كاهنة عباس - حين انسحبت أوهامي من العالم

سحبت من العالم أوهامي بجميع أشكالها وألوانها، ثم أخذت منه شرودي وأحلامي القديمة وبعض أقلامي، ابتعدت عنه حتّى يسترد أحواله ، ورحلت إلى بقعة منه اخترتها لي ملاذا .
تجرّدت جميع الزهور من رغباتي، ولم تعد الشمس مصباحي ولا الزّمن مقياسي، ثم ضاعت منّي جميع الأعداد التي كنت أعتمدها، لأعدّ ما تبقّى من العمر.
فتأرجحت كلماتي وقد ضاعت منها صورها، وانفصلت عن مسمياتها ومعانيها وتحولت إلى قطع من الزّجاج، لا تعكس مراياها الأرض ولا البحر ولا السّماء .
ما رأيته وأنا أنقل أهوائي وأفكاري وأنزعها عن العالم ، هو ذلك الرّقص الخفيّ للموجودات، كان كلّما تجلّى ، خشيت أن يؤوله إحساسي وأن يستولي عليه ليدمجه في حكاياته ويجعل منه لقطة من لقطات العمر.
وكانت مهمتي صعبة، كنت أعيد على نفسي أنني في جنوب هذا الصبح، ، لا أملك من الأرض شيئا، مهيّأة للزّوال في كلّ لحظة، فأنا لست مركز العالم ولا علّته ولم تخلق الأشجار ولا البحار من أجلي .
وكان لا بدّ أن أزهد في القول، وأن أتبنّى الصّمت، وأن أتخلّص من كلّ تصوّر حتّى تخلو الأمكنة من الذكريات الّتي تسكنها بتواريخها وأحداثها وأفراحها ومآسيها، فتستعيد ذاتها .
كنت أتقدّم وأنا أزيح من الطريق الغبار والغمام، وأمسح من الفضاء كلّ ضجّة كلّ صرخة ،ومن خيوط الضّوء كل انتظار، وكنت كلما ازددت إصرارا على أن يستعيد العالم ذاتيته، كلما برزت لي في الخفاء أسرار ما لا يقال ولا يذاع وما لا يرى .
إلي أن خفتت آهاتي ثم اضمحلت رويدا رويدا ،حينئذ رأيت عظمة السّكون ، ثم سمعت سريان الحركة بين الفاصل والفاصل وموسيقى لم تسمع من ذي قبل ورقص متواتر ثم هدوء مفاجئ.
ورأيت أيضا الفوضى الّتي حلّت لتنفخ في النّظام روح الجمال ، تلك التي لا تعترف بموقع ولا بدور ولا بما يجمع بين الموجودات ، الفوضى الّتي لا تصلح لشيء سوى أن تبعث في مكان ما، رائحة ما ،أجواء ما، فصولا ما.
فنحن لا ندرك أسرار السّكون ولا الصمت ولا الحركة ، لا علم لنا بما لا يرى ولا يحسّ ،و لا نفقه خفايا الجمال لأننا لا نكترث قليلا ولا كثيرا ،بما لا منفعة ترجى منه .
إنّ العالم الّذي حررته من أهوائي لا تعنيه أحزان الرّومانسيين لا من قريب ولا من بعيد، ولا حتّى رؤيتهم جماليّة ، لانّ الماء هو الّذي يرويه ويعيد تشكيله .
لا تعنيه معضلة المعنى ولا أسئلة الفلاسفة الوجوديّة ، لأنّه لم يخلق من أجل الإنسان للاستجابة لرغبته ولم يكن مطابقا للغته .
العالم الّذي حررته من أهوائي ليس محكّيا ولا متخيّلا بعد، لانّ الصمت هو معمّره الأصليّ وحرفه الأول ،فلا زمنيّته هي زمنيتي ولا نواميسه هي نواميسي ولا لغته هي لغتي .
مستأنس بنفسه بفضل هوائه وفضائه وشمسه لا يحتاج إلى الاستئناس بالإنسان ، فجميع كائناته مكتفية بما هي عليه ، لا تهاب الوحدة ولا الفقر ولا الفناء ، ليست مهووسة بالتّملك لأنها تدرك بالفطرة أنّها فانية ما عدا الإنسان .
أما عن استئناس الإنسان بالإنسان فقد كان ولا يزال مصدرا للصراع ،إنّه استئناس غريب تنظّمه قوانين وأنظمة وتحرسه القوة والسلطة حتّى لا يتحول إلى حروب لا تنتهي .
ويبدو أن إحساسي الموصول بمزاجي المتقلّب مصرّ على أن يتعلق بالكائنات، فطورا ألمحه يتابع السحب تحت تأثير لونها الرمادي ،وتارة يولع بلون السّماء الأرجواني وأخرى يزعجه الضّباب والغبار والعواصف .
كنت أجذبه إليّ حتى لا يختلط بالعالم فيهيّأ له أنه ظلّ من ظلاله ،يرسمه في مخيلته كما يشتهي ويبتغي، إلى أن ضاق بي الحال، فقلت في نفسي : "فلأكتب هذا النّص، حتى أفصل أوهامي ومشاعري عن العالم وأترك وثيقة مكتوبة، تكون شاهدا على أنّهما لم يتحدا قطّ ،رغم كثرة تلاقيهما ."
ومع ذلك لم يرفع العالم عني الّستار الذي يحجبه ، فانهمكت في قراءة الأعداد ومعادلاتها وأعيد ترتيب جميع الفرضيّات لانتقل إلى جغرافيتها وهندستها، فإذا بي أجد نفسي خارج منطقة المحسوس والملموس، أبحث عن واقعي من خلال التجريد المحض، أحاول أن أتلّمس في قوانين الفيزياء والكيمياء سحر ما قد يتحقق من ممكنات .


كاهنة عباس
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...