حيدر الكعبي - أحلامُ الجنديِّ القتيل.. شعر

مات الجندي
ماتت عيناه وتخَثَّرَ فيهما الضوء
وماتت شفتاه وتوقفتا عن الدعاء
وماتت يداه وتخلتا عن صور أطفاله
وامتدتْ قنطرة جسدِه
بين خوذتِهِ وجزمتيه
وشَرَعَ الدودُ يتسلقه
والغبارُ يلوّن أهدابه
وكفَّ حَسَكُ لحيتِهِ عن النمو
لكنَّ مرآة حلاقته
مازالت تلتقط الشعاع
كبحيرةٍ بحَجْمِ الدِّرهم
وَسَطَ أَبَدٍ من اللامبالاة
وحملت الريح عطر دمه
فجاء الليل ووخزه بعصاه المدبَّبة
ففتح الجنديُّ القتيل عينيه
ورأى معسكر السماء يتهيَّأ للمعركة
والنجوم فوهات بنادق ساخنة
والظلامَ يتكوَّر في أحشاء خوذته
ثم سمع الرعود تتشاجر
ورأى الأمطار تهطل مثل إنزالٍ مظلي
فنطَّ قلبُه إلى الماء كضفدعة مرعوبة.

وأخيراً أقبل الصباح بجناحيه الأبيضين
فهزه من كتفيه
وأخذت الشمس تزرِّر أكمامَه
وطيورُ الطيطوى تنقر الصلواتِ التي تَخْرُج من فمه
وأصابعُه تبحث عن القرص المعدني الذي يحمل اسمه
وخَطَفَتْ ظلالُ جنودٍ مسرعين
فلَمَسَتْ حواشيَ جسدِه
مثل أرديةٍ كهنوتية
سمع نكاتِهم تَتساقط كالتمر اليابس
وحدَّقت عيناه في أصابعه الشبيهة بالأشواك
وهي تحاول أن تستوقفَهُم.

وحين انحدرتْ عربةُ الظهيرة بأجراسها الصفراء
رَشَقَتْهُ آلافُ الدبابيس
فشَعَرَ بثِقَلٍ في أجفانه
ورأى في المنام سُلَّماً من أشعة الشمس
يخترق السماء كنصلٍ فضِّيّ
ورتلاً طويلاً من الجنود
يرتقون درجاته
برؤوس مثقوبة وخطواتٍ مُوَقَّعة
محفوفين بطيور الطيطوى
فقال الجندي القتيل لنفسه
ما أطولَ الطريقَ إلى البيت!
وليس ثمة من شاحنة
أو سيارة إسعاف
ومازالت الحرب ممتدة
بين مسقط الخرطوشة ومسقط الرصاصة
ومازالت القذائف تحفر أنفاقاً
بين نقطة انطلاقها ومحطتها النهائية
حاملة هداياها المشؤومة إلى الأعداء
رغم غيوم البعوض
ومداد المطر
ووحل الظنون.

وهكذا واصَلَ الموت
فرأى ناراً تضيء الأعداء
وهم يأكلون مع الأصدقاء
فقال الجندي القتيل لنفسه
ما لهم يغادرون الخنادق مثل قيامةٍ مفاجئة؟
وبدلَ الشتائم يتبادلون الضباب؟
ما لعيونِهم تشبه حراشفَ السمك؟
ما للنار مستيقظة تحت بيرية الليل؟
وما الذي حوَّل النخيل إلى مداخن؟
ما للشاحنات تطلق الزفرات وهي ترتقي السفوح الزلقة؟
وأين ذَهَبَ الهواء الموبوء بالإشاعات والهوام؟
أين ذهبت الطوابير ذات الخطى المدويّة السائرة فوق مسطرة الفجر؟
أين جحافل البيانات؟ أين أنهار الصهيل؟
أين أفواج القوافي المطهَّمة التي اكتسحت الأعداء وهزَمَتْهم؟
وماذا حلَّ بالأدعية المرفرفة في سماء الخوف؟
أين الدمامل المتبخترة ذات النياشين والأشرطة والشوارب المُمْتَشَقة من أغمادها؟
أين العربات المدلَّاة من رقبة الجبل؟
أين الزمزميات-المباول؟ أين العلب-القَصَعات؟ أين الوسائد-الخوذات؟
أين الدبابات المُسَمَّنة في حظيرة المجد؟

لكنه فوجىء بفصيلِ إعدام يضرم النار في أهرام من الملابس العسكرية
ثم يَنْخسها بالحديد فتتقافز حِمْلانٌ مشوية
كشظايا من ثغاءٍ ودخان.

ومازال القتلى في انتظار الرب
كي يشق بصولجانه
نفقاً من الضياء
ليمر موكبهم المُجَلْجِل
بقرقعة تجهيزاتهم، وبساطيلهم المطيَّنة
إلى حدائق السماء
جيشاً عرمرماً من الجثث المترنحة
فقال الجندي القتيل لنفسه
إذنْ لأنتظرْ قطعةَ اللُبَان الهائلة
التي سينفخها الله في الفضاء
ويضيؤها بألوان الطيف
وهي تحمل رقمي العسكري
وكنيتي وإضبارة ميتاتي القديمة
ولأواصلِ الموت وفياً لشرف الجندية
كالماء المراق في الزمزميات المثقَّبة.

مات الجندي
ماتت عيناه، وماتت شفتاه، وماتت يداه
ولكن أمازالَ الزلزال الذي تحته مؤجلاً؟
وهل سيدوم موته طويلاً؟
هل سيتبخر الماء من الدمع
مخلفاً الملح وحده؟
هل سيتدفأ المقرورون بلهاثهم قرب جثته
فيما تحلق عيناه في حوصلة الطير
وتتأملان الشمس وهي تتدحرج
ككرة الثلج على بساط الرمل؟
أم تراه سيموت ميتاتٍ عديدةً أخرى
قبل أن يستيقظ في النهاية
على بوق التعداد الصباحي؟


1995 سياتل/ 2016 ممفيس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...