أمبرتو إيكو - كيف نستعيد نعمة الصمت؟

مع أنّ الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانْط لم يتميّز بحسّ موسيقيّ عالٍ، فإنه غالباً ما يُستشهد بآرائه في هذا الموضوع. اعتقد كانْط أنّه إذا كانت قيمة العمل الفنيّ تكمن وراء قدرته على تغذية الفكر البشري، فيتعيّن أن تحتل الموسيقى التي بالكاد تلامس المشاعر، المكانة الأخيرة في تراتبيّة الفنون الجميلة. وكتب كانْط في كتاب "نقد الحكم"، الذي صدر عام 1790: "تتحوّل الموسيقى من مشاعر إلى أفكار غير محدودة. أما الفنّ التشكيليّ (المرئي)، فيتحوّل من أفكار محدودة إلى مشاعر. وفي حين يعطي الفن التشكيليّ انطباعاً يدوم في الزمن، تولّد الموسيقى انطباعاً عابراً، ليس إلا".
هذه أفكار قابلة للنقاش. لكن كانْط أضاف قائلاً: "إلى جانب ذلك، تفتقر الموسيقى إلى الكياسة بعض الشيء. ولسبب يعود بصورة رئيسيّة إلى طبيعة أدواتها، فالموسيقى تنتشر في كل الاتجاهات إلى حدّ مُفرط (عبر الجوار)، وتصبح بالتالي دخيلةً بطريقة أو بأخرى، وتحرم الآخرين الموجودين خارج الحلقة الموسيقيّة من حريّتهم. أما الفنون التي تراها العين، فلا تتحكّم بنا بهذا الشكل. وإذا لم يرد المرء التأثر بالانطباعات التي تتركها هذه الفنون، يمكنه ببساطة تحويل نظره إلى مكان آخر. والأمر عينه ينطبق تقريباً على تجربة الاستمتاع بعطر ينتشر عبيره إلى أبعد الآفاق. فالرجل الذي يخرج منديله المعطّر من جيبه "يمتّع" جميع الموجودين حوله رغماً عنهم، ويجبرهم على المشاركة في هذه التجربة الممتعة إذا كانوا يريدون الاستمرار في التنفّس. وعليه، تمّ التخلّي عن هذه العادة مع الوقت".


لم أكن لأوافق على هذا الرأي في الماضي، لكنّي غيّرت رأيي مؤخراً. فتجريد الموسيقى من جماليّتها لأنها تزعج الجوار هو أشبه بتجريد عرض من عروض أوبرا "عايدة" لفردي في الهواء الطلق من قيمته الفنيّة لمجرّد أن الذين يسكنون في الجوار سيُرغمون على الاستماع إلى الأوبرا إن شاءوا أم أبوا. وعلى صعيد آخر، أعيش في منطقة في ميلانو، حيث يشتمل كلّ من مهرجان عام على حفلة خاصة بموسيقى الروك تستمر حتى ساعات الفجر الأولى. ولهذا السبب، بدأت أعتقد أنّ كانْط لم يكن مخطئاً تماماً بطرحه.
غالباً ما أقدم على قراءة المطبوعات بعد مرور زمن طويل على دخولها إلى السوق، ولا يسع المرء ببساطة قراءة مجمل المراجع المطبوعة فور صدورها. (على سبيل المثال، قرأت ملحمة "الإلياذة" للشاعر هوميروس بعد مرور نحو ثلاثة آلاف سنة على صدورها). وبالتالي، مرّت بضعة أشهر قبل أن أقع على العدد رقم 43 من مجلّة "نووفي أرغومنتي" الإيطاليّة.
تبدأ هذه المجلّة بما يشبه عمود يوميّ. وفي فقرة محدّدة، استشهد صاحب المقال، دون أن يكون مجرداً من الحماس، بالمقتطف الذي أوردتُه أعلاه من كتاب كانْط. وقال إنّ ثمة موسيقى يختارها المرء، وأخرى يفرضها عليه الآخرون: "الأمر عبارة عن ظاهرتين متناقضتين تجسّد أولاهما إحدى أمتع التجارب التي أُتيحت للإنسان. أما الثانية، فهي بمثابة جريمة، ليس إلا. وإحدى الظاهرتين هي هبة من هبات العالم، أما الأخرى، فهي عقاب للأذن". ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا المقال يبدأ بالجملة التالية: "ثمّة مادتين يضرّ الإفراط باستهلاكهما بالبيئة، هما البلاستيك والموسيقى".
لكنّ ما ينطبق على مادّة البلاستيك لا ينطبق على الموسيقى. فمن المعلوم أنّ الأصوات تتبعثر في الهواء، على عكس البلاستيك الذي يبقى في النظام الإيكولوجي إلى ما لا نهاية. لكنّ الموسيقى باتت تضطهدنا في أيامنا هذه. فهي تلاحقنا في أي مكان، من المطارات إلى الحانات والمطاعم والمصاعد. ونسمعها في عيادة المعالج الفيزيائيّ في أسلوب عصريّ فظيع يُعرف بموسيقى "نيو إيدج". والأمر سيّان في الشوارع، حيث ترنّ الهواتف النقالة كلّ ثانيتين أو ثلاث لتسمعنا معزوفات كـ"فور إيليز" لبتهوفن أو السمفونية رقم 40 لموزار. والموسيقى حاضرة باستمرار على شكل صرير عميق يتردّد في خلفيّة أي برنامج تلفزيونيّ. والأسوأ من ذلك، هو الخوف الحقيقيّ الذي ينتاب الإنسان عندما يستشعر بوجود الموسيقى أثناء مرور معتوهين مهووسين يحملون سماعات في آذانهم، وهم عبارة عن أشخاص يعجزون عن المشي والتفكير والتنفّس من دون هذا الضجيج المُصمّ للآذان.
وقبل بضع سنوات، كان بإمكان أي شخص يرغب في الاستماع إلى الموسيقى تشغيل جهاز الراديو، (وهي عملية تتطلّب استخدام اليدين) أو اختيار أسطوانة (وهي عملية تتطلّب أيضاً جهداً فكرياً وقراراً مبنيّاً على الذوق). كذلك، كان بإمكان المرء ارتداء ملابس أنيقة وحضور حفلة موسيقية حيث يمكنه أن يثبت قدرته على التمييز بين الأداء الجيّد والأداء المتوسط، أو أن يتعلّم كيف يعشق معزوفات باخ أو يكره موسيقى الكسندر سكريابن. لكنّ الآن، بات الشبان والشابات يسرقون الموسيقى عن طريق تحمليها بصورة غير شرعيّة على الإنترنت لتبادلها فيما بينهم وهم يستمعون إليها طيلة النهار. وعندما يذهب هؤلاء إلى حفلة موسيقيّة أو إلى ملهى رقص، لا يستمعون إلى الموسيقى لمجرّد الاستمتاع بها، إنما لـ"تخدير" أنفسهم. وبما أنّ فنّ تحريك الدواسة الخافضة في آلة البيانو أصبح في طيّ النسيان، لم يعد الناس يستمعون إلى الموسيقى، بل باتوا يغرقون آذانهم بالضجيج.
ولاحظت أثناء تنقّلي في القطار أنّ العديد من البالغين، بفعل عجزهم عن قراءة صحيفة أو سرح نظرهم على امتداد الطبيعة المحيطة بهم، يضعون هم أيضاً سماعات رأس.
إذا عُرضت لوحة "مونا ليزا" على كلّ اللافتات الإعلانيّة الموجودة في إحدى المدن، فستبدو بشعة وذات طابع استحواذي بالنسبة إلى سكان المدينة. لكنّهم (وكان كانْط على حقّ في ما قاله) سيلاحظون سريعاً هذا الواقع ويحتجّون عليه. إلا أنّ الأمر مختلف في ما يخصّ الموسيقى التي بتنا نسبح فيها كجنين في السائل الأمينوسي. فكيف لنا أن نستعيد يوماً نعمة الصمت؟

من جريدة الاتحاد
تاريخ النشر: الجمعة 24 يوليو 2009

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...