محمد أمنصـور - غبـش لحكايات المحـار


موسم الهتك والعبور. وقت لجنازة البحر. يتحول الماء إلى تابوت أزرق. ترحل القوارب، فلا ترجع إلا بقايا أخشاب طافية. يهدر الموج. يتمدد الزبد كفنا أبيض.. رغوا لتخثر الشروخ في القبر الكبير. يلهث غبش الصبح. تتـفجع النوارس. يرحل الصيادون وتحلق الغربان...

الهواري عاشق الماء والمرح. يركب الموج، لا يخيفه ارتطام مركبه بالصخور، ولا الموت غرقا. ككل الصيادين، ينتظر يوما يترنم هدير الموج بأصداء مكنونه. قال له الفقيه:

- " عائشة البحرية زوجتك نفسها، فاعشق البياض، ومت في الزرقة!

ستحميك، إلا من محار البحر وأعشابه "

منذ ذلك اليوم، والصيادون ينادونه سيد الهواري؛ وهو لا يخفي غبطته بمكانته عند عايشة دون الصيادين.

"ليس بالأمر السهل أن تتخذ منك عائشة البحرية بعلا لها دون سائر الرجال...

واللي يعاشر ملايكة البحر، ما يخطاهش الخير"

كذلك قال الفقيه علي .

موسم العبور، أيام للنهش والشتيمة. يطل الفراغ من محاجر الجماجم؛ تتناثر العظام على رمل الرماد. تشيِّعُ النوارس جنازة الماء. أشباح مراكب تتراقص عند الأفق.

على رنين الجنون، يحكي أبا عزوز :

- "... أنا شيخ طاعن في السن. أبدو معروقا، وعلى وجهي رسم البحر قروحا وندوبا وتجاعيد. عركت الأمواج منذ صباي... وحدي أتوغل إلى ما وراء السراب المنظور... الواحد منهم لا يركب القارب إلا وقد اشتراه أو اكتراه... ما أنا ، فمن أحشاء الغابة أستخرجه. أقطع شجرة الحور، أجففها، أنحتها، أكشطها وأحفر… لا حنكة لصياد يأمن الإبحار على ظهر قارب لم يصنعه بيديه... هكذا تعودت رؤية الأمور. أما الذي لا يخرج متوحداإلى البحر، فليس رجلا… مَن مِن هؤلاء يقدر على التوغل بمفرده وتجاوز الأفق المنظور ؟ كلهم نعاج!.. من منهم اصطاد يوما سمكة؟ من منهم اصطاد يوما سمكة كتلك التي عدت بها ذات مساء (… ) كانت ضخمة وشرسة. قاومت، فكادت تغرق مركبي. ولكن، بجهد الله، أو صلتها إلى الشاطئ. كادت فرحتي تكتمل، لولا أنني لم أخرج من الماء سوى هيكلها العظمي.. أتذكر هذا بحسرة، ويزيد حزني، وجع كلام ذلك الولد من دراري السكويلة. فبلا حشما بلا حيا، قال لي :

- " انقص افيخرات أبا عزوز … راه مول هاد الحكاية، هو هوموجواي " .

ولما قلت له :

- " أنا لا أعرف ( هوموجواي) … أشكون هو هاد الرجل ؟ قال لي :

- "واحد النصراني ديال الكتبة!

- "اسمع الهدرا ايوا انتاع آخر الزمان... المسلمين يكولو كلام النصارى ؟ .

- آشمن قرايا هادي اللي تكوليك عزوز سرق الهدرا من النصارى ؟ . وشنو ؟ حكاية . آه . آه . آه … هو موجواي؟!

موسم الهتك والعبور. وقت لجنازة البحر. يتحول الماء إلى تابوت أزرق. ترحل القوارب، فلا ترجع إلا بقايا أخشاب طافية. يهدر الموج. يتمدد الزبد كفنا أبيض. رغوا لتخثر الشروخ في القبر الكبير. يلهث غبش الصبح. تتفجع النوارس. يرحل الصيادون وتحلق الغربان…

حكاية بوعزة حكاية حزينة. روايتها تحرك الشجون. كعادته خرج إلى البحر، ليعول أهله، فطرق العديان باب داره في غيبته. حينة حينة بوعزة، حينة ما عندو رزة .

تركب البحر ما خرا عبابه، والصيادون يركبون زوجتك. حينة حينة بوعزة، حينة ما عندو رزة. لا حوت في البحر إلا الماء الراكد. ووجهك عهره الغياب. ترجع إلى البيت. يتطاير القش على الصلعة. حينة حينة بوعزة. حينة ما عندو رزة .

- " من بالبيت ؟ " .

هو الدم يمحو العار. تقتل زوجتك. تهدي جثتها للبحر، وتحكم دورة الرزة على الصلعة .

العيون ترقب صدر ابنتك يا بوعزة. تتنامى النزوات مكتنزة بين فخذي عائشة الطافحين.

يا بوعزة! ابحر ليلا، وفي الصباح ارجع من رحلتك البحرية (...) لتجد .. تفتح الباب. هو القش فوق الصلعة. ها سيد الهواري الغدار يركب عائشة. تعق يا بوعزة. تصرخ:

- "مسفوك دمك يا غدار!!!"

الهواري مذعورا":

"الفقيه الذي قال يا عمي بوعزة... الفقيه الذي قال..؟"

موسم العبور، أيام للنهش والشتيمة. يطل الفراغ من محاجر الجماجم. تتناثر العظام على رمل الرماد. تشيع النوارس جنازة الماء. الأفق أشباح مراكب تتراقص على رنين الجنون، والجثث امتصاص لدم الوقت. ألياف ملفوظة، يوجعها الابتلاع. ألياف ملفوظة يوجعها الابتلاع ( …) .?

1986

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...