شعر كأنه نام ساعة إضافية هذا الصباح، استيقظ خلال الليل ثلاث مرات للتبوّل ومرة واحدة بفعل دوي القذائف الذي لم يعتد عليه بعد بالرغم من تتابع السنوات. أبو بسّام رجلٌ أتم الحادية والسبعين من عمره. ليس فلاحًا كما يظنّه كثيرون، بل تاجر سيارات وبيّاع جملة. حسنًا، لماذا تعتبر هذه مفاجأة؟ ليس لأنه في السبعين من عمره طبعًا، بل لأن ملامحه حادة، عابسة كلوح خشب. طبعه صعب وغضبه لعنة، قسوته نبالٌ حادة تخترق الأجساد والأرواح.. تمامًا كما دمعته إذ بكى. هذه صفات لا يمكن أن تجتمع في تاجر، بل هي خصال فلاح ابن فلاح، شربت الشمس نصف قرنٍ من جبينه وأكسبته السنين لون التراب وطبع الأشجار.
كما يحدث في كلّ يوم يستيقظ فيه متأخرًا مشعث الشعر، سخرت منه "نوارة" حتى سمع قهقهتها، وحين التفت بحزم أطبقت فمها وأبقت على ابتسامة خفيفة. هي أصغر أحفاده، لم يحبها كثيرًا حين ولدت لتحل مكان شقيقها الأكبر "جاد"، لكن سرعان ما سرقت كل الأضواء، حتى أن أحد الأولاد سمع أبو بسّام يقول مرة "ما خلتني أنسى جاد، هالزعرة نستني أبوه لجاد". بالمقابل، تحب نوارة جدها كثيرًا، تحبّ سيارة البيك آب البيضاء وصندوقها الواسع، وتلك الجلسة الصباحية أمام باب الدار، كما تحب جيب بدلته الجانبي الذي لا بد أن يكون فيه بضع حبات من اللوز المحلى. قالت الراحلة أم بسّام سابقًا إن زوجها أحب نوارة لكثرة ما تشبه عمتها "ورد"، لكن ها هي ورد الآن، تبتسم بالقرب من ابنة أخيها ولا يبدو له الشبه واضحًا. كان قد أكّد مرارًا أنه يحب نوارة لأنها نوارة فقط، الملاك، وليس لأي سبب آخر.
تركهم في غرفة الجلوس ومشى الى الحمام كي يغتسل ويتعطّر قبل جولة صباحية جديدة يجهل أين ستنتهي. وكما لو كان ساحرًا؛ بسرعة خرج رجلًا آخر، مرتديًا هذه المرة بدلة رمادية فضفاضة وحذاءً أسود يلمع كثعبان. بدا رأسه غريب الشكل بفعل الزيوت التي تغلغلت في بقايا شعره. حول عنقه عقدت ربطة قصيرة بألوان متداخلة وقاتمة. هكذا أصبح جاهزًا ليومٍ صيفيّ جديد. معتادًا على سماع همسات الأبناء والأحفاد حين يمرّ مكتمل الأناقة هكذا، مشى واثقًا غير عابئٍ بما سوف يُقال. مرّ بقربهم وهم مجتمعين في غرفة الجلوس كما تركهم تمامًا، اقترب من نوارة وقبّل خدّها، ثم خرج.
فور خروجه شعر أن شيئًا ما ليس على ما يرام، الجو باردٌ والشمس حادة كسيف. أهل القرية يمشون ببطئ غريب كما لو أنهم جثثٌ متحركة، حتى القطط.. لم يكن هناك قطط أمام باب المنزل! تنفّس بعمق، وبدأ مشواره. الشارع بدا نظيفًا على غير عادة، هادئًا، بعض الأطفال يضحكون من حوله، ثمة طيف امرأة يراه من بعيد، لكنها لم تكن تقترب مع كلّ خطوةٍ يمشيها نحوها، بل تبتعد أكثر وتتلاشى. هكذا ازدادت غرابة المشهد، فشعر بالخوف للمرة الأولى منذ زمن طويل وبرعشة باردة تسري في عروقه. أدار ظهره ومشى في الاتجاه المعاكس وبدأت خطواته تتسارع.
كان يجب أن يزور أبا فاضل في دكّانه، فالأخير كان دومًا الحقيقيّ الوحيد بين رفاقه، الصديق الأنقى الذي لم يعرف الكذب طريقًا الى فمه. أثناء المشي باتجاه الدكّان، فكّر في أمور عدة، هل نال منه المرض وبدأ يهذي؟ هل يرى ما لا يراه أحدٌ سواه؟ هل مات؟ هل مات الجميع حوله؟ بقي يقلّب الاحتمالات حتى وجد نفسه وقد بلغ وجهته.
الدكّان مغلق، لكن أبا فاضل يقف في الشارع المقابل ويحادث سائق تاكسي ويتصبب عرقًا من حرارة الطقس. نده له أبو بسّام لكنه لم يسمع، لوّح بيده المجعّدة لكن صديقه لم يلتفت. صرخ بصوت عال، لوّح بيديه كمن يطلب النجدة من طائرة هيليكوبتر وصمت فجأة.
تمعّن في الوجوه حوله وقد لفحه البرد مجددًا، ابيضّت الدنيا وأصبح للهواء رائحة العفن. حاول جاهدًا ألا يسقط، تبعثرت أنفاسه وعادت ضحكات الأطفال لتلفّه من كلّ جانب، عالية هذه المرة، ضحكٌ مع مرور كل ثانية يصبح أقرب الى البكاء. تسارعت خطواته وعلا لهاثه، ماذا يحدث؟ أي كابوس هذا؟ لم يعرف كيف وصل الى منزله مجددًا لكنّه شعر بالارتياح حين دخل ليجد كلّ شيء كما كان، أولاده كما تركهم، أحفاده، حتى أثاث المنزل تمامًا كما كان.
وقف ينظر الى عيونهم، فبادلوه النظر كلهم باستثناء نوارة، فكانت تنظر الى الجهة المعاكسة، لكنها تبتسم، كما تركها تمامًا. لم يمض وقت طويل حتى سمع طرقًا خفيفًا على الباب. قال بصوتٍ وقور: "تفضّل"، لكن الطارق هدأ قليلًا، ثم عاود مجددًا. انزعج وصاح: "تفضّلوا.. شرفوا" لكن الطارق لم يكترث، ازداد تواتر الطرقات، ومعها انفعال أبو بسّام، فما كاد يصرخ غاضبًا حتى خُلع الباب من مكانه ودخل شاب في مقتبل العمر، تبعته صبية جميلة عرفها أبو بسام فورًا، فابتسمت عيناه. دخل الاثنان وكان يقف مقابلهما، مضى الشاب مسرعًا نحو غرفة النوم بينما بقي أبو بسّام يحدّق بالصبية التي تقف أمامه، وكأنها لا تراه. سرعان ما أتى الصوت من الداخل ليطعن كثافة اللحظة: " يا ربي دخيلك.. يا الله رحمتك".
أسندت الصبية ظهرها على الجدار وتركت جسدها يهبط حتى جلست القرفصاء وبكت بصمت في البداية، ثم راحت تخرج أنينًا خشنًا من بين أسنانها. هرع إلى المنزل رجلٌ أشيب الشعر قلق العينين، جلس أبو فاضل بقرب الصبية التي عانقته وناحت على كتفه. خرج الشاب من الداخل وعيناه مزدحمة بالدموع المؤجلة، "الله يرحمك يا عم أبو بسام، عشت وحيد ومتت وحيد" هكذا قال، ثم جلس بعد أن أزاح بيده صورًا متفاوتة الأحجام، أكثر من خمسة عشرة صورة، مصفوفة وموزعة بعناية على الأرائك الثلاثة، جلس وقد أراح وجهه بين راحتيه ونظر الى الصبية التي كانت تبكي جارها وكأنها ابنته.
في هذه الأثناء، وبينما كان رفيقه ممددًا على سريره في الداخل، كان أبو فاضل يقلّب نظراته بين الصور المبعثرة على الأرائك والأرض، تذكّر هذه العائلة جيدًا، الأولاد والأحفاد، بصخبهم وجنونهم. اجتمعت الذكريات وحلّقت فوقه كسرب حمام. تذكرهم جالسين هنا، على هذه الأرائك في عطلات الصيف الماضية، يسهرون.. يضحكون..تمامًا حيث صورهم الآن. قال راغبًا بأن يُسمع من حوله: "فالبيوت تموت اذا غاب سكّانها" ثم أردف بصوت منخفض: "اتصلوا بالولاد، قولوا أبوكم صار صورة".
2016
* عن جروب الصوت المنفرد
كما يحدث في كلّ يوم يستيقظ فيه متأخرًا مشعث الشعر، سخرت منه "نوارة" حتى سمع قهقهتها، وحين التفت بحزم أطبقت فمها وأبقت على ابتسامة خفيفة. هي أصغر أحفاده، لم يحبها كثيرًا حين ولدت لتحل مكان شقيقها الأكبر "جاد"، لكن سرعان ما سرقت كل الأضواء، حتى أن أحد الأولاد سمع أبو بسّام يقول مرة "ما خلتني أنسى جاد، هالزعرة نستني أبوه لجاد". بالمقابل، تحب نوارة جدها كثيرًا، تحبّ سيارة البيك آب البيضاء وصندوقها الواسع، وتلك الجلسة الصباحية أمام باب الدار، كما تحب جيب بدلته الجانبي الذي لا بد أن يكون فيه بضع حبات من اللوز المحلى. قالت الراحلة أم بسّام سابقًا إن زوجها أحب نوارة لكثرة ما تشبه عمتها "ورد"، لكن ها هي ورد الآن، تبتسم بالقرب من ابنة أخيها ولا يبدو له الشبه واضحًا. كان قد أكّد مرارًا أنه يحب نوارة لأنها نوارة فقط، الملاك، وليس لأي سبب آخر.
تركهم في غرفة الجلوس ومشى الى الحمام كي يغتسل ويتعطّر قبل جولة صباحية جديدة يجهل أين ستنتهي. وكما لو كان ساحرًا؛ بسرعة خرج رجلًا آخر، مرتديًا هذه المرة بدلة رمادية فضفاضة وحذاءً أسود يلمع كثعبان. بدا رأسه غريب الشكل بفعل الزيوت التي تغلغلت في بقايا شعره. حول عنقه عقدت ربطة قصيرة بألوان متداخلة وقاتمة. هكذا أصبح جاهزًا ليومٍ صيفيّ جديد. معتادًا على سماع همسات الأبناء والأحفاد حين يمرّ مكتمل الأناقة هكذا، مشى واثقًا غير عابئٍ بما سوف يُقال. مرّ بقربهم وهم مجتمعين في غرفة الجلوس كما تركهم تمامًا، اقترب من نوارة وقبّل خدّها، ثم خرج.
فور خروجه شعر أن شيئًا ما ليس على ما يرام، الجو باردٌ والشمس حادة كسيف. أهل القرية يمشون ببطئ غريب كما لو أنهم جثثٌ متحركة، حتى القطط.. لم يكن هناك قطط أمام باب المنزل! تنفّس بعمق، وبدأ مشواره. الشارع بدا نظيفًا على غير عادة، هادئًا، بعض الأطفال يضحكون من حوله، ثمة طيف امرأة يراه من بعيد، لكنها لم تكن تقترب مع كلّ خطوةٍ يمشيها نحوها، بل تبتعد أكثر وتتلاشى. هكذا ازدادت غرابة المشهد، فشعر بالخوف للمرة الأولى منذ زمن طويل وبرعشة باردة تسري في عروقه. أدار ظهره ومشى في الاتجاه المعاكس وبدأت خطواته تتسارع.
كان يجب أن يزور أبا فاضل في دكّانه، فالأخير كان دومًا الحقيقيّ الوحيد بين رفاقه، الصديق الأنقى الذي لم يعرف الكذب طريقًا الى فمه. أثناء المشي باتجاه الدكّان، فكّر في أمور عدة، هل نال منه المرض وبدأ يهذي؟ هل يرى ما لا يراه أحدٌ سواه؟ هل مات؟ هل مات الجميع حوله؟ بقي يقلّب الاحتمالات حتى وجد نفسه وقد بلغ وجهته.
الدكّان مغلق، لكن أبا فاضل يقف في الشارع المقابل ويحادث سائق تاكسي ويتصبب عرقًا من حرارة الطقس. نده له أبو بسّام لكنه لم يسمع، لوّح بيده المجعّدة لكن صديقه لم يلتفت. صرخ بصوت عال، لوّح بيديه كمن يطلب النجدة من طائرة هيليكوبتر وصمت فجأة.
تمعّن في الوجوه حوله وقد لفحه البرد مجددًا، ابيضّت الدنيا وأصبح للهواء رائحة العفن. حاول جاهدًا ألا يسقط، تبعثرت أنفاسه وعادت ضحكات الأطفال لتلفّه من كلّ جانب، عالية هذه المرة، ضحكٌ مع مرور كل ثانية يصبح أقرب الى البكاء. تسارعت خطواته وعلا لهاثه، ماذا يحدث؟ أي كابوس هذا؟ لم يعرف كيف وصل الى منزله مجددًا لكنّه شعر بالارتياح حين دخل ليجد كلّ شيء كما كان، أولاده كما تركهم، أحفاده، حتى أثاث المنزل تمامًا كما كان.
وقف ينظر الى عيونهم، فبادلوه النظر كلهم باستثناء نوارة، فكانت تنظر الى الجهة المعاكسة، لكنها تبتسم، كما تركها تمامًا. لم يمض وقت طويل حتى سمع طرقًا خفيفًا على الباب. قال بصوتٍ وقور: "تفضّل"، لكن الطارق هدأ قليلًا، ثم عاود مجددًا. انزعج وصاح: "تفضّلوا.. شرفوا" لكن الطارق لم يكترث، ازداد تواتر الطرقات، ومعها انفعال أبو بسّام، فما كاد يصرخ غاضبًا حتى خُلع الباب من مكانه ودخل شاب في مقتبل العمر، تبعته صبية جميلة عرفها أبو بسام فورًا، فابتسمت عيناه. دخل الاثنان وكان يقف مقابلهما، مضى الشاب مسرعًا نحو غرفة النوم بينما بقي أبو بسّام يحدّق بالصبية التي تقف أمامه، وكأنها لا تراه. سرعان ما أتى الصوت من الداخل ليطعن كثافة اللحظة: " يا ربي دخيلك.. يا الله رحمتك".
أسندت الصبية ظهرها على الجدار وتركت جسدها يهبط حتى جلست القرفصاء وبكت بصمت في البداية، ثم راحت تخرج أنينًا خشنًا من بين أسنانها. هرع إلى المنزل رجلٌ أشيب الشعر قلق العينين، جلس أبو فاضل بقرب الصبية التي عانقته وناحت على كتفه. خرج الشاب من الداخل وعيناه مزدحمة بالدموع المؤجلة، "الله يرحمك يا عم أبو بسام، عشت وحيد ومتت وحيد" هكذا قال، ثم جلس بعد أن أزاح بيده صورًا متفاوتة الأحجام، أكثر من خمسة عشرة صورة، مصفوفة وموزعة بعناية على الأرائك الثلاثة، جلس وقد أراح وجهه بين راحتيه ونظر الى الصبية التي كانت تبكي جارها وكأنها ابنته.
في هذه الأثناء، وبينما كان رفيقه ممددًا على سريره في الداخل، كان أبو فاضل يقلّب نظراته بين الصور المبعثرة على الأرائك والأرض، تذكّر هذه العائلة جيدًا، الأولاد والأحفاد، بصخبهم وجنونهم. اجتمعت الذكريات وحلّقت فوقه كسرب حمام. تذكرهم جالسين هنا، على هذه الأرائك في عطلات الصيف الماضية، يسهرون.. يضحكون..تمامًا حيث صورهم الآن. قال راغبًا بأن يُسمع من حوله: "فالبيوت تموت اذا غاب سكّانها" ثم أردف بصوت منخفض: "اتصلوا بالولاد، قولوا أبوكم صار صورة".
2016
* عن جروب الصوت المنفرد