انشغلت عن أمري بالتطلع الى إغتمام يتهافت من النافذة المحصنة بالقضبان المتقاطعة. إنفراج مطري يهيئ أبعاده للوميض. كنت الوحيد في القاعة. شعرت بالبرد وسط الدفء واقشعر جسدي بين جدران كسيت برفوف خشبية فارغة. حاولت أن أستعيد تفاصيل خارجية جئت منها ضاعت في عتمة الممر الذي يفضي، بعد أبواب وجدران أعلاها زجاج وأسفلها خشب، الى غرفة دريد مدير الذاتية. لكن نظري لم يتجاوزه، نظرت اليه من الزاوية المعتمة حيث وقفت أنتظر وهو على ضوء الرعد المقبل ذي الألوان المتقلبة، جامدا واجما لا تبدر منه غير حركة يدين لا تتباعدان، يد تسحب الورق ويد تؤشر بالقلم إشارات لطالما كرهت معناها. رجل يتمترس بالصمت ضد الإلفة لكي لا ينطق حين يفتح فمه إلا أمرا. تلك عزلة أقسى من إعتزالي لأن إعتزالي إلفة وحيدة. لم نتفق وحافظ على محيط غير مرئي أمامه أصغر من النافذة التي لا يلتفت اليها خشية أن ينزلق عن كتفيه رداء الكبرياء الفضفاض. أما أنا فأشعر أن تواضعي انتظار ورقي يتدحرج لمرأى زوبعة قادمة.
ذلك الغصن الطويل على النافذة لم يخْفِه الكدر تماما، رأيته يهتز على إمتداد قضيب حديدي أكثر ثباتا منه ومني، غصن متفرد بمداه مثلي، يتحرك نحو نفسه ويجذب إختفاءه اليه، واضح في قنوط حلو لأنه يتدثر بدفئه ويرتكن إرتكانا ينث... مثلي.
ما أهمية أن يوجد شيء آخر غير الذي بوسعه إجتذابي... غير الذي بوسعي؟ غصن أشترك الآن معه في إخضراره المبترد عبر مسافة أو مكان لم نشغله معا.. ما ينقصنا هو إسم يجمعنا بصوت عال يسمعه حتى عَبَادة الذي قرر أن يرقص ويغني الى الأبد في الشارع.
إعتزالي تفرُّغٌ لمراقبة خشب يخضر ويذكرني بالحديقة التي لم أزرعها في بيتي وتركت أرضها ملعبا لأطفالي الذين كبروا الآن وانتبهوا الى أن غبارها لم يعد يناسبهم فأخذوا يزرعونها شجيرات لا تزال أصغر من أن تمد لي غصنا. ساعدتهم أمهم بحماس لتفهمني أنها تعرف الكثير عن الحدائق التي لم أزرعها فيها، وطالبتني بتراب خصب للحديقة فاشتريته بالأمس ليشهد على هزيمتي وجدبي الخاسر.
لكنني اليوم إثنان، واحد خارج الدائرة يتعلم الرقص والغناء في تدريبات حرة لا تنتهي، وآخر داخلها يتمرن على السكوت الآمر الناهي، السكوت الذي ظل فضفاضا عليه وآيلا الى الإنزلاق عنه، يدنيه الجدار مني فأستسلم لدنوه، أختم الستين وأحتفل بهذا الختام بالإعتزال.
أعرف أن الستين سن يرى المرء بعدها في كل شيء ما يدفع الى السخرية فأجعل السخرية إحتفالي وأراقب موظفة قميئة تنتحل الفتنة وتدعي الإمتلاء الشهواني... أعرف أباها... كان عاملا معنا وجاء بها الى الوظيفة قبل ثلاث سنوات ليلحق مستقبلها الأنثوي بماضيه الذي لا جنس له. كانت تسير خلفه مرتدية أنبوبا مرقطا وتبتسم إبتسامة هي نسخة مراهقة من إبتسامته الخرقاء. ها هي الآن تتحرك على كرسيها بتعال لا يخفي بلادتها... لا تزال أمامها سنوات طويلة. لن تعرف كم سنة دفعتُ لأقايض السخرية بالكآبة، وأن أمد أسبابا للعقوبات لا يشاركني بها أحد... عوقبت مرة لأني تساءلت ما الذي جاء بي الى هنا، ومرة لأني صحوت من حلم لم يغادرني خدره، ومرة لأني سمعت كلاما عن الأماني أخذت أردده، ومرة لأني تشاجرت من أجل المشاعر، وحين تخلصت من سطوة الأحلام عوقبت أيضا لأني صرحت بأني لا أعترف بالأحلام، فأصبت بالكآبة وكثرة الأطفال.
ها هم قد عادوا الى العمل بعد تطلع قصير الى الجو. عادت رواء أيضا الى تفحص أوراق إعترفتُ بها قبل أن تكون وضمَنْتُ إعترافي بصور شمسية وعرائض أيام، لم تعد تهمني، خلفتني وراءها. أراها تهز رأسها وهي تعض برقة طرف القلم أو تنقر به على أسنان لم يخْبُ بياضها بعد. منذ سنوات كثيرة وأنا ألاحظ جمالها يكبر معها، يتقدم معها في السن ويكتسب رزانة لا شيخوخة فيها. قالت لي:
-اكملت خلاصة هذه الإضبارة ولكنها لا تزال ناقصة.
قلت لها بفتور يستحقه النقصان:
-وما العمل؟
- خذ هذه الورقة يسلمك بموجبها موظف القسم الفني الإضبارة الفرعية فقد توجد فيها نسخ من الأوراق الناقصة عندنا.
نظرت في الورقة فإذا هي تواريخ عقوباتي وأمامها فراغاتي. أي عقاب ضال لم يردعني وأية مكافأة لم تنفعني ستجد رواء في الإضبارة الأخرى؟
سرت محاذيا أشجارا أكثر انتشارا من أن تحميني من رذاذ السماء، ابتعدت عنها وعن انحناءات لا تجدي الى فضاء يصعد دوني مع استقامة الطوابق ويتسع مع انفتاح قاتم لزرقة موارة. كان (عَبَادة) حيث عهدته منذ أن اختار لنفسه دقة لا ننفذ اليه منها، يكنس الشارع كل يوم بنزاهة ويظل يرقص ويغني، لا يدخل الدائرة إلا ليسأل عن راتبه فيجمعون له من الحاضرين بضعة فلوس. مررت به وهو يتقافز تحت الرذاذ ويدندن بأغنية غامضة. لم أتوقف عنده، ولم يستوقفني هو كالعادة ليطلب مني سيجارة. أسرعت الى رجل الأضابير.
عندما عدت كانت حبات النثيث قد كبرت لكنها لم تتحول الى مطر يعترف بإبتلالي، وازداد رقص عبادة. حركات عنيفة ولكنها لا تكفيه لأن يطير عاليا، رأيت وجهه يكفهر وهو يتلوى نحو السماء فأحسست بعذاب إنسان لا يطير. دلفت الى الاستدارات نفسها والسلالم نفسها والممر نفسه فأجفلتُ هدوء رواء وأنا أدفع بالإضبارة أمامها. حين فتحت الإصفرار الذي كنت أتأبطه سقطت صورة كركمية على زجاج المكتب... ناولتني إياها مبتسمة:
-قد تفيدك...
طالعتني صورة شمسية لشاب أملط الوجه ينظر بعينين واسعتين نحو آلة التصوير. تذكرت أنه كان يتمنى أن يكون ممثلا وقد بذل جهده لتكون الصورة شبيهة بلقطة لممثل هندي وسيم، جانبية ومشرئبة، مهيأة لرقصة بارعة. لكني سمعت القميئة تقول بجذل كاذب:
-إي.... مطرت.... الله!
وكشرت بالتذاذ شاعري لم أكذبه. راقبت الألوان الرصاصية المتفجرة حول غصني الرفيع الطويل. كل ثانية كان الصورة الخامدة تضاء بوميض متذبذب باهر لا يدخل الى أبعد من مكتب دريد.
انقطع التيار الكهربائي فتعالت أصوات متنفسة الصعداء. صار لمستطيل البرق المتجدد المتقلب في النافذة حضور يهشم العتمة المفاجئة ويمنح كل شيء فيها التماعا من لونه. فكرت أن أخرج من القاعة الى الممر الذي تطل نوافذه الخارجية على حدائق على جانبي سكة الحديد ما بين سقائف المعامل وبناية الإدارة التي أقف فيها. فتحت مصراعا واحدا فهبت نحوي ريح مشبعة بالخضرة التي لم تتح لي الفرصة طوال أربعين سنة أن أتأملها فيما كان جسدي طوال هذه السنوات يزداد ترهلا وروحي تزداد قساوة. فغرت فمي لضحكة درداء صامتة وأنا أنظر الى أطراف سطوح سقائف لا يزيل صدأها مطر ولا ريح، وخفضت بصري الى نبتات تحل صرائر الزهور للريح المبللة، زهور تغتسل أمامي اغتسالا يكاد يدمرها وينثرها للخفق. انتبهت الى أني لا أعرف أسماءها، أربعين عاما وهي تزهر كل عام أما ناظري وأنا أغوص في شيخوختي ولم أعرف لها إسما. تفصل بيننا نافذة لا غير، لكني أعرف أسماء جميع المكائن في السقائف التي عبرها وكل جزء فيها، كل عين بالزيت تغلي وكل جوف حديدي بالزيت يحترق.
اشتد المطر متحولا الى سيل مضيء تتزاحم قطراته وتتدافع على الحواف الخارجية. ضحكات إنثوية تتناغم وتتقارب وتحتشد خلفي. تكتكات الأحذية المدببة مرت بترفها قربي، ومسني نهد فارتعشت شيخوختي. استدرت لأتابع الأجساد الصغيرة تتدافع برفق وتتضاحك متجهة نحو الباب الخارجي لتتفرج على هطول المطر. لم تكن رواء معهن ولكنها خرجت بعد قليل وقبل ان تستدير لتلحق بهن ألقت خطوة إضافية نحوي وقالت مبتسمة:
-أكملت كتابك وهو الآن في الطابعة. عندما تعود الطاقة الكهربائية سيطبعونه وسيوقعه أستاذ دريد وتذهب به الى دائرة التقاعد.
ثم مضت وهي تضع يديها في جيبي سترتها الصوفية وترفع كتفيها الى الأعلى قليلا. في تلك اللحظة التفت لأنظر عبر باب الممر المفتوح نحو غرفة دريد المعتمة. دريد الفتّان.. هكذا كان الجميع يسمونه لولعه بالنفاق والوشاية.. لطالما كرهني الرجل وكرهته منذ أن كنا طالبين في المدرسة المهنية ولم يدخر جهدا ليسبب لي المتاعب، رغم تظاهره بخلاف ذلك. نصف عقوباتي إن لم يكن أغلبها كانت بمذكرات سرية أو وشاية منه، ومنذ أن أصبح مديرا لم يلب لي طلبا براحة قلب، لكنه الآن سيلبي طلب التقاعد بكل سرور، سيسره أن لا يراني بعد. هكذا فكرت وأنا أنظر الى غرفته. شيئا فشيئا بدأت عيناي تعتادان على العتمة وأخذتُ أتبينه، كان ينظر إلي هو أيضا، وخيل إلي أنه ينظر نظرة متأملة من أعماق عتمته. لا أدري لماذا شعرت في تلك اللحظة أن نظرته إلي مختلفة، دون أن أميل الى ما أراه مبالغة فأقول أنها خالية من شعوره المعتاد نحوي، ولكنها توحي بشيء. رأيته يقوم من مكانه ويتقدم مجتازا الممر. بدا لي وجهه المنتفخ، وهو يقترب مني، أجمل بلا نظارات وأقرب الى دريد الذي كان كاتب أوقات في بوابة المعامل يحرس الأرقام النحاسية المعلقة على لوحة خضراء. يسلم كل عامل قرصه الخاص دون أن تغفل عينه عن يد العامل الأخرى لئلا يخطف قرص زميل له غائب أو متأخر لكي لا يسجله في سجل المخالفين بعد أن يحصي الأقراص المتبقية ويرفع مذكرته الى المدير الإداري، كما كان يراقب أفواه العمال أيضا وينال مكافأة عن كل فمٍ مراقَب، ولقد وشى بي ففصلت سنة. حقدت عليه وقتها لكن الحقد بالنسبة لي الآن أصبح قصة قديمة، شعورا مختوما كخدمتي في المعامل، شعورا يستهلكني ويرهقني. حتى في الماضي لم أرغب في أن أتوغل في الحقد كثيرا، لا بل صادف ذات مرة أن أنقذته من العمال حين أرادوا أن يسقطوه في خزان الوقود المكشوف عندما جاء في إحدى جولاته التدقيقية. ظللت واقفا بينهم وبين الخزان لأمنعهم حتى انصرفَ دون أن يشعر بما كان يحاك له. لا أدري لماذا أشفقت عليه. من الصعب علي أن أرى شخصا مهانا، لا أتحمل النظر الى وجهه في تلك اللحظات، التطلع الى المذَّل يتطلب طاقة لا أملكها، شخصا قادرا على الحقد وعلى استعراضه. لم أرغب أن أرى وجهه الكئيب ناقعا بالسواد الحارق في تلك الظهيرة التموزية الغابرة.
اقترب مني وهو يضع قلمه الباركر في جيب سترته الداخلي، ساهما مطرقا كمن يفكر في مدخل سهل لحوار عصي. صار أمامي... ضربت وجهينا رشقة خفيفة باردة من خلال النافذة فأجفل رافعا رأسه وقد إتخذ فمه الواشي شكل ابتسامة مرتبكة- لم يتراجع ولم ينظر الي بل ثبت نظرته العشواء على الخضرة المنحنية للبياض المنهمر. بعد هنيهة قال بحرارة فاجأتني:
-منظر المطر جميل... تأخر هذه السنة أيضا...
ثم نظر الى السقف...
-وسينفذ الماء من السقف هذه السنة أيضا.
نظرت أنا أيضا الى السقف في بادرة مجاملة كانت هي البديل الوحيد عن تجاهل مخجل له وإحراج لم أعد بحاجة اليهما. نظرت الى حيث بدأت تنزل قطرات من السقف مع الجدار..
-ألم أقل لك؟
لم أره يبتسم إبتسامة صادقة، وأكاد أقول بريئة، كهذه الإبتسامة، كأنه يحاول أن يعيدنا، أنا وهو، في آخر يوم يمكن لنا أن نتقابل فيه على الأرجح، الى أيام المدرسة الخوالي. أية قدرة للإنسان على ظلم نفسه! سنوات وفمه يدفع ابتسامته الحقيقية الى الوراء، وها هو الآن يشي لأول مرة بأنه لا زال قادرا أن يكون صادقا. أشفقت عليه ثانية، أشفقت عليه من ظلمه الطويل ومن صمتي لئلا يطول. أردت أن أبادله الحديث، أن أقول أي كلام لأعين الإبتسامة البريئة على الثبات.
-لكن كيف ينفذ من السقف؟ أليس السقف من الإسمنت؟
أشار بحيوية حسبتها امتنانا الى خط اتصال السقف بالجدار:
-أنظر.... يتجمع الماء في الخارج ولأن التطليعة لم يحسن تسليطها يعود الماء من هناك... ويمر من هنا... ثم....
ولم أعد أصغي اليه. لم يكن يعنيني أن تغرق الدائرة كلها. فمه ينفتح وينغلق بسرعة ويداه تومئان، وجسده يتمايل بحركات تململ على إيقاعها الصامت سؤال في أعماقي من جديد.. من منا الخاسر يا ترى؟ هو؟ أنا؟ أم ما خسرناه كلانا؟ أيستحق ما بقي أن أغامر بالإلفة من جديد؟ هل بقي متسع في السنين للمقامرة؟ أرجع الى الوراء بعيدا؟ أبعد مما تستطيع ابتسامته أن تعود، أبعد مما استطيع ان أتذكر وأحلم وأرى. تكلم يا دريد... تكلم! لن نغير أسماءنا في كل الأحوال. لن تستطيع أن تقول لماذا اقتربت مني بعد انقضاء لا يشفع للكلام. تركت مكتبك الأبنوسي القديم الذي ورثته من قديم آخر، واش آخر دمر ابتسامته مثلك. لقد حققت حلمك ولن تتخلى عنه بود وصدق ليسا لك. أي سحر فعل بك هذا؟ أهي الظلمة المفاجئة التي أخافتك؟
حين أحاط بي الطنين لم أعد أراه واقفا أمامي. لا انتماء، لا حديقة، لا وجه، لا شيء آخر غير ما انقضى. عبر الباب المظلم، باب القاعة الخالية، عبر كل ما يفسد، أصغيت، أدرت وجهي وأصغيت ناسيا دريدا وإشاراته المتوددة المتأخرة، دنوت أربع خطوات هي كل اتساع الممر... آه... فها هي إذن لم تخرج معهن، ولا زالت منكبة تكتب قائمة تطول... حماقتي الكاملة.
تلك المرأة محرومة من رؤية الامتلاء الطلق مثلهن، ومن اغتنام انقطاع الضوء للتمتع بضوء من ريح وماء. خيل الي وأنا في إنشدادي لآخر آثامي أني سمعت شيئا عن سقف يخر، وخطوات منصرفة. كنت مشغولا بأمر المرأة التي تكتب تواريخ باطلة وأردت أن أقول لها أخرجي كما خرجن، سيكون لديك متسع من الوقت لتسليم أوراق كل ما فيها شاخ وهرم ليضع دريد عليها توقيعه الشبيه بأقراص النحاس المرقمة.
حين بلغت مكتب دريد كشف البرق لي حركة يقطعها الومض لرجلين أحدهما يشد الآخر. كان عبادة يحاول أن يجلس على كرسي دريد وما أن يبدو أنه نجح حتى يجذبه دريد بعنف يطوح بهما معا في تشبث مروع. تركتهما وتوجهت نحو الواجهة الزجاجية التي تفصل قسم الطابعة عن باقي الأقسام وهناك توقفت، على نفس الوميض الذي يقوي بصيص الخارج، رأيت المرأة عبر الزجاج... كانت تنظر الى الطابعة بانشغال استياؤه ذهول وقد غطى وجهها العرق وإنتثر شعرها الأشيب. لم أجرؤ على الدنو منها خشية أن تسألني من جديد عن الحدائق التي فاتني ان أزرعها فيها حتى ذبلت.
1994
نشرت بعنوان (إعتزال آخر) في جريدة الثورة اليمنية العدد 1 ابريل 1994 وقد راجعها المؤلف وأجرى عليها بعض التعديلات ونشرت في مجموعة (ما رواه العجوز حكمان عن الفتى الجميل جوهر) 2018
ذلك الغصن الطويل على النافذة لم يخْفِه الكدر تماما، رأيته يهتز على إمتداد قضيب حديدي أكثر ثباتا منه ومني، غصن متفرد بمداه مثلي، يتحرك نحو نفسه ويجذب إختفاءه اليه، واضح في قنوط حلو لأنه يتدثر بدفئه ويرتكن إرتكانا ينث... مثلي.
ما أهمية أن يوجد شيء آخر غير الذي بوسعه إجتذابي... غير الذي بوسعي؟ غصن أشترك الآن معه في إخضراره المبترد عبر مسافة أو مكان لم نشغله معا.. ما ينقصنا هو إسم يجمعنا بصوت عال يسمعه حتى عَبَادة الذي قرر أن يرقص ويغني الى الأبد في الشارع.
إعتزالي تفرُّغٌ لمراقبة خشب يخضر ويذكرني بالحديقة التي لم أزرعها في بيتي وتركت أرضها ملعبا لأطفالي الذين كبروا الآن وانتبهوا الى أن غبارها لم يعد يناسبهم فأخذوا يزرعونها شجيرات لا تزال أصغر من أن تمد لي غصنا. ساعدتهم أمهم بحماس لتفهمني أنها تعرف الكثير عن الحدائق التي لم أزرعها فيها، وطالبتني بتراب خصب للحديقة فاشتريته بالأمس ليشهد على هزيمتي وجدبي الخاسر.
لكنني اليوم إثنان، واحد خارج الدائرة يتعلم الرقص والغناء في تدريبات حرة لا تنتهي، وآخر داخلها يتمرن على السكوت الآمر الناهي، السكوت الذي ظل فضفاضا عليه وآيلا الى الإنزلاق عنه، يدنيه الجدار مني فأستسلم لدنوه، أختم الستين وأحتفل بهذا الختام بالإعتزال.
أعرف أن الستين سن يرى المرء بعدها في كل شيء ما يدفع الى السخرية فأجعل السخرية إحتفالي وأراقب موظفة قميئة تنتحل الفتنة وتدعي الإمتلاء الشهواني... أعرف أباها... كان عاملا معنا وجاء بها الى الوظيفة قبل ثلاث سنوات ليلحق مستقبلها الأنثوي بماضيه الذي لا جنس له. كانت تسير خلفه مرتدية أنبوبا مرقطا وتبتسم إبتسامة هي نسخة مراهقة من إبتسامته الخرقاء. ها هي الآن تتحرك على كرسيها بتعال لا يخفي بلادتها... لا تزال أمامها سنوات طويلة. لن تعرف كم سنة دفعتُ لأقايض السخرية بالكآبة، وأن أمد أسبابا للعقوبات لا يشاركني بها أحد... عوقبت مرة لأني تساءلت ما الذي جاء بي الى هنا، ومرة لأني صحوت من حلم لم يغادرني خدره، ومرة لأني سمعت كلاما عن الأماني أخذت أردده، ومرة لأني تشاجرت من أجل المشاعر، وحين تخلصت من سطوة الأحلام عوقبت أيضا لأني صرحت بأني لا أعترف بالأحلام، فأصبت بالكآبة وكثرة الأطفال.
ها هم قد عادوا الى العمل بعد تطلع قصير الى الجو. عادت رواء أيضا الى تفحص أوراق إعترفتُ بها قبل أن تكون وضمَنْتُ إعترافي بصور شمسية وعرائض أيام، لم تعد تهمني، خلفتني وراءها. أراها تهز رأسها وهي تعض برقة طرف القلم أو تنقر به على أسنان لم يخْبُ بياضها بعد. منذ سنوات كثيرة وأنا ألاحظ جمالها يكبر معها، يتقدم معها في السن ويكتسب رزانة لا شيخوخة فيها. قالت لي:
-اكملت خلاصة هذه الإضبارة ولكنها لا تزال ناقصة.
قلت لها بفتور يستحقه النقصان:
-وما العمل؟
- خذ هذه الورقة يسلمك بموجبها موظف القسم الفني الإضبارة الفرعية فقد توجد فيها نسخ من الأوراق الناقصة عندنا.
نظرت في الورقة فإذا هي تواريخ عقوباتي وأمامها فراغاتي. أي عقاب ضال لم يردعني وأية مكافأة لم تنفعني ستجد رواء في الإضبارة الأخرى؟
سرت محاذيا أشجارا أكثر انتشارا من أن تحميني من رذاذ السماء، ابتعدت عنها وعن انحناءات لا تجدي الى فضاء يصعد دوني مع استقامة الطوابق ويتسع مع انفتاح قاتم لزرقة موارة. كان (عَبَادة) حيث عهدته منذ أن اختار لنفسه دقة لا ننفذ اليه منها، يكنس الشارع كل يوم بنزاهة ويظل يرقص ويغني، لا يدخل الدائرة إلا ليسأل عن راتبه فيجمعون له من الحاضرين بضعة فلوس. مررت به وهو يتقافز تحت الرذاذ ويدندن بأغنية غامضة. لم أتوقف عنده، ولم يستوقفني هو كالعادة ليطلب مني سيجارة. أسرعت الى رجل الأضابير.
عندما عدت كانت حبات النثيث قد كبرت لكنها لم تتحول الى مطر يعترف بإبتلالي، وازداد رقص عبادة. حركات عنيفة ولكنها لا تكفيه لأن يطير عاليا، رأيت وجهه يكفهر وهو يتلوى نحو السماء فأحسست بعذاب إنسان لا يطير. دلفت الى الاستدارات نفسها والسلالم نفسها والممر نفسه فأجفلتُ هدوء رواء وأنا أدفع بالإضبارة أمامها. حين فتحت الإصفرار الذي كنت أتأبطه سقطت صورة كركمية على زجاج المكتب... ناولتني إياها مبتسمة:
-قد تفيدك...
طالعتني صورة شمسية لشاب أملط الوجه ينظر بعينين واسعتين نحو آلة التصوير. تذكرت أنه كان يتمنى أن يكون ممثلا وقد بذل جهده لتكون الصورة شبيهة بلقطة لممثل هندي وسيم، جانبية ومشرئبة، مهيأة لرقصة بارعة. لكني سمعت القميئة تقول بجذل كاذب:
-إي.... مطرت.... الله!
وكشرت بالتذاذ شاعري لم أكذبه. راقبت الألوان الرصاصية المتفجرة حول غصني الرفيع الطويل. كل ثانية كان الصورة الخامدة تضاء بوميض متذبذب باهر لا يدخل الى أبعد من مكتب دريد.
انقطع التيار الكهربائي فتعالت أصوات متنفسة الصعداء. صار لمستطيل البرق المتجدد المتقلب في النافذة حضور يهشم العتمة المفاجئة ويمنح كل شيء فيها التماعا من لونه. فكرت أن أخرج من القاعة الى الممر الذي تطل نوافذه الخارجية على حدائق على جانبي سكة الحديد ما بين سقائف المعامل وبناية الإدارة التي أقف فيها. فتحت مصراعا واحدا فهبت نحوي ريح مشبعة بالخضرة التي لم تتح لي الفرصة طوال أربعين سنة أن أتأملها فيما كان جسدي طوال هذه السنوات يزداد ترهلا وروحي تزداد قساوة. فغرت فمي لضحكة درداء صامتة وأنا أنظر الى أطراف سطوح سقائف لا يزيل صدأها مطر ولا ريح، وخفضت بصري الى نبتات تحل صرائر الزهور للريح المبللة، زهور تغتسل أمامي اغتسالا يكاد يدمرها وينثرها للخفق. انتبهت الى أني لا أعرف أسماءها، أربعين عاما وهي تزهر كل عام أما ناظري وأنا أغوص في شيخوختي ولم أعرف لها إسما. تفصل بيننا نافذة لا غير، لكني أعرف أسماء جميع المكائن في السقائف التي عبرها وكل جزء فيها، كل عين بالزيت تغلي وكل جوف حديدي بالزيت يحترق.
اشتد المطر متحولا الى سيل مضيء تتزاحم قطراته وتتدافع على الحواف الخارجية. ضحكات إنثوية تتناغم وتتقارب وتحتشد خلفي. تكتكات الأحذية المدببة مرت بترفها قربي، ومسني نهد فارتعشت شيخوختي. استدرت لأتابع الأجساد الصغيرة تتدافع برفق وتتضاحك متجهة نحو الباب الخارجي لتتفرج على هطول المطر. لم تكن رواء معهن ولكنها خرجت بعد قليل وقبل ان تستدير لتلحق بهن ألقت خطوة إضافية نحوي وقالت مبتسمة:
-أكملت كتابك وهو الآن في الطابعة. عندما تعود الطاقة الكهربائية سيطبعونه وسيوقعه أستاذ دريد وتذهب به الى دائرة التقاعد.
ثم مضت وهي تضع يديها في جيبي سترتها الصوفية وترفع كتفيها الى الأعلى قليلا. في تلك اللحظة التفت لأنظر عبر باب الممر المفتوح نحو غرفة دريد المعتمة. دريد الفتّان.. هكذا كان الجميع يسمونه لولعه بالنفاق والوشاية.. لطالما كرهني الرجل وكرهته منذ أن كنا طالبين في المدرسة المهنية ولم يدخر جهدا ليسبب لي المتاعب، رغم تظاهره بخلاف ذلك. نصف عقوباتي إن لم يكن أغلبها كانت بمذكرات سرية أو وشاية منه، ومنذ أن أصبح مديرا لم يلب لي طلبا براحة قلب، لكنه الآن سيلبي طلب التقاعد بكل سرور، سيسره أن لا يراني بعد. هكذا فكرت وأنا أنظر الى غرفته. شيئا فشيئا بدأت عيناي تعتادان على العتمة وأخذتُ أتبينه، كان ينظر إلي هو أيضا، وخيل إلي أنه ينظر نظرة متأملة من أعماق عتمته. لا أدري لماذا شعرت في تلك اللحظة أن نظرته إلي مختلفة، دون أن أميل الى ما أراه مبالغة فأقول أنها خالية من شعوره المعتاد نحوي، ولكنها توحي بشيء. رأيته يقوم من مكانه ويتقدم مجتازا الممر. بدا لي وجهه المنتفخ، وهو يقترب مني، أجمل بلا نظارات وأقرب الى دريد الذي كان كاتب أوقات في بوابة المعامل يحرس الأرقام النحاسية المعلقة على لوحة خضراء. يسلم كل عامل قرصه الخاص دون أن تغفل عينه عن يد العامل الأخرى لئلا يخطف قرص زميل له غائب أو متأخر لكي لا يسجله في سجل المخالفين بعد أن يحصي الأقراص المتبقية ويرفع مذكرته الى المدير الإداري، كما كان يراقب أفواه العمال أيضا وينال مكافأة عن كل فمٍ مراقَب، ولقد وشى بي ففصلت سنة. حقدت عليه وقتها لكن الحقد بالنسبة لي الآن أصبح قصة قديمة، شعورا مختوما كخدمتي في المعامل، شعورا يستهلكني ويرهقني. حتى في الماضي لم أرغب في أن أتوغل في الحقد كثيرا، لا بل صادف ذات مرة أن أنقذته من العمال حين أرادوا أن يسقطوه في خزان الوقود المكشوف عندما جاء في إحدى جولاته التدقيقية. ظللت واقفا بينهم وبين الخزان لأمنعهم حتى انصرفَ دون أن يشعر بما كان يحاك له. لا أدري لماذا أشفقت عليه. من الصعب علي أن أرى شخصا مهانا، لا أتحمل النظر الى وجهه في تلك اللحظات، التطلع الى المذَّل يتطلب طاقة لا أملكها، شخصا قادرا على الحقد وعلى استعراضه. لم أرغب أن أرى وجهه الكئيب ناقعا بالسواد الحارق في تلك الظهيرة التموزية الغابرة.
اقترب مني وهو يضع قلمه الباركر في جيب سترته الداخلي، ساهما مطرقا كمن يفكر في مدخل سهل لحوار عصي. صار أمامي... ضربت وجهينا رشقة خفيفة باردة من خلال النافذة فأجفل رافعا رأسه وقد إتخذ فمه الواشي شكل ابتسامة مرتبكة- لم يتراجع ولم ينظر الي بل ثبت نظرته العشواء على الخضرة المنحنية للبياض المنهمر. بعد هنيهة قال بحرارة فاجأتني:
-منظر المطر جميل... تأخر هذه السنة أيضا...
ثم نظر الى السقف...
-وسينفذ الماء من السقف هذه السنة أيضا.
نظرت أنا أيضا الى السقف في بادرة مجاملة كانت هي البديل الوحيد عن تجاهل مخجل له وإحراج لم أعد بحاجة اليهما. نظرت الى حيث بدأت تنزل قطرات من السقف مع الجدار..
-ألم أقل لك؟
لم أره يبتسم إبتسامة صادقة، وأكاد أقول بريئة، كهذه الإبتسامة، كأنه يحاول أن يعيدنا، أنا وهو، في آخر يوم يمكن لنا أن نتقابل فيه على الأرجح، الى أيام المدرسة الخوالي. أية قدرة للإنسان على ظلم نفسه! سنوات وفمه يدفع ابتسامته الحقيقية الى الوراء، وها هو الآن يشي لأول مرة بأنه لا زال قادرا أن يكون صادقا. أشفقت عليه ثانية، أشفقت عليه من ظلمه الطويل ومن صمتي لئلا يطول. أردت أن أبادله الحديث، أن أقول أي كلام لأعين الإبتسامة البريئة على الثبات.
-لكن كيف ينفذ من السقف؟ أليس السقف من الإسمنت؟
أشار بحيوية حسبتها امتنانا الى خط اتصال السقف بالجدار:
-أنظر.... يتجمع الماء في الخارج ولأن التطليعة لم يحسن تسليطها يعود الماء من هناك... ويمر من هنا... ثم....
ولم أعد أصغي اليه. لم يكن يعنيني أن تغرق الدائرة كلها. فمه ينفتح وينغلق بسرعة ويداه تومئان، وجسده يتمايل بحركات تململ على إيقاعها الصامت سؤال في أعماقي من جديد.. من منا الخاسر يا ترى؟ هو؟ أنا؟ أم ما خسرناه كلانا؟ أيستحق ما بقي أن أغامر بالإلفة من جديد؟ هل بقي متسع في السنين للمقامرة؟ أرجع الى الوراء بعيدا؟ أبعد مما تستطيع ابتسامته أن تعود، أبعد مما استطيع ان أتذكر وأحلم وأرى. تكلم يا دريد... تكلم! لن نغير أسماءنا في كل الأحوال. لن تستطيع أن تقول لماذا اقتربت مني بعد انقضاء لا يشفع للكلام. تركت مكتبك الأبنوسي القديم الذي ورثته من قديم آخر، واش آخر دمر ابتسامته مثلك. لقد حققت حلمك ولن تتخلى عنه بود وصدق ليسا لك. أي سحر فعل بك هذا؟ أهي الظلمة المفاجئة التي أخافتك؟
حين أحاط بي الطنين لم أعد أراه واقفا أمامي. لا انتماء، لا حديقة، لا وجه، لا شيء آخر غير ما انقضى. عبر الباب المظلم، باب القاعة الخالية، عبر كل ما يفسد، أصغيت، أدرت وجهي وأصغيت ناسيا دريدا وإشاراته المتوددة المتأخرة، دنوت أربع خطوات هي كل اتساع الممر... آه... فها هي إذن لم تخرج معهن، ولا زالت منكبة تكتب قائمة تطول... حماقتي الكاملة.
تلك المرأة محرومة من رؤية الامتلاء الطلق مثلهن، ومن اغتنام انقطاع الضوء للتمتع بضوء من ريح وماء. خيل الي وأنا في إنشدادي لآخر آثامي أني سمعت شيئا عن سقف يخر، وخطوات منصرفة. كنت مشغولا بأمر المرأة التي تكتب تواريخ باطلة وأردت أن أقول لها أخرجي كما خرجن، سيكون لديك متسع من الوقت لتسليم أوراق كل ما فيها شاخ وهرم ليضع دريد عليها توقيعه الشبيه بأقراص النحاس المرقمة.
حين بلغت مكتب دريد كشف البرق لي حركة يقطعها الومض لرجلين أحدهما يشد الآخر. كان عبادة يحاول أن يجلس على كرسي دريد وما أن يبدو أنه نجح حتى يجذبه دريد بعنف يطوح بهما معا في تشبث مروع. تركتهما وتوجهت نحو الواجهة الزجاجية التي تفصل قسم الطابعة عن باقي الأقسام وهناك توقفت، على نفس الوميض الذي يقوي بصيص الخارج، رأيت المرأة عبر الزجاج... كانت تنظر الى الطابعة بانشغال استياؤه ذهول وقد غطى وجهها العرق وإنتثر شعرها الأشيب. لم أجرؤ على الدنو منها خشية أن تسألني من جديد عن الحدائق التي فاتني ان أزرعها فيها حتى ذبلت.
1994
نشرت بعنوان (إعتزال آخر) في جريدة الثورة اليمنية العدد 1 ابريل 1994 وقد راجعها المؤلف وأجرى عليها بعض التعديلات ونشرت في مجموعة (ما رواه العجوز حكمان عن الفتى الجميل جوهر) 2018