منذ نشأ علم النحو والمسلمون حريصون على ربط قواعده بالألفاظ القرآنية التي تمثل أسمى ما يبلغ إليه البيان، وأقوم ما يرشد الإنسان إلى تقويم اللسان.
وقد عني المهتمون بالتأليف في هذا العلم أن يوضحوا معالمه باستدلالات شعرية، وباستشهادات قرآنية، وكان يساعدهم على ذلك ما يستظهرونه من الشعر، وما يحفظونه من القرآن، إلا أنه حينما ضعفت الذاكرة، وقل الحفظ، تسربت بعض الأخطاء إلى الكتب، وانتقلت على ألسنة بعض الأفراد الذين لا يأخذون العلم عن الثقات المهرة، فاضطربت الأحوال وشاع اللحن.
وهذا هو السر الذي كان يدفع العلماء الذين يتولون تعليم النحو إلى أن يكونوا على خبرة واسعة باللغة، وعلى قدرة كاملة على عدم اللحن فيما يستشهدون به من الآيات الكريمة أو الأحاديث النبوية الشريفة، وقد كان المغاربة أثناء التلقين العلمي في المساجد والمداس يتحرون التحري الكامل في ربط قواعد اللغة بما يناسبها من الاستدلالات والاستشهادات.
وعندما أصبح التعليم منظما بجامع القرويين اختير لتلقين علم النحو جماعة من الأساتذة كانوا على دراية دقيقة بهذا العلم، وعلى نصيب كبير من التقوى فقاموا بالمهمة المنوطة بهم أحسن قيام، وكانوا يوفقون في التدريس نظرا لما لهم من الموسوعية في العلوم الدينية واللسانية.
ويمكن الاطلاع على نماذج من هؤلاء من خلال ذكر بعضهم في كتاب: «الدرر الفاخرة» «لعبد الرحمن ابن زيدان» ومن ذكر بعضهم في الكتاب الذي ألفه الفقيه المرحوم «السيد» «محمد بن الفاطمي ابن الحاج» المسمى (إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنهم من الشيوخ).
فقد أشار فيه إلى عدد من شيوخه سواء ممن تلقى منهم دروسه بطريقة تنظيمية أو ممن أخذ عنهم بطريقة تطوعية، وفي مجال ذكرهم نجده يتعرض لكثير من الكتب التي كانت تلقن في مجال اللغة والنحو والأدب سواء كانت من كتب القواعد النحوية أو كانت من كتب النصوص الأدبية الرائعة، فمن مقدمة ابن أجروم إلى ألفية ابن مالك إلى المغني اللبيب لابن هشام ومن مقامات الحريري إلى كتاب الأمالي للقالي والمزهر للسيوطي وديوان الحماسة لأبي تمام.
وفي طليعة هؤلاء الشيوخ نجد الفقيه «محمد بن عبد الكبير ابن الحاج السلمي»، والفقيه «محمد بن عبد المجيد أقصبي والفقيه محمد بن الوليد العراقي» و«الفقيه محمد بن عبد الرحمن العراقي» و«الفقيه السيد الطايع ابن الحاج»، و«الفقيه أحمد بن الجيلالي الأمغاري»، و«الفقيه محمد بن العربي العلوي»، و«الفقيه محمد بن جعفر الكتاني».
ومن المعروف عن الكثير من هؤلاء أنهم كانوا يحفظون القرآن حفظا متقنا، لذلك كانوا عند الاستدلال به في تطبيق بعض القواعد واعين بما يستدلون به، عارفين طريق الربط بين القاعدة المدروسة وبين الآية المستدل بها.
وكانت كثرة حفظهم، وكثرة استدلالاتهم تخلق في نفس المتعلمين تشوقا إلى المعرفة وتجعلهم يحاولون ما أمكنهم أن يقتدوا بشيوخهم في الحفظ والمقارنة.
وكانت كفاية هؤلاء الأساتذة تتجلى في ربط النصوص بأصولها، كما تتجلى في تصحيح الأخطاء التي يقع فيها المؤلفون، أو التي تتسرب إلى الكتب أثناء طبعها، هذا مع العلم أن الأخطاء المطبعية لم تكن كثيرة لتعهد كثير من المطابع لما تنشره ولاعتمادها في ذلك على مصححين مشتهرين بدرايتهم ومعرفتهم.
وشاءت الأقدار أن يقل حفاظ القرآن من الطلبة ومن بعض الأساتذة، وأن تقل العناية بالطبع، فجر ذلك إلى هلهلة الوضع النحوي، وإلى تفسخ الاستدلال، التي لم يعد القارئ مطمئنا أثناء قراءة كتاب عادي إلى أن يأخذ الآية القرآنية المستدل بها على أنها طبعت وفق حقيقتها، إذ لابد من المراجعة، ومن التحري والمقابلة بالمصحف الشريف وحينئذ يمكن الركون إليها والاستدلال بها سواء كانت واردة في كتاب الركون إليها والاستدلال بها سواء كانت واردة في كتاب لا نعرف عن أخلاق مؤلفه وعن مستواه العلمي شيئا.
ولقد تسربت هاته الأخطاء إلى كتب لها وزنها العلمي في مادة اللغة العربية في القرن العشرين، خصوصا بالنسبة إلى الكتب التي كثر تداولها وعم انتشارها ومن بينها كتاب «جامع الدروس العربية» «لمصطفى الغلايني» الذي كان متداولا في كثير من المدارس والجامعات.
ففي هذا الكتاب استدلالات قرآنية كثيرة إلا أنه وقعت أخطاء في بعضها، الشيء الذي دفع بعض أساتذة النحو في المغرب إلى التنبيه عليها، وإلى إظهار ما في السكوت على ذلك من أخطار، ولقد كتب في هذا الموضوع الأستاذ «محمد بن تاويت التطواني» (رحمه الله) تصويبات قيمة نشرها في العدد السادس والسابع من مجلة «دعوة الحق» سنة 1968 م، وأشار آنذاك بأن هذه أخطاء مدسوسة عند الطبع لمحاربة القرآن الإسلامية آنذاك بمصادرة هذا الكتاب حتى لا يفسد على الناس دينهم ولغتهم.
والواقع إن تنبيهات الأستاذ «ابن تاويت» إلى تلك الأخطاء كانت مجدية ودافعة إلى استيقاظ الضمير العلمي لتصحيح الوضع، كما أنها جعلت الدارسين لهاته الكتب وأمثالها لا يكتفون بالأخذ عنها دون رد الآيات إلى أصولها إلا أن مطالبته بمصادرة الكتاب لم تكن لتحل المشكل، إذ لابد من التفكير في أعمال أخرى إيجابية قد يكون لها من النفع ما لا نصل إليه عن طريق المصادرة خصوصا وأن كتاب «جامع الدروس العربية» هذا يعد من الكتب ذات الفائدة الكبرى التي سايرت الحركة النحوية في بيروت، والتي واكبت بعض الاتجاهات التي كان يقوم بها اليسوعيون في تسهيل علم النحو وتيسير قواعده.
ويمتاز كتاب «الغلايني» عن كتبهم بالاعتماد على المصادر الإسلامية، وبكثرة الاستدلالات بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فهو من الجهة يستمد مضمون كتابه من جوهر العلم ولا يحيد عن الاتجاه القديم إلا في بعض المحاولات التي تتعلق بمنهاج العرض لا بمضمون القواعد.
ورغم كون هذا الكتاب قد ألف في العقد الرابع من سنة 1919م، فهو لحد مازال من المصادر النحوية التي نجدها في أيدي طلبتنا بكثرة، لأنه ميسر في الأسواق، موجود في المكتبات، ولأن جل الأساتذة الحاليين في المغرب قد يجعلونه من مصادرهم المعتمدة، زيادة على شهرة مؤلفه في الميدان اللغوي، ذلكم أن الشيخ «مصطفى الغلايني» قد تلقى دراسته اللغوية في جامعة الأزهر بمصر، وعاش قدرا من حياته في دمشق وتولى القضاء في لبنان.
ومن المعلوم أنه كان من مواليد بيروت، وأنه كان في مواجهة التيار اللغوي الجديد آنذاك، فكانت له خبرة بالأدب الجاهلي، واهتمامات برجال المعلقات، وولع بالثقافة إلى نهاية حياته سنة 1944 م.
ونظرة في كتابه تدل على أن هذا المؤلف يحمل الطابع العلمي في منهجيته، وفي شموليته، وفي قدرته على إهمال ما ينبغي إهماله، وإثبات ما ينبغي إثباته؛ الشيء الذي جعل كتابه متداولا ورائجا في الأسواق، فلا يلبث فيها إلا قليلا حتى ينفذ ثم يعاد طبعه.
ويظهر أن «ابن تاويت» نفسه لا يرى أن هاته الأخطاء قد ارتكبت من المؤلف ذاته فهو يعترف بقيمته العلمية، وإنما يرى أن أسباب التصحيف والتحريف ناتجة عن تعمد هيئة عدوة للإسلام تندس المطابع وتستغل غفلة المؤلفين فتفسد عليهم ما ألفوا وتحرف بعض الآيات القرآنية دون وازع ودون خوف، وكان تعليقه متصلا بالطبعة التاسعة، ولقد طالب أثناء كتابة بحثه هذا من وزارة الشؤون الإسلامية آنذاك بمصادرة هذا الكتاب حتى تحول بين هؤلاء ومقاصدهم، وهو اقتراح سبق لنا أن قلنا إنه عمل غير كاف في تصحيح الوضع وفي توجيه المحتاجين إلى التوجيه.
ومن يقرأ هذا الكتاب فسيرى أن هاته الأخطاء منها ما هو بسيط كسقوط واو في أول الآية، ومنها ما هو معقد لكونه يغير الجملة بأكملها فيزيد فيها أو ينقص أو يحور.
فمن النوع الأول:
قول الله تعالى: «وتالله لأكيدن أصنامكم»(1) فقد كتبها بدون واو.
ومن النوع الثاني:
قول الله تبارك وتعالى في سورة الواقعة: «فلولا إذ بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون»(2) فقد كتبها خطأ بزيادة كلمت الروح بين بلغت وبين الحلقوم.
وقوله في سورة البقرة: «واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون»(3) ففي الكتاب المذكور حينما كان المؤلف يتحدث عن كون «ظن» قد ترد بمعنى اليقين قال: «وذلك كقوله تعالى: «وظنوا أنهم ملاقو ربهم» وفي ذلك تحريف واضح ما كان ينبغي أن يصدر في كتاب يتداوله الناس.
ولم ينبه الأستاذ «ابن تاويت» عن جميع الأخطاء، فلقد تتبعت الكتاب فوجدت أخطاء أخرى مرجعها في الغالب إلى جهل المنضدين بالقرآن، وإلى عدم وضوح الخط اليدوي أحيانا وذلك كقوله تعالى: «قل هلم شهداءكم»(4) أي ادعوا شهداءكم باعتبار أن (هلم) اسم فعل أمر على لغة الحجازيين فلا تقبل علامات الفعل لكن هذه الآية قد كتبت خطأ «قل هلم شركاءكم» وفي هذا التحريف ولا شك تغيير في الصورة وفي المعنى أيضا.
وعلى كل حال فإن الواجب يقتضي البحث عن علاج علمي لهذه المشكلة التي لها، أمثال في العالم العربي، ولا نريد أن يكون هذا العلاج خاضعا لانفعال آني يتعلق بمصادرة الكتاب كما اقترح الأستاذ ابن تاويت «رحمه الله» الذي دفعته غيرته الدينية إلى مطالبة الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية بذلك، لأن هذا الحل جزئي متعذر التطبيق، بل إننا نرى الأمر لا يتحقق إلا بمعرفة القصد الحقيقي للمسؤولين عن منشورات المكتبة العصرية التي طبعته ببيروت.
ولهذا كان ينبغي للأستاذ أن يرسل إليهم أولا ملاحظاته ليتلافوها في الطبعات اللاحقة وحينئذ إذا لم يستجيبوا فإن إدانتهم ستكون حتمية ودسهم سيكون متعمدا وسيعلن عن موقفهم في المحافل الإسلامية عامة لا في الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية في المغرب فقط.
ورغم مرور الزمان فإننا نرى أن طريق تلافي المشكل يقتضي الأمور التالية:
أولا: العمل على طبع هذا الكتاب مرة أخرى خاليا من الأخطاء بعيدا عن التعريف برعاية محققين لهم خبرة كافية بالثقافة الإسلامية والقراءات القرآنية.
ثانيا: إخراج الملاحظات التي توصل إليها الأستاذ ابن تاويت وما أضيف إليها أو سيضاف من ملاحظات، وإرسالها إلى القسم المكلف بالتفتيش ومراقبة البرامج ليتولى هذا القسم إشعار هيئة التدريس بهاته الأخطاء، وينبههم إليها ليتلافوها في تدريسهم.
ثالثا: إشعار جميع الأساتذة الذين لا يحفظون القرآن وكذلك الطلبة الذين لا يحفظونه أيضا بضرورة مقابلة الآيات القرآنية التي يستدل بها في الكتب النحوية بالمصاحف، ويمكنهم الاستعانة بالفهارس القرآنية الموجودة الآن مطبوعة ومسجلة على الأقراص، فهي مساعد ضروري لا يستغني عنه أي شخص لا يحفظ القرآن ليستطيع بواسطتها تحديد مكان الآية داخل المصحف الشريف.
رابعا: العمل على ترقيم الآيات فيما يطبع من الكتب لتسهل المقابلة لكل من أرادها.
خامسا: إلزام دور الطباعة باختيار المنضدين والراقنين من بين ذوي المستوى المعرفي المناسب لما يقومون به فإن التساهل في ذلك هو الذي يتسبب في مثل هذه الهفوات.
سادسا: الحرص على تحفيظ القرآن بانتظام في مؤسساتنا التعليمية ولعل التفكير في إحياء الاتجاه التعليمي الأصيل والاهتمام بالتعليم العتيق سيساعد على تلافي ما يقع من هاته الأخطاء وعلى التقليل من شيوعها، هذا زيادة على الاطمئنان النفسي الذي يستمده المومنون من قوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون»(5)، فإن هذا الاطمئنان سيؤكد يقيننا بأن القرآن سيظل تشريعا أبديا وسيحفظه الله من كل تصحيف أو تحريف.
(1) - سورة الأنبياء: الآية 57.
(2) - سورة الواقعة: الآيتان 83-84.
(3) - سورة البقرة الآيتان 45-46.
(4) - من الآية 150 من سورة الأنعام.
(5) - سورة الأنعام: الآية 150.
دعوة الحق - العدد 367 ربيع 1- ربيع 2/ماي-يونيو 2002
وقد عني المهتمون بالتأليف في هذا العلم أن يوضحوا معالمه باستدلالات شعرية، وباستشهادات قرآنية، وكان يساعدهم على ذلك ما يستظهرونه من الشعر، وما يحفظونه من القرآن، إلا أنه حينما ضعفت الذاكرة، وقل الحفظ، تسربت بعض الأخطاء إلى الكتب، وانتقلت على ألسنة بعض الأفراد الذين لا يأخذون العلم عن الثقات المهرة، فاضطربت الأحوال وشاع اللحن.
وهذا هو السر الذي كان يدفع العلماء الذين يتولون تعليم النحو إلى أن يكونوا على خبرة واسعة باللغة، وعلى قدرة كاملة على عدم اللحن فيما يستشهدون به من الآيات الكريمة أو الأحاديث النبوية الشريفة، وقد كان المغاربة أثناء التلقين العلمي في المساجد والمداس يتحرون التحري الكامل في ربط قواعد اللغة بما يناسبها من الاستدلالات والاستشهادات.
وعندما أصبح التعليم منظما بجامع القرويين اختير لتلقين علم النحو جماعة من الأساتذة كانوا على دراية دقيقة بهذا العلم، وعلى نصيب كبير من التقوى فقاموا بالمهمة المنوطة بهم أحسن قيام، وكانوا يوفقون في التدريس نظرا لما لهم من الموسوعية في العلوم الدينية واللسانية.
ويمكن الاطلاع على نماذج من هؤلاء من خلال ذكر بعضهم في كتاب: «الدرر الفاخرة» «لعبد الرحمن ابن زيدان» ومن ذكر بعضهم في الكتاب الذي ألفه الفقيه المرحوم «السيد» «محمد بن الفاطمي ابن الحاج» المسمى (إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنهم من الشيوخ).
فقد أشار فيه إلى عدد من شيوخه سواء ممن تلقى منهم دروسه بطريقة تنظيمية أو ممن أخذ عنهم بطريقة تطوعية، وفي مجال ذكرهم نجده يتعرض لكثير من الكتب التي كانت تلقن في مجال اللغة والنحو والأدب سواء كانت من كتب القواعد النحوية أو كانت من كتب النصوص الأدبية الرائعة، فمن مقدمة ابن أجروم إلى ألفية ابن مالك إلى المغني اللبيب لابن هشام ومن مقامات الحريري إلى كتاب الأمالي للقالي والمزهر للسيوطي وديوان الحماسة لأبي تمام.
وفي طليعة هؤلاء الشيوخ نجد الفقيه «محمد بن عبد الكبير ابن الحاج السلمي»، والفقيه «محمد بن عبد المجيد أقصبي والفقيه محمد بن الوليد العراقي» و«الفقيه محمد بن عبد الرحمن العراقي» و«الفقيه السيد الطايع ابن الحاج»، و«الفقيه أحمد بن الجيلالي الأمغاري»، و«الفقيه محمد بن العربي العلوي»، و«الفقيه محمد بن جعفر الكتاني».
ومن المعروف عن الكثير من هؤلاء أنهم كانوا يحفظون القرآن حفظا متقنا، لذلك كانوا عند الاستدلال به في تطبيق بعض القواعد واعين بما يستدلون به، عارفين طريق الربط بين القاعدة المدروسة وبين الآية المستدل بها.
وكانت كثرة حفظهم، وكثرة استدلالاتهم تخلق في نفس المتعلمين تشوقا إلى المعرفة وتجعلهم يحاولون ما أمكنهم أن يقتدوا بشيوخهم في الحفظ والمقارنة.
وكانت كفاية هؤلاء الأساتذة تتجلى في ربط النصوص بأصولها، كما تتجلى في تصحيح الأخطاء التي يقع فيها المؤلفون، أو التي تتسرب إلى الكتب أثناء طبعها، هذا مع العلم أن الأخطاء المطبعية لم تكن كثيرة لتعهد كثير من المطابع لما تنشره ولاعتمادها في ذلك على مصححين مشتهرين بدرايتهم ومعرفتهم.
وشاءت الأقدار أن يقل حفاظ القرآن من الطلبة ومن بعض الأساتذة، وأن تقل العناية بالطبع، فجر ذلك إلى هلهلة الوضع النحوي، وإلى تفسخ الاستدلال، التي لم يعد القارئ مطمئنا أثناء قراءة كتاب عادي إلى أن يأخذ الآية القرآنية المستدل بها على أنها طبعت وفق حقيقتها، إذ لابد من المراجعة، ومن التحري والمقابلة بالمصحف الشريف وحينئذ يمكن الركون إليها والاستدلال بها سواء كانت واردة في كتاب الركون إليها والاستدلال بها سواء كانت واردة في كتاب لا نعرف عن أخلاق مؤلفه وعن مستواه العلمي شيئا.
ولقد تسربت هاته الأخطاء إلى كتب لها وزنها العلمي في مادة اللغة العربية في القرن العشرين، خصوصا بالنسبة إلى الكتب التي كثر تداولها وعم انتشارها ومن بينها كتاب «جامع الدروس العربية» «لمصطفى الغلايني» الذي كان متداولا في كثير من المدارس والجامعات.
ففي هذا الكتاب استدلالات قرآنية كثيرة إلا أنه وقعت أخطاء في بعضها، الشيء الذي دفع بعض أساتذة النحو في المغرب إلى التنبيه عليها، وإلى إظهار ما في السكوت على ذلك من أخطار، ولقد كتب في هذا الموضوع الأستاذ «محمد بن تاويت التطواني» (رحمه الله) تصويبات قيمة نشرها في العدد السادس والسابع من مجلة «دعوة الحق» سنة 1968 م، وأشار آنذاك بأن هذه أخطاء مدسوسة عند الطبع لمحاربة القرآن الإسلامية آنذاك بمصادرة هذا الكتاب حتى لا يفسد على الناس دينهم ولغتهم.
والواقع إن تنبيهات الأستاذ «ابن تاويت» إلى تلك الأخطاء كانت مجدية ودافعة إلى استيقاظ الضمير العلمي لتصحيح الوضع، كما أنها جعلت الدارسين لهاته الكتب وأمثالها لا يكتفون بالأخذ عنها دون رد الآيات إلى أصولها إلا أن مطالبته بمصادرة الكتاب لم تكن لتحل المشكل، إذ لابد من التفكير في أعمال أخرى إيجابية قد يكون لها من النفع ما لا نصل إليه عن طريق المصادرة خصوصا وأن كتاب «جامع الدروس العربية» هذا يعد من الكتب ذات الفائدة الكبرى التي سايرت الحركة النحوية في بيروت، والتي واكبت بعض الاتجاهات التي كان يقوم بها اليسوعيون في تسهيل علم النحو وتيسير قواعده.
ويمتاز كتاب «الغلايني» عن كتبهم بالاعتماد على المصادر الإسلامية، وبكثرة الاستدلالات بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فهو من الجهة يستمد مضمون كتابه من جوهر العلم ولا يحيد عن الاتجاه القديم إلا في بعض المحاولات التي تتعلق بمنهاج العرض لا بمضمون القواعد.
ورغم كون هذا الكتاب قد ألف في العقد الرابع من سنة 1919م، فهو لحد مازال من المصادر النحوية التي نجدها في أيدي طلبتنا بكثرة، لأنه ميسر في الأسواق، موجود في المكتبات، ولأن جل الأساتذة الحاليين في المغرب قد يجعلونه من مصادرهم المعتمدة، زيادة على شهرة مؤلفه في الميدان اللغوي، ذلكم أن الشيخ «مصطفى الغلايني» قد تلقى دراسته اللغوية في جامعة الأزهر بمصر، وعاش قدرا من حياته في دمشق وتولى القضاء في لبنان.
ومن المعلوم أنه كان من مواليد بيروت، وأنه كان في مواجهة التيار اللغوي الجديد آنذاك، فكانت له خبرة بالأدب الجاهلي، واهتمامات برجال المعلقات، وولع بالثقافة إلى نهاية حياته سنة 1944 م.
ونظرة في كتابه تدل على أن هذا المؤلف يحمل الطابع العلمي في منهجيته، وفي شموليته، وفي قدرته على إهمال ما ينبغي إهماله، وإثبات ما ينبغي إثباته؛ الشيء الذي جعل كتابه متداولا ورائجا في الأسواق، فلا يلبث فيها إلا قليلا حتى ينفذ ثم يعاد طبعه.
ويظهر أن «ابن تاويت» نفسه لا يرى أن هاته الأخطاء قد ارتكبت من المؤلف ذاته فهو يعترف بقيمته العلمية، وإنما يرى أن أسباب التصحيف والتحريف ناتجة عن تعمد هيئة عدوة للإسلام تندس المطابع وتستغل غفلة المؤلفين فتفسد عليهم ما ألفوا وتحرف بعض الآيات القرآنية دون وازع ودون خوف، وكان تعليقه متصلا بالطبعة التاسعة، ولقد طالب أثناء كتابة بحثه هذا من وزارة الشؤون الإسلامية آنذاك بمصادرة هذا الكتاب حتى تحول بين هؤلاء ومقاصدهم، وهو اقتراح سبق لنا أن قلنا إنه عمل غير كاف في تصحيح الوضع وفي توجيه المحتاجين إلى التوجيه.
ومن يقرأ هذا الكتاب فسيرى أن هاته الأخطاء منها ما هو بسيط كسقوط واو في أول الآية، ومنها ما هو معقد لكونه يغير الجملة بأكملها فيزيد فيها أو ينقص أو يحور.
فمن النوع الأول:
قول الله تعالى: «وتالله لأكيدن أصنامكم»(1) فقد كتبها بدون واو.
ومن النوع الثاني:
قول الله تبارك وتعالى في سورة الواقعة: «فلولا إذ بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون»(2) فقد كتبها خطأ بزيادة كلمت الروح بين بلغت وبين الحلقوم.
وقوله في سورة البقرة: «واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون»(3) ففي الكتاب المذكور حينما كان المؤلف يتحدث عن كون «ظن» قد ترد بمعنى اليقين قال: «وذلك كقوله تعالى: «وظنوا أنهم ملاقو ربهم» وفي ذلك تحريف واضح ما كان ينبغي أن يصدر في كتاب يتداوله الناس.
ولم ينبه الأستاذ «ابن تاويت» عن جميع الأخطاء، فلقد تتبعت الكتاب فوجدت أخطاء أخرى مرجعها في الغالب إلى جهل المنضدين بالقرآن، وإلى عدم وضوح الخط اليدوي أحيانا وذلك كقوله تعالى: «قل هلم شهداءكم»(4) أي ادعوا شهداءكم باعتبار أن (هلم) اسم فعل أمر على لغة الحجازيين فلا تقبل علامات الفعل لكن هذه الآية قد كتبت خطأ «قل هلم شركاءكم» وفي هذا التحريف ولا شك تغيير في الصورة وفي المعنى أيضا.
وعلى كل حال فإن الواجب يقتضي البحث عن علاج علمي لهذه المشكلة التي لها، أمثال في العالم العربي، ولا نريد أن يكون هذا العلاج خاضعا لانفعال آني يتعلق بمصادرة الكتاب كما اقترح الأستاذ ابن تاويت «رحمه الله» الذي دفعته غيرته الدينية إلى مطالبة الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية بذلك، لأن هذا الحل جزئي متعذر التطبيق، بل إننا نرى الأمر لا يتحقق إلا بمعرفة القصد الحقيقي للمسؤولين عن منشورات المكتبة العصرية التي طبعته ببيروت.
ولهذا كان ينبغي للأستاذ أن يرسل إليهم أولا ملاحظاته ليتلافوها في الطبعات اللاحقة وحينئذ إذا لم يستجيبوا فإن إدانتهم ستكون حتمية ودسهم سيكون متعمدا وسيعلن عن موقفهم في المحافل الإسلامية عامة لا في الوزارة المكلفة بالشؤون الإسلامية في المغرب فقط.
ورغم مرور الزمان فإننا نرى أن طريق تلافي المشكل يقتضي الأمور التالية:
أولا: العمل على طبع هذا الكتاب مرة أخرى خاليا من الأخطاء بعيدا عن التعريف برعاية محققين لهم خبرة كافية بالثقافة الإسلامية والقراءات القرآنية.
ثانيا: إخراج الملاحظات التي توصل إليها الأستاذ ابن تاويت وما أضيف إليها أو سيضاف من ملاحظات، وإرسالها إلى القسم المكلف بالتفتيش ومراقبة البرامج ليتولى هذا القسم إشعار هيئة التدريس بهاته الأخطاء، وينبههم إليها ليتلافوها في تدريسهم.
ثالثا: إشعار جميع الأساتذة الذين لا يحفظون القرآن وكذلك الطلبة الذين لا يحفظونه أيضا بضرورة مقابلة الآيات القرآنية التي يستدل بها في الكتب النحوية بالمصاحف، ويمكنهم الاستعانة بالفهارس القرآنية الموجودة الآن مطبوعة ومسجلة على الأقراص، فهي مساعد ضروري لا يستغني عنه أي شخص لا يحفظ القرآن ليستطيع بواسطتها تحديد مكان الآية داخل المصحف الشريف.
رابعا: العمل على ترقيم الآيات فيما يطبع من الكتب لتسهل المقابلة لكل من أرادها.
خامسا: إلزام دور الطباعة باختيار المنضدين والراقنين من بين ذوي المستوى المعرفي المناسب لما يقومون به فإن التساهل في ذلك هو الذي يتسبب في مثل هذه الهفوات.
سادسا: الحرص على تحفيظ القرآن بانتظام في مؤسساتنا التعليمية ولعل التفكير في إحياء الاتجاه التعليمي الأصيل والاهتمام بالتعليم العتيق سيساعد على تلافي ما يقع من هاته الأخطاء وعلى التقليل من شيوعها، هذا زيادة على الاطمئنان النفسي الذي يستمده المومنون من قوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون»(5)، فإن هذا الاطمئنان سيؤكد يقيننا بأن القرآن سيظل تشريعا أبديا وسيحفظه الله من كل تصحيف أو تحريف.
(1) - سورة الأنبياء: الآية 57.
(2) - سورة الواقعة: الآيتان 83-84.
(3) - سورة البقرة الآيتان 45-46.
(4) - من الآية 150 من سورة الأنعام.
(5) - سورة الأنعام: الآية 150.
دعوة الحق - العدد 367 ربيع 1- ربيع 2/ماي-يونيو 2002