ظافر الجبيري - البطارية.. قصة قصيرة

بعد أن توقّـفتْ ساعةُ الحائط المعلقة في المسجد ، تأمل المؤذن في حالها، شعر بافتقاد دوَران عقاربها المنتظمة ، فيما مضى ، يظلّ يرنو إليها كجزء من الحركة التي تدبُّ في المسجد مع كلّ صلاة ، لكنّه اليوم يفتقدها، ويفتقدُ سرًّا آخر لا يعلمه، لكنّه ينبعث من كل تفاصيلها.

رجلٌ صالح جعلها وقفًا ، وطوال السنتين المنصرمتين من عمرها المتحرّك، ظل المصلون يتأملون دورانها ويواصلون الصلاة قبل أن تصمت عقاربها، ويتصلّب بنْدولُها .

أحضر المؤذنُ، وهو الآخر رجلٌ يرغب في الأجر، بطاريةً جديدة ،اشتراها من جيبه الخاص، أنزل الآلةَ المستوردة بحذر، ؛أمكنه قراءة اسم البلد الذي صنعها وصدّرها لبلاد المسلمين !

نزع الأحجارَ الأربعةَ القديمة، و قبل أنْ يركّب الجديدة، فوجئ بصورة عارية لامرأة كاملة الجسم والتفاصيل ، كانت الأنثى في حالة رقص ماجن على اللوحة الخلفيّة للساعة ، ارتجّ عليه ،اندهش منه البصرُ أوّلًا ، بحْلق وتأكّد، حوقل واستعاذ بالله، صرف نظره ، ثم عاد محدقًا ، حاول نزعها فعجز إذْ كانت مثبّتة بعناية من شياطين الكفر الراغبين في الإفساد! .

أخفاها بقية اليوم في المستودع، ونظر المصلّون إلى مكانها الخالي ،تساءلوا بصمت ، وانصرفوا .

عندما فرغ أبو محمد من نافلته ، وغادر عموم المصلين، استشار الإمامَ، وعلى بُعد صفّين خاليين ، كان شخصٌ يوشكُ على الانتهاء من ركعتي السنّة ،قال الإمام كازًّا على حروفه :" نحطّمها ونستبدلها واللعنة على من صنعها" . لكن المؤذن قال بصوت بدا أقلَّ حدّة :" ننشر عنها خبرًا ،ونبلّغ الأوقاف، ونشهّر بالمستورِد والبلد المصنّع قاتلهم الله " .

اقترب الرجلُ منهما ، وهما في شأن يهم المسجد ، و لاسرّ في الأمر، فحديثُهما مسموع ، وقد وصلا إلى كيف التبليغ عن الساعات التي تشبهها في المساجد الأخرى، أما الساعةُ- القضيةُ فقد أحضرها منادي الصلاة ، ثم أبعداها عنهما قليلًا، لوجود مانع شرعي يوجب عدم تعليقها ثانية ، استأذنهما في النظر والحديث ، وقد خفّ غضب الإمام قليلًا بعد اللعن والدعاء !

سألهما بهدوء :

" أليست موجودةً منذ مدّة ولم تروها ؟" نظر الاثنان نحوه بحذر ،حدّقا في الرجل الذي لم يرياه من قبل، وكأنهما أفاقا من سَوْرة غضب ، لكنهما انتظراه ليكمل، فيما الإمام يمسّد لحيته الكاملة، ويحثّه ليواصل :

- "نقوم بدهن الصورة بطلاء أو مزيل ونعلّقها من جديد !"

واصلا النظر إلى وجهٍ رجل ذي لحية خفيفة ، بين الذهول والاستحسان، لكنْ لم يصرّحا له بصواب رأيه .. انبرى المؤذن ليحضر شيئًا من سكنه القريب ، ولدى عودته ،أنجز الأمر سريعًا ، ثم بابتسامة خفيفة :"وهذه البطارية الجديدة سأركّبها بعد إذنك يا شيخ وجزاكم الله خير !" ظلّ الإمام يسبّح بهمس، ويُجري التفكير بعيدًا ، وبغيظ صامت :

كيف لم نهتدِ لهذا الحلّ! وحمدَ الله أنّ الرجل عابرٌ، وقد لا يأتي ثانية إلى هنا !

دارت الساعة الحائطية من جديد ،وارتفعت إلى مكانها ، وأرسل المصلون النظراتِ إلى أعلى معجبين من سرعة القائمين على المسجد في تشغيل آلة الوقت بعد توقّف قصير .

وبين وقت وآخر، قبل إقامة الصلاة ، وحتى حين توالِي خروج ِالمصلين ، تلتقي نظراتُ الاثنين مختلسَيْن النظر إلى بندول متراقص، تختبئ وراءه صورةُ امرأةٍ عاريةٍ طُمست ، لكنها لم تُمْحَ من خيال يتسلّق إلى سرّها كلّما غفلت العيون!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...