زهور بن السيد - ماء الساقية العذب.. قصة قصيرة

تستيقظ كل يوم باكرا, قبل أن يخرج الفلاحون للحقول وقبل أن تنتشر الدواب والمواشي على الأرض, تقصد الساقية الجارية البعيدة عن بيتها, تملأ جرتها بالماء وتعود إلى البيت.. تضعها في ركن لا يصل إليه الآخرون من أبنائها وزوجاتهم وأحفادها.. ولا يحق لهم الاقتراب منها.
عجوز طويلة القامة بجمال بربري خاص, شامخة الأنف, سمراء, متجعدة الوجه, عيناها المليحتان يستقر فيهما حزن عميق وسر غامض, قليلة الكلام, تضع على كتفيها رداء مصنوعا من الصوف, ملامحها الهادئة ناطقة على الدوام بالأوامر والتذكير بالقانون الداخلي للبيت, كل أفراد العائلة يهابونها, ينظرون إلى عينيها لاستطلاع الحالة التي تكون عليها ولتلقي الأوامر والنواهي من تقاسيم وجهها الذي يعطيك الانطباع على أنها مريضة على الدوام...
ورغم ذلك فهي امرأة ليست بالخبث والسوء, هي امرأة حادة الطبع والمزاج لكن لها قلبا كبيرا, مضيافة وكريمة, وقد تكون حدة طبعها ضرورة فرضتها على نفسها لتسيير بيت كبير عامر بالناس والخير. ففي بيتهم تجد الأعمام والعمات والأخوال والخالات والإخوان والأحفاد.. لأنهم لا يتزوجون من خارج العائلة إلا نادرا جدا, وإن حدث تظل المرأة الوافدة إليهم غريبة عنهم طيلة حياتها.
استشعرت كرمها وطيبتها وأنا صغيرة لم أتجاوز التسع سنوات, حيث كنت أدرس في مدرسة ابتدائية قريبة من بيتهم وبعيدة عن منزلنا بما يقارب الكيلومترين, فكانت عندما يحين وقت الخروج من المدرسة وقت الغذاء تأمر بعض حفيداتها بالتربص بي في الطريق, وعندما يلمحنني يدخلن على الفور إلى المنزل لاستحضار شخص كبير يدعوني إلى الدخول. وكنت أجد منها ومن أفراد عائلتها الترحاب والاحترام الكبيرين.
ذات صباح, وهي عائدة من الساقية حاملة جرتها المملوءة بالماء وقد أطلقت العنان بمشقة لغمغمة تشبه بعض الألحان التي رسمت على شفتيها شبه ابتسامة أضفت على وجهها مسحة من الجمال الطبيعي الأخاذ, لمحها من بعيد رجل من أهل القرية وجحظت عيناه, كالذي عثر على كنز على حين غفلة, وبدأ يسرع الخطو وضحكته تتسابق مع قدميه إليها. لما التقيا في الطريق بادر الرجل بتحيتها وأردفها في الحال بسؤال العارف المستهزئ وقد بدا من نبرة صوته نغمة التشفي, لما لا وقد وجد هذا الصباح مادة فريدة من نوعها يؤنس بها الجلسة المسائية مع الرجال بعد عودتهم من أشغال الفلاحة أو التسوق:
ـ صباح الخير (خالتي) ماذا تفعلين بذلك الماء الذي تجلبين من الساقية؟
ـ أشرب منه وأتوضأ به.. أنت تعرف يا بني أن زوجات أبنائي يلمسن حبل البئر بأيديهن مبللات فتتقاطر الأوساخ في الماء, ولا يمكنني أن أشرب من بئر مليئة بالعفن.
معروف عنها في القرية أنها امرأة حريصة على النظافة بشكل مبالغ فيه, لقد كانت تأخذ معها كأسها عندما تكون في ضيافة أحدهم لتشرب فيه الشاي, وكنت أيضا ألاحظ حرصها الزائد على النظافة عندما أكون ببيتهم, فقد كانت لا تجفف يديها بعد غسلهما بالمنديل المخصص لذلك, بل تتركهما في الهواء إلى أن تجفا, ولن تلمسهما بمنديل استعمله غيرها, وكذلك يفعل كل أهل البيت, وكانوا يحضرون لي أنا وحدي منديلا خاصا.
وسألها أيضا:
ـ منذ متى وأنت تشربين ماء الساقية؟
ـ لا أذكر.. ولكنني كل يوم أجلب ما يكفيني للشرب وغسل وجهي والوضوء..
فأخذ عنها الجرة, والضحكة تكاد تفضح خبثه وتشفيه, وطلب منها أن ترجع معه ليريها أمرا, فأخذها إلى أعلى مما كانت تجلب منه الماء, وجعلها تنظر وتكتشف بنفسها نقاء وعذوبة الماء الذي تشرب منه..
تغير في الحال لون وجهها بمجرد أن ألقت نظرة إلى المكان الذي أشار إليه, واعتلى الغضب والاشمئزاز تقاسيم وجهها, فأطلقت العنان لصرخة مدوية, وأخذت منه الجرة وبدأت تكسرها بهستيرية .. لقد رأت كلبا منتفخا ومتحللا في الماء, تنبعث منه رائحة الجيفة..
أصيبت باكتئاب حاد وجعلت تبصق طول اليوم علها تتخلص من كل الماء الذي شربت منه مدة طويلة.


زهور بن السيد
- الملحق الثقافي لجريدة بيان اليوم بتاريخ الجمعة 29/ 09/ 2017 ـ ص: 10
bayanealyaoume
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...