِيلَهُمْ بِحَرَارَةٍ فِي كَنَفِ التَّواضُعِ اِعْتِرَافًا بِجَمِيلِهِمْ
وَ فَضْلِهِمْ عَلَيَّ فَلَوْلاَهُمْ لَمْ أَكُنْ مُرَبِّيًا فَاضِلاً يُجِلُّنِي الصِّغَــــــــــــارُ وَ الكِبَارُ ! لَقَدْ رَحَلُوا جَمِيعًــــا إِلى عَالَمِ الْمـــَنُونِ الْمُتَنَائِـــي وَ احَتَجَبُوا عَنِّي إِلَى الأَبَـــــــدِ وَ بَقِيَتْ وُجُوهُهُمْ البَشُوشَةُ دّائِمَةَ الْاِبْتِسَامَةِ نُصْبَ عَيْنَيَّ لاَ تُفَارِقُ مُخَيَّلَتِي كُلَّمَا تَذَكَّرْتُمْ . أَبْتَهِلُ إِلَى اللهِ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أَنْ يَتَغَمَّدَهُمْ بِرَحْمَتِهِ الْوَاسِعَةِ وَ يُنَوٍّرَ مَرْقَدَهُمْ وَ يُعَطِّرَ مَشْهَدَهُمْ وَ يُسْكِنَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِهِ .أَمَّا أَقْرَانِي فَطُوبَى لِي وَ لَهُمْ لِأَنَّنَا سَنَتَلاَقَى بِمَشِيئَةِ اللهِ يوم 24 فيفري 2019 بِمُنَاسَبَةِ احْتِفَاليَةِ مُرُورِ ثَمَانِينَ سَنَة عَلى تَأْسِيسِ مَدْرَسَةِ غِيزِنَ . سَنُطْفِئُ نِيرَانَ الشَّوْقِ الَّتِي تَسْتَعِرُ فِي مُهَجِنَا وَ نَتَوَاصَلُ فِي ابْتِهَاجٍ مُتَفَكِّهِينَ ، مُتَنَدِّرِينَ ، مُتَجَاذِبِينَ أَطْرَافَ الْحَدِيثِ حَوْلَ الذِّكْرَيَاتِ بِأَدَقِّ تَجَلِّيَاتِهَا وَ تَفَاصِيلِهَا .
حِينَمَا أَتَمَّ عَبْدُ الْفَتَّاحِ تَأْلِيفَ أُقْصُوصَتِهِ « بابور أمّي زعيمة » أودع عَلَى عَجَلٍ مُذَكِّرَتَهُ فِي جَيْبِ كِسْوَتِهِ الزَّرْقَاءِ وَ انْصَرفَ إِلَى مَسْكَنِهِ الْمُتَوَاضِعِ مُطْمَئِنًّا ، نَاعِمَ الْبَالِ ، يَكَادُ يَطِيرُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ .
كَانَتِ الشَّمْسُ تَجُرُّ ضفائرها الأُرْجُوَانِيَّةَ وَ تَسْعَى إِلَى مَغْرِبِهَا رُوَيْدًا رُوَيْدَا فِي دَلاَلٍ وَ خُيَلاَءَ ثُمَّ تَخْتَفِي فِي مَضْجَعِهَا مُخَلِّفَةً وَرَاءَهَا لَوْحَةً زَيْتِيَّةً آيَةً فِي الْجَمَالِ وَ قِمَّةٌ فِي الرَّوْنَقِ .
تَشَكَّلَتْ هَذِهِ اللَّوْحَةُ مِنْ فُسَيْفُسَاءٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ سَجَتْ فِي وَقَارٍ وَ سَجَدَتْ لِخَالِقِهََا مُسَبِّحَةً دُونَ أَنْ أَفْقَهَ تَسْبِيحَهَا : شَفَقٌ أَحْمَــرٌ وَ بَدْرٌ فِضِّيٌّ وَ زَيَاتِينُ عَرِيقَةٌ وَ نَخِيلٌ بَاسِقٌ تَرَاقَصَ جَرِيدُهُ فِي خُيَلاَء لاَثِمًا ثَغْرَ سَماءٍ ضَحُوكٍ ، مُرَصَّعَةٍ بِنُجُومٍ سَاطِعَةٍ كَأَنَّهَا الدَّنَانِيرُ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...