ما الذي يقترحه ابن رشد في مجال التجديد في النحو؟
لنذكر أولا بأن المطالبة بتيسير النحو العربي إنما انطلقت من الأندلس وبقلم ابن حزم المعروف بمذهبه الظاهري. وإذن فدعوة ابن حزم إلى تحرير النحو من جميع التعقيدات التي ليس بها حاجة في النطق الصحيح بالعربية جزء من دعوته العامة إلى الأخذ بالظاهر. و"الظاهر" في كلام العرب ليس فيه ما يقوله النحاة في ما يسمونه "العلل"، وهو ما يعبر عنه المعاصرون بـ"نظرية العامل في النحو"، كالقول مثلا إن الذي فعل "الرفع" في الفاعل هو الفعل، وفي المبتدأ هو "الابتداء" الخ.
وعندما أثيرت مسألة تيسير النحو العربي في العصر الحديث، وفي أواسط القرن العشرين خاصة، حظي ابن مضاء القرطبي، الداعي إلى الاستغناء عن نظرية العامل"، باهتمام خاص، فنشر كتابه "الرد على النحاة" (حققه د. شوقي ضيف وصدره بمقدمة تحليلية ناصره فيها) فانقسم الكتاب في مصر خاصة إلى متحمسين لابن مضاء وإلى متحفظين أو رافضين، كل ذلك والناس جميعا يجهلون كتاب ابن رشد في النحو، لأنه كان في حكم المفقود. واليوم وقد اكتشف هذا الكتاب ونشر يجد قارئه نفسه إزاء مذهب آخر، مذهب لا يقول بحذف هذه الجزء أو ذلك ولا بالاستغناء عن هذه النظرية أو تلك بل يطرح بعمق مسألة بنية النحو العربي ذاتها، ويرى أن السبب فيما في النحو العربي من صعوبات إنما مرجعه إلى طريقة التأليف فيه وبالتالي تدريسه وتعليمه. إن بنية النحو العربي في نظر ابن رشد ليست مبنية على الطرية "الصناعية"، يعني العلمية. ومن هنا كانت مسألة تيسير النحو العربي عملية تتطلب القيام بإصلاح جوهري في بنيته وذلك بصياغتها صياغة برهانية كما هو الشأن في جميع اللغات. يقول في مستهل كتابه "الضروري في النحو": "الغرض من هذا القول أن نذكر من علم النحو ما هو كالضروري لمن أراد أن يتكلم على عادة العرب في كلامهم ويتحرى في ذلك ما هو أقرب إلى الأمر الصناعي وأسهل تعليما وأشد تحصيلا للمعاني"، وأيضا عرض مسائله وفق "الترتيب" الذي هو "مشترك لجميع الألسنة".
كان ابن رشد معاصرا لابن مضاء منتظما مثله في حاشية دولة الموحدين، يقضي وقته بين قرطبة مسقط رأسه ومراكش عاصمة الدولة الموحدية التي قامت كامتداد لدعوة ابن تومرت لمذهب فكري يدعو إلى نبذ القياس والتقليد وينادي بالرجوع إلى الأصول، متأثرا في ذلك بمذهب ابن حزم. وإذا كنا نستطيع الربط نوعا من الربط بين كل من ابن مضاء وابن رشد من جهة وابن تومرت وابن حزم من جهة أخرى فإننا نجهل تماما أي نوع من العلاقة كانت تربط ابن رشد وابن مضاء، ولا أيهما كان اسبق من صاحبه في التأليف في النحو.
ومهما كان الأمر فالمشروع الذي اقترحه ابن رشد يختلف تماما الاختلاف عن مشروع ابن مضاء، بل هو يتجاوزه إلى درجة تصبح المقارنة بينهما ممتنعة. إنه أشبه ما يكون بالبديل عن المشروع الذي أنجزه سيبويه في مؤلفه المعروف بـ"الكتاب" والذي قيل عنه إنه "قرآن النحو". ولذلك كان من الضروري من أجل فهم أبعاد المشروع الرشدي في النحو العربي مقارنته لا بمشروع ابن مضاء أو غيره من المتقدمين والمتأخرين بل النظر إليه على ضوء المشروع الذي أنجزه سيبويه من جهة، وما أشار إليه الفارابي وإن بشكل ضمني، من جهة أحرى، من كون طريقة التأليف في النحو في اللغات الأخرى تختلف عن الطريقة المتبعة في النحو العربي.
وكما هو معروف فقد استهل سيبويه كتابه بالتمييز في كلام العرب بين الاسم والفعل والحرف، ثم أخذ يدرس أحوال كل واحد منها. ومن هنا انقسمت أبواب النحو عنده إلى ثلاثة أقسام رئيسية: باب الاسم وباب الفعل وباب الحرف. بعضهم يبدأ بالفعل، وبعضهم يبدأ بالاسم، أما الحرف فيأتي في الأخير في الغالب. وقد نتج عن هذا النوع من التبويب تداخل وخلط بين الموضوعات والمستويات كما لاحظ ذلك ابن رشد: فالكلام عن الاسم يستلزم في مرحلة من المراحل الكلام عن الفعل، وذلك قبل الفراغ من الكلام عن الاسم وقبل الشروع في الكلام عن الفعل ، كما يحصل مثلا في درس "الفاعل" و"المفعول"، وكل منهما اسم، حين نضطر إلى الكلام عن الفعل، خصوصا وقد كان النحاة –وما زالوا- يعتبرون الفعل هو الذي رفع الفاعل ونصب المفعول. وبالمثل فنحن نضطر إلى الكلام في الفعل في درس الاسم لنفس السبب (الفعل لا بد له من فاعل وهو اسم أو في معنى الاسم). أضف إلى ذلك أن معظم كتب النحو، إن لم نقل كلها، قد دأبت على الجمع بين المسائل الصرفية والمسائل النحوية، مما جعل من المتعذر التمييز بين حدود علم الصرف وحدود علم النحو.
هذا النوع من التداخل بين الموضوعات والمستويات في كتب النحو العربي هو "التقصير" الذي أراد ابن رشد معالجته في كتابه. وهو تقصير يرجع سببه، كما قال، إلى أن النحاة "لم يستعملوا في إحصاء أنواع الإعراب القسمة الصحيحة التي لا يعرض فيها تداخل. وكل صناعة (=علم) لم تستعمل فيها بعدُ القسمة الحاصرة الغير متداخلة فهي صناعة ناقصة".
لأن الصناعة الموجودة عند نحويي العرب في زماننا هذا قد استوفيت ... لكن لا على المجرى الصناعي".
هدف ابن رشد إذن ليس تدارك مسألة من المسائل النحوية، فالنحو العربي في نظره "قد استوفيت" جميع مسائله فلا مجال فيه للزيادة على هذا المستوى، وإنما عيبه هو في أن موضوعاته ومسائله وجميع جزئياته تعرض بصورة لا تراعى فيها الطريقة التي تجعل من مجموعة من المعارف، كيفما كان ميدانها، علما يستحق هذا الوصف.
وهنا لابد من رفع التباس حرص ابن رشد نفسه على استبعاده. ذلك أن القارئ قد يتوهم أن فيلسوف قرطبة يريد دمج النحو في المنطق. وهذا في نظره جهل. يقول عن كتابه: "ربما عابه قوم لمفارقته المعتاد ... وربما قالوا: خلط صناعة المنطق بصناعة النحو، وهذا كله جهل بالطريق الصناعي". وإذن فلا علاقة لمشروع ابن رشد بـمسألة "العلاقة بين النحو والمنطق" المعروفة في تاريخ الثقافة العربية والتي طرحت بحدة في القرن الرابع الهجري خلال المناظرة المشهورة بين أبي بشر متى رئيس مناطقة بغداد وأبي سعيد السيرافي رئيس نحاتها. ولا مجال للخلط كذلك بين مشروع ابن رشد وبين مسألة "تأثر النحو العربي بالمنطلق اليوناني"، وهي المسألة التي خاض فيها كثير من المعاصرين.
إن ابن رشد لا يخلط بين المنطق والنحو على أي مستوى، وإنما يريد صياغة مسائل النحو، كما هي كاملة ومنتهية في كتب النحاة، صياغة منهجية ترتفع به إلى مستوى العلم. والعلم كما يقول ابن رشد يعتمد القسمة الصحيحة غير المتداخلة كما يصوغ مسائله صياغة كلية تجمع شتات الجزئيات في قوانين عامة.
وهنا قد يطرح سؤال: كيف يمكن صياغة قواعد النحو في قوانين كلية، مع أن موضوعها هو جزئيات الكلام، وهي مختلفة. يرى ابن رشد أن ذلك ممكن، ولكن مع "التوسط في ذلك". وهذا راجع إلى أن كليات هذا العلم كليات استقرائية وليست استنتاجية، فنحن لا نستنتج قواعده من أصول موضوعة أو بديهيات عقلية، كلا. إن قواعد النحو تبنى على الاستقراء، والاستقراء ناقص بطبيعته وبالتالي لابد من استثناءات يجب التنبيه إليها. أما القياس فهو وإن أمكن في بعض المسائل فإن الواجب استعماله بحذر. ذلك "أن جل ما أُثبِت وجوده في هذه الصناعة إنما ثبت بطريق السماع والاستقراء". أما القياس فـقد يستعمله "أهل هذه الصناعة فيما جهل سماعه، [وذلك] أنهم يقيسون المجهول على المعلوم، وهو ضعيف، وربما أفرطوا حتى يردون السماع بالقياس".
هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا بد من التنبيه إلى أن الطريقة التي يريد ابن رشد اعتمادها في إعادة بناء قواعد النحو ومسائله ليست من ابتكاره، فهي كما يقول عنها مرارا : "الطريقة المشتركة لجميع الألسنة". يتعلق الأمر إذن بالمنهجية العلمية كما كانت في عصره والتي تقوم على الترتيب المنطقي والاستقراء العلمي. وقد سبق للفارابي، "المعلم الثاني"، أن ألف كتابا في "إحصاء العلوم" شرح فيه مسائل كل علم، بما في ذلك مسائل علم النحو، والكيفية التي تصنف بها والمنهج الذي تعالج بها، مستعيدا النموذج العام لـ"العلم" كما قرره الفلاسفة القدماء وخاصة منهم "المعلم الأول" أرسطو.
وإذا كان ابن رشد يعتمد هو الآخر هذا النموذج العام فإن هذا لا يعني أنه اكتفى بما ذكره الفارابي من عناصر هذا النموذج بل أضاف إليها أخرى، وقدم وأخر وعدل، مما يدل دلالة قاطعة على أنه لم يستنسخ النموذج الذي عرضه الفارابي استنساخا، بل الصحيح أن يقال إنه اطلع على ذات المصادر التي أخذ عنها الفارابي، هذا إضافة إلى أن عبارة "كما هو مشترك في جميع الألسنة" التي يكررها فيلسوف قرطبة توحي بأنه كان على بينة من نحو لغة أو لغات أخرى، مما يطرح من جديد ذلك السؤال الذي لم يفصل فيه بعد وهو: هل كان ابن رشد يعرف اللغة اليونانية؟
أما اللغة اللاتينية فقد كانت متداولة في الأندلس بكثرة. يقول ابن حزم مثلا، بصدد حروف السؤال : "إن السؤال بـ "ما" والسؤال بـ "أي" قد يستويان في اللغة العربية وينوب كل واحد من هذين اللفظين عن صاحبه ويقعان بمعنى واحد، ومن أحكم اللطينية (=اللاتينية) عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام"، مما يدل على أنه كان يعرف اللاتينية. فليس من المستبعد إذن أن يكون ابن رشد قد تصدى لإعادة هيكلة النحو العربي ليس فقط بتأثير تكوينه الفلسفي المنطقي، بل أيضا بوحي من مقارنته بين النحو العربي والنحو في اللغة اللاتينية وربما اليونانية أيضا.
لنذكر أولا بأن المطالبة بتيسير النحو العربي إنما انطلقت من الأندلس وبقلم ابن حزم المعروف بمذهبه الظاهري. وإذن فدعوة ابن حزم إلى تحرير النحو من جميع التعقيدات التي ليس بها حاجة في النطق الصحيح بالعربية جزء من دعوته العامة إلى الأخذ بالظاهر. و"الظاهر" في كلام العرب ليس فيه ما يقوله النحاة في ما يسمونه "العلل"، وهو ما يعبر عنه المعاصرون بـ"نظرية العامل في النحو"، كالقول مثلا إن الذي فعل "الرفع" في الفاعل هو الفعل، وفي المبتدأ هو "الابتداء" الخ.
وعندما أثيرت مسألة تيسير النحو العربي في العصر الحديث، وفي أواسط القرن العشرين خاصة، حظي ابن مضاء القرطبي، الداعي إلى الاستغناء عن نظرية العامل"، باهتمام خاص، فنشر كتابه "الرد على النحاة" (حققه د. شوقي ضيف وصدره بمقدمة تحليلية ناصره فيها) فانقسم الكتاب في مصر خاصة إلى متحمسين لابن مضاء وإلى متحفظين أو رافضين، كل ذلك والناس جميعا يجهلون كتاب ابن رشد في النحو، لأنه كان في حكم المفقود. واليوم وقد اكتشف هذا الكتاب ونشر يجد قارئه نفسه إزاء مذهب آخر، مذهب لا يقول بحذف هذه الجزء أو ذلك ولا بالاستغناء عن هذه النظرية أو تلك بل يطرح بعمق مسألة بنية النحو العربي ذاتها، ويرى أن السبب فيما في النحو العربي من صعوبات إنما مرجعه إلى طريقة التأليف فيه وبالتالي تدريسه وتعليمه. إن بنية النحو العربي في نظر ابن رشد ليست مبنية على الطرية "الصناعية"، يعني العلمية. ومن هنا كانت مسألة تيسير النحو العربي عملية تتطلب القيام بإصلاح جوهري في بنيته وذلك بصياغتها صياغة برهانية كما هو الشأن في جميع اللغات. يقول في مستهل كتابه "الضروري في النحو": "الغرض من هذا القول أن نذكر من علم النحو ما هو كالضروري لمن أراد أن يتكلم على عادة العرب في كلامهم ويتحرى في ذلك ما هو أقرب إلى الأمر الصناعي وأسهل تعليما وأشد تحصيلا للمعاني"، وأيضا عرض مسائله وفق "الترتيب" الذي هو "مشترك لجميع الألسنة".
كان ابن رشد معاصرا لابن مضاء منتظما مثله في حاشية دولة الموحدين، يقضي وقته بين قرطبة مسقط رأسه ومراكش عاصمة الدولة الموحدية التي قامت كامتداد لدعوة ابن تومرت لمذهب فكري يدعو إلى نبذ القياس والتقليد وينادي بالرجوع إلى الأصول، متأثرا في ذلك بمذهب ابن حزم. وإذا كنا نستطيع الربط نوعا من الربط بين كل من ابن مضاء وابن رشد من جهة وابن تومرت وابن حزم من جهة أخرى فإننا نجهل تماما أي نوع من العلاقة كانت تربط ابن رشد وابن مضاء، ولا أيهما كان اسبق من صاحبه في التأليف في النحو.
ومهما كان الأمر فالمشروع الذي اقترحه ابن رشد يختلف تماما الاختلاف عن مشروع ابن مضاء، بل هو يتجاوزه إلى درجة تصبح المقارنة بينهما ممتنعة. إنه أشبه ما يكون بالبديل عن المشروع الذي أنجزه سيبويه في مؤلفه المعروف بـ"الكتاب" والذي قيل عنه إنه "قرآن النحو". ولذلك كان من الضروري من أجل فهم أبعاد المشروع الرشدي في النحو العربي مقارنته لا بمشروع ابن مضاء أو غيره من المتقدمين والمتأخرين بل النظر إليه على ضوء المشروع الذي أنجزه سيبويه من جهة، وما أشار إليه الفارابي وإن بشكل ضمني، من جهة أحرى، من كون طريقة التأليف في النحو في اللغات الأخرى تختلف عن الطريقة المتبعة في النحو العربي.
وكما هو معروف فقد استهل سيبويه كتابه بالتمييز في كلام العرب بين الاسم والفعل والحرف، ثم أخذ يدرس أحوال كل واحد منها. ومن هنا انقسمت أبواب النحو عنده إلى ثلاثة أقسام رئيسية: باب الاسم وباب الفعل وباب الحرف. بعضهم يبدأ بالفعل، وبعضهم يبدأ بالاسم، أما الحرف فيأتي في الأخير في الغالب. وقد نتج عن هذا النوع من التبويب تداخل وخلط بين الموضوعات والمستويات كما لاحظ ذلك ابن رشد: فالكلام عن الاسم يستلزم في مرحلة من المراحل الكلام عن الفعل، وذلك قبل الفراغ من الكلام عن الاسم وقبل الشروع في الكلام عن الفعل ، كما يحصل مثلا في درس "الفاعل" و"المفعول"، وكل منهما اسم، حين نضطر إلى الكلام عن الفعل، خصوصا وقد كان النحاة –وما زالوا- يعتبرون الفعل هو الذي رفع الفاعل ونصب المفعول. وبالمثل فنحن نضطر إلى الكلام في الفعل في درس الاسم لنفس السبب (الفعل لا بد له من فاعل وهو اسم أو في معنى الاسم). أضف إلى ذلك أن معظم كتب النحو، إن لم نقل كلها، قد دأبت على الجمع بين المسائل الصرفية والمسائل النحوية، مما جعل من المتعذر التمييز بين حدود علم الصرف وحدود علم النحو.
هذا النوع من التداخل بين الموضوعات والمستويات في كتب النحو العربي هو "التقصير" الذي أراد ابن رشد معالجته في كتابه. وهو تقصير يرجع سببه، كما قال، إلى أن النحاة "لم يستعملوا في إحصاء أنواع الإعراب القسمة الصحيحة التي لا يعرض فيها تداخل. وكل صناعة (=علم) لم تستعمل فيها بعدُ القسمة الحاصرة الغير متداخلة فهي صناعة ناقصة".
لأن الصناعة الموجودة عند نحويي العرب في زماننا هذا قد استوفيت ... لكن لا على المجرى الصناعي".
هدف ابن رشد إذن ليس تدارك مسألة من المسائل النحوية، فالنحو العربي في نظره "قد استوفيت" جميع مسائله فلا مجال فيه للزيادة على هذا المستوى، وإنما عيبه هو في أن موضوعاته ومسائله وجميع جزئياته تعرض بصورة لا تراعى فيها الطريقة التي تجعل من مجموعة من المعارف، كيفما كان ميدانها، علما يستحق هذا الوصف.
وهنا لابد من رفع التباس حرص ابن رشد نفسه على استبعاده. ذلك أن القارئ قد يتوهم أن فيلسوف قرطبة يريد دمج النحو في المنطق. وهذا في نظره جهل. يقول عن كتابه: "ربما عابه قوم لمفارقته المعتاد ... وربما قالوا: خلط صناعة المنطق بصناعة النحو، وهذا كله جهل بالطريق الصناعي". وإذن فلا علاقة لمشروع ابن رشد بـمسألة "العلاقة بين النحو والمنطق" المعروفة في تاريخ الثقافة العربية والتي طرحت بحدة في القرن الرابع الهجري خلال المناظرة المشهورة بين أبي بشر متى رئيس مناطقة بغداد وأبي سعيد السيرافي رئيس نحاتها. ولا مجال للخلط كذلك بين مشروع ابن رشد وبين مسألة "تأثر النحو العربي بالمنطلق اليوناني"، وهي المسألة التي خاض فيها كثير من المعاصرين.
إن ابن رشد لا يخلط بين المنطق والنحو على أي مستوى، وإنما يريد صياغة مسائل النحو، كما هي كاملة ومنتهية في كتب النحاة، صياغة منهجية ترتفع به إلى مستوى العلم. والعلم كما يقول ابن رشد يعتمد القسمة الصحيحة غير المتداخلة كما يصوغ مسائله صياغة كلية تجمع شتات الجزئيات في قوانين عامة.
وهنا قد يطرح سؤال: كيف يمكن صياغة قواعد النحو في قوانين كلية، مع أن موضوعها هو جزئيات الكلام، وهي مختلفة. يرى ابن رشد أن ذلك ممكن، ولكن مع "التوسط في ذلك". وهذا راجع إلى أن كليات هذا العلم كليات استقرائية وليست استنتاجية، فنحن لا نستنتج قواعده من أصول موضوعة أو بديهيات عقلية، كلا. إن قواعد النحو تبنى على الاستقراء، والاستقراء ناقص بطبيعته وبالتالي لابد من استثناءات يجب التنبيه إليها. أما القياس فهو وإن أمكن في بعض المسائل فإن الواجب استعماله بحذر. ذلك "أن جل ما أُثبِت وجوده في هذه الصناعة إنما ثبت بطريق السماع والاستقراء". أما القياس فـقد يستعمله "أهل هذه الصناعة فيما جهل سماعه، [وذلك] أنهم يقيسون المجهول على المعلوم، وهو ضعيف، وربما أفرطوا حتى يردون السماع بالقياس".
هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا بد من التنبيه إلى أن الطريقة التي يريد ابن رشد اعتمادها في إعادة بناء قواعد النحو ومسائله ليست من ابتكاره، فهي كما يقول عنها مرارا : "الطريقة المشتركة لجميع الألسنة". يتعلق الأمر إذن بالمنهجية العلمية كما كانت في عصره والتي تقوم على الترتيب المنطقي والاستقراء العلمي. وقد سبق للفارابي، "المعلم الثاني"، أن ألف كتابا في "إحصاء العلوم" شرح فيه مسائل كل علم، بما في ذلك مسائل علم النحو، والكيفية التي تصنف بها والمنهج الذي تعالج بها، مستعيدا النموذج العام لـ"العلم" كما قرره الفلاسفة القدماء وخاصة منهم "المعلم الأول" أرسطو.
وإذا كان ابن رشد يعتمد هو الآخر هذا النموذج العام فإن هذا لا يعني أنه اكتفى بما ذكره الفارابي من عناصر هذا النموذج بل أضاف إليها أخرى، وقدم وأخر وعدل، مما يدل دلالة قاطعة على أنه لم يستنسخ النموذج الذي عرضه الفارابي استنساخا، بل الصحيح أن يقال إنه اطلع على ذات المصادر التي أخذ عنها الفارابي، هذا إضافة إلى أن عبارة "كما هو مشترك في جميع الألسنة" التي يكررها فيلسوف قرطبة توحي بأنه كان على بينة من نحو لغة أو لغات أخرى، مما يطرح من جديد ذلك السؤال الذي لم يفصل فيه بعد وهو: هل كان ابن رشد يعرف اللغة اليونانية؟
أما اللغة اللاتينية فقد كانت متداولة في الأندلس بكثرة. يقول ابن حزم مثلا، بصدد حروف السؤال : "إن السؤال بـ "ما" والسؤال بـ "أي" قد يستويان في اللغة العربية وينوب كل واحد من هذين اللفظين عن صاحبه ويقعان بمعنى واحد، ومن أحكم اللطينية (=اللاتينية) عرف الفرق بين المعنيين اللذين قصدنا في الاستفهام"، مما يدل على أنه كان يعرف اللاتينية. فليس من المستبعد إذن أن يكون ابن رشد قد تصدى لإعادة هيكلة النحو العربي ليس فقط بتأثير تكوينه الفلسفي المنطقي، بل أيضا بوحي من مقارنته بين النحو العربي والنحو في اللغة اللاتينية وربما اليونانية أيضا.