بحياد استوعبت حواسه كل الأشياء المحيطة، بينما ظل تركيزه الأساسي على الجانب الآخر من الشارع .. بدوره كان متواجدا هناك، وكانت الإشارة الحمراء تفصل بينهما.. وبالرغم من انحشاره بين الجموع العديدة التقطته عيناه، كأنه ينتظر مثله تغير اللون ليتبادلا الأمكنة، أو يلتقيا .. طال به الانتظار والإشارة كما هي جامدة على لونها الأحمر .. فكر أن يغامر وينتقل إلى الجانب الآخر متخذا طريقا ملتويا بين العربات والدواب كبهلوان قبل أن يختفي عن عينيه ويتلاشى .. لكن الشرطي نهره .. جمد في مكانه وأن ود لو اعترض .. ارتجف جسده من قسوة الصقيع، ومسح قطرات المطر العالقة بعدستي منظاره الطبي .. أبصره هناك على الجانب المقابل يصنع نفس صنيعه، فأرجع الأمر للمصادفة وحدها ولم يعط له أهمية.. داهمة ألم فقرات الظهر .. تململت قدماه تعبا .. ثنى ساقه اليمنى كطائر البشاروش ووقف جامدا على ساقه اليسرى كالإشارة وقد رفع رقبته ومد رأسه إلى الأمام يتأمل العربات وهى تزحف أمامه ببطء متقاطرة .. ازدادت آلامه فبدل من وضع ساقيه وهيأ عموده الفقري لانتظار قد لا ينتهي بينما نظراته كعهدها منذ البداية مشدودة إلى هناك .. وصله الصوت مألوفا واضح النبرات فاستكان له وأوجد لمقعدته مكانا بين غابة السيقان المنزرعة ثم جلس على إفريز الرصيف المبلل .. مد قدميه إلى نهر الشارع ليريحهما من عناء الوقوف.
( لمح الشرطي ساقيه المدلاتين في نهر الشارع فجاءه على عجل .. حرر المخالفة وتقاضى قيمتها بالإضافة إلى رسم التمغة ثم سلمه الإيصال .. أخذه فمزقه إلى قطع صغيرة ألقى بها أرضا .. على الفور عاد إليه الشرطي وأمره أن يجمع كل هذه القطع ولا يترك منها على الأرض قطعة واحدة، وبعدها يذهب بها كلها غير منقوصة إلى سلة المهملات المشدودة إلى عامود الإشارة الحمراء أو فليتحمل غرامة جديدة عن هذا الفعل .. رضي بتحمل الغرامة حتى لا يصرفه نقاش عن تركيزه الأساسي عليه .. كانت نظراته كالمألوف مشدودة إلى هناك خوفا من أن يضيع منه بين الجموع .. سحب رقبته ورنا إلى الإشارة أملا أن يتحول لونها الأحمر لينجو من جمود أخذ يغزوه .. ثم استطال برقبته كزرافة فأبصره بدوره يدفع مثله الغرامة الجديدة للشرطي.. )
*******
لم يحل ألم الإحساس بالتبول بينه وبين التركيز على الجانب الآخر عابرا بنظراته نهر الشارع .. كانت ساقاه تتحركان في مكان وقوفه حركة نشطة في محاولة من جانبه للتغلب على هذا الإحساس الموجع … رفرف بذراعيه كعصفور ذبح لتوه، لكن الألم ظل على حاله .. أرجع قسوة الألم وضراوته إلى امتصاص الحذاء لماء المطر فتشبع الجورب تماما بهذا النشع المائي ولتتأثر في النهاية أصابع القدمين .. لم يخفف هذا الاكتشاف عنه الألم .. انتهز فرصة اقتراب الرجل الوقور منه وسأله متى يتغير اللون .. أشار الرجل بسبابته حيث المظلة المرتفعة وأخبره أن الأمر يتوقف على الجالس داخلها .. كاد أن يقول أن لو طال الزمن باللون الأحمر فسيجد نفسه لا محالة مضطرا أن يبول في نهر الشارع حتى لو أوقعوا عليه كل الغرامات المعروفة وغير المعروفة .. تصاعد الألم رهيبا إلى نحو الرأس فانفلتت الصرخة من صدره رغما عنه .. جاوبته نفس الصرخة قادمة من هناك.
(أقبل الشرطي على الصرخة، بهمة حرر له مخالفة الإزعاج المتعمد .. دفع المطلوب منه ثم أقتسم مع الشرطي كل ما تبقى معه من نقود تحت حساب أية غرامة مستجدة)
*******
تأمل سيل الماء القادم من أعلى الشارع فأيقن أنه بعد حين سيجرف كل ما يعترض طريقه .. خشي أن يفقده وسط السيل فاستمات بنظراته عليه غير مهتم بأصوات الموسيقى والأغاني المنبعثة من داخل المتاجر، كونت الموسيقى بدورها سيولا، تنفس بصعوبة كما لو كان سمكة أخرجت لتوها من الماء .. تراقصت الأضواء المتحركة على واجهات المتاجر بينما ثبتت أضواء (الفترينات) في توهج شديد لتكشف عما يذخر به داخلها من معروضات .. ارتفع منسوب الماء المنساب في نهر الشارع ففكر أن يلجأ إلى واحد من هذه المحال يحتمي به حتى مع كونه ليس من زبائنه .. بدوره كان هناك على الجانب المقابل .. وتعبيرات وجهه توحي بنفس الخاطر استغرب، ولكنه لم يشأ أن يستسلم لهذا الاستغراب حتى لا يغفل عنه .. على غير ما توقع ماتت أصوات المطربين والمطربات وانطلقت صفارات التحذير وعندما توقفت اتضحت الاستغاثة المنبعثة من المتجر المواجه للإشارة .. رددت الاستغاثة من خلال مكبر الصوت النداء ( امسكوا اللص، اقبضوا عليه .. لا تدعوه يفلت) .. جاهد كي يحتفظ برأسه مرتفعة فوق الرؤوس التي كانت تتحرك كأفرع نخيل غير مثمر.
( أبصره الشرطي، فأيقن من نظراته أنها تشي بشيء خفي لا يطمئن .. وقف أمامه وطالبه بأن يحتضن رأسه ويخفضها إلى أسفل وإلا كبده غرامة التستر على متهم وحجبه عن عين العدالة ومساعدته على الفرار..)
*******
أبصر الحمار وهو قادم من أسفل متجها إلى أعلي .. صاعدا منحدر الشارع وهو يجر وراءه العربة الخشبية المكتظة بالأحمال .. كانت حركة الحمار بطيئة ومملة .. خشي أن تحجب الحركة البطيئة عنه عندما تصل العربة وتصبح أمامه تماما رؤيته له .. فقد كان حمل العربة المرتفع كفيلا بأن يصنع حجابا بينه وبين تركيز النظر عليه .. وقد يطول ويمتد بفعل الخطوة البطيئة للحمار .. ود أن لا تسد أمامه كل الطرق فلا يبق له من سبيل إلا الانبطاح على بطنه كسحلية زاحفة ليمكن نظراته من أن تصل إليه مارة من بين قوائم الحمار وعجلات العربة .. وصل الحمار وأصبح أمامه تماما وهو يلهث ويجاهد في نقل خطواته .. أبصر حبات عرقه على ضوء اللون الأحمر للإشارة كدماء تنبثق من جسده وتسيل في غزارة .. رثى له.. ثم قاوم حتى لا ينسى نفسه ويستغرق في تأمل المنظر.. بان الإجهاد واضحا على وجه الحمار فانزلق، ثم وقع وقد انثنت قائمتاه الأماميتان تحته وبرك بكل ثقل جسده على ركبتيه فتبعثر حمل العربة وتناثر في نهر الشارع .. ابتدأت العربات تتلمس طريقا بين الأحمال الساقطة والحمار في رقدته مشدودا إلى العربة عرضة للاختناق بفعل لجامه الجلدي.
(أقبل الشرطي نحوه.. أخرج دفتر المخالفات من جيبه.. كان واضحا أن صبره عليه قد بدأ ينفذ وأنه لم يعد يكفى معه مجرد فرض غرامة مالية يدفعها وينتهي الأمر)
*******
ظهر الموكب فخما كالعادة .. الدراجات البخارية في المقدمة ورتل العربات الفاخرة اللا متناهي يتتابع والملصقات تظهر بوضوح على الزجاج الخلفي لكل عربة.. كان كل ملصق يحتوى على الصورة، وكان الجند على الجانبين متقاربين وبطول امتدادهم اتخذوا شكلا مميزا، جندي وجهه إلى نهر الشارع وجندي وجهه إلى الرصيف.. خلق هذا التلاحم بين الجند المدجج بالسلاح قلقا شديدا له، وأثر على دقة التركيز عنده .. كاد يغيب عنه ويفقده .. ازداد التوهج باللون الأحمر كمرجل يتهيأ للانفجار .. وعلا الصخب وارتفع الضجيج .. ومن الشرفات تابع العديد الموكب بعيون كالزجاج.
(أقبل الشرطي نحوه وأكد له أنه منذ البداية وهو منتبه إليه جيدا ويقظ تماما.. أكد له بدوره أن الأمر غير خاف عليه وأنه قد أصبح على ثقة من أنه يتصيد كل حركة تصدر عنه كأنه لم يعد يوجد أحد في الوجود غيره .. لم ينكر الشرطي الملاحظة بل أضاف أنه فعلا يحصي عليه منذ البداية الصغيرة قبل الكبيرة .. جادله مدافعا عن نفسه واثقا من سلوكه وأنه ليس هناك ما يثنيه ولا يوجد ما يضيره وأنه منذ جاء لم يبدر منه ما يسئ وفوق كل هذا فقد دفع كل ما وقعه عليه من غرامات، فمن الصواب إذن أن يترك وشأنه .. اشتعلت أذنا الشرطي غضبا ونظر إليه مستنكرا ما يقوله .. تماسك وقد استقر عزمه أن يتصام عن كل ما يقوله مستقبلا).
*******
طرأ له الخاطر كملاذ أخير للخلاص من المأزق ..فماذا يضير لو كسر الإشارة الحمراء وانتقل إلى الجانب المقابل حيث يبدو بدوره وكأنه ينتظره ليتحدا مهما شوشر الموكب بطقوسه العديدة على محاولته الجديدة الدءوبة لترتيب الأشياء في فهمه وصياغتها من جديد .. ضاق بجمود الإشارة وبثباتها على اللون الواحد مقيدة بهذا حركته المرجوة في العبور والتلاقي .. اختلس نظرة خاطفة للموكب فاستلفتت نظره العربة ذات الجرم الهائل، كان عرضها مساو تماما لعرض الشارع .. وكانت تحرث بمقدمتها الحادة أرضه كما لو كانت تبحث عن شيء محدد .. انتهز فرصة انشغال الشرطي عنه فقذفها حجرا عساه يعرقل تقدمها واكتساحها للأشياء المتواجدة أمامها، لكن المقدمة الحادة سحقت الحجر سحقا فما تركته إلا وقد أحالته إلى حفنة من تراب ناعم.
(أقبل الشرطي ليتقاضى منه غرامة وضع العوائق أمام موكب رسمي أثناء سيره وإتلاف منافع عامة .. تجاهل يده الممدودة بالإيصال .. نفخ الشرطي في صفارته ليستدعي زملاءه .. صنع صوت الصفير نوعا من الاختلال في الموكب .. انتهزها فرصة فضم أصابعه الخمسة وصنع منهم قبضة، ثم سدد اللكمة إلى بؤرة الشعاع الأحمر وقد وضع فيها كل طاقته ..
أحاطت به فورا عشرات الأذرع الحاملة إيصالات .. ثم صنعت من كثرتها سياجا .. وقبل أن يُحكم السياج حوله تماما انفلت من ثغرة به قافزا إلى نهر الشارع مادا ذراعيه أماما تجاه الجانب الآخر غير ملتفت للحركة المكتسحة للكيان الضخم ذو المقدمة الحادة الساحقة).
* مصطفى الأسمر
- مجلة الإنسان والتطور – عدد إبريل 1987
( لمح الشرطي ساقيه المدلاتين في نهر الشارع فجاءه على عجل .. حرر المخالفة وتقاضى قيمتها بالإضافة إلى رسم التمغة ثم سلمه الإيصال .. أخذه فمزقه إلى قطع صغيرة ألقى بها أرضا .. على الفور عاد إليه الشرطي وأمره أن يجمع كل هذه القطع ولا يترك منها على الأرض قطعة واحدة، وبعدها يذهب بها كلها غير منقوصة إلى سلة المهملات المشدودة إلى عامود الإشارة الحمراء أو فليتحمل غرامة جديدة عن هذا الفعل .. رضي بتحمل الغرامة حتى لا يصرفه نقاش عن تركيزه الأساسي عليه .. كانت نظراته كالمألوف مشدودة إلى هناك خوفا من أن يضيع منه بين الجموع .. سحب رقبته ورنا إلى الإشارة أملا أن يتحول لونها الأحمر لينجو من جمود أخذ يغزوه .. ثم استطال برقبته كزرافة فأبصره بدوره يدفع مثله الغرامة الجديدة للشرطي.. )
*******
لم يحل ألم الإحساس بالتبول بينه وبين التركيز على الجانب الآخر عابرا بنظراته نهر الشارع .. كانت ساقاه تتحركان في مكان وقوفه حركة نشطة في محاولة من جانبه للتغلب على هذا الإحساس الموجع … رفرف بذراعيه كعصفور ذبح لتوه، لكن الألم ظل على حاله .. أرجع قسوة الألم وضراوته إلى امتصاص الحذاء لماء المطر فتشبع الجورب تماما بهذا النشع المائي ولتتأثر في النهاية أصابع القدمين .. لم يخفف هذا الاكتشاف عنه الألم .. انتهز فرصة اقتراب الرجل الوقور منه وسأله متى يتغير اللون .. أشار الرجل بسبابته حيث المظلة المرتفعة وأخبره أن الأمر يتوقف على الجالس داخلها .. كاد أن يقول أن لو طال الزمن باللون الأحمر فسيجد نفسه لا محالة مضطرا أن يبول في نهر الشارع حتى لو أوقعوا عليه كل الغرامات المعروفة وغير المعروفة .. تصاعد الألم رهيبا إلى نحو الرأس فانفلتت الصرخة من صدره رغما عنه .. جاوبته نفس الصرخة قادمة من هناك.
(أقبل الشرطي على الصرخة، بهمة حرر له مخالفة الإزعاج المتعمد .. دفع المطلوب منه ثم أقتسم مع الشرطي كل ما تبقى معه من نقود تحت حساب أية غرامة مستجدة)
*******
تأمل سيل الماء القادم من أعلى الشارع فأيقن أنه بعد حين سيجرف كل ما يعترض طريقه .. خشي أن يفقده وسط السيل فاستمات بنظراته عليه غير مهتم بأصوات الموسيقى والأغاني المنبعثة من داخل المتاجر، كونت الموسيقى بدورها سيولا، تنفس بصعوبة كما لو كان سمكة أخرجت لتوها من الماء .. تراقصت الأضواء المتحركة على واجهات المتاجر بينما ثبتت أضواء (الفترينات) في توهج شديد لتكشف عما يذخر به داخلها من معروضات .. ارتفع منسوب الماء المنساب في نهر الشارع ففكر أن يلجأ إلى واحد من هذه المحال يحتمي به حتى مع كونه ليس من زبائنه .. بدوره كان هناك على الجانب المقابل .. وتعبيرات وجهه توحي بنفس الخاطر استغرب، ولكنه لم يشأ أن يستسلم لهذا الاستغراب حتى لا يغفل عنه .. على غير ما توقع ماتت أصوات المطربين والمطربات وانطلقت صفارات التحذير وعندما توقفت اتضحت الاستغاثة المنبعثة من المتجر المواجه للإشارة .. رددت الاستغاثة من خلال مكبر الصوت النداء ( امسكوا اللص، اقبضوا عليه .. لا تدعوه يفلت) .. جاهد كي يحتفظ برأسه مرتفعة فوق الرؤوس التي كانت تتحرك كأفرع نخيل غير مثمر.
( أبصره الشرطي، فأيقن من نظراته أنها تشي بشيء خفي لا يطمئن .. وقف أمامه وطالبه بأن يحتضن رأسه ويخفضها إلى أسفل وإلا كبده غرامة التستر على متهم وحجبه عن عين العدالة ومساعدته على الفرار..)
*******
أبصر الحمار وهو قادم من أسفل متجها إلى أعلي .. صاعدا منحدر الشارع وهو يجر وراءه العربة الخشبية المكتظة بالأحمال .. كانت حركة الحمار بطيئة ومملة .. خشي أن تحجب الحركة البطيئة عنه عندما تصل العربة وتصبح أمامه تماما رؤيته له .. فقد كان حمل العربة المرتفع كفيلا بأن يصنع حجابا بينه وبين تركيز النظر عليه .. وقد يطول ويمتد بفعل الخطوة البطيئة للحمار .. ود أن لا تسد أمامه كل الطرق فلا يبق له من سبيل إلا الانبطاح على بطنه كسحلية زاحفة ليمكن نظراته من أن تصل إليه مارة من بين قوائم الحمار وعجلات العربة .. وصل الحمار وأصبح أمامه تماما وهو يلهث ويجاهد في نقل خطواته .. أبصر حبات عرقه على ضوء اللون الأحمر للإشارة كدماء تنبثق من جسده وتسيل في غزارة .. رثى له.. ثم قاوم حتى لا ينسى نفسه ويستغرق في تأمل المنظر.. بان الإجهاد واضحا على وجه الحمار فانزلق، ثم وقع وقد انثنت قائمتاه الأماميتان تحته وبرك بكل ثقل جسده على ركبتيه فتبعثر حمل العربة وتناثر في نهر الشارع .. ابتدأت العربات تتلمس طريقا بين الأحمال الساقطة والحمار في رقدته مشدودا إلى العربة عرضة للاختناق بفعل لجامه الجلدي.
(أقبل الشرطي نحوه.. أخرج دفتر المخالفات من جيبه.. كان واضحا أن صبره عليه قد بدأ ينفذ وأنه لم يعد يكفى معه مجرد فرض غرامة مالية يدفعها وينتهي الأمر)
*******
ظهر الموكب فخما كالعادة .. الدراجات البخارية في المقدمة ورتل العربات الفاخرة اللا متناهي يتتابع والملصقات تظهر بوضوح على الزجاج الخلفي لكل عربة.. كان كل ملصق يحتوى على الصورة، وكان الجند على الجانبين متقاربين وبطول امتدادهم اتخذوا شكلا مميزا، جندي وجهه إلى نهر الشارع وجندي وجهه إلى الرصيف.. خلق هذا التلاحم بين الجند المدجج بالسلاح قلقا شديدا له، وأثر على دقة التركيز عنده .. كاد يغيب عنه ويفقده .. ازداد التوهج باللون الأحمر كمرجل يتهيأ للانفجار .. وعلا الصخب وارتفع الضجيج .. ومن الشرفات تابع العديد الموكب بعيون كالزجاج.
(أقبل الشرطي نحوه وأكد له أنه منذ البداية وهو منتبه إليه جيدا ويقظ تماما.. أكد له بدوره أن الأمر غير خاف عليه وأنه قد أصبح على ثقة من أنه يتصيد كل حركة تصدر عنه كأنه لم يعد يوجد أحد في الوجود غيره .. لم ينكر الشرطي الملاحظة بل أضاف أنه فعلا يحصي عليه منذ البداية الصغيرة قبل الكبيرة .. جادله مدافعا عن نفسه واثقا من سلوكه وأنه ليس هناك ما يثنيه ولا يوجد ما يضيره وأنه منذ جاء لم يبدر منه ما يسئ وفوق كل هذا فقد دفع كل ما وقعه عليه من غرامات، فمن الصواب إذن أن يترك وشأنه .. اشتعلت أذنا الشرطي غضبا ونظر إليه مستنكرا ما يقوله .. تماسك وقد استقر عزمه أن يتصام عن كل ما يقوله مستقبلا).
*******
طرأ له الخاطر كملاذ أخير للخلاص من المأزق ..فماذا يضير لو كسر الإشارة الحمراء وانتقل إلى الجانب المقابل حيث يبدو بدوره وكأنه ينتظره ليتحدا مهما شوشر الموكب بطقوسه العديدة على محاولته الجديدة الدءوبة لترتيب الأشياء في فهمه وصياغتها من جديد .. ضاق بجمود الإشارة وبثباتها على اللون الواحد مقيدة بهذا حركته المرجوة في العبور والتلاقي .. اختلس نظرة خاطفة للموكب فاستلفتت نظره العربة ذات الجرم الهائل، كان عرضها مساو تماما لعرض الشارع .. وكانت تحرث بمقدمتها الحادة أرضه كما لو كانت تبحث عن شيء محدد .. انتهز فرصة انشغال الشرطي عنه فقذفها حجرا عساه يعرقل تقدمها واكتساحها للأشياء المتواجدة أمامها، لكن المقدمة الحادة سحقت الحجر سحقا فما تركته إلا وقد أحالته إلى حفنة من تراب ناعم.
(أقبل الشرطي ليتقاضى منه غرامة وضع العوائق أمام موكب رسمي أثناء سيره وإتلاف منافع عامة .. تجاهل يده الممدودة بالإيصال .. نفخ الشرطي في صفارته ليستدعي زملاءه .. صنع صوت الصفير نوعا من الاختلال في الموكب .. انتهزها فرصة فضم أصابعه الخمسة وصنع منهم قبضة، ثم سدد اللكمة إلى بؤرة الشعاع الأحمر وقد وضع فيها كل طاقته ..
أحاطت به فورا عشرات الأذرع الحاملة إيصالات .. ثم صنعت من كثرتها سياجا .. وقبل أن يُحكم السياج حوله تماما انفلت من ثغرة به قافزا إلى نهر الشارع مادا ذراعيه أماما تجاه الجانب الآخر غير ملتفت للحركة المكتسحة للكيان الضخم ذو المقدمة الحادة الساحقة).
* مصطفى الأسمر
- مجلة الإنسان والتطور – عدد إبريل 1987