انتقلت الفلسفة من السرديات الكبرى ؛ إلى فلسفة الشذرات ، وإن كنت ارى أن المسمى الأنسب لها هو فلسفة التشتت ، دعنا مثلا نتناول بعض المطروقات (وليس الموضوعات) بحسب المؤلف (والذي بات غير مقتنع بوصفه كفيلسوف كما صرحت أرندت بذلك):
تناول فوكو تاريخ الجنون ، المعرفة والسلطة ، المراقبة والمعاقبة ، الانهمام بالذات ، نظام الخطاب ، الكلمات والأشياء ، جينيالوجيا المعرفة ، تاريخ الجنسانية ، ...الخ.
في حين تناول دريدا الحق في الفلسفة ، والصوت والظاهرة ، ..الخ.
أما هانا أرندت فتناولت العنف وأسس التوتاليتارية وتفاهة الشر وما السياسة ..الخ.
يمكننا ان نقول بأن الفلسفة تحولت إلى فكر متعدد هو أقرب إلى الفلسفة الثقافية ، أي تلك التي لا تطرح المشروع المحدد للفيلسوف بهدف مدرسي (الخير والحق والجمال) كما ترفض الفروع الكلاسيكية للفلسفة ، بل تعتمد على التفلسف من خلال الابتعاد عن المفكر فيه والانحلال في الهامش المتاخم للأورغانون الأرسطي. والاتجاه ينحو إلى المزيد من التشتت الثقافي كجيجيك نموذجا ، حيث اصبحت هناك فلسفة غير تجريدية بل فلسفة تنبع من الواقع ، والواقع هنا هو العالم ، والعالم كله (بحروبه وسلمه وفقره ورفاهيته وجميع تناقضاته) هو فن. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يتم طرح سردية كبرى ذات منطق واحد واتجاه رأسي يصب في السماء التي لا حدود لها محاولا احتواءها. وهنا ينحل (الحق والخير والجمال ، في سائل عدمي ، وتنهار أوصاف القيم).
قد تكون السلطة -على سبيل المثال- هو مشروع فوكو الرئيسي ، لكنه في الواقع لا يعبأ كثيرا بتحويله إلى مقرر أكاديمي ، إنه ينحو على العكس من ذلك إلى تشتيته في مجرات متباعدة -أو قد تبدو متباعدة- وذلك لافساح المجال للنسبي في مواجهة التاريخ المطلق للفلسفة (أي الحوارات السقراطية التي تنتهي بالتسليم). وهكذا لن يكون هناك أبدا تسليم بل استمرار لخلخلة اليقين الذي يحمي الانسان من القلق الوجودي. مع ذلك فيبدو اللا يقين (رصاصة) حياة متفائلة جدا ، لأنها تشد الإنسان إلى علاقته الكونية وتخفض رتابة الموت من قيمته التاريخية التي أفرزت الضمانات اللاهوتية لما بعده.
لقد كانت الحياة غير مركزية ولذلك فبالرغم من أن القدماء بنوا أهرامات عملاقة بلغت حد الاعجاز انهماما بالموت فإنهم لم يكترثوا ببناء أهرامات مماثلة تعبيرا عن تعلقهم بالحياة.
فلسفة التشتت أو الفلسفة الثقافية -من ناحية ابستمولوجية- ترفض الهرمية وتنحو إلى التشعبية عبر البوتستراب bootstrapping .
ربما تعاني فلسفة التشتت مما تعاني منه الثقافة في مواجهة التخصص الدقيق. لكنها تعتبر مرنة بحيث تستطيع تجاهل محددات التخصص. مع ذلك فهي تظل أقل موثوقية .. ولكن.. ماذا نعني بالموثوقية عندما نتحدث عن خلخلة اليقين؟.