ظننته مصريًّا من لهجته طول المدّة التي قضّيناها سويًّا كمدرسين بثانويّة تأهيلية بمدينة جنوبيّة من بلادي حتّى قال لي يومًا:
“أنا لست مصريًّا كما ظننتني يا صديقي، أنا من أب فلسطيني من “كفر الزّيّات” ومن أمّ مصريّة من “دمنهور”. عمل أبي في شبابه صائغًا بورشة أمين الصّاغة. أحبّ ابنته الكبرى. خطبها منه، فزوّجه منها بصداق لم يتعدّ وقتئذ خمسة جنيهات. جئت أنا إلى الوجود بعد سنة كثمرة حبّ أسطوريّ بين أبي وأمّي. وجاءت أختي بعد سنتين. مات جدّي بعد ثلاث سنوات، فلم يبق لنا مقام بعده ب”دمنهور” وبكلّ “مصر” حين باع أخوالي الورشة. عاد بنا أبي إلى “فلسطين”. لم تعترض أمّي عَلَى تلك العودة. قالت لوالدي: “أتبعك إلى آخر نقطة في هذا العالم”. أمّي مصريّة أصيلة…
اشترى والدي بالمال الذي حوّشه أرضًا زراعية مواتًا من خمسين “دُونَمًا” شمال “كفر الزّيّات”. أحياها وغرسها زيتونًا. أعطت غلّتها بعد سنوات قليلة. فرح والدي وفرحنا نحن لفرحه بالخير الّذي فاض علينا من مزرعتنا الغنّاء… أصبح الزّيتون الطّبق الأساس على مائدتنا. نأكله بأطباق متنوّعة. تفنّنت أمّي في إعدادها حتّى ملكت بها أفواهنا.
راكم والدي مالًا من بيعه للزّيتون الجيّد. اشترى معصرة زيتون صغيرة وعربة جرّ وحصانًا سمّاه “العائد”. أحببنا الحصان حتّى صار فردًا من أسرتنا الصّغيرة.
يجلس والدي دومًا في صدر المجلس على مخدّة صوفيّة، فيبدو مجلسه أعلى من أماكننا. ينظر إلينا من فوق بتودّد وينظر إلى أمّي بتودّد وتحنّن أكثر. لا يمكن لنا نحن الصّغار الثّرثرة أو التّشاجر في حضرته. رأيتُ في والدي كلّ أبطال العالم الأحياء منهم والأموات. رأيتُ فيه كلّ الحكماء رغم كونه لم يكن متعلّمًا تعلّمًا عاليًا. قال لنا يوما إنّه تعلّم في خيمة… كنتُ أشاهده يقرأ الجرائد وبعض الكتب ذات الأغلفة الحمراء… كان صموتًا كتومًا في تأمّل دائم. عشق الأرض حين تحوّل من صائغ إلى مزارع… قالت لي أمّي إنّه شمّمني يوم مولدي تربة جاء بها من “فلسطين” كان يحتفظ بها في صرّة. لمّا سألته عن السّبب، ردّ عليها: “كي تعلق رائحة أرض أجداده بخياشيمه”.
عشنا في سعادة رغم ظروف الاحتلال الصّهيوني لأرضنا حتّى اليوم الذي ظهرت “مبروكة” في حياة أسرتنا. سرقت “مبروكة” قلب والدي واختطفته منّا. نراه يقوم مسرعًا من مكانه المتميّز المقدّس مع آخر لقمة ويخرج مهرولًا لملاقاة “مبروكة” وعناقها. شاهدته يومًا في غفلة منه يضمّها إلى صدره العريض ويقبّلها قبلة حارّة على خدّها كما كان يضمّ أمّي ويقبّل خدّيها المُضرّجين بالحمرة كأنّها خارجة من حمّام شعبيّ… سبحان من أبرأ أمّي! كانت وثيقة التّركيب ضليعة. أجمل النّساء خلقة وأبدعهن صورة وأكرمهن طينة، بمناقب جميلة وشمائل حلوة.
لم نكن نكره “مبروكة”. لم تكن أمّي تكرهها، بل كانت تخاف على والدي منها. صرخت فيه حين رأته يدخل المنزل حاملًا “مبروكة” جريحة على ظهره:
“مَا تِلْكَ على ظهرك يا رجل؟”.
ردّ عليها بصوت خافت:
“هي “مبروكة” يا امرأة، ألا تعرفين “مبروكة”؟”.
همهمت:
“أنا مصريّة لا أعرف “مبروكة” يا رجل”.
مع توالي الأيّام سمعتها تقول له متأسّفة:
“تالله لقد آثرت “مبروكة” علينا”.
لم أفهم قسمها حينئذ حتّى كبرت.
في فجر يوم لن أنساه أبدًا، خرج والدي إلى المزرعة لملاقاة “مبروكة” التي برئت من جرحها. خرج وأبطأ في العودة. انتظرناه وقت الزّوال ولم يعد. انتظرناه وقت العصر ولم يعد. انتظرناه بين العشاءين ولم يعد. كانت أمّي تعرف لماذا لم يعد والدي طول ذلك اليوم. لم تذكر لنا السّبب كي لا نحزن كما حزنت هي. أمرتنا بالذّهاب إلى سريرينا. أطفأت النّور وأغلقت الباب علينا. لم أنم أنا الابن البكر. بقيتُ مستيقظًا أراقب عودة والدي في شوق. عاد مع الهزيع الأخير من اللّيل رفقة “مبروكة”. سمعته يلهث لهاث حيوان مطارد ويوشوش لأمّي كي لا يوقظنا. تسلّلتُ من حجرة نومنا وراقبتُ والدي. رأيته يرتمي على السّرير بثياب العمل جنب “مبروكة”. نامت “مبروكة” في مكان أمّي من السّرير! لم تقل أمّي شيئًا. دخلت حجرتنا ونامت أرضًا بين سريرينا. سمعتها تتنهّد طول اللّيل. بل سمعتها تبكي وتهمهم بأدعية.
وقفت سيّارة عسكريّة مجنونة قرب منزلنا في فجر يوم أرّخت به بداية نهاية أسرتنا المحبوبة. ترجّل من السّيّارة خمسة جنود صهاينة مدجّجين بالرّشاشات. اقتحموا منزلنا بعد أن كسّروا بابه الخشبيّ بركلات من أحذيتهم العسكريّة. روّعونا. لو كان والدي موجودًا بالمنزل لما اقتحموه علينا ولَمَ روّعونا. أمرهم قائدهم الأبلق بصوت أجشّ بتفتيش المنزل شبرًا شبرًا. منعتهم أمّي من دخول غرفة نومها؛ لأنّ “مبروكة” كانت نائمة على السّرير متدثّرة بغطاء صوفيّ أبيض. لا يظهر من جسدها شيء. أبعد الجنود أمّي عن باب الغرفة. قاومت كلبؤة. ضربوها وجرجروها بعيدًا وحطّموا الباب واقتحموا الغرفة. سمعناهم يقهقهون حين وجدوا “مبروكة” ممدّدة على السّرير وفي بطنها خزّان من أربع وثلاثين رصاصة.
sadazakera.wordpress.com
“أنا لست مصريًّا كما ظننتني يا صديقي، أنا من أب فلسطيني من “كفر الزّيّات” ومن أمّ مصريّة من “دمنهور”. عمل أبي في شبابه صائغًا بورشة أمين الصّاغة. أحبّ ابنته الكبرى. خطبها منه، فزوّجه منها بصداق لم يتعدّ وقتئذ خمسة جنيهات. جئت أنا إلى الوجود بعد سنة كثمرة حبّ أسطوريّ بين أبي وأمّي. وجاءت أختي بعد سنتين. مات جدّي بعد ثلاث سنوات، فلم يبق لنا مقام بعده ب”دمنهور” وبكلّ “مصر” حين باع أخوالي الورشة. عاد بنا أبي إلى “فلسطين”. لم تعترض أمّي عَلَى تلك العودة. قالت لوالدي: “أتبعك إلى آخر نقطة في هذا العالم”. أمّي مصريّة أصيلة…
اشترى والدي بالمال الذي حوّشه أرضًا زراعية مواتًا من خمسين “دُونَمًا” شمال “كفر الزّيّات”. أحياها وغرسها زيتونًا. أعطت غلّتها بعد سنوات قليلة. فرح والدي وفرحنا نحن لفرحه بالخير الّذي فاض علينا من مزرعتنا الغنّاء… أصبح الزّيتون الطّبق الأساس على مائدتنا. نأكله بأطباق متنوّعة. تفنّنت أمّي في إعدادها حتّى ملكت بها أفواهنا.
راكم والدي مالًا من بيعه للزّيتون الجيّد. اشترى معصرة زيتون صغيرة وعربة جرّ وحصانًا سمّاه “العائد”. أحببنا الحصان حتّى صار فردًا من أسرتنا الصّغيرة.
يجلس والدي دومًا في صدر المجلس على مخدّة صوفيّة، فيبدو مجلسه أعلى من أماكننا. ينظر إلينا من فوق بتودّد وينظر إلى أمّي بتودّد وتحنّن أكثر. لا يمكن لنا نحن الصّغار الثّرثرة أو التّشاجر في حضرته. رأيتُ في والدي كلّ أبطال العالم الأحياء منهم والأموات. رأيتُ فيه كلّ الحكماء رغم كونه لم يكن متعلّمًا تعلّمًا عاليًا. قال لنا يوما إنّه تعلّم في خيمة… كنتُ أشاهده يقرأ الجرائد وبعض الكتب ذات الأغلفة الحمراء… كان صموتًا كتومًا في تأمّل دائم. عشق الأرض حين تحوّل من صائغ إلى مزارع… قالت لي أمّي إنّه شمّمني يوم مولدي تربة جاء بها من “فلسطين” كان يحتفظ بها في صرّة. لمّا سألته عن السّبب، ردّ عليها: “كي تعلق رائحة أرض أجداده بخياشيمه”.
عشنا في سعادة رغم ظروف الاحتلال الصّهيوني لأرضنا حتّى اليوم الذي ظهرت “مبروكة” في حياة أسرتنا. سرقت “مبروكة” قلب والدي واختطفته منّا. نراه يقوم مسرعًا من مكانه المتميّز المقدّس مع آخر لقمة ويخرج مهرولًا لملاقاة “مبروكة” وعناقها. شاهدته يومًا في غفلة منه يضمّها إلى صدره العريض ويقبّلها قبلة حارّة على خدّها كما كان يضمّ أمّي ويقبّل خدّيها المُضرّجين بالحمرة كأنّها خارجة من حمّام شعبيّ… سبحان من أبرأ أمّي! كانت وثيقة التّركيب ضليعة. أجمل النّساء خلقة وأبدعهن صورة وأكرمهن طينة، بمناقب جميلة وشمائل حلوة.
لم نكن نكره “مبروكة”. لم تكن أمّي تكرهها، بل كانت تخاف على والدي منها. صرخت فيه حين رأته يدخل المنزل حاملًا “مبروكة” جريحة على ظهره:
“مَا تِلْكَ على ظهرك يا رجل؟”.
ردّ عليها بصوت خافت:
“هي “مبروكة” يا امرأة، ألا تعرفين “مبروكة”؟”.
همهمت:
“أنا مصريّة لا أعرف “مبروكة” يا رجل”.
مع توالي الأيّام سمعتها تقول له متأسّفة:
“تالله لقد آثرت “مبروكة” علينا”.
لم أفهم قسمها حينئذ حتّى كبرت.
في فجر يوم لن أنساه أبدًا، خرج والدي إلى المزرعة لملاقاة “مبروكة” التي برئت من جرحها. خرج وأبطأ في العودة. انتظرناه وقت الزّوال ولم يعد. انتظرناه وقت العصر ولم يعد. انتظرناه بين العشاءين ولم يعد. كانت أمّي تعرف لماذا لم يعد والدي طول ذلك اليوم. لم تذكر لنا السّبب كي لا نحزن كما حزنت هي. أمرتنا بالذّهاب إلى سريرينا. أطفأت النّور وأغلقت الباب علينا. لم أنم أنا الابن البكر. بقيتُ مستيقظًا أراقب عودة والدي في شوق. عاد مع الهزيع الأخير من اللّيل رفقة “مبروكة”. سمعته يلهث لهاث حيوان مطارد ويوشوش لأمّي كي لا يوقظنا. تسلّلتُ من حجرة نومنا وراقبتُ والدي. رأيته يرتمي على السّرير بثياب العمل جنب “مبروكة”. نامت “مبروكة” في مكان أمّي من السّرير! لم تقل أمّي شيئًا. دخلت حجرتنا ونامت أرضًا بين سريرينا. سمعتها تتنهّد طول اللّيل. بل سمعتها تبكي وتهمهم بأدعية.
وقفت سيّارة عسكريّة مجنونة قرب منزلنا في فجر يوم أرّخت به بداية نهاية أسرتنا المحبوبة. ترجّل من السّيّارة خمسة جنود صهاينة مدجّجين بالرّشاشات. اقتحموا منزلنا بعد أن كسّروا بابه الخشبيّ بركلات من أحذيتهم العسكريّة. روّعونا. لو كان والدي موجودًا بالمنزل لما اقتحموه علينا ولَمَ روّعونا. أمرهم قائدهم الأبلق بصوت أجشّ بتفتيش المنزل شبرًا شبرًا. منعتهم أمّي من دخول غرفة نومها؛ لأنّ “مبروكة” كانت نائمة على السّرير متدثّرة بغطاء صوفيّ أبيض. لا يظهر من جسدها شيء. أبعد الجنود أمّي عن باب الغرفة. قاومت كلبؤة. ضربوها وجرجروها بعيدًا وحطّموا الباب واقتحموا الغرفة. سمعناهم يقهقهون حين وجدوا “مبروكة” ممدّدة على السّرير وفي بطنها خزّان من أربع وثلاثين رصاصة.
مبروكة..قصة:محمد امباركي
ظننته مصريًّا من لهجته طول المدّة التي قضّيناها سويًّا كمدرسين بثانويّة تأهيلية بمدينة جنوبيّة من بلادي حتّى قال لي يومًا: “أنا لست مصريًّا كما ظننتني يا صديقي، أنا من أب فلسطيني من “كف…