-1-
كففت منذ زمن طويل عن زيارة الحلّاق، ربما منذ رحيل المرحوم البصرّي الرائع سليم.. أنا بصرّي كذلك لكني لست رائع ولن أكون.. رحم الله البصري سليم.
كان آخر عهدي بالحلاقة والحلاقّ في سبعينيات القرن الفائت، كان حلاقا لطيفا للغاية وصديقٌ صدوق، طيب الذكر صاحب حلاقة "الجزائر" في محلة "خمس ميل" شمال البصرة (حيث تقيم البروليتاريا الرثّة).
كنا نتجمع عندهُ جملةٌ من الشباب الصغار، ليس بالضرورة لنقصّ شعورنا، وهو من الناس الذين لا يطالبك بأن ترتقي كرسي الحلاقة الفسيح، ولا يحرمك من الشاي حتى لو لم تكن بوارد قصّ شعرك.
فهو يحب أن يتحدث كثيرا، سواء جلست تحت شفرة موسه أم في دار ضيافته، أعني صالونه بكنباته المريحة.
يومئذ كان صلب اهتمامنا، واهتمامه اطال الله عمره " إن كان لما يزل حيا"، هو حرب فيتنام، المدّ الأحمر الذي يُبشر باجتياح آسيا، وكنا نحلم بأن يكون لنا حظٌ من الاجتياح.. ههههه...!
حلاقة الجزائر.. نالت هذه التسمية قبل انتصار ثورة الجزائر وبقيت حتى يومنا هذا، لا.. عُذرا، قد يكون تغير اسمها الآن بعد أن تغيرت الهواجس والاهتمامات، ربما أطلق عليها الطيب الذكر أو ورثته (إن كان قد رحل كما يرحل كل يوم الآلاف أو عشرات الآلاف غرقا في المتوسط، أو بقنابل جند الخلافة، أو بقذائف آل البيت الكرام).
أقول ربما أُطلق عليها اسم (رجب.. شعبان.. رمضان).. آخر خليفة للمسلمين، من صلب السلاجقة الكرام، أو ربما باسم أحد أولياء الله الصالحين من أخوتنا الأحبة خلف نهر آروند الذي أغرقنا فيه الجنرال رستم أو ربما الملك ذاته، وليتنا ما فعلنا لكنّا الآن آمنين في بيوتنا وأوطاننا نتقاسم مع الأخوة خلف النهر، الرغيف والبرميل، ونتبادل الزيجات فنأخذ منهم ويأخذون منا كما كان يفعل ملوك أوروبا، ونعيش بثبات ونبات ونخلف صبيان وبنات، بلا عمائم ولا خرافات.
المهم.. لم أدخل صالون حلاقة منذ ذلك الحين، أولا: لأني شختُ وما عاد في الرأس إلا بضع شعرات في المقدمة أتبرّك بهنْ وأخشى فقدانهن، حتى أني استيقظ في الليل مرات عدة لاطمأن على وجودهن، فمن يدري قد يعلقنَ بالوسادة أو تلعقهن قطة ابنتي فتقلعهن من مكانهن.
وثانيا: لأن الحلاقون هنا في هذا البلد القطبي، قليلو الكلام، بل إنهم ينسونَ وجودك حالما تجلس على الكرسي الوثير، وفجأة يتحرك المقص بخفة متناهية، ثم تجد الحلاق أو (الحلّاقة غالبا)، تجدهُ يدفعك خارج الكرسي بلطف، رغم إنك بالكاد جلست وأخرجت مسبحتك سُرا لتُعيد عدّ خرزها للمرة المليون تحت الإزار الأبيض الوثير الذي غُلفتْ به من قمة الرأس الى أخمص القدمين (تماما كما الكفن كفاكم الله ذكره).
لكني اليوم.. اليوم بالذات وعلى أبواب عيد ميلادي السبعين، فكرت أن اذهب للحلاق، ربما البنات( بناتي) يتذكرن عيد ميلادي فيأتين مع ازواجهن والعيال( هذا إذا كنّ الأن في البلد وليس خارجه)، للاحتفال معي أو بالأحرى لفرض الاحتفال علي، وربما يَلمحنَ شعري وتتعكر امزجتهن قبل أن أنصرف الى سريري لأنام بعد الغداء، تاركا لهن البيت يرقصن به على هواهن، مع طيب الذكر وليد توفيق وسنة حلوة يا جميل، ولا أنا الجميل ولا السنة حلوة ولا يبدو في الأفق حلاوة حتى يحلّ عنا أولئك الحالمون باستعبادنا لأعاده عجلة الزمن لأيام مجد السلاطين الأتقياء ذوي القصور الملآى بالجواري والغلمان والقيان والندمان.
(ورقصني يا جدع).
-2-
ولجت الباب الزجاجي للصالون، كما الشبح إذ يلجَ مكانا مُضيئا، لا أحد انتبه لحضوري رُغم ضربات عصاي الواثقة على بلاط الصالون. لا أحد يتحدث مع آخر، الكل يحتضن نقّاله، يكركر مع ذاته، يتأوه مع ذاته، يلتهم شفاهه، يستنشق عرق ابطيه، لا أحد ينتبه لوجود آخر، رغم إنهم كانوا عُصبة، اين منهم عُصبة أخوة يوسف رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثلاث أو أربع انتهوا من الحلاقة، لكنهم لم ينتهوا بعد من الثرثرة الرقمية، آخرون لم يحلقوا بعد، لكنهم ليسوا على عجل فالبرد شديد في الخارج والدردشة او اللعب مع المخلوقات الفضائية على الشاشة الزرقاء قائم على قدمٍ وساقْ.
فُجأة، دبّت الحياة في الصالون الدافئ الجميل، توقفت المقصّات عن العزف فوق الرؤوس الشقراء، هبّ أكثر من رجل وصبي ناهضين، مُستبشرين، مُبتسمين بأعرض ما تكون الابتسامات.
نطقت الألسن التي حسبتها، لطول صمتها مبتورة، أو ميتة في الحلوق كأسماكٍ رمتها العاصفة على الساحل.
لا بل وشرعت الألسُن بالغزل وإلقاء ابيات شعرٍ عُذري، أما العيون فقد امتلأت بفيوض من الحنان تكاد تُغرِق الصالون والشارع المقابل.
جفلتْ.. أهو جلالة الملك قادم، أم السيدة المصون زوجته، تذكرت.. أنا هنا في شمال أوروبا ولو صادفك الملك في الشارع أو في القطار، لنهض لك كي تجلُس، خصوصا إذا كنت شيخا مثلي.
لا... بل كلبٌ ضائع... القادم كان كلبٌ أفلت حبله من صاحبه ودخل الصالون، جاراً ذيلهُ وحبل طويل أنيقْ.
بصراحة شعرتُ بالخيبة المريرة.
حييّتْ فلم يردّ أحد التحية حتى ولا بأسوأ منها، وقفتُ دهرا في وسط الصالون فلم اسمع حتى كلمة رجاءٍ ابتعد لنتابع التلفاز، نظرت لكل واحد على حدة فلم الفت نظر أحد لينهض ويجلسني محله، ألقيت عصاي على الأرض فما انتبه أحد لها ولا امتدت يدٌ كريمة لتعيدها لي(ولا هي تحولت الى ثُعبان يلتهم موبيلاتهم الحمقاء).
رباه.. لماذا لم تصيرني كلباً مثل هذا، لكنت قد ارتويت من الاهتمام حتى الثمالة، ولكُنت ريحتُ دماغي منذ زمن طويل من ملاحقة أخبار الخلافة والقتل على الجزيرة.
أوسلو نهاية العام 2017
* عن موقع إيلاف
كففت منذ زمن طويل عن زيارة الحلّاق، ربما منذ رحيل المرحوم البصرّي الرائع سليم.. أنا بصرّي كذلك لكني لست رائع ولن أكون.. رحم الله البصري سليم.
كان آخر عهدي بالحلاقة والحلاقّ في سبعينيات القرن الفائت، كان حلاقا لطيفا للغاية وصديقٌ صدوق، طيب الذكر صاحب حلاقة "الجزائر" في محلة "خمس ميل" شمال البصرة (حيث تقيم البروليتاريا الرثّة).
كنا نتجمع عندهُ جملةٌ من الشباب الصغار، ليس بالضرورة لنقصّ شعورنا، وهو من الناس الذين لا يطالبك بأن ترتقي كرسي الحلاقة الفسيح، ولا يحرمك من الشاي حتى لو لم تكن بوارد قصّ شعرك.
فهو يحب أن يتحدث كثيرا، سواء جلست تحت شفرة موسه أم في دار ضيافته، أعني صالونه بكنباته المريحة.
يومئذ كان صلب اهتمامنا، واهتمامه اطال الله عمره " إن كان لما يزل حيا"، هو حرب فيتنام، المدّ الأحمر الذي يُبشر باجتياح آسيا، وكنا نحلم بأن يكون لنا حظٌ من الاجتياح.. ههههه...!
حلاقة الجزائر.. نالت هذه التسمية قبل انتصار ثورة الجزائر وبقيت حتى يومنا هذا، لا.. عُذرا، قد يكون تغير اسمها الآن بعد أن تغيرت الهواجس والاهتمامات، ربما أطلق عليها الطيب الذكر أو ورثته (إن كان قد رحل كما يرحل كل يوم الآلاف أو عشرات الآلاف غرقا في المتوسط، أو بقنابل جند الخلافة، أو بقذائف آل البيت الكرام).
أقول ربما أُطلق عليها اسم (رجب.. شعبان.. رمضان).. آخر خليفة للمسلمين، من صلب السلاجقة الكرام، أو ربما باسم أحد أولياء الله الصالحين من أخوتنا الأحبة خلف نهر آروند الذي أغرقنا فيه الجنرال رستم أو ربما الملك ذاته، وليتنا ما فعلنا لكنّا الآن آمنين في بيوتنا وأوطاننا نتقاسم مع الأخوة خلف النهر، الرغيف والبرميل، ونتبادل الزيجات فنأخذ منهم ويأخذون منا كما كان يفعل ملوك أوروبا، ونعيش بثبات ونبات ونخلف صبيان وبنات، بلا عمائم ولا خرافات.
المهم.. لم أدخل صالون حلاقة منذ ذلك الحين، أولا: لأني شختُ وما عاد في الرأس إلا بضع شعرات في المقدمة أتبرّك بهنْ وأخشى فقدانهن، حتى أني استيقظ في الليل مرات عدة لاطمأن على وجودهن، فمن يدري قد يعلقنَ بالوسادة أو تلعقهن قطة ابنتي فتقلعهن من مكانهن.
وثانيا: لأن الحلاقون هنا في هذا البلد القطبي، قليلو الكلام، بل إنهم ينسونَ وجودك حالما تجلس على الكرسي الوثير، وفجأة يتحرك المقص بخفة متناهية، ثم تجد الحلاق أو (الحلّاقة غالبا)، تجدهُ يدفعك خارج الكرسي بلطف، رغم إنك بالكاد جلست وأخرجت مسبحتك سُرا لتُعيد عدّ خرزها للمرة المليون تحت الإزار الأبيض الوثير الذي غُلفتْ به من قمة الرأس الى أخمص القدمين (تماما كما الكفن كفاكم الله ذكره).
لكني اليوم.. اليوم بالذات وعلى أبواب عيد ميلادي السبعين، فكرت أن اذهب للحلاق، ربما البنات( بناتي) يتذكرن عيد ميلادي فيأتين مع ازواجهن والعيال( هذا إذا كنّ الأن في البلد وليس خارجه)، للاحتفال معي أو بالأحرى لفرض الاحتفال علي، وربما يَلمحنَ شعري وتتعكر امزجتهن قبل أن أنصرف الى سريري لأنام بعد الغداء، تاركا لهن البيت يرقصن به على هواهن، مع طيب الذكر وليد توفيق وسنة حلوة يا جميل، ولا أنا الجميل ولا السنة حلوة ولا يبدو في الأفق حلاوة حتى يحلّ عنا أولئك الحالمون باستعبادنا لأعاده عجلة الزمن لأيام مجد السلاطين الأتقياء ذوي القصور الملآى بالجواري والغلمان والقيان والندمان.
(ورقصني يا جدع).
-2-
ولجت الباب الزجاجي للصالون، كما الشبح إذ يلجَ مكانا مُضيئا، لا أحد انتبه لحضوري رُغم ضربات عصاي الواثقة على بلاط الصالون. لا أحد يتحدث مع آخر، الكل يحتضن نقّاله، يكركر مع ذاته، يتأوه مع ذاته، يلتهم شفاهه، يستنشق عرق ابطيه، لا أحد ينتبه لوجود آخر، رغم إنهم كانوا عُصبة، اين منهم عُصبة أخوة يوسف رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثلاث أو أربع انتهوا من الحلاقة، لكنهم لم ينتهوا بعد من الثرثرة الرقمية، آخرون لم يحلقوا بعد، لكنهم ليسوا على عجل فالبرد شديد في الخارج والدردشة او اللعب مع المخلوقات الفضائية على الشاشة الزرقاء قائم على قدمٍ وساقْ.
فُجأة، دبّت الحياة في الصالون الدافئ الجميل، توقفت المقصّات عن العزف فوق الرؤوس الشقراء، هبّ أكثر من رجل وصبي ناهضين، مُستبشرين، مُبتسمين بأعرض ما تكون الابتسامات.
نطقت الألسن التي حسبتها، لطول صمتها مبتورة، أو ميتة في الحلوق كأسماكٍ رمتها العاصفة على الساحل.
لا بل وشرعت الألسُن بالغزل وإلقاء ابيات شعرٍ عُذري، أما العيون فقد امتلأت بفيوض من الحنان تكاد تُغرِق الصالون والشارع المقابل.
جفلتْ.. أهو جلالة الملك قادم، أم السيدة المصون زوجته، تذكرت.. أنا هنا في شمال أوروبا ولو صادفك الملك في الشارع أو في القطار، لنهض لك كي تجلُس، خصوصا إذا كنت شيخا مثلي.
لا... بل كلبٌ ضائع... القادم كان كلبٌ أفلت حبله من صاحبه ودخل الصالون، جاراً ذيلهُ وحبل طويل أنيقْ.
بصراحة شعرتُ بالخيبة المريرة.
حييّتْ فلم يردّ أحد التحية حتى ولا بأسوأ منها، وقفتُ دهرا في وسط الصالون فلم اسمع حتى كلمة رجاءٍ ابتعد لنتابع التلفاز، نظرت لكل واحد على حدة فلم الفت نظر أحد لينهض ويجلسني محله، ألقيت عصاي على الأرض فما انتبه أحد لها ولا امتدت يدٌ كريمة لتعيدها لي(ولا هي تحولت الى ثُعبان يلتهم موبيلاتهم الحمقاء).
رباه.. لماذا لم تصيرني كلباً مثل هذا، لكنت قد ارتويت من الاهتمام حتى الثمالة، ولكُنت ريحتُ دماغي منذ زمن طويل من ملاحقة أخبار الخلافة والقتل على الجزيرة.
أوسلو نهاية العام 2017
* عن موقع إيلاف