الفصل الثاني
المذهب الرومانسي Romanticism
أصل كلمة رومانسى أو رومانتيكي (romance ) ومصدرها الكلمة الفرنسية القديمة رومانز(Romanz) بمعني القصة الخيالية أو القصة الطويلة. كان أول استخدام اكيد لهذه الصفة في اللغة الإنجليزية فى حوالي عام 1654م ، وكان يقصد بها القصة الرومانسية (Romance ).
ومثل كل المذاهب الأدبية والفنيةجاءت الرومانسية تعبيراً فكرياً عن طبيعة العصر وروحة "لقد سبقت ميلاد الرومانتيكية في أوروبا عوامل كثيرة منها ما يرجع الي العصر: خصائصه الإجتماعية والسياسية ، ومنها ما يرجع الي التيارات الفلسفية السائدة التي مهدت لتمجيد العواطف والإشادة بها ، ومنها ما يرجع أخيراً إلى منابع أدبية جديدة ، أتيح للآداب الأوروبية أن تمتاح منها وتتشبع بها ، قبل أن تظهر الرومانتيكية كمدرسة ذات قواعد محددة ولا بد من الألمام بهذه العوامل جمعياً ليتسنى لنا فهم الروماتيكية في مصدارها[51] ولكن قبل ذلك لابد من أن اشير بأن ا لتعبير (رومانسية) ما هو إلا إنعكاس للفلسفة الترانستدانتالية على المذاهب المسرحية ، وهي إنفلات وخروج كامل على قواعد الكلاسيكية والفلسفة الارسطية التي تقوم على التقليد.
فبينما تضع نظرية المحاكاة قواعد وقوانين وتعليمات لاتباعها فى كتابة المسرحية فإن الرومانسية تمثل التمرد على كل القواعد والقوانين والنظم الكلاسيكية الارسطية. وبينما ترى نظريةالتقليد أن القيمة للعقل والمنطق ، فإن الرومانسية ترى القيمة بل كل القيمة في العواطف والإنفعالات، وإذا كانت الطبيعة مزيفة ومشوهة لدى إفلاطون أو هي مأساة ناقصة لدى أرسطوطاليس فإن للطبيعة قيمة كبرى لدي الرومانسيين . يمكن وصف الأدب في ضؤ نظرية المحاكاة والتقليد بأنه موضوعي لأنه محاكاة للعالم أما في ضوء الرومانسية فإن الأدب ذاتي وفردي بالدرجة الأولى والاديب أو الشاعر هو الأقدر على المحاكاة في نظرية المحاكاة الأرسطية بينما هنا الأقدر على التعبير، ومصدر الأدب هو الإلهام عند إفلاطون أو غريزة المحاكاة عند أرسطو لكن عند الرومانسية نجد الإنفعال هو مصدر الإلهام.
كل ذلك يوضح لنا خروج الرومانسية على الكلاسيكية منهجا وتطبيقا. هذا التحول فى الرؤى هو نفسه خروج الفلسفة المثالية على قواعد الفلسفة الأرسطية والأغريقية والتحرر من قبضتها ،وأسس تعاليهما الصارمة
فعند منتصف القرن الثامن عشر ظهرت عوامل كثيرة أدت إلى تحولات جوهرية في المجتمع الاوروبي ، حيث تطورت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية ، وظهرت فلسفات جديدة وأدب وفن جديدان " ونمت روح الفردية والروح الديمقراطية اذ كان شعار الثورة الفرنسية الإخاء والمساواة ، والحرية.. وجاء التقدم العلمي والصناعي ليضيف الىمفهوم الفردية معان جديدة تماماً ، وظهرت المطبعة ، والصحف والكتب والمكتبات ، كما انتشر التعليم فازدادت قاعدة القراءة واتسعت وأصبحت الحياة اليومية أكثر تنظيماً مما أوجدت وقت فراغ كان على الناس أن يقوموا بتمضيته في القراءة[52] ويجد الباحث في تاريخ الفكر الأوروبي في تلك الفترة هناك فيلسوفين أثرا على المجتمع تأثيراً كبيراً هما (كانط 1724 –1800م) و (هيجل 1770 –1831م) أي بروز الفلسفة الألمانية في التاريخ المعاصر لعالمنا وسأتناول هنا كل منهما باختصار.
أولا: كانط Kant ( 1724 - 1800م):
لعبت فلسفة ( كانط) دوراً كبيراً في فلسفة الفن ، ولقد تأثر به عدد كبير من كتاب ونقاد تيار الرومانسية ، كما كان لفلسفتة صداها في الأدب ونقاده في أوروبا وأمريكا ويقول محمد غنيمي هلال " ويعد كانط مؤسس الفلسفة المثالية ، ومن أعظم الفلاسفة المحدثين . بل كثيراً ما يذكر أنه اكبر فيلسوف حديث. وفي فلسفته مكان فسيح للفلسفة المثالثة العاطفية ، يناهض بها الفلاسفة العقليين الذين يعتمدون على الحجج العقلية الجافة[53] ومبدؤه بكل إنسان على حدة بوصفه غاية في ذاته – صورة من صور إقرار حقوق الإنسان كما كانت في الثورة الفرنسية، وكما تبدت في مؤلفات (روسو) الذي تأثر به كانط أبلغ تأثيراً واضحا
ويعتبر كتابه ( نقد ملكه الحكم) الذي أصدره في عام 1790م ذو أثر كبير في فلسفة الجمال ، و لقد جاء الكتاب مكملاً لفلسفة كانط النقدية هما( نقد العقل الخاص) و ( نقد العقل العلمي) ، ويرجع اهتمام كانط بالنظرية الجمالية إلي عام 1764م حيث ظهر له مقال بعنوان ( ملاحظات حول الشعور بالجمال والجلال) ،وبعد مرور سبع سنوات على ظهور هذا المقال كتب خطاباً لصديقه هرتس(Hertz) في يوليو 1771م يقول له فيه ( أنه بصدد وضع كتاب يعالج فيه طبيعة الذوق وحدود الحساسية).
وتختلف رؤية كانط الجماليــة اختلافاً كبيــراً عن رؤية أرسطــوطاليس( للشيء الجميل ) كما تم شرحها سابقاً فبينما ذهب أرسطو طاليس إلى إيجاد صيغ للنظام والتناسق تجعل من الجميل ذو حدود مدركه ومحسوسة( ذو بداية ووسط ونهاية ) يرى كانط أن للنفس قوى وملكات ثلاث هي ملكة المعرفة، وملكة الشعور باللذة والألم ، ثم ملكة الذوق ولقد شكلت هذه الملكة الأخيرة فيما بعد حجر الزاوية في فلسفة الجمال عند كانط والتي ضمنها كتابه ( نقد ملكة الحكم) حيث وضع فيما بعد( نظرية الذوق) على اعتبار أن الذوق ليس مجرد ( حكم وجدان) بل هو (وجدان حكم ) ويقول فى ذلك "أعني أنه مبدأ وجداني يتصف بالكلية والضرورة معاً[54].
وهنا نلمس الفرق الواضح والكبير بين نظرة أرسطو التي جعلت من العقل والإدراك مقياساً للجمال ونظرة كانط التي ترد الأمر كله إلي الوجدان وأن الحكم الذوقي ليس حكماً منطقياً قوامه المعرفة الذهنية ، بل حكم جمالي وحدسي أصله الذات، ويرى كانط " أن الحكم الجمالي يمتاز بخصائص تفرق ما بينه وبين الحكم العقلي والخلقي. وأولى هذه الخصائص تتعلق به من حيث صفته ومصدره ،وهو أنه حكم صادر عن الذوق. وأن الذوق يصدره عن رضا لا تدفع إليه منفعة ، أي أن المتعة الفنية لا تهتم بحقيقة موضوعها ، بخلاف اللذة الحسية التي تتطلب التملك وبخلاف الرضا الخلقي الذي يتطلب تحقيق موضوعه[55]. كما يتضح من هذا أن كانط أراد أن يحرر الذوق الجمال من القيود التي فرضتها القواعد التي سبقته خاصة من قيود الفلسفة الأغريقية، ويتيح قدراً كبيراً من الحرية التي تدفع الوجدان إلى استشفاف الجمال ويوقل في هذا الصدد محمد غنيمي هلال قائلا "وقد أردا كانط أن يهئ للعبقرية بيئتها التي تخصب فيها ويمنحها هذه الحرية. وفي هذا انحصر جهد (كانط) ، فليس فلسفته سوى بداية الطريق الذي تخصب فيه عبقرية الفنان فتؤدي واجبها الفني . ولم يبحث (كانط) – بعدذلك –في الحالات الخاصة ، ولا في العوامل الخارجية أو الملابسات التاريخية التي تؤثر في الفنان على الوجه الأكمل [56] وهذا الجانب الوجداني ،والذاتي من البحث هو الذي جعل من فلسفته منهجا للتمرد على القيود الأرسطوطاليسية و يقول محمد غنيمي هلال في هذا الصدد "وقد أصبحت فلسفة ( كانط) ذائعة الصيت في فرنسا بعد أن تحدثت عنها مدام دي ستال وفكتور كوزان Victor Cosin في محاضراته عن ( كانط) في السوربون من عام 1816م إلي عام 1818م [57] ويظهر أثر كانط عند الفنانين دعاة ( الفن للفن) الذين يرون في الفن الإحساس بالجمال المحض، ويبعدون عن ما هو غائي في الجمال مثل " وهو ما نلحظه لدى تبوفيل جوتيبه ( 1811-1822) ففي مقدمة مجموعته الشعرية الأولى ( 1832) يتحدى الفنانين في الأدب بقوله: يسألون: أية غاية يخدم هذا الكتاب أن غايته التي يخدمها أن يكون جميلاً[58] "أيضاً لقد تأثر الشاعر الأمريكي أدجار ألن بو (1809 –1853) بفلسفة كانط حيث أعلن أن الشعر يقصد به التأمل في "تجربة ذاتية".[59]
وفي مقدمة كتبها الشاعر الفرنسي بودلير (1821-1867) عن قصة أدخال الان بوقال "لا يمكن أن يتمثل الشعر بالعلم أو بالخلق ، وإلا كان مهدداً بالموت أو الخسران ، فالشعر ليس موضوعه الحقيقة ، وليس له من موضوع سوى الشعر نفسه[60]" هذا وسوف نرى بالتفصيل كيف تأثر الشاعر الإنجليزي صمويل تايلور كولردج أعظم رواد الرومانسية بهذه الفلسفة خاصة في نظريته الدرامية التي أطلق عليها اسم ( الإيهام الدرامي).
ثانيا: هيجل 1770 – 1831م :
فلسفة هيجل امتداد لفسلفة كانط ، وهي أشبه بفلسفة إفلاطون من حيث أن للفكرة وجوداً مستقلاً وعند هيجل "أن الفكرة مرت بثلاث مراحل ، تتضمن شرح تطور الفن فيما يرى . ففي المرحلة الأولى وتتمثل في الفن لأرقي والمصري ، كانت الشهرة للمادة على الفكرة ، وكانت الفكرة ضعيفة ، ولذا كان الجمال يتمثل في الأشياء الجليلة التي تبعث على الرهبة لضخامتها كالمعابد المصرية والقبور ، وهذه هي المرحلة الرمزية عند هيجل لينتصر الشكل علمي المضمون . والمرحلة الثانية هي المرحلة الكلاسيكية ، وتتمثل في الفن اليوناني ، وفيها يتعادل مع المضمون.وتصادف الفكرة أتم تعبير عنها ، وهي مرحلة الكمال الفني التي يصل إليها الفن في المستقبل ، فيما يرى هيجل والمرحلة الثالثة هي مرحلة سيطرة المسيحية أو ا لمرحلة الرومانسية،وفيها تغلبت الفكرة على الصورة ، واختل التعادل بين الشكل والمضمون[61] ويرى هجيل أن العمل الفني غاية فنية محضة مثل كل الفلاسفة المثاليين ، وأن أي عمل فني هو في الأصل فكرة ما تأخذ الشكل الجمالي.
كما يرى هيجل أن أي شيء في حالة تناقض دائم ، بل ويرى أن هذا التناقض هو القوة المسيرة للأشياء ، ولقد استفادت الدراما من هذه الفكرة في مفهوم الصراع (Conflict ) الدرامي " فقد أدت فكرة هيجل بأن التناقض هو الذي يحرك الأشياء إلى تصوره للصراع الدار مي على أنه القوة المحركة للحدث ، ففي راية أن الحدث يتطور كنتيجة لمحاولة إيجاد توازن لا يستقر على حال بين إدراك الإنسان والبيئة ، أي إرادة غيره من المجتمع والطبيعة.[62] وهذه نقطة جوهرية في تاريخ تطور الفكر الدرامي ، إذ لم يعد الحدث (Action) بذاته شيئاً منفصلاً عن البناء الدرامي كما هو الحال في الدراما الكلاسيكية ذات البناء الأرسطي ، بل بدأ النظر إليه كناتج صراع(Conflict ) بين الشخصيات ، وهو ذات الشيء الذي قاد الدراميين إلى تحليل عناصر المسرحية بما يسهل مفهوم الصراع (Conflict ) ، الشخصيات (Characters) ، والحدث (Action) … الخ.
ويقول رشاد رشدي في هذا الصدد " وفكرة الصراع تؤدي بنا إلى التساؤل عن مدى حرية الإرادة وعن العلاقة بين الإرادة والضرورة وبالتالي تصبح كل هذه المسائل عناصر درامية لا غني عنها[63].
3- اثر الفلسفة المثالية على النقاد والكتاب الرومانسيين:
سأتناول في هذا الجزء اثنين من النقاد والكتاب الذين يمثلان تيار الرومانسية، موضحاً بالتحليل تأثرهما بالفلسفة المثالية.
أولا : دينيس ديدرو Dinis Didereot 1713 –1784 م :
دينيس ديدرو Dinis Did erot ، 1714 –1784 م ، أديب فرنسي وتعتبر مسرحيته Lefils Natural التي طبعت عام 1757م و lereieJamille التى طبعت عام 1758 ، جزءا ضئيلا من إنتاجة الأدبي . لكنهما مسرحيتان مهمتان لأنهما ساعدتا في نشر أفكاره الجديدة ، بعد تاثره بـ (Lissing). أثر ديدرو تأثيراً كبيراً في الدراما الأوربية عند القرن التاسع عشر . "وديدرو من الذين فجروا دراما الطبقة الوسطي ، ذلك من خلال مسرحية Ant comedie larmoy التي لا تخلو من السخرية بالقيم[64].
لقد كان لدينيس ديدرو أثر كبير في نشر الرؤية الجمالية ذات البعد المثالى الذي شكل حجر الزاوية لتيار الرومانسية مخالفاً لقواعد أرسطو طاليس ويقول ديدرو " الجميل هو الذي يحتوىفي نفسه وفي خارج نطاق الذات على ما يثير في إدراك المرء فكرة العلاقات ، والجميل بالنسبة لي هو الذي يثير هذه الفكرة [65]" ومن الواضح أن رؤية ديدرو هذه تختلف من رؤية أرسطو ( للشئ الجميل) . لأنه يتحدث عن الجانب الذاتي وأثره في تذوق الجمال ، لكنه أيضاً لايبعد ما هو موضوعي أو أثر الموضوع على الذات لأنه يري أننا لا نستطيع أن ندرك الجمال في الشيء دون أن نقف على ما يحفه من قرائن أخرى. ففي الأدب ،مثلاً لا ينبغي أن نقول أن الكلمة أو الجملة جميلة ، دون أن نقف على موقعها من الجمل ، وفي القصة أو المسرحية أو القصيدة ، وفي الموقف ا لعام . أما هي في ذاتها لا يمكن أن تحكم على النظام والتناسب والتناسق والملائمة ،وهي المعاني التي تدفعنا إلى أدارك الجمال في الشيء الجميل وهكذا وبإدراكنا للجميل بعلاقة الذاتي والموضوعي تبتعد الرومانسية من الكلاسيكية التي حددت معايير ووحدات عقلية للجميل ، وتقترب من المثالية لتتخذها مشروعاً ونظرية معرفية لإكتشاف الجمال . اما على مستوى الدراما والمسرح ، كان ديديرو احد رواد الثورة على قواعد ارسطو طاليس الكلاسيكية حيث نادي بأهمية الشخصية ( الممثل بالتحديد) بدلاً من الفعل ، كما هو عند أرسطو طاليس. وهذا الإحلال (أحلال الشخصية محل الفعل) ، يمثل أكبر انقلاب في نظرية البناء الدرامي وهو ما يميز المسرحية الرومانسية والمسرحية الحديثة عن المسرحية الكلاسيكية. ويرى ديدرو أن الصوت ، والكلمة ، والإيحاء والفعل كلها أشياء من صنع الممثل بغية عرض الشفقة فى أعظم أوجهها أن الممثل الذي بمقدوره أن يمنح الحوار قوته.
ويمكننا القول كان ديدرو ناقداً ومفكرا أثر تأثيراً كبيراً في الفكر الدرامي خاصة في نظرته إلي الطبيعة التي وضعته في مصاف طلائع التيار الرومانسي ويقول " ليس في صنع الطبيعة من خطأ وكل شيء جميل أو قبيح يكون عليها[66] وعلى الرغم من رؤيته ونزعته المثالية في الفن ، أعتبره الفلاسفة من بعد ذلك أحد رواد النزعة الواقعية التي أثرت في فلسفة الفن ، فليس هو بمثالي نظري بقدر ما هو ذو نزعة واقعية . لذا عده الفلاسفة الواقعيون فيما بعد من طلائعهم بين المفكرين والفلاسفة في القرن الثامن عشر.
ب- صمويل تايلور كولردج (Samuel Taylor Coleridge):
شاعر ، وناقد وفيلسوف إنجليزي كتب عدداً من المسرحيات الشعرية منها (Hemorse) التي كتبت عام 1797م وكذلك مسرحية (Osorio) التي أنتجها Duary lane عام 1813 إلا أنها وجدت نجاحاً متواضعاً. أما البقية التي اشتملت على عدد من التراجم الألمانية لم يتم إنتاجها وكان تمثيلها فقط للاستماع في أعياد الميلاد , "ترجع أهمية كولردج في تاريخ المسرح إلى مقالاته النقدية وإعادتة لشكسبير ، ويرى أنه قد أهمل من قبل المسرح الألي بيثي ولولا Malone لم ير النور[67].
يرى عدد من النقاد المسرحيين أن كولردج أحد أعظم النقاد الأوربيين ، ويقول جورج ستنسيري في مؤلفه الضخم (تاريخ النقد والذوق الأدبي في أوربا) إن أعظم النقاد الذين ظهروا حتى عصره ثلاثة هم أرسطوطاليس ولو نجتسيوس وكولردج [68]". هذا بالطبع هو رأى السيد سنتسيررى الذى ان قدر له العيش فى عصرنا هذا لغير هذا الرأى .لقد كتب كولردج عدداً كبيراً من المؤلفات ، شملت قضايا متعددة ومتنوعة في الأدب والدين والفسلفة ، ما يهمنا هنا نظرته لنظرية الدراما وفلسفة الجمال.
الدين والفلسفة عند كولردج:
أول مايلفت النظر إلى كولردج نزعته الدينية العميقة، ذات العمق الصوفي واهتمامه بالتوحيد ولقد ترك لنا عدداً من القضايا الفلسفية (Thesis ) وسأقوم هنا بعرض بعض أفكاره بغية الإلمام برؤيته الجمالية.
القضية الأولى:
يقول كولردج:" الحقيقة توازي الوجود فالمعرفة التي لا توجد حقيقة توازيها ليست معرفة. وأذا كنا نعرف فلابد من وجود شئ نعرفه ، فالمعرفة في جوهرها فعل إيجابي[69]" وهنا نرى كلوردج يعترف بالوجود خارج الذات ، فهو أشبه بفيلسوف واقعي لكنه في القضية الثانية مباشرة ينتقل إلي نقطة أخرى تناقش قضية الإدراك في ضوء الفلسفة المثالية حيث نلاحظ أثر الرؤية المثالية الكانطية خاصة ما يتعلق بنظرية المعرفة وفيما يختص بالفرق بين الأحكام التحليلية و الأحكام التركيبية. ثم ينتقل كولردج إلي البحث عن ما يطلق عليه الحقيقة المطلقة فيقول: لذلك يجب أن نبحث عن حقيقة مطلقة في مقدورها توصيل اليقين الذي تحويه ولم تستمده من غيرها إلى قضايا أخرى ، حقيقة أساسها في ذاتها وغير شرطية ونعرفها فقط عن طريقها هي وبالإجمال واجبنا أن نجد شيئاً موجوداً لأنه يكون فقط موجود. ولكي يكون الشيء على هذا النحو يحتم عليه ألا يكون له محمول سواه على الأقل بمعنى أن سائر محمولاته اللفظية يجب أن تكون مجرد تكرار أو صور لذاته . يجب أن يكون وجوده أيضاً بحيث يستحيل علينا أن نحتاج إلى علة أو سابق له ، وذلك دون أن نهتم بالتناقض[70]"والبحث عن الحقيقة المطلقة بهذا الشكل هو أمر من شأن الفلسفة المثالية وهو ما بحثه كولردج مبتعداً عن المعني (intuition ) والإيمان وهو ما يبعد الحقيقة المطلقة على أن تكون شيئاً (Thing) أو موضوعاً (Object) وهذا ما ذهب إليه كولردج في القضية الخامسة.
القضية الخامسة:
"مثل هذا المبدأ لن يكون مجرد شيء أو موضوع . فالشيء يكون شيئاً نتيجة شئ آخر. فالشيء اللانهائي المستقل عن غيره يتضمن تناقضاً لا يقل عن التناقض الذي في الدائرة اللانهائية أو ا لمثلث الذي لا إضلاع له . كذلك الشيء هو الذي لا يمكن أن يكون موضوعاَ لذاته فقط وإنما يتطلب وجود كائن آخر يدركه فيكون موضوعاً له ولا يمكن تصور موضوع بدون ذات تكون نقيضاً له . فجمع ما هو مدرك يفترض وجود من يدركه . ولا يمكن أن يوجد هذا المبدأ في ذات بوصفها ذاتاً متميزة عن الموضوع . ولهذا لن نجد المبدأ سواء في الموضوع منفصلاً عن الذات أو في الذات منفصلة عن الموضوع . وبما أنه لا يمكننا أن نتصور ثالثاً إذاً لابد أن يوجد المبدأ فيما هو ليس ذاتاً فحسب وليس موضوعاً فحسب ، وإنما فيما هو وحدة من الاثنين [71]" وهكذا يتضح أن كولردج يبحث عن الحقيقة بعيداً عن الموضوع لوحده والقياس المنطقي والتجريبي ، ما أضفى على كولردج صفة الفيلسوف المثالي الحدسي ( Intuitionism) والذات ( Ego) وهو بالتحديد ما أشار إليه في معرض حديثه في القضية السادسة.
القضية السادسة:
"هذا المبدأ كما وصفناه هنا يكشف نفسه في الأنا التي سأطلق عليها فيما يلي ألفاظ الروح والنفس والشعور بالذات أو الوعي الذاتي بدون تمييز ففي هذا المبدأ وفيه وحدة يتحد الموضوع والذات[72].
وقد يبدو كولردج فيلسلوفاً وجودياً عندما يقول" وإذا سئلت عن كيفية معرفتي للأنا فالجواب الوحيد الذي لدى هو أني أنا لأني أنا[73]" ثم يبدو مرة أخرى مؤمناً حينما يقول " وفيما يتعلق بأساس وجودي وليس فيما يتعلق بأساس معرفتي لهذا الوجود ، أجيب بأني موجود لأن ألله موجود [74]" ومثل هذا القول هو الذي دفع عديد من النقاد الغربيين إلى النظر لكولردج على أساس أنه مؤمن صوفي.
هذه الرؤية الإيمانية هي التي شكلت رؤية كولردج للجمال والدراما لكن ما يهمنا هنا بالتحديد نظرية كلوردج في الدراما وهى نظرية ( الأيهام الدرامي).
ج- نظرية الايهام الدراميDramatic illusion لكلودج:
يفرق كولردج ما بين ( المحاكاة ) والتقليد ، ويرى أن المحاكاة لابد لها من اختلاف عن الأصل . وهذا ما يميز رؤيته عن رؤية أرسطو طاليس في ضوء نظرية الدارما أنظر قوله" إن لحظة واحدة من التفكير كافية أن تجعلنا جمعياً ندرك ما كان مجرد إحساس يخالجنا من قبل ، وهو أن المسرحية (محاكاة) وليس ( تقليداً) للحقيقة ، وان الذي يميز المحاكاة عن التقليد هو أنه لابد من وجود قدر معين من الاختلاف عن الأصل[75]".
إذا فالمسرحية عند كولردج هي محاكاة (copy) للحقيقة(Reality ) وليست تقليداً للفعل (Imitation of action) كما يرى أرسطو طاليس فى نظرية التقليد، وهذا الفرق مهم وأساسي في فهمنا لكولردج بوصفه احد مؤسسي تيار الرومانسية في المسرح خاصة وفي الأدب عامة. فإن كان ارسطو طاليس يرى التراجيديا مثل الكائن العضوي في نموها ونهايتها تنتخب تطورها بمنطق الطبيعة مثل منطق الضرورة أو ألاحتمال يرى كولردج هناك اختلافا بين المسرحية والطبيعية متمثل في عنصر الإيهام ، والإيهام هو أهم العناصر التي تكسبنا اللذة وفقاً لرأيه، كما يرى أن المسرحية تتخذ من عنصر الإيهام المتفق عليه والمعلوم لدى المشاهد أصلاً لها أي أن المسرحية هى الإيهام نفسه ويقول كولردج "ويجب علينا أن نحكم على المسرحيات ، بل إننا فعلاً نحكم عليها جمعياً طبقاً لهذه الفكرة ولا نحتاج إلى دليل على ذلك غير هذا الدليل ، وهو أن شعورنا باحتمال وقوع الشيء يكون في حالة رقاد سلبي حينما نستمع إلى أحد الممثلين وهو يعلن في لغتنا الإنجليزية السليمة وبدون أية لكنه أجنبية إنه يوناني أو روماني أو فارسى فلا نجد في ذلك أمر غير محتمل الوقوع [76]".
ثم يقسم كولردج النقاد على ضوء هذا الإقرار إلى قسمين يرى أحدهما بضرورة أن تكون المسرحية عملية إيهام كاملة وخدعة ، وقسم آخر يرى عكس ذلك ، ويقول كولردج " وهنا وجدت النقاد قد أخذوا بقرارين متطرفين إزاء هذه المشكلة . فهناك النقاد الفرنسيون، ومن الواضح أنهم يفترضون أن المسرحية ترمى إلي الخداع الكامل، وهذا رأي سبق تفنيده ولسنا بحاجة إلى تفنيده من جديد . ومن ناحية أخرى نجد النقاد الذين ينادون بنقض ذلك ويعضد هؤلاء الدكتور جونسون. وهم يرون بأن النظارة واعون تمام الوعي وذلك طول الوقت وبطريقة إيجابية بأن العكس هو الصحيح أي أن المسرح ليس إلا مسرحاً[77] ".
والحقيقة القاطعة هي أن كولردج وجه نقداً ضمنياً لنظرية أرسطو طاليس الدرامية ، خاصة فيما يتعلق بجانب الاحتمال في وقوع الفعل فكما ذكرنا سابقاً أن أرسطو طاليس يرى ( أن الأشياء ممكنة اما بالضرورة أوبالاحتمال) ، ولكن كولردج يرى أن الضرورة والاحتمال مسائل عقلية والعقل وقياسه أمر يتطلب حالة الصحو ، وفي رؤية كولردج عكس ذلك ، فالمسرحية برمتها ما هي إلا أمر غير محتمل الوقوع متفق عليه من قبل الممثلين والمشاهدين ويقول: " ويتم ذلك بفضل فن الشاعر والممثلين وبموافقتنا ومساعدتنا الإرادية الواعية إننا نشاء أن نخدع [78]". وهنا يخلص كولردج إلى نظريته في النقد الدرامي ، والتي تشكل رؤيته للبناء الدرامي للمسرحية حيث يرى أن أي نزوع إلى إبراز تحقق القيام الحسي والحقيقي هو بمثابة عيب في المسرحية ، وكلما اقتربت المسرحية من أن تصبح شيئاً غير محتمل الحدوث هو أمر من شانه إكسابها نجاحاً كبيراً ويقول في هذا الصدد: " والآن بعد هذا الشرح يمكننا بسهولة أن نستنبط القاعدة النقدية التي نبحث عنها ،وهي أن كل ما ينزع إلى منع الفعل من أن يضع نفسه ،في هذه الحالة التي يكون فيها للصور حقيقة سببية لابد وأن يكون عيباً في المسرحية ، وبالتالي لابد وأن يكون شيئاً يعتبره النظارة غير محتمل الوقوع ، وليس ذلك لأنه ليس له وجود حقيقي فنحن نعلم منذ البداية أن المسرحية كلها غير حقيقة ، وإنما لا يمكن لهذا الشئ أن يبدو محتمل الوقوع [79]".
وبهذا القدر من استعراضنا لأفكار الناقد والفيلسوف والشاعر الانجليزى كولردج نكون قد وقفنا على أثره الفاعل على تيار المدرسة الرومانسية في المسرح.
لابد من الاشارة الى انه يوجد غير كولردج كتاب عديدون أسهموا في بلورة تيار الرومانسية فى المسرح الغربى. وعلى سبيل المثال وليس الحصر نجد في ألمانيا "جوته 1729 –1832م وشيلر 1759 –1805م وكل منهما كان ينكر أنه رومانسي، وكل منهما كتب عدداً من المسرحيات الكلاسيكية ولكنهما في النهاية كتبا مسرحيات رومانسية ربما كانت من أهم دعائم الرومانسية في ذلك الوقت [80]". ولقد كتب جوته مسرحيته الشهيرة ( فاوست) التي يعتبرها العديد من النقاد بمثابة روح الرومانسية.
أما شيلر فقد كتب عدداً من المسرحيات أهمها مسرحية(اللصوص ) عام 1782م ولاقت نحاحاً كبيراً وعرضت في مسارح العالم " واستمر عرضها إلى آخر القرن التاسع عشر – وقد تحول شيلر بعد ذلك إلى التاريخ فأصبح يختار موضوعاته من لحظات حاسمة أو أزمات في التاريخ "وفي فرنسا بدأت الحركة الرومانسية متأخرة ،بعد أن بدأت تموت في كل من إنجلترا وألمانيا ولربما يرجع ذلك للرقابة التي فرضها نابليون بونا بارت على العروض المسرحية خلاصة القول أن للمسرحية الرومانسية خصائص ومواصفات جمعيها تصب في رؤية الكاتب ، واعتماده على إحساسه الذاتي وأفردت مساحة واسعة تحركت فيها المسرحية الحديثة من بعد ولقد برز عدد من النقاد والفلاسفة الذين أسسوا للرؤية الرومانسية مثل أوجست وليهليم شليجل Schelgel الذي "قدم محاضراته المعروفة عن الفن المسرحي في يناير سنة 1808م وفيها أستعرض شليجل تاريخ المسرح كما حلل قسطاً كبيراً من مسرحيات شكسبير بعمق ودراية . ويمكن اعتبار محاضراته على وجه العموم تعبيراً واضحاً عن نظرة الرومانسية إلى الفن [81]". هذا ولقد أعاب شليجل على أرسطو طاليس تصوره للحدث على أساس أنه سلسلة من الأحداث ترتبط مع بعضها البعض ارتباطا آلياً.
د/ خصائص المسرحية الرومانسية :-
* تحطيم القواعد والقوانين التي وضعتها الكلاسيكية والتي حددت مسارالادب وكتمت أنفاس الأدباء ، وعدم الاهتمام إلا بالذوق الشاعري والعاطفة والوحي والألهام الذاتي .
* ترك المدينة إلي الريف والطبيعة، والترنم بجمالها الحر االبسيط والذي لا تحده ولا تشوبه العداءات.
* العناية بالنفس الإنسانية وما فيها من العواطف وألوان الشعور.
* التحرر من ا لعالم المادي و السمو إلى العوالم المثالية المتخيلة.
* نشدان البساطة في التفكير والذوق والشعور وطرح التكلف والتلطف المصطنع، وترك النفس على سجيتها وإتباع الفطرة والطبع الخالص.
وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهر فلاسفة واقعيون ،مثل الفيلسوف الإيطالي ينديتو كروتشيه (1866-1952م) وآخرون كان لهم أثر كبير في المجتمع فبدأت بوادر المذهب الواقعي Realism في الظهور ، وبدأ المذهب الرومانسي يفتقر شروط بقائه ويقول في ذلك رشاد رشدي " قبل منتصف القرن التاسع عشر بدأت معايير الرومانسية تبدو لا معني لها، فقد أهتز الاعتقاد في طبيعة الإنسان المثالية ، فمثلاً بعد سقوط نابليون حوالي 1815م استرجعت أكثر البلاد الأوروبية أنظمتها السياسية السابقة ، وكانت ممعنة في الرجعية ،وأصبحت الحرية والمساواة والإخاء ألفاظا لا معني لها في نفس الوقت بدأت تظهر النتائج السيئة للثورة الصناعية ، وانتشر الفقر والجريمة[82]" ثم بدأ عدم الاقتناع بمقدرات الإنسان اللانهائية يأخذ حيزه ، فأزداد الاهتمام بالتفكير العلمي والمنطقي والتخلي عن الأحلام ، فأتجه الكتاب والنقاد إلى التفكير الواقعي فأخذت الواقعية حيزها رويداً رويداً جاعلة من ا لفلسفة الوضعية الجديدة قاعدة لها، فظهرت كتابات الفيلسوف (أوجست كونت(1798 –1857م) وانتقلت المسرحية بصفة خاصة والفن بصفة عامة إلى ما تعارف عليه بالواقعية ( Realism ) كمعادل أدبي للفلسفة الوضعية وأثرها على الحياة الأوربية في تلك الحقبة . وهو ما نتناوله في الفصل القادم من هذا الكتاب ان شاء الله .
المذهب الرومانسي Romanticism
أصل كلمة رومانسى أو رومانتيكي (romance ) ومصدرها الكلمة الفرنسية القديمة رومانز(Romanz) بمعني القصة الخيالية أو القصة الطويلة. كان أول استخدام اكيد لهذه الصفة في اللغة الإنجليزية فى حوالي عام 1654م ، وكان يقصد بها القصة الرومانسية (Romance ).
ومثل كل المذاهب الأدبية والفنيةجاءت الرومانسية تعبيراً فكرياً عن طبيعة العصر وروحة "لقد سبقت ميلاد الرومانتيكية في أوروبا عوامل كثيرة منها ما يرجع الي العصر: خصائصه الإجتماعية والسياسية ، ومنها ما يرجع الي التيارات الفلسفية السائدة التي مهدت لتمجيد العواطف والإشادة بها ، ومنها ما يرجع أخيراً إلى منابع أدبية جديدة ، أتيح للآداب الأوروبية أن تمتاح منها وتتشبع بها ، قبل أن تظهر الرومانتيكية كمدرسة ذات قواعد محددة ولا بد من الألمام بهذه العوامل جمعياً ليتسنى لنا فهم الروماتيكية في مصدارها[51] ولكن قبل ذلك لابد من أن اشير بأن ا لتعبير (رومانسية) ما هو إلا إنعكاس للفلسفة الترانستدانتالية على المذاهب المسرحية ، وهي إنفلات وخروج كامل على قواعد الكلاسيكية والفلسفة الارسطية التي تقوم على التقليد.
فبينما تضع نظرية المحاكاة قواعد وقوانين وتعليمات لاتباعها فى كتابة المسرحية فإن الرومانسية تمثل التمرد على كل القواعد والقوانين والنظم الكلاسيكية الارسطية. وبينما ترى نظريةالتقليد أن القيمة للعقل والمنطق ، فإن الرومانسية ترى القيمة بل كل القيمة في العواطف والإنفعالات، وإذا كانت الطبيعة مزيفة ومشوهة لدى إفلاطون أو هي مأساة ناقصة لدى أرسطوطاليس فإن للطبيعة قيمة كبرى لدي الرومانسيين . يمكن وصف الأدب في ضؤ نظرية المحاكاة والتقليد بأنه موضوعي لأنه محاكاة للعالم أما في ضوء الرومانسية فإن الأدب ذاتي وفردي بالدرجة الأولى والاديب أو الشاعر هو الأقدر على المحاكاة في نظرية المحاكاة الأرسطية بينما هنا الأقدر على التعبير، ومصدر الأدب هو الإلهام عند إفلاطون أو غريزة المحاكاة عند أرسطو لكن عند الرومانسية نجد الإنفعال هو مصدر الإلهام.
كل ذلك يوضح لنا خروج الرومانسية على الكلاسيكية منهجا وتطبيقا. هذا التحول فى الرؤى هو نفسه خروج الفلسفة المثالية على قواعد الفلسفة الأرسطية والأغريقية والتحرر من قبضتها ،وأسس تعاليهما الصارمة
فعند منتصف القرن الثامن عشر ظهرت عوامل كثيرة أدت إلى تحولات جوهرية في المجتمع الاوروبي ، حيث تطورت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية ، وظهرت فلسفات جديدة وأدب وفن جديدان " ونمت روح الفردية والروح الديمقراطية اذ كان شعار الثورة الفرنسية الإخاء والمساواة ، والحرية.. وجاء التقدم العلمي والصناعي ليضيف الىمفهوم الفردية معان جديدة تماماً ، وظهرت المطبعة ، والصحف والكتب والمكتبات ، كما انتشر التعليم فازدادت قاعدة القراءة واتسعت وأصبحت الحياة اليومية أكثر تنظيماً مما أوجدت وقت فراغ كان على الناس أن يقوموا بتمضيته في القراءة[52] ويجد الباحث في تاريخ الفكر الأوروبي في تلك الفترة هناك فيلسوفين أثرا على المجتمع تأثيراً كبيراً هما (كانط 1724 –1800م) و (هيجل 1770 –1831م) أي بروز الفلسفة الألمانية في التاريخ المعاصر لعالمنا وسأتناول هنا كل منهما باختصار.
أولا: كانط Kant ( 1724 - 1800م):
لعبت فلسفة ( كانط) دوراً كبيراً في فلسفة الفن ، ولقد تأثر به عدد كبير من كتاب ونقاد تيار الرومانسية ، كما كان لفلسفتة صداها في الأدب ونقاده في أوروبا وأمريكا ويقول محمد غنيمي هلال " ويعد كانط مؤسس الفلسفة المثالية ، ومن أعظم الفلاسفة المحدثين . بل كثيراً ما يذكر أنه اكبر فيلسوف حديث. وفي فلسفته مكان فسيح للفلسفة المثالثة العاطفية ، يناهض بها الفلاسفة العقليين الذين يعتمدون على الحجج العقلية الجافة[53] ومبدؤه بكل إنسان على حدة بوصفه غاية في ذاته – صورة من صور إقرار حقوق الإنسان كما كانت في الثورة الفرنسية، وكما تبدت في مؤلفات (روسو) الذي تأثر به كانط أبلغ تأثيراً واضحا
ويعتبر كتابه ( نقد ملكه الحكم) الذي أصدره في عام 1790م ذو أثر كبير في فلسفة الجمال ، و لقد جاء الكتاب مكملاً لفلسفة كانط النقدية هما( نقد العقل الخاص) و ( نقد العقل العلمي) ، ويرجع اهتمام كانط بالنظرية الجمالية إلي عام 1764م حيث ظهر له مقال بعنوان ( ملاحظات حول الشعور بالجمال والجلال) ،وبعد مرور سبع سنوات على ظهور هذا المقال كتب خطاباً لصديقه هرتس(Hertz) في يوليو 1771م يقول له فيه ( أنه بصدد وضع كتاب يعالج فيه طبيعة الذوق وحدود الحساسية).
وتختلف رؤية كانط الجماليــة اختلافاً كبيــراً عن رؤية أرسطــوطاليس( للشيء الجميل ) كما تم شرحها سابقاً فبينما ذهب أرسطو طاليس إلى إيجاد صيغ للنظام والتناسق تجعل من الجميل ذو حدود مدركه ومحسوسة( ذو بداية ووسط ونهاية ) يرى كانط أن للنفس قوى وملكات ثلاث هي ملكة المعرفة، وملكة الشعور باللذة والألم ، ثم ملكة الذوق ولقد شكلت هذه الملكة الأخيرة فيما بعد حجر الزاوية في فلسفة الجمال عند كانط والتي ضمنها كتابه ( نقد ملكة الحكم) حيث وضع فيما بعد( نظرية الذوق) على اعتبار أن الذوق ليس مجرد ( حكم وجدان) بل هو (وجدان حكم ) ويقول فى ذلك "أعني أنه مبدأ وجداني يتصف بالكلية والضرورة معاً[54].
وهنا نلمس الفرق الواضح والكبير بين نظرة أرسطو التي جعلت من العقل والإدراك مقياساً للجمال ونظرة كانط التي ترد الأمر كله إلي الوجدان وأن الحكم الذوقي ليس حكماً منطقياً قوامه المعرفة الذهنية ، بل حكم جمالي وحدسي أصله الذات، ويرى كانط " أن الحكم الجمالي يمتاز بخصائص تفرق ما بينه وبين الحكم العقلي والخلقي. وأولى هذه الخصائص تتعلق به من حيث صفته ومصدره ،وهو أنه حكم صادر عن الذوق. وأن الذوق يصدره عن رضا لا تدفع إليه منفعة ، أي أن المتعة الفنية لا تهتم بحقيقة موضوعها ، بخلاف اللذة الحسية التي تتطلب التملك وبخلاف الرضا الخلقي الذي يتطلب تحقيق موضوعه[55]. كما يتضح من هذا أن كانط أراد أن يحرر الذوق الجمال من القيود التي فرضتها القواعد التي سبقته خاصة من قيود الفلسفة الأغريقية، ويتيح قدراً كبيراً من الحرية التي تدفع الوجدان إلى استشفاف الجمال ويوقل في هذا الصدد محمد غنيمي هلال قائلا "وقد أردا كانط أن يهئ للعبقرية بيئتها التي تخصب فيها ويمنحها هذه الحرية. وفي هذا انحصر جهد (كانط) ، فليس فلسفته سوى بداية الطريق الذي تخصب فيه عبقرية الفنان فتؤدي واجبها الفني . ولم يبحث (كانط) – بعدذلك –في الحالات الخاصة ، ولا في العوامل الخارجية أو الملابسات التاريخية التي تؤثر في الفنان على الوجه الأكمل [56] وهذا الجانب الوجداني ،والذاتي من البحث هو الذي جعل من فلسفته منهجا للتمرد على القيود الأرسطوطاليسية و يقول محمد غنيمي هلال في هذا الصدد "وقد أصبحت فلسفة ( كانط) ذائعة الصيت في فرنسا بعد أن تحدثت عنها مدام دي ستال وفكتور كوزان Victor Cosin في محاضراته عن ( كانط) في السوربون من عام 1816م إلي عام 1818م [57] ويظهر أثر كانط عند الفنانين دعاة ( الفن للفن) الذين يرون في الفن الإحساس بالجمال المحض، ويبعدون عن ما هو غائي في الجمال مثل " وهو ما نلحظه لدى تبوفيل جوتيبه ( 1811-1822) ففي مقدمة مجموعته الشعرية الأولى ( 1832) يتحدى الفنانين في الأدب بقوله: يسألون: أية غاية يخدم هذا الكتاب أن غايته التي يخدمها أن يكون جميلاً[58] "أيضاً لقد تأثر الشاعر الأمريكي أدجار ألن بو (1809 –1853) بفلسفة كانط حيث أعلن أن الشعر يقصد به التأمل في "تجربة ذاتية".[59]
وفي مقدمة كتبها الشاعر الفرنسي بودلير (1821-1867) عن قصة أدخال الان بوقال "لا يمكن أن يتمثل الشعر بالعلم أو بالخلق ، وإلا كان مهدداً بالموت أو الخسران ، فالشعر ليس موضوعه الحقيقة ، وليس له من موضوع سوى الشعر نفسه[60]" هذا وسوف نرى بالتفصيل كيف تأثر الشاعر الإنجليزي صمويل تايلور كولردج أعظم رواد الرومانسية بهذه الفلسفة خاصة في نظريته الدرامية التي أطلق عليها اسم ( الإيهام الدرامي).
ثانيا: هيجل 1770 – 1831م :
فلسفة هيجل امتداد لفسلفة كانط ، وهي أشبه بفلسفة إفلاطون من حيث أن للفكرة وجوداً مستقلاً وعند هيجل "أن الفكرة مرت بثلاث مراحل ، تتضمن شرح تطور الفن فيما يرى . ففي المرحلة الأولى وتتمثل في الفن لأرقي والمصري ، كانت الشهرة للمادة على الفكرة ، وكانت الفكرة ضعيفة ، ولذا كان الجمال يتمثل في الأشياء الجليلة التي تبعث على الرهبة لضخامتها كالمعابد المصرية والقبور ، وهذه هي المرحلة الرمزية عند هيجل لينتصر الشكل علمي المضمون . والمرحلة الثانية هي المرحلة الكلاسيكية ، وتتمثل في الفن اليوناني ، وفيها يتعادل مع المضمون.وتصادف الفكرة أتم تعبير عنها ، وهي مرحلة الكمال الفني التي يصل إليها الفن في المستقبل ، فيما يرى هيجل والمرحلة الثالثة هي مرحلة سيطرة المسيحية أو ا لمرحلة الرومانسية،وفيها تغلبت الفكرة على الصورة ، واختل التعادل بين الشكل والمضمون[61] ويرى هجيل أن العمل الفني غاية فنية محضة مثل كل الفلاسفة المثاليين ، وأن أي عمل فني هو في الأصل فكرة ما تأخذ الشكل الجمالي.
كما يرى هيجل أن أي شيء في حالة تناقض دائم ، بل ويرى أن هذا التناقض هو القوة المسيرة للأشياء ، ولقد استفادت الدراما من هذه الفكرة في مفهوم الصراع (Conflict ) الدرامي " فقد أدت فكرة هيجل بأن التناقض هو الذي يحرك الأشياء إلى تصوره للصراع الدار مي على أنه القوة المحركة للحدث ، ففي راية أن الحدث يتطور كنتيجة لمحاولة إيجاد توازن لا يستقر على حال بين إدراك الإنسان والبيئة ، أي إرادة غيره من المجتمع والطبيعة.[62] وهذه نقطة جوهرية في تاريخ تطور الفكر الدرامي ، إذ لم يعد الحدث (Action) بذاته شيئاً منفصلاً عن البناء الدرامي كما هو الحال في الدراما الكلاسيكية ذات البناء الأرسطي ، بل بدأ النظر إليه كناتج صراع(Conflict ) بين الشخصيات ، وهو ذات الشيء الذي قاد الدراميين إلى تحليل عناصر المسرحية بما يسهل مفهوم الصراع (Conflict ) ، الشخصيات (Characters) ، والحدث (Action) … الخ.
ويقول رشاد رشدي في هذا الصدد " وفكرة الصراع تؤدي بنا إلى التساؤل عن مدى حرية الإرادة وعن العلاقة بين الإرادة والضرورة وبالتالي تصبح كل هذه المسائل عناصر درامية لا غني عنها[63].
3- اثر الفلسفة المثالية على النقاد والكتاب الرومانسيين:
سأتناول في هذا الجزء اثنين من النقاد والكتاب الذين يمثلان تيار الرومانسية، موضحاً بالتحليل تأثرهما بالفلسفة المثالية.
أولا : دينيس ديدرو Dinis Didereot 1713 –1784 م :
دينيس ديدرو Dinis Did erot ، 1714 –1784 م ، أديب فرنسي وتعتبر مسرحيته Lefils Natural التي طبعت عام 1757م و lereieJamille التى طبعت عام 1758 ، جزءا ضئيلا من إنتاجة الأدبي . لكنهما مسرحيتان مهمتان لأنهما ساعدتا في نشر أفكاره الجديدة ، بعد تاثره بـ (Lissing). أثر ديدرو تأثيراً كبيراً في الدراما الأوربية عند القرن التاسع عشر . "وديدرو من الذين فجروا دراما الطبقة الوسطي ، ذلك من خلال مسرحية Ant comedie larmoy التي لا تخلو من السخرية بالقيم[64].
لقد كان لدينيس ديدرو أثر كبير في نشر الرؤية الجمالية ذات البعد المثالى الذي شكل حجر الزاوية لتيار الرومانسية مخالفاً لقواعد أرسطو طاليس ويقول ديدرو " الجميل هو الذي يحتوىفي نفسه وفي خارج نطاق الذات على ما يثير في إدراك المرء فكرة العلاقات ، والجميل بالنسبة لي هو الذي يثير هذه الفكرة [65]" ومن الواضح أن رؤية ديدرو هذه تختلف من رؤية أرسطو ( للشئ الجميل) . لأنه يتحدث عن الجانب الذاتي وأثره في تذوق الجمال ، لكنه أيضاً لايبعد ما هو موضوعي أو أثر الموضوع على الذات لأنه يري أننا لا نستطيع أن ندرك الجمال في الشيء دون أن نقف على ما يحفه من قرائن أخرى. ففي الأدب ،مثلاً لا ينبغي أن نقول أن الكلمة أو الجملة جميلة ، دون أن نقف على موقعها من الجمل ، وفي القصة أو المسرحية أو القصيدة ، وفي الموقف ا لعام . أما هي في ذاتها لا يمكن أن تحكم على النظام والتناسب والتناسق والملائمة ،وهي المعاني التي تدفعنا إلى أدارك الجمال في الشيء الجميل وهكذا وبإدراكنا للجميل بعلاقة الذاتي والموضوعي تبتعد الرومانسية من الكلاسيكية التي حددت معايير ووحدات عقلية للجميل ، وتقترب من المثالية لتتخذها مشروعاً ونظرية معرفية لإكتشاف الجمال . اما على مستوى الدراما والمسرح ، كان ديديرو احد رواد الثورة على قواعد ارسطو طاليس الكلاسيكية حيث نادي بأهمية الشخصية ( الممثل بالتحديد) بدلاً من الفعل ، كما هو عند أرسطو طاليس. وهذا الإحلال (أحلال الشخصية محل الفعل) ، يمثل أكبر انقلاب في نظرية البناء الدرامي وهو ما يميز المسرحية الرومانسية والمسرحية الحديثة عن المسرحية الكلاسيكية. ويرى ديدرو أن الصوت ، والكلمة ، والإيحاء والفعل كلها أشياء من صنع الممثل بغية عرض الشفقة فى أعظم أوجهها أن الممثل الذي بمقدوره أن يمنح الحوار قوته.
ويمكننا القول كان ديدرو ناقداً ومفكرا أثر تأثيراً كبيراً في الفكر الدرامي خاصة في نظرته إلي الطبيعة التي وضعته في مصاف طلائع التيار الرومانسي ويقول " ليس في صنع الطبيعة من خطأ وكل شيء جميل أو قبيح يكون عليها[66] وعلى الرغم من رؤيته ونزعته المثالية في الفن ، أعتبره الفلاسفة من بعد ذلك أحد رواد النزعة الواقعية التي أثرت في فلسفة الفن ، فليس هو بمثالي نظري بقدر ما هو ذو نزعة واقعية . لذا عده الفلاسفة الواقعيون فيما بعد من طلائعهم بين المفكرين والفلاسفة في القرن الثامن عشر.
ب- صمويل تايلور كولردج (Samuel Taylor Coleridge):
شاعر ، وناقد وفيلسوف إنجليزي كتب عدداً من المسرحيات الشعرية منها (Hemorse) التي كتبت عام 1797م وكذلك مسرحية (Osorio) التي أنتجها Duary lane عام 1813 إلا أنها وجدت نجاحاً متواضعاً. أما البقية التي اشتملت على عدد من التراجم الألمانية لم يتم إنتاجها وكان تمثيلها فقط للاستماع في أعياد الميلاد , "ترجع أهمية كولردج في تاريخ المسرح إلى مقالاته النقدية وإعادتة لشكسبير ، ويرى أنه قد أهمل من قبل المسرح الألي بيثي ولولا Malone لم ير النور[67].
يرى عدد من النقاد المسرحيين أن كولردج أحد أعظم النقاد الأوربيين ، ويقول جورج ستنسيري في مؤلفه الضخم (تاريخ النقد والذوق الأدبي في أوربا) إن أعظم النقاد الذين ظهروا حتى عصره ثلاثة هم أرسطوطاليس ولو نجتسيوس وكولردج [68]". هذا بالطبع هو رأى السيد سنتسيررى الذى ان قدر له العيش فى عصرنا هذا لغير هذا الرأى .لقد كتب كولردج عدداً كبيراً من المؤلفات ، شملت قضايا متعددة ومتنوعة في الأدب والدين والفسلفة ، ما يهمنا هنا نظرته لنظرية الدراما وفلسفة الجمال.
الدين والفلسفة عند كولردج:
أول مايلفت النظر إلى كولردج نزعته الدينية العميقة، ذات العمق الصوفي واهتمامه بالتوحيد ولقد ترك لنا عدداً من القضايا الفلسفية (Thesis ) وسأقوم هنا بعرض بعض أفكاره بغية الإلمام برؤيته الجمالية.
القضية الأولى:
يقول كولردج:" الحقيقة توازي الوجود فالمعرفة التي لا توجد حقيقة توازيها ليست معرفة. وأذا كنا نعرف فلابد من وجود شئ نعرفه ، فالمعرفة في جوهرها فعل إيجابي[69]" وهنا نرى كلوردج يعترف بالوجود خارج الذات ، فهو أشبه بفيلسوف واقعي لكنه في القضية الثانية مباشرة ينتقل إلي نقطة أخرى تناقش قضية الإدراك في ضوء الفلسفة المثالية حيث نلاحظ أثر الرؤية المثالية الكانطية خاصة ما يتعلق بنظرية المعرفة وفيما يختص بالفرق بين الأحكام التحليلية و الأحكام التركيبية. ثم ينتقل كولردج إلي البحث عن ما يطلق عليه الحقيقة المطلقة فيقول: لذلك يجب أن نبحث عن حقيقة مطلقة في مقدورها توصيل اليقين الذي تحويه ولم تستمده من غيرها إلى قضايا أخرى ، حقيقة أساسها في ذاتها وغير شرطية ونعرفها فقط عن طريقها هي وبالإجمال واجبنا أن نجد شيئاً موجوداً لأنه يكون فقط موجود. ولكي يكون الشيء على هذا النحو يحتم عليه ألا يكون له محمول سواه على الأقل بمعنى أن سائر محمولاته اللفظية يجب أن تكون مجرد تكرار أو صور لذاته . يجب أن يكون وجوده أيضاً بحيث يستحيل علينا أن نحتاج إلى علة أو سابق له ، وذلك دون أن نهتم بالتناقض[70]"والبحث عن الحقيقة المطلقة بهذا الشكل هو أمر من شأن الفلسفة المثالية وهو ما بحثه كولردج مبتعداً عن المعني (intuition ) والإيمان وهو ما يبعد الحقيقة المطلقة على أن تكون شيئاً (Thing) أو موضوعاً (Object) وهذا ما ذهب إليه كولردج في القضية الخامسة.
القضية الخامسة:
"مثل هذا المبدأ لن يكون مجرد شيء أو موضوع . فالشيء يكون شيئاً نتيجة شئ آخر. فالشيء اللانهائي المستقل عن غيره يتضمن تناقضاً لا يقل عن التناقض الذي في الدائرة اللانهائية أو ا لمثلث الذي لا إضلاع له . كذلك الشيء هو الذي لا يمكن أن يكون موضوعاَ لذاته فقط وإنما يتطلب وجود كائن آخر يدركه فيكون موضوعاً له ولا يمكن تصور موضوع بدون ذات تكون نقيضاً له . فجمع ما هو مدرك يفترض وجود من يدركه . ولا يمكن أن يوجد هذا المبدأ في ذات بوصفها ذاتاً متميزة عن الموضوع . ولهذا لن نجد المبدأ سواء في الموضوع منفصلاً عن الذات أو في الذات منفصلة عن الموضوع . وبما أنه لا يمكننا أن نتصور ثالثاً إذاً لابد أن يوجد المبدأ فيما هو ليس ذاتاً فحسب وليس موضوعاً فحسب ، وإنما فيما هو وحدة من الاثنين [71]" وهكذا يتضح أن كولردج يبحث عن الحقيقة بعيداً عن الموضوع لوحده والقياس المنطقي والتجريبي ، ما أضفى على كولردج صفة الفيلسوف المثالي الحدسي ( Intuitionism) والذات ( Ego) وهو بالتحديد ما أشار إليه في معرض حديثه في القضية السادسة.
القضية السادسة:
"هذا المبدأ كما وصفناه هنا يكشف نفسه في الأنا التي سأطلق عليها فيما يلي ألفاظ الروح والنفس والشعور بالذات أو الوعي الذاتي بدون تمييز ففي هذا المبدأ وفيه وحدة يتحد الموضوع والذات[72].
وقد يبدو كولردج فيلسلوفاً وجودياً عندما يقول" وإذا سئلت عن كيفية معرفتي للأنا فالجواب الوحيد الذي لدى هو أني أنا لأني أنا[73]" ثم يبدو مرة أخرى مؤمناً حينما يقول " وفيما يتعلق بأساس وجودي وليس فيما يتعلق بأساس معرفتي لهذا الوجود ، أجيب بأني موجود لأن ألله موجود [74]" ومثل هذا القول هو الذي دفع عديد من النقاد الغربيين إلى النظر لكولردج على أساس أنه مؤمن صوفي.
هذه الرؤية الإيمانية هي التي شكلت رؤية كولردج للجمال والدراما لكن ما يهمنا هنا بالتحديد نظرية كلوردج في الدراما وهى نظرية ( الأيهام الدرامي).
ج- نظرية الايهام الدراميDramatic illusion لكلودج:
يفرق كولردج ما بين ( المحاكاة ) والتقليد ، ويرى أن المحاكاة لابد لها من اختلاف عن الأصل . وهذا ما يميز رؤيته عن رؤية أرسطو طاليس في ضوء نظرية الدارما أنظر قوله" إن لحظة واحدة من التفكير كافية أن تجعلنا جمعياً ندرك ما كان مجرد إحساس يخالجنا من قبل ، وهو أن المسرحية (محاكاة) وليس ( تقليداً) للحقيقة ، وان الذي يميز المحاكاة عن التقليد هو أنه لابد من وجود قدر معين من الاختلاف عن الأصل[75]".
إذا فالمسرحية عند كولردج هي محاكاة (copy) للحقيقة(Reality ) وليست تقليداً للفعل (Imitation of action) كما يرى أرسطو طاليس فى نظرية التقليد، وهذا الفرق مهم وأساسي في فهمنا لكولردج بوصفه احد مؤسسي تيار الرومانسية في المسرح خاصة وفي الأدب عامة. فإن كان ارسطو طاليس يرى التراجيديا مثل الكائن العضوي في نموها ونهايتها تنتخب تطورها بمنطق الطبيعة مثل منطق الضرورة أو ألاحتمال يرى كولردج هناك اختلافا بين المسرحية والطبيعية متمثل في عنصر الإيهام ، والإيهام هو أهم العناصر التي تكسبنا اللذة وفقاً لرأيه، كما يرى أن المسرحية تتخذ من عنصر الإيهام المتفق عليه والمعلوم لدى المشاهد أصلاً لها أي أن المسرحية هى الإيهام نفسه ويقول كولردج "ويجب علينا أن نحكم على المسرحيات ، بل إننا فعلاً نحكم عليها جمعياً طبقاً لهذه الفكرة ولا نحتاج إلى دليل على ذلك غير هذا الدليل ، وهو أن شعورنا باحتمال وقوع الشيء يكون في حالة رقاد سلبي حينما نستمع إلى أحد الممثلين وهو يعلن في لغتنا الإنجليزية السليمة وبدون أية لكنه أجنبية إنه يوناني أو روماني أو فارسى فلا نجد في ذلك أمر غير محتمل الوقوع [76]".
ثم يقسم كولردج النقاد على ضوء هذا الإقرار إلى قسمين يرى أحدهما بضرورة أن تكون المسرحية عملية إيهام كاملة وخدعة ، وقسم آخر يرى عكس ذلك ، ويقول كولردج " وهنا وجدت النقاد قد أخذوا بقرارين متطرفين إزاء هذه المشكلة . فهناك النقاد الفرنسيون، ومن الواضح أنهم يفترضون أن المسرحية ترمى إلي الخداع الكامل، وهذا رأي سبق تفنيده ولسنا بحاجة إلى تفنيده من جديد . ومن ناحية أخرى نجد النقاد الذين ينادون بنقض ذلك ويعضد هؤلاء الدكتور جونسون. وهم يرون بأن النظارة واعون تمام الوعي وذلك طول الوقت وبطريقة إيجابية بأن العكس هو الصحيح أي أن المسرح ليس إلا مسرحاً[77] ".
والحقيقة القاطعة هي أن كولردج وجه نقداً ضمنياً لنظرية أرسطو طاليس الدرامية ، خاصة فيما يتعلق بجانب الاحتمال في وقوع الفعل فكما ذكرنا سابقاً أن أرسطو طاليس يرى ( أن الأشياء ممكنة اما بالضرورة أوبالاحتمال) ، ولكن كولردج يرى أن الضرورة والاحتمال مسائل عقلية والعقل وقياسه أمر يتطلب حالة الصحو ، وفي رؤية كولردج عكس ذلك ، فالمسرحية برمتها ما هي إلا أمر غير محتمل الوقوع متفق عليه من قبل الممثلين والمشاهدين ويقول: " ويتم ذلك بفضل فن الشاعر والممثلين وبموافقتنا ومساعدتنا الإرادية الواعية إننا نشاء أن نخدع [78]". وهنا يخلص كولردج إلى نظريته في النقد الدرامي ، والتي تشكل رؤيته للبناء الدرامي للمسرحية حيث يرى أن أي نزوع إلى إبراز تحقق القيام الحسي والحقيقي هو بمثابة عيب في المسرحية ، وكلما اقتربت المسرحية من أن تصبح شيئاً غير محتمل الحدوث هو أمر من شانه إكسابها نجاحاً كبيراً ويقول في هذا الصدد: " والآن بعد هذا الشرح يمكننا بسهولة أن نستنبط القاعدة النقدية التي نبحث عنها ،وهي أن كل ما ينزع إلى منع الفعل من أن يضع نفسه ،في هذه الحالة التي يكون فيها للصور حقيقة سببية لابد وأن يكون عيباً في المسرحية ، وبالتالي لابد وأن يكون شيئاً يعتبره النظارة غير محتمل الوقوع ، وليس ذلك لأنه ليس له وجود حقيقي فنحن نعلم منذ البداية أن المسرحية كلها غير حقيقة ، وإنما لا يمكن لهذا الشئ أن يبدو محتمل الوقوع [79]".
وبهذا القدر من استعراضنا لأفكار الناقد والفيلسوف والشاعر الانجليزى كولردج نكون قد وقفنا على أثره الفاعل على تيار المدرسة الرومانسية في المسرح.
لابد من الاشارة الى انه يوجد غير كولردج كتاب عديدون أسهموا في بلورة تيار الرومانسية فى المسرح الغربى. وعلى سبيل المثال وليس الحصر نجد في ألمانيا "جوته 1729 –1832م وشيلر 1759 –1805م وكل منهما كان ينكر أنه رومانسي، وكل منهما كتب عدداً من المسرحيات الكلاسيكية ولكنهما في النهاية كتبا مسرحيات رومانسية ربما كانت من أهم دعائم الرومانسية في ذلك الوقت [80]". ولقد كتب جوته مسرحيته الشهيرة ( فاوست) التي يعتبرها العديد من النقاد بمثابة روح الرومانسية.
أما شيلر فقد كتب عدداً من المسرحيات أهمها مسرحية(اللصوص ) عام 1782م ولاقت نحاحاً كبيراً وعرضت في مسارح العالم " واستمر عرضها إلى آخر القرن التاسع عشر – وقد تحول شيلر بعد ذلك إلى التاريخ فأصبح يختار موضوعاته من لحظات حاسمة أو أزمات في التاريخ "وفي فرنسا بدأت الحركة الرومانسية متأخرة ،بعد أن بدأت تموت في كل من إنجلترا وألمانيا ولربما يرجع ذلك للرقابة التي فرضها نابليون بونا بارت على العروض المسرحية خلاصة القول أن للمسرحية الرومانسية خصائص ومواصفات جمعيها تصب في رؤية الكاتب ، واعتماده على إحساسه الذاتي وأفردت مساحة واسعة تحركت فيها المسرحية الحديثة من بعد ولقد برز عدد من النقاد والفلاسفة الذين أسسوا للرؤية الرومانسية مثل أوجست وليهليم شليجل Schelgel الذي "قدم محاضراته المعروفة عن الفن المسرحي في يناير سنة 1808م وفيها أستعرض شليجل تاريخ المسرح كما حلل قسطاً كبيراً من مسرحيات شكسبير بعمق ودراية . ويمكن اعتبار محاضراته على وجه العموم تعبيراً واضحاً عن نظرة الرومانسية إلى الفن [81]". هذا ولقد أعاب شليجل على أرسطو طاليس تصوره للحدث على أساس أنه سلسلة من الأحداث ترتبط مع بعضها البعض ارتباطا آلياً.
د/ خصائص المسرحية الرومانسية :-
* تحطيم القواعد والقوانين التي وضعتها الكلاسيكية والتي حددت مسارالادب وكتمت أنفاس الأدباء ، وعدم الاهتمام إلا بالذوق الشاعري والعاطفة والوحي والألهام الذاتي .
* ترك المدينة إلي الريف والطبيعة، والترنم بجمالها الحر االبسيط والذي لا تحده ولا تشوبه العداءات.
* العناية بالنفس الإنسانية وما فيها من العواطف وألوان الشعور.
* التحرر من ا لعالم المادي و السمو إلى العوالم المثالية المتخيلة.
* نشدان البساطة في التفكير والذوق والشعور وطرح التكلف والتلطف المصطنع، وترك النفس على سجيتها وإتباع الفطرة والطبع الخالص.
وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهر فلاسفة واقعيون ،مثل الفيلسوف الإيطالي ينديتو كروتشيه (1866-1952م) وآخرون كان لهم أثر كبير في المجتمع فبدأت بوادر المذهب الواقعي Realism في الظهور ، وبدأ المذهب الرومانسي يفتقر شروط بقائه ويقول في ذلك رشاد رشدي " قبل منتصف القرن التاسع عشر بدأت معايير الرومانسية تبدو لا معني لها، فقد أهتز الاعتقاد في طبيعة الإنسان المثالية ، فمثلاً بعد سقوط نابليون حوالي 1815م استرجعت أكثر البلاد الأوروبية أنظمتها السياسية السابقة ، وكانت ممعنة في الرجعية ،وأصبحت الحرية والمساواة والإخاء ألفاظا لا معني لها في نفس الوقت بدأت تظهر النتائج السيئة للثورة الصناعية ، وانتشر الفقر والجريمة[82]" ثم بدأ عدم الاقتناع بمقدرات الإنسان اللانهائية يأخذ حيزه ، فأزداد الاهتمام بالتفكير العلمي والمنطقي والتخلي عن الأحلام ، فأتجه الكتاب والنقاد إلى التفكير الواقعي فأخذت الواقعية حيزها رويداً رويداً جاعلة من ا لفلسفة الوضعية الجديدة قاعدة لها، فظهرت كتابات الفيلسوف (أوجست كونت(1798 –1857م) وانتقلت المسرحية بصفة خاصة والفن بصفة عامة إلى ما تعارف عليه بالواقعية ( Realism ) كمعادل أدبي للفلسفة الوضعية وأثرها على الحياة الأوربية في تلك الحقبة . وهو ما نتناوله في الفصل القادم من هذا الكتاب ان شاء الله .