بذكر القراء أننا كنا قد نشرنا سلسلة حلقات على هذه الصفحة تتناول المفاهيم والتصورات التي شيدها لأنفسهم علما الأصول والفقه والكلام والتي استندوا إليها في فهم القرآن الكريم، وبالتالي في تقرير الأحكام واستنباطها. وكما سبق أن بينا في إحدى تلك الحلقات فإن النص-أي نص كان والنصوص الدينية بكيفية خاصة- لا تنطق بنفسها، بل يستنطقها المتعامل معها. وعملية الاستنطاق هذه تتم عبر مفاهيم وتصورات وأدوات لغوية ومنهجية أو مرموزات وممثولات، تشكل نوعا من “النظارات” الخاصة التي يقرأ بها هذا “الناظر” أو ذاك ما “ينظر” فيه. ومن هنا تعدد أنواع القراءات أو التفاسير للنصوص، خاصة الدينية منها. وبالنسبة للقرآن الكريم يمكن التمييز بسهولة بين التفسير الفقهي (كتفسير القرطبي) والتفسير العقدي (كتفسير الزمخشري وتفسير الفخر الرازي)، والتفسير الصوفي (كلطائف الإشارات للقشيري) الخ إضافة إلى كثير من التفسير ذات المنزع الشيعي. وغني عن البيان القول إنه ليست هناك “أسوار صينية” بين هذه الأنواع من التفاسير، بل هناك تداخل، خصوصا في المسائل التي تقع خارج المذاهب. لم نتناول هذه الأنواع فيما مضى من المقالات وإنما اقتصرنا على المفاهيم الأساسية التي يعتمد عليها الفهم الفقهي السني للقرآن -ولو أنها قد تستعار من هذا الجانب أو ذاك- أعني تلك التي شيدها علماء الأصول أمثال الشافعي والغزالي والشاطبي الخ وأصَّلوها كجهاز مفاهيمي للفهم السني للقرآن الكريم. وهكذا تحدثنا عن الإجماع والعموم والخصوص والنسخ. واليوم سنواصل رحلتنا “الأصولية” هذه بالكلام في “أسباب النزول”. عبارة “أسباب النزول” مصطلح إسلامي قديم، وقد كان محل اهتمام كبير في جميع العصور الإسلامية، سواء عند المفسرين والمحدِّثين والفقهاء أو عند المؤلفين في “علوم القرآن”، هؤلاء الذين أبرزوا جميعا أهميتها بوصفها إحدى الوسائل الضرورية لفهم القرآن. وعند معظمهم أن “سبب النزول” لا يعني أنه الدافع أو العلة للنزول بل “هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدِّثةً عنه أو مُبَيِّنَةً لحكمه”. وقد اختلفوا في تقدم أو تأخر الآية عما يعتبر سببا في نزولها، وقد اشترط بعضهم مساوقة النزول لوقوع ما يعتبر سببا له، كأن يكون سؤالا وجه إلى النبي عليه السلام أو حادثا حدث بمحضره فنزل الوحي في شأنه. وإذا كان بعض المفسرين، خصوصا منهم ذوي الاتجاه الباطني، الصوفي أو الشيعي، قد قللوا من شأن المعرفة ب”أسباب النزول” لكونها تنتمي إلى التاريخ وليس إلى الفهم القائم على “التدبر” والتعرف على المعنى” ب “الذوق والكشف” أو من خلال “إرث الإمام” لأسرار التنزيل الخ، وإذا كان آخرون يشُكُّون في جدواها لكثرة ما يعتري الروايات التي ترويها من اختلاف وتعدد، فإن الفقهاء والأصوليين يلحون على ضرورة المعرفة بها لفهم القرآن خصوصا عندما يتعلق الأمر بمجال الأحكام. وقد خصص الزركشي في كتابه “البرهان في علوم القرآن” فصلا حاول فيه تعداد فوائد “أسباب النزول” (وعنه أخذ السيوطي) فذكر جملة منها مع أمثلة لها من القرآن. منها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ومنها تخصيص الحكم بسبب النزول عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب، ومنها أنه قد يكون اللفظ عاما ويقوم سبب النزول بالتخصيص، ومنها أن بيان سبب النزول طريق قوى في فهم معاني الكتاب العزيز وهو أمر تحصَّل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا … أما السبيل إلى معرفتها فهو “النقل الصحيح” “عمن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأَسباب وبحثوا عن علمها”، ومن هنا طبقوا على رواية “أسباب النزول” نفس المنهج المطبق في رواية الحديث، فاعتبروا سبب النزول المروي عن الصحابي في مرتبة الحديث المرفوع، والمروي عن التابعي في مرتبة الحديث المرسل. لكن هذا التقييد لم يمنع من تضارب روايات أسباب النزول، كما لم يمنع، لا الحديث ولا غيره من المرويات، من التضخم مع الزمن، ولا من تجنب الأخذ من الإسرائيليات… ومع ذلك فليس من المعقول التشطيب عن جميع ما تنقله روايات أسباب النزول. ذلك لأن “أسباب النزول” تفرض نفسها علينا من زاويتين: أ- فمن جهة لم ينزل القرآن جملة واحدة حتى يمكن التعامل معه كنص مكتمل منذ البداية –بقطع النظر عن اعتبار الظرف الذي نزل فيه أو عدم اعتباره- بل لقد استمر تنزيل القرآن منجما، مفرقا، على مدى يزيد عن عشرين سنة: – كان منه ما أُنزل ابتداء كخطاب يشرح العقيدة، أو كقصص أو كنصوص تشريعية، أو أخلاقية الخ. وهذا الصنف لا يتعلق في الغالب بأسباب أو مناسبات خاصة، وبالتالي فهو ليس مما يرجع فيه إلى “أسباب نزول”، على الرغم عن قول بعضهم “إنه ما من آية في القرآن إلا ولها سبب لنزولها”. إن عنصر المبالغة في هذه العبارة واضح! ذلك لأن ما هو متداول من “أسباب النزول” قليل جدا بالنسبة لآي الذكر الحكيم. – وكان منه ما نزل جوابا عن سؤال طُرح على النبي عليه السلام أو على المسلمين، أو بمناسبة حال خاصة بالنبي وشؤونه الشخصية، أو بصحابي معين أو بأحوال تتعلق بعامة المسلمين زمن النبوة، أفرادا أو جماعة. وهنا تطرح أسباب النزول نفسها كمرجع –ضروري أحيانا- لفهم المقصود من هذه العبارة أو تلك. ب- ومن جهة ثانية إن ما تورده الروايات المختلفة بصدد أسباب النزول يعكس أحد شيئين : إما الواقع التاريخي الذي كانت له علاقة فعلا بنزول هذه الآية أو تلك، سواء كان من أسباب نزولها أو لم يكن، وهو في الحالتين معا عنصر في معهود العرب الذي نزل القرآن جملة وتفصيلا حسب أحواله ومقتضياته، وإما “الواقع” الفكري والإيديولوجي الذي حرك “أصحاب” تلك الروايات للتركيز على سبب معين لكونه يعطي للآية دلالة خاصة تخدم ما يريدون تكريسه في وقت من الأوقات كرأي للشريعة. في هذه الحالة تعطي روايات “أسباب النزول” الجواب، لا عن أسئلة طرحت قبل أو حين نزول هذه الآية أو تلك، بل عن أسئلة حاضر “الراوي”. والراوي الحقيقي في هذه الحالة قد يكون ذلك الذي ينتهي إليه السند في الماضي (زمن الرسول والصحابة)، كما قد يكون أحد الرواة الذين تتكون منهم حلقات سلسة السند، ابتداء من الحلقة التي تنتمي إلى “الحاضر”، حاضر جامع أو “واضع” هذا السند. وفي كلتا الحالتين يكون الدافع الإيديولوجي (المذهب الديني، الانتماء السياسي الخ) هو المحرك والموجه. وإلى ذلك لا بد من أن ندخل في حسابنا هنا الجانب الشخصي. فالانتظام في سلسلة الرواة، سواء في مجال الحديث والتفسير أو مجال اللغة والأدب والقصص، مطمح كل من يسعى إلى الشهرة وتخليد الاسم. والسبيل إلى هذا الانتظام هو التقليد، وذلك بإعادة إنتاج نفس “سبب النزول” في قالب آخر ربما “خدمة لقضية”، وربما رغبة في الشهرة. والمسافة الزمنية بين زمن النزول وزمن تدوين روايات أسبابه، مسافة طويلة تسمح بهذا النوع من إعادة إنتاج “نفس السبب” في قالب قصصي آخر. ومن هنا نرى ضرورة عدم الاقتصار على ما تعطيه روايات “أسباب النزول” مهما كان سندها. فنقد السند هنا لا يكفي في بناء مصداقيتها، بل لابد من التعامل معها بنظرة نقدية. إن المصداقية في هذا المجال تتحدد في نظرنا بثلاثة عناصر : الأول: عدم تعارض المعنى الذي يعطيه ما يعتبر “سببا” لنزول آية معينة مع المعنى الذي يقبله السياق الذي تندرج تحته تلك الآية. إن “أسباب النزول”، كما هي مدونة في التفاسير أ في الكتب الخاصة بها أو في كتب “علوم القرآن”، تحمل الباحث الناقد على الشك في مصداقية كثير منها، خصوصا عندما تبتعد بالآيات عن سياقها إلى الدرجة التي تحمل على التساؤل عن الهدف من “أسباب النزول”: هل هو ربط كل آية بحادثة تبرر سبب نزولها، أم بيان المناسبات التي تشكل فعلا سببا لنزول هذه الآية أو تلك؟ وليس من سبيل للخروج من هذا الإشكال غير اعتبار أولية سياق الآيات وعدم الاعتداء عليه بانتزاع جزء منه والتعامل معه تحت مظلة “أسباب النزول”… الثاني: التوافق مع ترتيب النزول ومع مسار السيرة النبوية. إن مراعاة “ترتيب نزول السور” قد يساعد كثيرا على التغلب على هذه المسألة، خصوصا وهناك سور معروفة نزلت مرة واحدة، فضلا عن ارتباط مضمون بعض الآيات بحوادث وقعت في أوقات معلومة. الثالث: التوافق مع معهود العرب، الاجتماعي الاقتصادي والفكر والحضاري.