محمود سعيد - التّوت.. قصة قصيرة

حينما رأيت شجرة توت في شيكاغو، لم أفرح حسب بل كما يقال عندنا في العراق “كدت أطير فرحاً”، بالرّغم من علمي ألّا أحد طار سواء أكان فرِحاً أم مغموماً. المهمّ أنّني أسرعت نحوها. وقفت تحتها، رفعت يدي باتجاه أغصانها المتدليّة التي أثقلها حملها بثمراتها الشّهيّة. كان التوّت السّاقط منها كمّاً كبيراً، لوّث بقعة دائرية كبيرة من الأرض تحتها بكثافة، صبغها صبغة عميقة بين الأسود والأزرق الأدكن، مع حمرة خفيفة. كم مضى عليّ وأنا لم اذق التوّت! ربما ربع قرن كامل، المرّة الأخيرة كانت في تركياً. توت أبيض يلمع تحت أشعة الشّمس. حجم التوّتة الواحدة يقارب الإبهام، لكنّها أغلظ منه، أوّل مرّة في حياتي أراه بهذا الحجم. كان الطّعم لذيذاً هائلاً، تكاد التوّتة تذوب تحت الأسنان، تملأ الفم بعصيرها المتفرّد، الذي ينزل إلى المعدة بلسماً يكاد يشفي من الأمراض كلّها.
في أمريكا بضعة أنواع من التوّت، ليس فيها واحد ذو نكهة مميّزة تقارب طعم التوّت الذي ينمو عندنا، فهو إمّا حامض – حلو، أو ذو حلاوة باهتة، يمجّها الذّوق، أو نصف حلو، فيه خيط مرارة، لم أذق نوعاً يعجبني، أو يدفعني للإقبال عليه مطلقاً. عندما رأيت شجرة التوّت الأسود قرّرت أن أتذوّقه، أن أضع بضع حبّات منه في فمي.
الأغصان مغرية، محمّلة بثمر كثيف، ذي حجم وسط، أصغر من التوّت التّرّكي، لكنّه كما قدّرت غنيّاً بعصيره اللذيذ. قدت سّيارتي وأنا في غاية الفرح، وأطياف أغنية قديمة طفرت إلى ذهني، رغماً مني: “آكلك منين يا توتة، آكلك منين؟” مستبدلاً، بطّة بتوتة. في اعتداء متعمّد على الأغنية. الذّكريات تتداعى، اتخيّل نفسي آكل التّوت اللذيذ، وأغنية فريد الآطرش تملأ الكون: “ياللا سوى، ياللا سوى، توتة معانا ..” لكن قف. كفى أحلاماً. هناك مشكلة عويصة، الأغصان عالية، حتى إذا وقفت فوق سيّارتي لا أصل إليها. ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ شغّل مخّك. الشّجرة في باحة “سوبر ماركت.أتسوّق منه دائمأً، لأنّه على بعد ميل تقريباً من سكني. في طريق عودتي إلى البيت لاحت لي فكرة جيّدة. أن أركن سيارتي تحت الشّجرة. أضع كرسيّاً فوقها. نعم. هذه فكرة ممتازة. شجّعت نفسي. لم يبق سوى التّنفيذ. في البيت كرسي ملائم لهذه المهمّة، يُطوى فيسهل حمله. حملت الكرسيّ بالسّيّارة في عصريّة اليوم التّالي. وضعته فوق سطح السّيّارة. صعدت على الكرسيّ. أصبحتِ الأغصان المثقلة بالثّمر اللذيذ في متناول يدي. يا لسعادتي! ضحكتُ: “آكلك منين يا توتة، آكلك منين؟” امتلأ دماغي بالأغنية وأنا أحوي التّوت الليّن بعناية كي لا “ينفعس”، ويصبح شكله قبيحاً. أضعه في كيس نايلون جلبته معي. سمعت صراخ طفل خلفي. لم أهتم، ليبكِ. لا استطيع الإلتفات. اشتدّ الصّراخ. انبثق في الجوّ صوت ضحكات أنثويّة، مع كلمات إسبانيّة، مرفقة بهزات خفيفة للكرسيّ الذي أقف عليه. ارتعبت. إن ظلت الهزات سأسقط. التفتُ بحذر. رأيت الطّفل الصّغير واقفاً، قرب الكرسي وهو يهزّها، ويضحك وأمه تضحك مشجّعة. الكرسيّ يهتزّ وأنا بدوري أهتز فوقها، والطّفل غير أبه بالأخطار التي ستحيق بي إن أنا سقطت على الأرض، وتهشم رأسي، أو إن سقطت ناحيته ووقعت فوقه، فلا شكّ أننا سنّقع كلانا على الأرض. طلبت من أمّه ان تبتعد به، لكنّها لم تجب. بدا لي أنّها لا تعرف الإنجليزية. كانت مستغرقة بضحكها، في منتهى الفرح والغبطة. جذلة لاستمتاعه بهذه اللعبة الغريبة، أو ربّما أثار تصرفه عندها إعجاباً بعبقريته الرّائعة قبل نضجه، وقدرته على اكتشاف الأمور المثيرة، وهو في هذا العمر المبكر. غير آبهة بي، وبما ينتظرني من أخطار. تملّكني خوف شديد، من السّقوط. هتفت بها غاضباً: أوقفيه. سأسقط وأتحطّم. لكنّها لم تلتفت نحوي. قلت لها رجاء ابتعدي به. سأنزل، واعطيه كلّ ما حويته من التوّت. اعدت الجملة بصوت أعلى من دون فائدة. كلّ هذا والطفل يهزّ الكرسي، فما كان مني إلا أن رميت كيس النّايلون على صندوق السّيارة، ثم انحنيتُ وأنا أفكر بالقفز على مكان واطئ كي لا اسقط كيفما كان، بالرغم مني، وينكسر أحد أضلعي، أو أطرافي.
آنذاك رأيت شاباً ذا جسد رياضيّ، يخرج من “السّوبر مارك”. وجهت وجهي نحوه، هتفتُ به راجياً أن ينقذني. ظهرت علامات الاهتمام على ملامحه. ركض نحو السّيارة بكلّ قوته، لكنّ الطّفل أدرك أنّها نهاية اللعبة، فباغتني، ودفع الكرسي بقوّة، جعلتني أستجمع قواي وأقفز، حين ذلك تأكّدت من سقوطي المفجع على ساقي، وتحطيمه. لكن الشّاب الرّاكض نحونا تلقاني بيديه، حائلاً دون وقوعي الكارثي. شكرته جزيل الشّكر، حمدت الله في داخلي. تمنيت، لو صفعت هذه المرأة المستهرة، أو لبصقت في الأقل في وجهها، بيد أنّ ذلك مستحيل. يؤدي إلى جنحة يعاقب عليها القانون بشدّة، لكنّي صرخت بقوّة في وجهها: “يا لك من غبيّة!”. عندئذ تجهّمت، كادت تبكي. وطويت الكرسي لأضعه بالسّيّارة، لكنّ كهلاً اقترب مني، لا أدري من أين خرج، ولا أين كان موجوداً. رجل ممتلئ القامة، ذو شعر، مسرّح بعناية، يلمع بالفازلين، بدا، وكأنّه مصبوغ بأسود فحميّ لتوه. أخذ يصرخ بوجهي، يهزّ قبضته مهدّداً، بالإسبانيّة. متحفّزاً للعراك. صمتتُ، لا جدوى من الرّد. لا يفهم أحدنا الآخر. لكنّي لحظت الشّاب الرّياضي الذي أنقذني، يرجع، وكان بدأ بالمغادرة, اقترب من الكهل، تكلّم معه بنفس لغته، وبحدّة شديدة أيضاً، وهو يشير إلى رأسه مزمجراً، ويبسط راحته وينفخ، وهي علامة على اتّهام الآخر بخلو رأسه من المخ. فأدركت أنّه يتّهم المرأة بالغباء. ثم ضحك بسخرية. وأخذ يشير إلى المرأة والطّفل. فسكت الرّجل مرغماً.
طرأت لي فكرة أن أكافئ الشّاب بنصف ما جمعته من التوّت، لكنّه اختفى، بالرّغم من أني لم استطع جمع عشرين حبّة في الأكثر.
حدث ذلك في تموز، و بعد سنتين وفي تموز أيضاً، استجبت لعرض سخيّ. اقترح صديق عليّ ان التحق به في مدينة صغيرة في الأندلس، لتغيير الجوّ، ولإنهاء عمل لي. قبل إقلاع الطّائرة، بساعة، وأنا في مطار أوهير، جاء اعتذاره في البريد الإلكترونّي مفاجئاً لي، ومخيباً لأمالي بقضاء وقت ممتع. ففي الوقت الذي سأتوجه إلى إسبانيا سيلتقيني فوق الأطلسي قادماً إلى شيكاغو، تاركاً مفتاح الشقة عند وكيل البناية. إذن سأبقى وحدي هناك. تقبّلت الأمر على مضض. المدينة هي “بنلمدينة” ويلفظونها هكذا: “binlmadina”، وهي مليئة بتماثيل العالم الطّبيب ابن البيطار بعمامته، عباءته، سحنته العربيّة. مشيدة بفخر بإنجازاته، وأعماله، واضعة اسمه عناوين لمدارس، وحدائق، ومتنزهات شتى، إذ كانت مسقط رأسه، في الوقت الذي تخلو دمشق التي حوت جثمانه لقرون عديدة من أيّ شاهد عليه.
بعد يومين من وصولي إلى “binlmadina” طُرق باب الشّقة، وإذ فتحته، رأيت ثلاث حسناواتٍ اسبانيّات رشيقات، دخلن الشقة بتلقائيّة، قبل أن آذن لهنّ بذلك. جلسن وهن يزغردن بالإسبانيّة، ويملأن الشقة غنجاً وموسيقى وسعادة. فجأة ارتفعت روحي المعنويّة. طغى الأنس على الوجود. أحسست أنّهن أليفات مع المكان، عبر إلفة حميمة مع صاحبه. سألن عن صديقي، فنقلت لهن أسفه لمغادرته السّريعة. أسنهن في نحو الأربعين، تتكلّم الإنكليزية بطلاقة، والأخريان أصغر منها، قالت لي، إن “بلال” المدني ترك لنا أربع بطاقات مدفوعة الثّمن، لرحلة إلى جبل طارق، وأرتني أين وضعها. ثم أخذت ثلاثاً منها، وأرجعت الرّابعة لي.
سألتني بتلقائية لماذا لا تجيء معنا أنت ايضاً، بطاقتك موجودة، لماذا تهدرها؟
غمرني ذوقها الرّفيع بالحياء والاضطراب، فوجئت بالفكرة، كانت كلطمة ورد من حبيب مشتهىً يجيد المداعبة. ثم لممت نفسي المتناثرة، رحّبت بالدّعوة، اتفقنا على مكان، وزمان اللقاء، بعد بضعة أيام في السّابعة صباحاً.
لم أفطر ذلك الصّباح، حتى أني لم آرشف الشّاي، ولا سيكارته الضّرورية. بدّلت ملابسي، التي أعددتها قبل يوم، وحرصت على تناسقها، لكنّي أبقيت ذوق السّتينات العراقي. قميص أبيض ناصع البياض، سروال أسود مكويّ بعناية، كأنّ طيتّه حدّ سيف مسلول ماضٍ، عطر نفاذ، مع نظارات شمس رماديّة، ثم لمّعت أسناني بالملح، إضافة إلى معجون أسنان “كولينوس” المشهور.
خرجت حاسباً الوقت بحيث أصل إلى مكان الحسنوات قبل خمس دقائق فقط. لكنّي وقبل أن أصل إلى مكانهن، بشارع واحد، التفت مصادفة فالتقت نظراتي صفّ أشجار توت أسود زاهٍ، يلمع بضوء الشّمس. الأشجار مثاليّة، وعلى ارتفاع قليل، بحيث أستطيع أن التقط ما أريد بدون حاجة إلى سيارة أو كرسي. فجأة أحسست بالجوع، بالرّغبة بتناول بضع حبّات توت قبل أن التقي بفاتنات المدينة. وقفت تحت الشجرة، قطعت توتة واحدة فقط فجأة اهتزّ الغصن برمته. تناثر التوّت عليّ كالمطر، تبقّع قميصي الأبيض النّاصع الزّاهي، بعشرات البقع، من عصير التّوت بألوان تتراوح بين الأزرق والأحمر الأدكن، وفي غير مكان. كدت ألطم وجهي. يا غبيّ ماذا فعلتَ؟ ماذا فعلت؟



(التّوت) .. قصة جديدة للمبدع الكبير “محمود سعيد” (ملف/12)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...