أحمد عبد العاطي - روثيكا والمندولين

حينما رأيتُ روثيكا أول مرة، وهو مغنٍ لم يعرفه أحد غيري لأنه يزورني بحلمي الخاص؛ بعد أن استدعيت الرب في مناجاة فحضر؛ بتُّ مشدوهًا. وحينما استقيظتُ، هرولت أخبر أبي أني رأيتُ المسيح.كان أبي نحاتًا، تجلله العظمة حينما ينفخ الحياة في الصخور، مستخدمًا في ذلك معولًا ومطرقة، رنينهما المتسارع الخافت، هو الأحب إلى قلبي حتى الآن..
رأيته يدق بهما أيامًا في حر النهارات المختلفة، يجفف حبيبات عرقه، قبل أن تبخِّره الشمس، وتسرق لمعانه. باغتني تبريره يومئذٍ، من دون سؤال، عما يجعله يكابد سعار الهجير أثناء النحت:
- الشمس تحوي الأرواح، كما هي الصخور تحوي الأجساد.
ثم يصفر مستمرًا في الإحياء، كأنما بصفيره الماتع، يستدعي الطيف الكامن في الصُلب.
ومنذ ذلك الوقت، لازمني هاجس أن الله يسكن الفن. ألحان موزارت تطرد الشياطين، وجيوكندا دافنشي يمكنها ملئ يومي بالحب، وهاملت شكسبير أقرؤها كما لو كانت تسكرني الطقوس والابتهالات على المذبح؛ ثمة قدرة واحدة بإمكانها إحداث ذلك التأثير بداخلي، هي روح الله بلا شك.
للوهلة الأولى أدركتُ الحزن في قسمات روثيكا، واللحن يعزفه بشجن موزع بين الأمل والفقد. اعتدت مجيئه، ثم بعد ذلك أفصح عن اسمه فقط. وفي الأيام التالية، مضى ينشد لي وحدي على أوتار مندولينه، لحنًا جديدًا كل مرة، لم يخلُ من المرح يومًا، وكأن عري روحه قد استتر بدفء الاقتراب. الألحان من المتعة ما جعلتني أتحين لحظات النوم ليلة تلو الأخرى، وأسارع بجفني للنعاس، وهذا بالتحديد ما دفعني لإدراك أن الرغبة في النوم أو في أي شيء، لا تكفي لتحقيقه، إلى أن أمدَّني الليل بحيلٍ، تُسرع بإحضار ذاك المنتظِر وراء حُجُب الأحلام.
ألحانه بمثابة شموع، تثور على ظلمة الذاكرة؛ لذلك بتُّ أحفظها سُلمًا عن سُلَّم، وحينما تم لي من الأمر معظمه، رحل. راضيًا كان وواثقًا من شيء أجهله. وفي مطلع الشباب شرعتْ الطرقات في المدينة و أروقة الحانة الكبرى، تعج بقبعات الاحتفاء، تترامى عند قدميّ سوداء لامعة، وأخرى مرقعة مغبرة، أقداح تضرب أقداحًا، ورءوس تتمايل من ارتحال الشمس، مرورًا بالغسق المنتهي ببزوغ أكاليل الفجر المريمية على الجبال القريبة، وقد أقلعت الأرواح إلى مخادعها. المندولين في يدي يسبح بحمد لحنك يا روثيكا، وهذا أحدهم استفزه لحن منك يومًا فقال:
- يا بني، أنت تحقق كلمات الرب في تلك المدينة. ما اسمك؟
- اسمي روثيكا!
ما حدث أن اسمك قد التصق بكياني إلى مالا نهاية، أنت لا تمانع، أعرف ذلك تمام المعرفة. خاصة بعد أن نالني نصيب عظيم من الشهرة، أتذكر أني كلما رحتُ أجوب المدن المجاورة، تشرق بي الشمس مع كل نوتة يُراق عطرها، أجمل النساء، وأجمل السحب، وأجمل الجبال، وحزم الضوء تنام في يدي.

كان أبي نحاتًا، بكته يومها منحوتاته المعتقة عندما رحل، لم تبقَ منه سوى بضع أحجار هي مكامن لأصوات الحزن والألم، تنوح ولا يتوقف نواحها إلا مع الظهيرة، ثم تكمل الاغتسال بالدموع إلى الليل. الحزن صعب يا روثيكا لو تعلم..
الحزن يقطع اللحن، يجعله ضامرًا، ويفطر الحجر. ما باليد حيلة.
لقد بكيتُ أنا أيضًا لأيام وليالٍ طوال، داخل الغابات المخضرة، وتحت السماء الشاسعة، نعم رحلتُ، ليس بمقدوري المزيد.
لقد توقف المندولين، ورنينه الجامع لآهات الساكنين، وبدا السلام المنبسط فوق المدينة، يتأرجح مرتعشًا، مع انطباق الليل. والآن وأنا أرى وقوع المدينة في براثن ما نسجه الظلام من غيابي، أشعر بالندم يقرض شفتي؛ لقد انبثقت المخلوقات الأسطورية من السواد، وجعلت تدير رحى الدماء في المدينة، لقد أوجدتها أنا؛ خلقها ابتعاد الأوتار عن مهمتها. كنت مخطئًا؛ التيه في الأرض لا يمحو الفقد. توجّب عليّ –ساعتها- مواكبة الجنون. الفقد جنون يا أبي، وإلا ما الذي يفرق الأحبة غيره؟ لقد قررتُ ان أعود وأتفقد الأحوال، يعز عليّ مفارقة الحزن عليك. هذا وكلي يقين تام أن المرايا المهشمة لا تجتمع أشتاتها كاملة.
أبانا الذي في السماء، كن لي عونًا، وفرجًا، ونَفْسًا لا تتبطر على النعم. لقد سيطر الظلام ومخلوقاته، نُصِبَتْ المحاكمات العلنية على اهتزاز أي وتر يطرب، حتى حناجر العصافير المشرقة تم جزها. فكن جانبي كعهدي وعهد المحتاجين بك. سأعود باللحن مجددًا، واللحن كما قال روثيكا، برزخ بين الحياة والموت يا إلهي.

حينما عُدتُ، كانت تلك البقعة، والتي ازدهرت يومًا بمتنوع الألوان والأضواء، منطفئة كحشرجات الرمق الأخير، يعشش بين جنباتها العنكبوت وتحط فوق الأرفف الغربان.. تماثيل أبي تتناثر مُفَتَتة على الطرقات، وأحد تلك التماثيل معلق من رقبته، آلمني مشهده كأنه لفَظَ الروح بعد معافرة، يسكن جسده الريح والبرد والخوف.. وتلك النظرة المرتعبة على وجهه..
رباه ماذا فعلتُ؟
لم ألحظ التفاف القمر حولي أول الأمر، إلى أن مد ذراعيه بأحضان الماضي، وانسكبت دمعة ضربتْ -لأول مرة منذ سنوات عدة- أوتار المندولين. الطرقات تلتمع بأنداء المطر، على ضوء فضي يترقب. وحدي أعزف، أكبح رغبتي في الصراخ، ومع أول مطلع للفرح في الأوتار، ظهرت تلك الأشباح من بعيد، مكسوة بالظلال السوداء والموت، تصدر صرير النهاية في عباءات حالكة وعيون حمراء مضيئة. حملني ذلك بين الهذيان والصحو، وبدلًا من أن أستدير لأرحل، واجهتُ مصيري كاملًا، وفي أيديهم لمحت لحظتَي نجاة واندثار، نجاة الترانيم واندثاري أنا. كان عليّ ذلك يا روثيكا، ألا تفهم؟ أنا من جلبهم؛ لقد خنتُ مندولينك.
في البدء عرضوا عليّ الماضي كاملًا، أحباب وأصحاب غادرتُهم طويلًا، وشوارع لم أمشِ فيها منذ سنوات خمس، أدخل بيوتًا تسكن في أعماق روحي، كانت يومًا تمتلئ بالصخب والحب. مهددة الآن بالتآكل والهدم. وهناك في منزلي وضعوا أسيجة ومعادن مشبكة، إنه سجن، منزلي أحالوه لسجن وقاعة محاكمة يا روثيكا. زجوا بي فيه. انطفأ النور في عيني، ودوار الحيرة أمرُّ ما عذبني لحظتها. إنه الإغماء والرحيل أنعم بهما بلا أدنى قدرة على استحضار الألحان. وفي ذلك الصحو المزيف، أو لنقل في حلم، رأيت طفلًا.. يبحث في حشائش الأرض، لا يفتأ يلاحق فراشات ملونة بكلتا يديه، ملامحه ليست غريبة، إنها مألوفة إلى حد كبير، رأيتني في هذا أمسك بالمندولين حزينًا، اقترب الطفل مني وسأل لمَ أنت حزين؟ فلم أُجب. مرة أخرى سدد سؤالًا: أأنت المسيح؟ فمسحت على رأسه مبتسمًا ولم أُجب أيضًا.
- ما اسمك؟
- اسمي روثيكا.
- أنحن في حلم؟
- على ما أعتقد.
في الأيام التالية، رحنا نتلاقى في الحلم، أنا أضرب على الأوتار بألحان مرحة وهو يدوّن، قائلًا: - اعزف يا روثيكا، اعزف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...