عبد الجليل واحد من أبناء مدينة التراب، أضحى حكاية هاربة في الذاكرة المنسية، فهو معروف بحكم حله وترحاله، وتطوافه عبر أحياء المدينة وشوارعها، كما هو الشأن بالنسبة لشخصيات أخرى كالفلاح ، وسي حميد ، وفنيدة ، ودماحة ، وعبدالله بوناس ، وكرشاح، والملك جالوق ووجوه أخرى إنضافت إلى هذا الرصيد والتي باتت تظهر بين الفينة والأخرى.
عبد الجليل شاب في مقتبل العمر، لكنه لم يعرف ربيعه بسبب مرضه العقلي، طويل القامة، كثير التنقل، هيئته تقول لو عاش هذا الإنسان في ألمانيا أو في أمريكا، وأكل الهومبرغر، وشرب...، وشملته التغطية الصحية والعناية الكاملة لكان إنسانا آخر، ولحقق أرقاما قياسية في العدو الريفي والسباقات على الطريق، ولكن حظه التعس رماه في بلد يدمر كل شيء، تنهار فيه الأعصاب، ويسوده الدمار والخراب، وتموت فيه خلايا المواهب، ولا يعوض أي شيء ويختل التوازن، وتتآكل الذات، ويعيش حيا في قبر النسيان الأخرس، ويرحل نحو المجهول، وما تبقى من الزمان البيولوجي، ليعود في أرذل العمر إلى قبره ومصيره الحتمي كوديعة مضمونة لا تجرؤ على مساسها أيادي العبث.
هكذا يغدو نحيفا كأنه هيكل عظمي يسير فيخيف المارة، ويتحول هذا المخلوق إلى ذات غير واعية، وغير عارفة، بل فارغة من كل محتوى فتصبح مقطوعة عن ماضيها مفصولة عن مستقبلها، لا تربطها بالحاضر سوى حاجتها البيولوجية عندما يحدث أي توثر.
عبد الجليل لا تراه يأكل كثيرا بل هو من عشاق الشاي والقهوة، لأن ما تبقى من جسمه المنهوك يظل في حاجة إلى ماء وشاي، هذا الأخير يرتبط به المغاربة وخاصة الفقراء منذ الفطام، فإذا بلغ الرضيع لنا فطاما يعوض الشاي حليب الأم، فتضع شيئا من القطران على ثديها لتنفر الرضيع من هذا الصدر، وتعطيه قنينة من الشاي، كما يفعل العمال القدامى في الغار (المنجم)، وعندما يكبر قليلا يضاف إلى هذه الوجبة شيء من الخبز إلى أن يصبح شيخا، فلا مناص من هذه العشبة (البلية) اللعينة، التي تصبح وجبة كل الأوقات، فهي الأكلة الأساسية و(الديسير)، أما أضيفت لها بعض المخدرات كالكيف فناهيك عن ذلك المخدر الذي يعيد المخ إلى مكانه كما يقال.
لهذا لم ينس عبد الجليل الشاي حتى في حالة مرضه وجنونه، لم يبق لنا في هذه المدينة إلا الجنون والتسول وجنوح الأحداث والسرقة، لم يبق لنا في هذا الزمن الأغبر بمدينة لا قلب إلا العودة إلى الذاكرة المنسية في هذا العالم المنسي، الذي سيعانق فيه الجمود والسراب مثل عبد الجليل، الذي يجوب المدينة جاريا ليتوقف قليلا ليقفز إلى الأعلى وكأنه يقفز على الواقع والتخلص من أغلاله فيزداد جنونه عندما يمر بالمقاهي ويرى كؤوس الشاي أو القهوة فوق الموائد، فلا يزال على حاله حتى تعانق شفتاه هذه الكأس العاشقة والمعشوقة، وكأنه جن بسببها فظل على إثر ذلك تائها في الشوارع والطرقات وبين الحفر والأزبال، لاهفا صارخا كمن أصيب بصدمة كهربائية......
عبد الجليل ألفته المدينة في الليل والنهار، في القر والحر، أشعت، أغبر، لفحته الشمس في وقت الهجير في الصيف، وعضت أقدامه أنياب البرد القارس، ولم تنل منه الطبيعة شيئا، ولم يقوس ظهره كقوس قزح، ولم تعوج ساقاه كما يحدث للكلاب في منطقة الكنتور، بل ما زال شامخا منتصب القامة، كأنه كائن أسطوري يتحدى الطبيعة والزمن في عالم خاص به، ليس فيه صراع حول المصالح، ولا لوائح انتخابية، ولا شرفاء ولا ضعفاء، ولا حروب، ولا حقد، ولا ضغينة، ولا بغضاء، كم أحسده في السر والعلن؟، لأنه لا يعرف ولا يبالي بما حوله من كائنات وصولية وانتهازية، ولا يعرف الضرائب ولا الحقوق والضياع، ولا التفاوت، فكيف نستعيد تلك الصورة الهاربة من رماد السنين؟؟؟
عبد الجليل يرحل يتنقل يقفز، يسافر نحو التيه، نحو المجهول، لأنه إنسان لم يسعد حياته... طفولته مغتصبة، وشبابه ضائع ومتجاوز، إنه يمشي إلى الختام في زمن غزو المدن من طرف التتار...
وبينما تعيش المدينة حملتها الإنتخابية الباهتة، والخجولة، والمضحكة من خلال بعض الأصوات المبحوحة، والمسخرة لذلك، جرفت عبد الجليل الذي رأيته لأول مرة في الجماعة، ويضحك، ويصفق، ويقفز، لأنه يشعر بأنه لم يعد وحيدا في عالم الحمقى والمجانين، بل كان يفعل مثل أصحاب الحملة، وكأنه رأى المدينة وقد تغيرت، فأصاب أهلها ما أصابه، ففرح بانضمامهم إلى عالمه، فرح فرحا غريبا، لأنه لم ير مثل هذه الجموع من قبل...
يتساءل عبد الجليل الكائن الأسطوري هل استيقظت المدينة من سباتها العميق؟ هل انتفضت كالطير إذ بلله القطر؟ هل خرجت الأجداد من قبورها؟ هل جاء زمن الحمقى والمجانين ليعيشوا لحظة الفرح الذي أضحى عملة نادرة في هذا العصر البورجوازي المتحضر الذي طبعه الخبث والنفاق الممنهج في زمن العولمة؟
لم تدم فرحة عبد الجليل الكائن الأسطوري طويلا بسبب تفرق أصحاب الحملة الانتخابية، ليعود من حيث جاء ويرخي الليل سدوله على مدينة خدعوها بقولهم حسناء، العاشقة/ المعشوقة، والقاهرة/ المقهورة، وتغرق مع عبد الجليل في صمته وقفزه في جنونه، لنستيقظ على صراخه حينما يولد الحلم ميتا، فنمشي جميعا إلى أوجاعنا في هذه المدينة للبحث عن حزننا القديم، فلن نجد إلا أصواتنا المبحوحة التي ذبحناها كقربان قدمناه لهذا الوطن الذي يغتاله السماسرة، كلما عاد موسم الانتخابات الذي ينتهي فنتيه في ثنايا الزمن، ليبتلعنا النسيان من جديد.
عبد الجليل شاب في مقتبل العمر، لكنه لم يعرف ربيعه بسبب مرضه العقلي، طويل القامة، كثير التنقل، هيئته تقول لو عاش هذا الإنسان في ألمانيا أو في أمريكا، وأكل الهومبرغر، وشرب...، وشملته التغطية الصحية والعناية الكاملة لكان إنسانا آخر، ولحقق أرقاما قياسية في العدو الريفي والسباقات على الطريق، ولكن حظه التعس رماه في بلد يدمر كل شيء، تنهار فيه الأعصاب، ويسوده الدمار والخراب، وتموت فيه خلايا المواهب، ولا يعوض أي شيء ويختل التوازن، وتتآكل الذات، ويعيش حيا في قبر النسيان الأخرس، ويرحل نحو المجهول، وما تبقى من الزمان البيولوجي، ليعود في أرذل العمر إلى قبره ومصيره الحتمي كوديعة مضمونة لا تجرؤ على مساسها أيادي العبث.
هكذا يغدو نحيفا كأنه هيكل عظمي يسير فيخيف المارة، ويتحول هذا المخلوق إلى ذات غير واعية، وغير عارفة، بل فارغة من كل محتوى فتصبح مقطوعة عن ماضيها مفصولة عن مستقبلها، لا تربطها بالحاضر سوى حاجتها البيولوجية عندما يحدث أي توثر.
عبد الجليل لا تراه يأكل كثيرا بل هو من عشاق الشاي والقهوة، لأن ما تبقى من جسمه المنهوك يظل في حاجة إلى ماء وشاي، هذا الأخير يرتبط به المغاربة وخاصة الفقراء منذ الفطام، فإذا بلغ الرضيع لنا فطاما يعوض الشاي حليب الأم، فتضع شيئا من القطران على ثديها لتنفر الرضيع من هذا الصدر، وتعطيه قنينة من الشاي، كما يفعل العمال القدامى في الغار (المنجم)، وعندما يكبر قليلا يضاف إلى هذه الوجبة شيء من الخبز إلى أن يصبح شيخا، فلا مناص من هذه العشبة (البلية) اللعينة، التي تصبح وجبة كل الأوقات، فهي الأكلة الأساسية و(الديسير)، أما أضيفت لها بعض المخدرات كالكيف فناهيك عن ذلك المخدر الذي يعيد المخ إلى مكانه كما يقال.
لهذا لم ينس عبد الجليل الشاي حتى في حالة مرضه وجنونه، لم يبق لنا في هذه المدينة إلا الجنون والتسول وجنوح الأحداث والسرقة، لم يبق لنا في هذا الزمن الأغبر بمدينة لا قلب إلا العودة إلى الذاكرة المنسية في هذا العالم المنسي، الذي سيعانق فيه الجمود والسراب مثل عبد الجليل، الذي يجوب المدينة جاريا ليتوقف قليلا ليقفز إلى الأعلى وكأنه يقفز على الواقع والتخلص من أغلاله فيزداد جنونه عندما يمر بالمقاهي ويرى كؤوس الشاي أو القهوة فوق الموائد، فلا يزال على حاله حتى تعانق شفتاه هذه الكأس العاشقة والمعشوقة، وكأنه جن بسببها فظل على إثر ذلك تائها في الشوارع والطرقات وبين الحفر والأزبال، لاهفا صارخا كمن أصيب بصدمة كهربائية......
عبد الجليل ألفته المدينة في الليل والنهار، في القر والحر، أشعت، أغبر، لفحته الشمس في وقت الهجير في الصيف، وعضت أقدامه أنياب البرد القارس، ولم تنل منه الطبيعة شيئا، ولم يقوس ظهره كقوس قزح، ولم تعوج ساقاه كما يحدث للكلاب في منطقة الكنتور، بل ما زال شامخا منتصب القامة، كأنه كائن أسطوري يتحدى الطبيعة والزمن في عالم خاص به، ليس فيه صراع حول المصالح، ولا لوائح انتخابية، ولا شرفاء ولا ضعفاء، ولا حروب، ولا حقد، ولا ضغينة، ولا بغضاء، كم أحسده في السر والعلن؟، لأنه لا يعرف ولا يبالي بما حوله من كائنات وصولية وانتهازية، ولا يعرف الضرائب ولا الحقوق والضياع، ولا التفاوت، فكيف نستعيد تلك الصورة الهاربة من رماد السنين؟؟؟
عبد الجليل يرحل يتنقل يقفز، يسافر نحو التيه، نحو المجهول، لأنه إنسان لم يسعد حياته... طفولته مغتصبة، وشبابه ضائع ومتجاوز، إنه يمشي إلى الختام في زمن غزو المدن من طرف التتار...
وبينما تعيش المدينة حملتها الإنتخابية الباهتة، والخجولة، والمضحكة من خلال بعض الأصوات المبحوحة، والمسخرة لذلك، جرفت عبد الجليل الذي رأيته لأول مرة في الجماعة، ويضحك، ويصفق، ويقفز، لأنه يشعر بأنه لم يعد وحيدا في عالم الحمقى والمجانين، بل كان يفعل مثل أصحاب الحملة، وكأنه رأى المدينة وقد تغيرت، فأصاب أهلها ما أصابه، ففرح بانضمامهم إلى عالمه، فرح فرحا غريبا، لأنه لم ير مثل هذه الجموع من قبل...
يتساءل عبد الجليل الكائن الأسطوري هل استيقظت المدينة من سباتها العميق؟ هل انتفضت كالطير إذ بلله القطر؟ هل خرجت الأجداد من قبورها؟ هل جاء زمن الحمقى والمجانين ليعيشوا لحظة الفرح الذي أضحى عملة نادرة في هذا العصر البورجوازي المتحضر الذي طبعه الخبث والنفاق الممنهج في زمن العولمة؟
لم تدم فرحة عبد الجليل الكائن الأسطوري طويلا بسبب تفرق أصحاب الحملة الانتخابية، ليعود من حيث جاء ويرخي الليل سدوله على مدينة خدعوها بقولهم حسناء، العاشقة/ المعشوقة، والقاهرة/ المقهورة، وتغرق مع عبد الجليل في صمته وقفزه في جنونه، لنستيقظ على صراخه حينما يولد الحلم ميتا، فنمشي جميعا إلى أوجاعنا في هذه المدينة للبحث عن حزننا القديم، فلن نجد إلا أصواتنا المبحوحة التي ذبحناها كقربان قدمناه لهذا الوطن الذي يغتاله السماسرة، كلما عاد موسم الانتخابات الذي ينتهي فنتيه في ثنايا الزمن، ليبتلعنا النسيان من جديد.