يـوم ملائم تمـاما*
كل الظروف، تهيأت ليكون موته كما يريد، في أبهى صــــورة، خلت السماء من الغيوم الداكنة، التي غطتها لمدة يومين كاملين، وبدت جميلة، بزرقتها الخفيفة، وقليل من النتف البيضاء، عالقة بها، والشمس الطالعة تلامس الأرض، المشبعة بسقعة طوبة .
بدأ يومه بالاستحمام، بعد أن حلق شعر رأسه وذقنه، وعلى غير العادة، تكلم كثيرا، وهو مقرفص على فرو الخروف، قدام المزين، الذي قال، وهو يلم الفوطة البيضاء، المتسخة، المليئة بثقوب السجائر، وينفضها أسفل الحائط: " نعيما يا حاج ". فجرت سحلية صغيرة، بذيل أزرق، واختفت بين قوالب الطوب المرصوصة .
ثم أصر، رغم حلفان المزين الشديد، أن يعزمه إلى أول الطريق، ولم يتركه، إلا بعد أن غاب عن عينيه، متجها ناحية النجوع القريبة .
وضعت له البنت، الطشت وجردل الماء الفاتر، فى البقعة المشمسة بالحوش، بعد أن هشت منها النعجات الراقدة، فقامت في تكاسل، وهى تهز ذيولها، ثم ذهبت البنت وأغلقت الباب وراءها.
صار عاريا، فخرجت الأرانب من جحورها، وأخذ الدجاج ينكش في الجير، العالق بالحيطان، أما النعجات، فقد رقدت على بعضها في الظل، وأخذت تجتر، وهى تبص على عريه بلا اهتمام.
جو ملائم تماما، لأن يأتي كل الجيران، والأقارب، والأصدقاء، والغرباء، لحضور الجنازة. وسيجدونها فرصة مناسبة، لعدم الذهاب إلى الشغل، والقعود في السهراية، يدخنون بشراهة، ويثرثرون، منتظرين تجهيز الكفن، وانتهاء الغسل.
حتى العيال الصغار، سيزعقـــون في وجوه أمهاتهم الباكيات: "لقد مات.. ولن نذهب اليوم إلى المدرسة".
ثم يرمحــون بعيدا، ويظلــون هادئين، وهم يراقبون الكبار في صمت.
يوم مشمس، دافئ، ملائم تماما، لأن يشتغل الفحار العجوز بلا تذمر، في أرض الجبانة الناشفة، يصنع بحب، قبرا يليق به.
العجائز القاعدون في سوق الاثنين، ممسكين بين أيديهم، بعنزة عجفاء، تركوا الفصال فيها لما جاءت سيرته، وقالوا في حسد: "لا أحد مثله، مات دفيانا، شبعانا".
بينما السيدات الكبيرات، سيتبادلن قصبة الجوزة، وهن قاعدات على حصر الحلف، المفروشة تحت الشمس، يرقبن بطرف أعينهن، حريم أبناءهن، المشغولات في خدمة البيت.. يلقين عليهن من وقت لآخر، بعض الأوامر، ثم يقلن: "انه قطب... كان يجب أن يبنوا له ضريحا".
بدا خفيفا وبشوشا، في ملابسه البيضاء، النظيفة. قعد على كوم القش، يبص على الغيطان، المفرودة أمامه حتى الجبل العالي، تتخللها بيوت طينية قليلة، ونخيل متناثر.
مدد جسمه، وغطى وجهه ـ من وهج شمس الصباح ـ بطرف شاشه، مستمتعا بالدفء، وبهجة خفيفة، تسرى في عروقه.
ـــــــــــ
* من مجموعة: "عجائز قاعدون على الدكك" ٢٠١٠م.
** روائي وقاص مصري من مواليد قنا ١٩٧٨م
كل الظروف، تهيأت ليكون موته كما يريد، في أبهى صــــورة، خلت السماء من الغيوم الداكنة، التي غطتها لمدة يومين كاملين، وبدت جميلة، بزرقتها الخفيفة، وقليل من النتف البيضاء، عالقة بها، والشمس الطالعة تلامس الأرض، المشبعة بسقعة طوبة .
بدأ يومه بالاستحمام، بعد أن حلق شعر رأسه وذقنه، وعلى غير العادة، تكلم كثيرا، وهو مقرفص على فرو الخروف، قدام المزين، الذي قال، وهو يلم الفوطة البيضاء، المتسخة، المليئة بثقوب السجائر، وينفضها أسفل الحائط: " نعيما يا حاج ". فجرت سحلية صغيرة، بذيل أزرق، واختفت بين قوالب الطوب المرصوصة .
ثم أصر، رغم حلفان المزين الشديد، أن يعزمه إلى أول الطريق، ولم يتركه، إلا بعد أن غاب عن عينيه، متجها ناحية النجوع القريبة .
وضعت له البنت، الطشت وجردل الماء الفاتر، فى البقعة المشمسة بالحوش، بعد أن هشت منها النعجات الراقدة، فقامت في تكاسل، وهى تهز ذيولها، ثم ذهبت البنت وأغلقت الباب وراءها.
صار عاريا، فخرجت الأرانب من جحورها، وأخذ الدجاج ينكش في الجير، العالق بالحيطان، أما النعجات، فقد رقدت على بعضها في الظل، وأخذت تجتر، وهى تبص على عريه بلا اهتمام.
جو ملائم تماما، لأن يأتي كل الجيران، والأقارب، والأصدقاء، والغرباء، لحضور الجنازة. وسيجدونها فرصة مناسبة، لعدم الذهاب إلى الشغل، والقعود في السهراية، يدخنون بشراهة، ويثرثرون، منتظرين تجهيز الكفن، وانتهاء الغسل.
حتى العيال الصغار، سيزعقـــون في وجوه أمهاتهم الباكيات: "لقد مات.. ولن نذهب اليوم إلى المدرسة".
ثم يرمحــون بعيدا، ويظلــون هادئين، وهم يراقبون الكبار في صمت.
يوم مشمس، دافئ، ملائم تماما، لأن يشتغل الفحار العجوز بلا تذمر، في أرض الجبانة الناشفة، يصنع بحب، قبرا يليق به.
العجائز القاعدون في سوق الاثنين، ممسكين بين أيديهم، بعنزة عجفاء، تركوا الفصال فيها لما جاءت سيرته، وقالوا في حسد: "لا أحد مثله، مات دفيانا، شبعانا".
بينما السيدات الكبيرات، سيتبادلن قصبة الجوزة، وهن قاعدات على حصر الحلف، المفروشة تحت الشمس، يرقبن بطرف أعينهن، حريم أبناءهن، المشغولات في خدمة البيت.. يلقين عليهن من وقت لآخر، بعض الأوامر، ثم يقلن: "انه قطب... كان يجب أن يبنوا له ضريحا".
بدا خفيفا وبشوشا، في ملابسه البيضاء، النظيفة. قعد على كوم القش، يبص على الغيطان، المفرودة أمامه حتى الجبل العالي، تتخللها بيوت طينية قليلة، ونخيل متناثر.
مدد جسمه، وغطى وجهه ـ من وهج شمس الصباح ـ بطرف شاشه، مستمتعا بالدفء، وبهجة خفيفة، تسرى في عروقه.
ـــــــــــ
* من مجموعة: "عجائز قاعدون على الدكك" ٢٠١٠م.
** روائي وقاص مصري من مواليد قنا ١٩٧٨م