عبد القادر وساط - الموتى لا يرجعون

مشاهدة المرفق 15
(* مهداة إلى سعيد منتسب)

كنت وحدي بالبيت ، أشاهد برنامجا تلفزيونيا عن الروائي الفرنسي سيلين .
و كانت الساعة تشير إلى السابعة و النصف مساء ، حين سمعتُ طرقا خفيفا على الباب. لم أكن أنتظر أحدا في تلك اللحظة بالذات . ألقيت نظرة من النافذة ، لعلي أعرف من يكون ذلك الزائر فلم أستطع رؤيته. شعرتُ بانزعاج شديد جراء ذلك، و قمتُ متباطئا لفتح الباب.
كان الطارق رجلا في حوالي الثلاثين من العمر، طويل القامة ، قوي البنية ، يضع نظارات سوداء رغم العتمة ، و يرتدي معطفا أسود رغم الحر . و على رأسه طربوش أسود . و عندما فتحت الباب اندفع تلقائيا يريد الدخول ، فلم أر فائدة من منعه . تمتمت قائلا :
- مرحبا سيدي تفضل ...
نظر إلي و قد ارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة . و لما دلف إلى الداخل قال لي و هو ينزع معطفه الأسود :
- الظاهر أنك لم تعرفني ، مع أنني أنعم بشهرة واسعة.
اعتذرتُ له ببضع كلمات . تفرستُ فيه قليلا لعلي أعرف من هو ، لكن دون جدوى. أشرتُ إليه بالجلوس فجلس على الكنبة البنية المقابلة للنافذة ، وسط الصالة . و عاد ينظر إلي بالابتسامة الغامضة نفسها. سألته عما يشرب ، فقال لي بصوت أجش:
- لا تزعج نفسك . أنا أعرف أن أبناءك و زوجتك قد سافروا إلى آسفي منذ أسبوعين . و أريد أن ندخل مباشرة في موضوع زيارتي لك ، إذا سمحت.
و الحق أني كنتُ متلهفا لمعرفة ذلك السر ، لذلك قلت له دون إبطاء:
-تفضل يا سيدي ، أنا أصغي إليك .
قال و قد وضع رجلا على رجل ، و شرعَ ينقر بأصابع يده اليمنى على حافة الكنبة :
- الحق أنني أحمل إليك اقتراحا لا يخلو من جاذبية ...
ثم تنحنح و أثبت عينيه في عينيّ ، قبل أن يواصل:
- أنا الممثل السينمائي منعم أحمد السيراني .
قلت و أنا أشعر بشيء غير قليل من الإحراج :
- بطل فيلم " الموتى لا يرجعون "... اعذرني يا سيدي. لقد شاهدتُك في هذا الفيلم غير مرة و أعجبت بدورك الخالد فيه ...
قال بنبرة باردة ، و قد أدرك أني أبالغ فيما أقول :
-ما علينا ... أنا الآن أشتغل مع المخرج أحمد السلافي الفرهوني.و هو الذي بعثني إليك .
تساءلت بقلق:
- خيراً إن شاء الله .
قال ، بعد أن نزع طربوشه الأسود فبدت صلعته البراقة ، المطلية بمادة دهنية :
- هو خير طبعاً . لقد رآك المخرج الفرهوني ثلاث مرات ، و أنت تغادر محطة القطار ، بالدار البيضاء، فأدرك أنك الشخص الملائم للقيام بدور القتيل في الفيلم الذي نقوم بتصويره حالياً . و لما قام بالتحريات الضرورية عنك ، ازداد اقتناعا بأنك الرجل المناسب لأداء الدور المذكور.
قلت و قد عراني ارتباك شديد :
- أنت تمزح طبعا ، يا سيدي... فأنا لم أخلق للتمثيل . و الحق أن هذا آخر الأسباب التي خطرت ببالي فيما يتعلق بموضوع زيارتك هذه .
نظر إلي متفحصا ثم أخرج علبة سجائره، و أشعل سيجارة دون أن يستأذنني في ذلك ، و قال :
- يا سيدي، كل ما في الأمر أن المخرج رآك و تحرى عنك و اقتنع بك .إنه يريد شخصا بين الكهولة و الشيخوخة ، بطيء الحركة ، بارز الكرش، يمشي بتثاقل و هو ينوء بمحفظته السوداء ، فيما تنم سحنته عن ضجر عميق و عن برم شديد بالحياة . أفلا تجتمع فيك هذه الصفات ؟
سألته متوجسا :
- لنفترض أنه على صواب ، و أنني الرجل الملائم لأداء ذلك الدور. فكيف أؤديه و أنا لا علم لي بأمور السينما ؟
أجابني و هو ينفث رماد سيجارته فوق البساط :
- الدور سهل للغاية يا صديقي... و هو في متناول أي كان ...سوف تغادر محطة القطار و تمضي باتجاه شارع الجيش الملكي ، بمشيتك البطيئة ، حاملا محفظتك ، تحت أشعة الشمس الملتهبة ....
قلت و قد شرعتُ أتابع الأمر باهتمام :
- ثم ماذا بعد ؟
أجاب بالنبرة الباردة نفسها :
- ستمر سيارة مسرعة بالقرب منك ، و سوف يطلق عليك أحد ركابها المُقَنّعين رصاصتين من مسدسه الأوتوماتيكي، فتسقط صريعا ، مضرجا بالدماء و يجتمع حولك خلق كثير ...
حاولتُ الاحتجاج قائلا :
- و هل تراني يا سيدي قادرا على السقوط أرضا و التظاهر بأنني ميت ، و قد تجاوزتُ الخمسين من العمر ؟
فزوى ما بين حاجبيه لدى سماع كلامي و قال :
- نحن لا نطلب منك أن تتظاهر بالموت يا صديقي ! سنطلق عليك رصاصتين حيتين و ستموت فعلا ... هذا ما يريده المخرج ... إنه يريد مشهدا دمويا واقعيا ...يريد شخصا يموت بالفعل، لا ممثلا يتظاهر بالموت ... إنه مخرج حقيقي ، و يريد أن يقدم للناس مشاهد حقيقية . .. هو لم يعد يطيق تصوير الموت الزائف ...
قلت و أنا أبتسم ابتسامة بلهاء:
- أنت تمزح طبعا ، و مزاحك هذا ثقيل لا يُحتمل ، فهلا نهضتَ الآن و انصرفت لحال سبيلك ...أم تريد أن أتصل بالشرطة ؟
عندئذ رأيته يرمي عقب سيجارته على البساط ، ثم يدوسه بحركة عصبية ، بحذائه ، فيما يخاطبني بهدوء مفتعل :
- الشرطة ؟ و هل هناك شرطة تستطيع إزعاج المخرج السلافي الفرهوني ؟ إنه يفعل ما يريد و لا أحد يجرؤ على الوقوف في وجهه ...و على أية حال ، فهو يقترح عليك مبلغا ضخما للغاية ، مباشرة بعد توقيع العقد . فكر معي جيدا في الأمر ، أيها الرجل الطيب . سيعيش أبناؤك بعد مقتلك حياة رائعة ، لم تحلم بمثلها أنت . سيسافرون إلى مختلف بقاع الأرض ، و لن يكونوا مضطرين للعمل مثلك طوال عقود و عقود، مقابل رواتب هزيلة . لن يعرفوا الشقاء الذي عرفتَه و لا الكد و لا الديون التي نغصت عليك حياتك . و صدقني إذا قلت لك إنهم سيعترفون لك بالجميل و سيترحمون عليك يوميا من الأعماق.
أحسستُ أني عاجز عن التفكير و عن الكلام . أما هو فنظر إلي نظرة الظافر ، و واصلَ قائلا :
- يا صديقي ، تأمل هذه النعمة التي نزلت عليك فجأة ، من حيث لا تنتظر...أنتَ تعرف أن آلاف الأشخاص يموتون يوميا أو ينتحرون دون أن يحصلوا على سنتيم واحد، و دون أن تصورهم كاميرات مخرج ذائع الصيت ،مثل المخرج السلافي الفرهوني في فيلم سينمائي خالد ، مثل هذا الذي ستشارك فيه أنت ... فيلم سيستمتع الناس بمشاهدته جيلا بعد جيل ...
قلت و أنا أجد صعوبة في بلع ريقي :
- يا سيدي ، كل ما أطلبه منك الآن هو أن تغادر منزلي فورا ، و دون تلكؤ.
تظاهر بأنه يهم بالنهوض ، ثم عاد فاستوى في جلسته و قال لي بخبث:
- اسمع جيدا ما سأقوله لك الآن ... إذا أنت وافقت و أمضيتَ العقد ، فستموت رائق المزاج .... هما رصاصتان فقط يا صديقي...رصاصتان و ينتهي كل شيء... رصاصتان ستجعلان منك واحدا من المحظوظين ...ستترك لذويك ثروة لم يحلم بها أحد منهم ... أما إذا رفضتَ التوقيع فسيغضب منك المخرج الشهير، و سيأمر بقتلك دون مقابل ! فكر جيدا في الأمر يا صديقي ... سأعود لأعرف قرارك النهائي بعد ثلاثة أيام ....
إثر ذلك نهض ثم ربت على كتفي بيسراه ، و توجه نحو باب الشقة و هو يردد :
- سأتصل بك هاتفيا لأخبرك بمكان اللقاء و سوف آتي بالعقد و بدفتر الشيكات ...أما مشهد القتل فسوف يتم تصويره بعد عشرة أيام على حصولك على الشيك .... إنه شيك ضخم و لن تصدق حقيقة المبلغ الذي فيه .... ستنعم بعشرة أيام من حياة الأثرياء.... أليس ذلك أفضل من السنوات الخمسين التي قضيتَها في الكد و الشقاء؟
قال ذلك و هو يبتسم . ثم غادر البيت بخطى الواثق من نفسه . و مباشرة بعد خروجه ، تناولت الهاتف لأستشير صديقي المفضل لكن شيئا ما منعني من ذلك .


.

تعليقات

منقـــــــــــول
ـــــــــــــــــ

Abdelkader Ouassat Abousalma

عمل رائع، سرني أن أجد فيه قصة لي. خالص الشكر والامتنان.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...