الصفعة التي تلقيتها ظُهر اليوم من يد أمّي تركتِ احمرارًا لا تُخطئه عينٌ على خدي. لم تكن صفعة حاقدة أو مُؤنبة، كانت حركة لا إرادية تُلازمها باستمرار وتصدرُ عنها كلّما فاجأها أمرٌ ما. لم يكن من السهل عليها أن تستوعب حدوث طلاقٍ بيني وبين الرجل الذي عشتُ معه لأعوام ليست بالقليلة. رفعتُ وجهي قليلًا، ولم أتمكن من لمس خدي بأطراف أصابعي لشدة ما كان يحرقني. أومأتُ برأسي مؤكدة لها ما سمعتْ مني بينما أسحب دموعي إلى الداخل: «حصل فعلًا». لطالما كانت أمّي مُغرمة بكل الأشياء التي تبدو على درجة من المثالية، ولذا أصرتْ على وجود خطأ ما بالأمر. تركتْ كراسات طلاب المدرسة التي كانت بصدد تصحيحها في فناء البيت الخارجي. لملمتْ أوراقها وملفاتها بينما هواءٌ باردٌ يلفحُ وجهي ويُحاولُ رفع غطاء رأسي الذي لم أثبته جيدًا بالدبابيس ككل مرّة. أمسكُ الغطاء بيد وفي يدي الأخرى أمسكُ حقيبة صغيرة وضعتُ فيها القليل من ملابسي.
ولجتْ أمّي إلى غرفة المعيشة، وضعتْ كراساتها بشكلٍ مُنتظم على منضدة جانبية. كنتُ خلفها تمامًا كامرأة غريبة تنتظرُ إذنًا بالجلوس. جلسنا على الأرض مُتكئين على الوسائد المزركشة فوق سجادٍ احتفظت به أمّي نظيفًا منذ طفولتي البعيدة، بدتِ الغرفةُ مُظلمةً بستائرها الداكنة، بينما كان النهار الشتوي في الخارج في منتصفه. إخوتي وأخواتي تزوجوا جميعًا وليس في البيت سوى أمّي بعد وفاة أبي. اعتدلتْ في جلستها وبدا حزنٌ عميقٌ في عينيها، «لمَ أنتِ مهتمة ببقائي معه إلى هذه الدرجة؟» قلتُ لها. تحركتْ يداها لا إراديًّا مجددًا فأشحتُ بوجهي بعيدًا، لكنها هذه المرة صفعت كتفيها بشكل مُتعاكس، ثم قامت إلى المطبخ القريب، تغلي الشاي فوق النار بتوتر غير مألوف. سمعتُ صفير الإبريق بعد برهة. بقيتُ في مكاني هادئة، أنتظرُ أن نتحدث معًا. عادت وجلست. رجعتُ بظهري إلى الوراء واستندتُ على الوسائد مجددًا، ثم طويتُ ساقيّ في بطانية مُخططة بالأزرق والبنفسجي كانت مطوية قبل بُرهة. سكبت أمّي الشاي. حركتِ الكوب الأول بين يديها دون أن ترفع عينيها ودون أن تقول شيئًا، ثم ناولتني إياه، وسكبت آخر لها.
تلفتُّ حولي وانتفضتُ قليلًا: «ليلة باردة» . قالت أمّي بحزم : «كنتُ أسمعُ قصصًا جيدة عنكما من الناس طوال الوقت. الفتاة العاقلة والشاب الطيب». تركتُ الشاي جانبًا، وضممتُ يديّ تحت البطانية، وقبضتُ على ساقيّ المتجمدين : «هذا ما يفعلونه دائمًا». ضغطتْ بيديها على جانبي كوب الشاي لتستمد حرارته دون أن تنظر لوجهي : «لم يكن يبدو بينكما أي شيء يشيرُ لانزعاج ما. كان رجلًا جيدًا». تنفستُ وضممتُ جسدي إليّ أكثر: « نعم. لكني لم أعد أودّ الاستمرار بصحبته». رفعتْ عينيها ونظرتْ لي بقسوة: «كانت حياتي برفقة والدكِ مليئةً بالحلو والمر أيضًا، ولكني بقيتُ برفقته». ارتخى جسدي قليلًا، تناولتُ كوب الشاي وبقيتُ أضغطُ عليه بكلتا يديّ ولا أرتشفُ منه شيئًا: « لا يمكنني أن أكون أنتِ». بدا وكأنّها تبحثُ عن شيء، ثم وجدتها توصلُ المدفأة بالكهرباء. شاهدتُ الأسياخ الرقيقة تتوهجُ بالحُمرة. بات وجه أمّي الآن أكثر وضوحًا مما كان. هدأتْ قليلًا ورفعتْ رأسها ونظرت إليّ. كانت تنتظرُ القصّة بشكل واضح ودقيق. كنتُ على يقين بأنّ القصّة عندما تُروى بشكل جيد ستُغنِي عن كل التبريرات المُسبقة.
لكني لم أكن أعرف من أين ينبغي أن أبدأ. كل ما سأقوله سيبدو لأمّي تافهًا أمام المشقّات التي تحملتْها بصحبة أبي. لكنها أنقذت حديثنا من الصمت قائلة : «أنا ووالدكِ كنا نثير الغِبطة في نفوس الناس. هل تعرفين شيئًا عن الغِبطة؟ كنا ندفعُ الناس ليشعروا بإمكانية حياة اثنين معًا لآخر العمر دون حروب. الجميع كان ينظرُ إلى الود الذي بيننا. الجميع كان يأملُ بحياة مُماثلة . نكثرُ من الالتفات لبعضنا البعض في أمسيات القرية الصاخبة، نفلتُ ضحكاتنا لنفصح عن تفاهمنا. تكفي إيماءةٌ واحدة من رأس أحدنا ليستشعر الآخر المعنى بيسر. يتركُ أحدنا وجبة غداءه في الثلاجة لأنّ الآخر لم يصل في وقت الغداء إلى البيت. يبقى أحدنا مُتسمرًا أمام الباب مُنتظرًا وصول الآخر. هل تعرفين قدر الحسرة التي كانت تُحرضها علاقتي بوالدكِ؟».
بدأتِ الغرفة تدفأ، وأصبح من الممكن أن أفلت البطانية وأن أنزع الجوارب وأنا مُطمئنة. دفعتُ غطاء رأسي ليستقر فوق كتفي، ثم رفعتُ شعري عاليًا، ولممته جيدًا في مقبض الشعر. أرخيتُ كتفي بينما ارتفعت نبرة صوتُ أمّي: «كيف سنخبر الناس وإخوتكِ بالقصة؟». بدا أنّي أفتح بابًا لمشاكل جديدة في حالة لم تكن لديّ قصّة جيدة لأقولها، وهذا ما فاتني التفكير فيه في لحظة اهتمامي بخلاصي من شريك حياة تعيس. عادت تقول: «تزوجتما منذ أكثر من عشر سنوات. أنتِ الوحيدة التي لم تشتكي يومًا. لطالما كنتِ الأكثر التصاقًا بزوجكِ. أعرف أن أخواتكِ يمضين إلى مشاكل لا نهائية.. لكن أنتِ…». كان ينبغي أن أستجمع بعضًا من الشجاعة لأقول: «ربما لأنّي كنتُ أراكِ مثالًا. أردتُ أن أكون مثلكِ دومًا. كنتُ أُجابِه كل مشاكلي باستدعاء وجهكِ. استدعاء قدرتكِ على أن تكوني مثار الغِبطة من الناس، لكني أخفقت هذه المرّة»، لكني لم أتمكن من قول ذلك على نحو جيد. هنا صار صوتها أعلى ووجهها أكثر تجهمًا: «ما الذي لم تحتمليه.. هاه.. ما الذي لم يكن مُحتملًا بينكما.. هل يخونكِ.. يضربكِ..هل… ينبغي أن يكون هنالك سببٌ غير مُحتمل للوصول إلى هذه النهاية!».
إلى اللحظة التي سبقت سؤال أمّي المتكرر عن السبب الذي هدم كل شيء. لم يكن في ذهني سببٌ مُحدد لترك زوجي. لا يوجد سببٌ أستطيع قوله بطريقة مُقنعة لأمّي تحديدًا، الأمر كان ينمو بيننا عامًا بعد آخر، في تفاصيل صغيرة لا يمكن وضعها الآن في قصة ساذجة. لكن الدفء الذي غمر غرفة المعيشة التي نمتُ فيها كثيرًا في طفولتي الأولى والتي لطالما كنتُ فيها طرفًا ثالثًا بين أمّي وأبي، ورأيتُ وسمعتُ فيها ما لا ينبغي أن يُرى ويُسمع، كانت تُحرضُ بداخلي حنينًا منسيًّا، كانت تُشعرني بأمانٍ غامض في أكثر لحظات حياتي هشاشة. بقيتُ أنامُ فيها إلى أن جاء إخوتي من بعدي، وكبر البيت وتعددت غُرفه. استلبني الحنين القديم، فـنما عازلٌ شفاف، وتبدد صوت أمّي الغاضب.
آنذاك قلتُ بشيء من الارتياح: «تذكرين عندما سافرنا إلى إيران أنا وزوجي» قلتُ جملتي تلك، ولم أكن كعادتي مُتشنجة ودموعي لم تغمر حلقي هذه المرة، تلك الدموع التي تمنعُ تدفق الكلمات، كنتُ في وضع مثالي تمامًا لأتحدث إليها: «أحضرنا سجادة يا أمّي. اخترتها بعناية فائقة وأحببتها جدًّا. نُسج عليها سمكتان متعانقتان إحداهما فضية والأخرى ذهبية، فيما كانت أرضية السجادة تميل للبيج الفاتح. وضعتُ السجادة في غرفة النوم؛ لأتمكن من النظر إليها كلما فتحتُ عيني. كان عناق السمكتين يثيرُ بداخلي مشاعر من نوع خاص. كنتُ أجد في تلاحم السمكتين صبرًا لإكمال الطريق مع زوجي. زوجي أيضًا أحبّ السجادة. كانت من الأشياء القليلة والنادرة التي قررنا معا شراؤها دون تفكير كثير. لكنه تجرأ على نقلها إلى الصالة ليراها كل الضيوف. كان فخورًا بذوقه. في اليوم التالي أرجعتها بإصرار إلى غرفة النوم، وبعد يومين وجدتها مجددًا على مدخل البيت. في اليوم الخامس تنازعنا على المكان الأفضل لوضع السجادة ونحن نتناول الإفطار، بعدها قلنا لبعضنا أشياء لم نقلها يومًا طوال سنوات حياتنا معًا».
مدتْ أمّي قدميها أمامها، وفي غرفة المعيشة الضيقة والمُلتهبة بالحرارة، تلامستْ أصابع قدميّ بأصابع قدميها. بدا أنّ إحدانا لا تأمل في أن تزحزح التحامهما النادر بالأخرى. بدا لي أنّ أمّي ستبكي لكنها بدأت في تخفيض حرارة المدفأة، ولدى اقترابها أكثر من وهج الإضاءة شاهدتُ وجهها المُحمر والدموع تنزلق على جانبي وجنتيها البارزتين. قالت بصوت مُتحشرج: «إذن لم يكن لديكِ أسباب حقيقية للطلاق. ليس بحوزتكِ حتى قصة جيدة لتقوليها للناس».
تصاعد إلى حلقي كلامٌ كثير أقل ترتيبًا مما كان وبنبرة أكثر رعونة قلتُ لها: «كنتما تصدقان ما يتوهمه الآخرون عنكما أنتِ وأبي، كنتما راغبين بذلك بشدة. تناضلان لسنواتٍ طويلة لإبقاء أعين الناس مفتوحة على سمعتكما الطيبة. ذلك الحد اللامعقول من التفاهم بينكما. الأمرُ ليس مثاليًّا تمامًا يا أمّي. أنا ابنتكِ البكر وأعرف ذلك جيدًا». هزتْ أمّي رأسها بخنوع: «لا تخلطي حياتي بحياتك. لا تفعلي ذلك. ماذا تعرفين أنتِ.. ها.. ماذا تعرفين؟ تدمرين حياتكِ وحياة إخوتكِ لأجل التفاهة.. ها.. التفاهة وحسب».
لم أجد كلامًا مناسبًا أقوله لها، لم أجد قصة جيدة لطلاقي، ولكن بينما أصبع قدمي الإبهام تضغط أكثر على إبهام قدمها تذكرتُ الفتيات الماضياتُ في الطريق وهن يُصدرن تأوهًا ناعمًا ويرغبن بشدة بحياة مُماثلة لحياتي مع زوجي. أعرف جيدًا ذلك التمني الساذج بأن يُصبح كلّ من يرانا ونحن نسير معًا، مُتحفزًا لعذوبة حياتنا ورقّتها. الشبان الصغار يتوقفون عن تحريك عجلات دراجاتهم الهوائية ليتسرب الاطمئنانُ إلى قلوبهم. ورغم تكاثر أطباق الأبناء من حولنا عامًا بعد آخر، احتفظنا أنا وزوجي بطبقٍ واحدٍ نأكل فيه معًا. لم يكن هنالك في حياتنا كلها طبق منفرد لأحدنا. كنا نفعل ذلك لنثير شيئًا في نفوس من حولنا، وكنا بصورة لا إرادية نتغذى على إطرائهم.
كنتُ أُدرِكُ جيدًا أنّ حجرًا صغيرًا في بركة حياتنا الراكدة أنا وزوجي سيفضحُ الهشاشة، ولذا بقينا أنا وهو نحاولُ دائمًا منع الحجر الصغير من الاصطدام بزجاج حياتنا. وغالبًا كان الأمرُ ينجح، فيكبرُ بيننا نشيدُ السكينة والدعة لأعوامٍ مديدة. لكن أحدنا سمح لحجرٍ صغيرٍ جدًّا بأن يصطدم بالبركة. فعل ذلك بإرادة تامة، وظل يراقبُ بعينٍ يائسة الدوامات التي نبشها الحجر. ظلت الدوامات تكبر وتكبر، فيما الآخر يُخفقُ في ردعه، أو لربما كان هو أيضًا يأملُ في قرارة نفسه أن يُنهي الأمر، وكأنّ مهمة منع تسلل الأحجار لروح البركة أمرٌ مملٌّ وعبثيّ. ظل كلُّ واحدٍ منا يرقبُ الآخر.. أيّ واحد منّا الأكثر كفاءة على تجاهل حجرٍ يُمزقُ الدعة المتوهمة بيننا!
كانت الأحجار تتكاثر وترتطم دون صدٍّ يُذكَر! وعندما نمتْ دوامةٌ في قلب أخرى في بركة حياتنا، عند ذلك وحسب، زالتِ الغِبطة من أعين الناس بشأننا.
لم أقل لأمّي شيئًا من تلك الأفكار التي تحركتْ للتو في رأسي، كانت الظلمة تزدادُ كثافة من حولنا. خمنا أنّ الشمس غابت آنذاك، ولم تتحرك إحدانا لفتح الإضاءة، كلٌّ منا تفترش الأرض مُسنِدة ظهرها إلى الوسائد المزركشة بشكل متعاكس مع الأخرى، حتى تلك اللحظة لم نصل إلى صيغة تفاهم جيدة حول ما ينبغي أن نقوله للناس. لم تكن هنالك قصة جيدة تُقال عن طلاقي بعد. وحدها أصابع قدمينا أنا وأمّي ظلت تضغط برفق على بعضها البعض في تفاهم نادر.
* نقلا عن:
الغِبطة | مجلة الفيصل
ولجتْ أمّي إلى غرفة المعيشة، وضعتْ كراساتها بشكلٍ مُنتظم على منضدة جانبية. كنتُ خلفها تمامًا كامرأة غريبة تنتظرُ إذنًا بالجلوس. جلسنا على الأرض مُتكئين على الوسائد المزركشة فوق سجادٍ احتفظت به أمّي نظيفًا منذ طفولتي البعيدة، بدتِ الغرفةُ مُظلمةً بستائرها الداكنة، بينما كان النهار الشتوي في الخارج في منتصفه. إخوتي وأخواتي تزوجوا جميعًا وليس في البيت سوى أمّي بعد وفاة أبي. اعتدلتْ في جلستها وبدا حزنٌ عميقٌ في عينيها، «لمَ أنتِ مهتمة ببقائي معه إلى هذه الدرجة؟» قلتُ لها. تحركتْ يداها لا إراديًّا مجددًا فأشحتُ بوجهي بعيدًا، لكنها هذه المرة صفعت كتفيها بشكل مُتعاكس، ثم قامت إلى المطبخ القريب، تغلي الشاي فوق النار بتوتر غير مألوف. سمعتُ صفير الإبريق بعد برهة. بقيتُ في مكاني هادئة، أنتظرُ أن نتحدث معًا. عادت وجلست. رجعتُ بظهري إلى الوراء واستندتُ على الوسائد مجددًا، ثم طويتُ ساقيّ في بطانية مُخططة بالأزرق والبنفسجي كانت مطوية قبل بُرهة. سكبت أمّي الشاي. حركتِ الكوب الأول بين يديها دون أن ترفع عينيها ودون أن تقول شيئًا، ثم ناولتني إياه، وسكبت آخر لها.
تلفتُّ حولي وانتفضتُ قليلًا: «ليلة باردة» . قالت أمّي بحزم : «كنتُ أسمعُ قصصًا جيدة عنكما من الناس طوال الوقت. الفتاة العاقلة والشاب الطيب». تركتُ الشاي جانبًا، وضممتُ يديّ تحت البطانية، وقبضتُ على ساقيّ المتجمدين : «هذا ما يفعلونه دائمًا». ضغطتْ بيديها على جانبي كوب الشاي لتستمد حرارته دون أن تنظر لوجهي : «لم يكن يبدو بينكما أي شيء يشيرُ لانزعاج ما. كان رجلًا جيدًا». تنفستُ وضممتُ جسدي إليّ أكثر: « نعم. لكني لم أعد أودّ الاستمرار بصحبته». رفعتْ عينيها ونظرتْ لي بقسوة: «كانت حياتي برفقة والدكِ مليئةً بالحلو والمر أيضًا، ولكني بقيتُ برفقته». ارتخى جسدي قليلًا، تناولتُ كوب الشاي وبقيتُ أضغطُ عليه بكلتا يديّ ولا أرتشفُ منه شيئًا: « لا يمكنني أن أكون أنتِ». بدا وكأنّها تبحثُ عن شيء، ثم وجدتها توصلُ المدفأة بالكهرباء. شاهدتُ الأسياخ الرقيقة تتوهجُ بالحُمرة. بات وجه أمّي الآن أكثر وضوحًا مما كان. هدأتْ قليلًا ورفعتْ رأسها ونظرت إليّ. كانت تنتظرُ القصّة بشكل واضح ودقيق. كنتُ على يقين بأنّ القصّة عندما تُروى بشكل جيد ستُغنِي عن كل التبريرات المُسبقة.
لكني لم أكن أعرف من أين ينبغي أن أبدأ. كل ما سأقوله سيبدو لأمّي تافهًا أمام المشقّات التي تحملتْها بصحبة أبي. لكنها أنقذت حديثنا من الصمت قائلة : «أنا ووالدكِ كنا نثير الغِبطة في نفوس الناس. هل تعرفين شيئًا عن الغِبطة؟ كنا ندفعُ الناس ليشعروا بإمكانية حياة اثنين معًا لآخر العمر دون حروب. الجميع كان ينظرُ إلى الود الذي بيننا. الجميع كان يأملُ بحياة مُماثلة . نكثرُ من الالتفات لبعضنا البعض في أمسيات القرية الصاخبة، نفلتُ ضحكاتنا لنفصح عن تفاهمنا. تكفي إيماءةٌ واحدة من رأس أحدنا ليستشعر الآخر المعنى بيسر. يتركُ أحدنا وجبة غداءه في الثلاجة لأنّ الآخر لم يصل في وقت الغداء إلى البيت. يبقى أحدنا مُتسمرًا أمام الباب مُنتظرًا وصول الآخر. هل تعرفين قدر الحسرة التي كانت تُحرضها علاقتي بوالدكِ؟».
بدأتِ الغرفة تدفأ، وأصبح من الممكن أن أفلت البطانية وأن أنزع الجوارب وأنا مُطمئنة. دفعتُ غطاء رأسي ليستقر فوق كتفي، ثم رفعتُ شعري عاليًا، ولممته جيدًا في مقبض الشعر. أرخيتُ كتفي بينما ارتفعت نبرة صوتُ أمّي: «كيف سنخبر الناس وإخوتكِ بالقصة؟». بدا أنّي أفتح بابًا لمشاكل جديدة في حالة لم تكن لديّ قصّة جيدة لأقولها، وهذا ما فاتني التفكير فيه في لحظة اهتمامي بخلاصي من شريك حياة تعيس. عادت تقول: «تزوجتما منذ أكثر من عشر سنوات. أنتِ الوحيدة التي لم تشتكي يومًا. لطالما كنتِ الأكثر التصاقًا بزوجكِ. أعرف أن أخواتكِ يمضين إلى مشاكل لا نهائية.. لكن أنتِ…». كان ينبغي أن أستجمع بعضًا من الشجاعة لأقول: «ربما لأنّي كنتُ أراكِ مثالًا. أردتُ أن أكون مثلكِ دومًا. كنتُ أُجابِه كل مشاكلي باستدعاء وجهكِ. استدعاء قدرتكِ على أن تكوني مثار الغِبطة من الناس، لكني أخفقت هذه المرّة»، لكني لم أتمكن من قول ذلك على نحو جيد. هنا صار صوتها أعلى ووجهها أكثر تجهمًا: «ما الذي لم تحتمليه.. هاه.. ما الذي لم يكن مُحتملًا بينكما.. هل يخونكِ.. يضربكِ..هل… ينبغي أن يكون هنالك سببٌ غير مُحتمل للوصول إلى هذه النهاية!».
إلى اللحظة التي سبقت سؤال أمّي المتكرر عن السبب الذي هدم كل شيء. لم يكن في ذهني سببٌ مُحدد لترك زوجي. لا يوجد سببٌ أستطيع قوله بطريقة مُقنعة لأمّي تحديدًا، الأمر كان ينمو بيننا عامًا بعد آخر، في تفاصيل صغيرة لا يمكن وضعها الآن في قصة ساذجة. لكن الدفء الذي غمر غرفة المعيشة التي نمتُ فيها كثيرًا في طفولتي الأولى والتي لطالما كنتُ فيها طرفًا ثالثًا بين أمّي وأبي، ورأيتُ وسمعتُ فيها ما لا ينبغي أن يُرى ويُسمع، كانت تُحرضُ بداخلي حنينًا منسيًّا، كانت تُشعرني بأمانٍ غامض في أكثر لحظات حياتي هشاشة. بقيتُ أنامُ فيها إلى أن جاء إخوتي من بعدي، وكبر البيت وتعددت غُرفه. استلبني الحنين القديم، فـنما عازلٌ شفاف، وتبدد صوت أمّي الغاضب.
آنذاك قلتُ بشيء من الارتياح: «تذكرين عندما سافرنا إلى إيران أنا وزوجي» قلتُ جملتي تلك، ولم أكن كعادتي مُتشنجة ودموعي لم تغمر حلقي هذه المرة، تلك الدموع التي تمنعُ تدفق الكلمات، كنتُ في وضع مثالي تمامًا لأتحدث إليها: «أحضرنا سجادة يا أمّي. اخترتها بعناية فائقة وأحببتها جدًّا. نُسج عليها سمكتان متعانقتان إحداهما فضية والأخرى ذهبية، فيما كانت أرضية السجادة تميل للبيج الفاتح. وضعتُ السجادة في غرفة النوم؛ لأتمكن من النظر إليها كلما فتحتُ عيني. كان عناق السمكتين يثيرُ بداخلي مشاعر من نوع خاص. كنتُ أجد في تلاحم السمكتين صبرًا لإكمال الطريق مع زوجي. زوجي أيضًا أحبّ السجادة. كانت من الأشياء القليلة والنادرة التي قررنا معا شراؤها دون تفكير كثير. لكنه تجرأ على نقلها إلى الصالة ليراها كل الضيوف. كان فخورًا بذوقه. في اليوم التالي أرجعتها بإصرار إلى غرفة النوم، وبعد يومين وجدتها مجددًا على مدخل البيت. في اليوم الخامس تنازعنا على المكان الأفضل لوضع السجادة ونحن نتناول الإفطار، بعدها قلنا لبعضنا أشياء لم نقلها يومًا طوال سنوات حياتنا معًا».
مدتْ أمّي قدميها أمامها، وفي غرفة المعيشة الضيقة والمُلتهبة بالحرارة، تلامستْ أصابع قدميّ بأصابع قدميها. بدا أنّ إحدانا لا تأمل في أن تزحزح التحامهما النادر بالأخرى. بدا لي أنّ أمّي ستبكي لكنها بدأت في تخفيض حرارة المدفأة، ولدى اقترابها أكثر من وهج الإضاءة شاهدتُ وجهها المُحمر والدموع تنزلق على جانبي وجنتيها البارزتين. قالت بصوت مُتحشرج: «إذن لم يكن لديكِ أسباب حقيقية للطلاق. ليس بحوزتكِ حتى قصة جيدة لتقوليها للناس».
تصاعد إلى حلقي كلامٌ كثير أقل ترتيبًا مما كان وبنبرة أكثر رعونة قلتُ لها: «كنتما تصدقان ما يتوهمه الآخرون عنكما أنتِ وأبي، كنتما راغبين بذلك بشدة. تناضلان لسنواتٍ طويلة لإبقاء أعين الناس مفتوحة على سمعتكما الطيبة. ذلك الحد اللامعقول من التفاهم بينكما. الأمرُ ليس مثاليًّا تمامًا يا أمّي. أنا ابنتكِ البكر وأعرف ذلك جيدًا». هزتْ أمّي رأسها بخنوع: «لا تخلطي حياتي بحياتك. لا تفعلي ذلك. ماذا تعرفين أنتِ.. ها.. ماذا تعرفين؟ تدمرين حياتكِ وحياة إخوتكِ لأجل التفاهة.. ها.. التفاهة وحسب».
لم أجد كلامًا مناسبًا أقوله لها، لم أجد قصة جيدة لطلاقي، ولكن بينما أصبع قدمي الإبهام تضغط أكثر على إبهام قدمها تذكرتُ الفتيات الماضياتُ في الطريق وهن يُصدرن تأوهًا ناعمًا ويرغبن بشدة بحياة مُماثلة لحياتي مع زوجي. أعرف جيدًا ذلك التمني الساذج بأن يُصبح كلّ من يرانا ونحن نسير معًا، مُتحفزًا لعذوبة حياتنا ورقّتها. الشبان الصغار يتوقفون عن تحريك عجلات دراجاتهم الهوائية ليتسرب الاطمئنانُ إلى قلوبهم. ورغم تكاثر أطباق الأبناء من حولنا عامًا بعد آخر، احتفظنا أنا وزوجي بطبقٍ واحدٍ نأكل فيه معًا. لم يكن هنالك في حياتنا كلها طبق منفرد لأحدنا. كنا نفعل ذلك لنثير شيئًا في نفوس من حولنا، وكنا بصورة لا إرادية نتغذى على إطرائهم.
كنتُ أُدرِكُ جيدًا أنّ حجرًا صغيرًا في بركة حياتنا الراكدة أنا وزوجي سيفضحُ الهشاشة، ولذا بقينا أنا وهو نحاولُ دائمًا منع الحجر الصغير من الاصطدام بزجاج حياتنا. وغالبًا كان الأمرُ ينجح، فيكبرُ بيننا نشيدُ السكينة والدعة لأعوامٍ مديدة. لكن أحدنا سمح لحجرٍ صغيرٍ جدًّا بأن يصطدم بالبركة. فعل ذلك بإرادة تامة، وظل يراقبُ بعينٍ يائسة الدوامات التي نبشها الحجر. ظلت الدوامات تكبر وتكبر، فيما الآخر يُخفقُ في ردعه، أو لربما كان هو أيضًا يأملُ في قرارة نفسه أن يُنهي الأمر، وكأنّ مهمة منع تسلل الأحجار لروح البركة أمرٌ مملٌّ وعبثيّ. ظل كلُّ واحدٍ منا يرقبُ الآخر.. أيّ واحد منّا الأكثر كفاءة على تجاهل حجرٍ يُمزقُ الدعة المتوهمة بيننا!
كانت الأحجار تتكاثر وترتطم دون صدٍّ يُذكَر! وعندما نمتْ دوامةٌ في قلب أخرى في بركة حياتنا، عند ذلك وحسب، زالتِ الغِبطة من أعين الناس بشأننا.
لم أقل لأمّي شيئًا من تلك الأفكار التي تحركتْ للتو في رأسي، كانت الظلمة تزدادُ كثافة من حولنا. خمنا أنّ الشمس غابت آنذاك، ولم تتحرك إحدانا لفتح الإضاءة، كلٌّ منا تفترش الأرض مُسنِدة ظهرها إلى الوسائد المزركشة بشكل متعاكس مع الأخرى، حتى تلك اللحظة لم نصل إلى صيغة تفاهم جيدة حول ما ينبغي أن نقوله للناس. لم تكن هنالك قصة جيدة تُقال عن طلاقي بعد. وحدها أصابع قدمينا أنا وأمّي ظلت تضغط برفق على بعضها البعض في تفاهم نادر.
* نقلا عن:
الغِبطة | مجلة الفيصل