- مات ياكوف!
قال ذلك أحد الأصحاب المتحلِّقين حول سرير الميت. جَزَعٌ وحيرة بادية. وراح المتحلِّقون يتبادلون نظرات غاضبة بأعين جاحظة. أطْبَقَ صمتٌ مخيف على الجميع، وملأتْ المكانَ رهبةٌ وغربة. إلى أن قَطَعَها صاحبٌ ثانٍ قائلاً:
- ما كان له أن يموت قبل أن يخبرنا ماذا فعل بكلِّ ثروته الهائلة!
كان المتحلِّقون حول السرير من اليهود، وكانوا يشكِّلون شلَّة أصدقاء تتحكم في كلِّ الجالية اليهودية في تلك المنطقة. فقد كانوا أصحاب الثروة والجاه والنفوذ، لا تُعقَد صفقةٌ تجارية هامة إلا في حضورهم، ولا يتم عقدُ قران إلا بمباركتهم. يفصلون بين المتخاصمين اليهود، ويتولون أمر الميت منهم والمُصاب. كانوا ستة، أغناهم على الإطلاق ياكوف.
وكانت القرية عربية، تنام في حضن جبل عالٍ مغطى بأشجار صنوبر أبية. لا ترضى بالضيم، كريمة سخية، يسكن إليها الغريب ويأنس، وسرعان ما يندمج في أهلها، وينسى وحشته وعزلته. وكان هؤلاء اليهود قد قدموا إليها منذ قرن من الزمن وأزْيَد، فاندمجوا مع أهلها، وازدهرتْ تجارتُهم ونَمَتْ أموالُهم. مارسوا فيها طقوسهم الدينية بكلِّ حرية، بل وأنشأوا بيعة في مرتفع غرب القرية، واختلطوا بسكانها، بل وفيهم من سمَّى أولاده بأسماء عربية. وأضحت لهم، إلى جانب بيعتهم، مقبرةٌ جميلة الطراز، منظَّمة القبور.
وكانت فيهم امرأة جميلة شذَّت عن الصراط القويم في صغرها. ولما كبرت، استقدمت بضع نسوة يهوديات، واحتلت شارعًا ضيقًا مظلمًا، أشرفت فيه على ممارسة أقدم مهنة في التاريخ، وأمست قبلة لليهود من القرى المجاورة، بل وحتى من بعض الأعراب الغرباء عن القرية.
كان ياكوف، أكبر تاجر في القرية، قد جمع ثروة هائلة من تنقُّله – وهو شاب – بين القرى، يتاجر في الحليِّ النادرة. ولما بلغ أشده، أضحى صاحب أكبر مخزن في القرية والقرى المجاورة كلِّها. يعرفه الصغير والكبير، واسمُه يملأ الأسماع والأصقاع. وكانوا يتحدثون عن كنز كبير ونادر جَمَعَه، ووَضَعَه داخل صندوق مزخرف، كأنه مصنوع بأيدي الجن! وبما أنه كان عقيمًا لا ينجب فقد كان الجميع يتساءلون عن مصير ثروته، ومَن سيرثها من بعده.
وكان ياكوف على علاقة خاصة بالمومس العجوز. وقد ازدادت أواصرُ هذه العلاقة متانة بعد وفاة زوجته. وكانت أحاديث غريبة تدور حول هذه العلاقة، وأساطير تُروى عن الهدايا التي كانت تتلقَّاها تلك العجوز من ياكوف.
ولعل من بين غرائب القرية أيضًا شابٌّ عربيٌّ يسمَّى جلول، ويلقبونه في القرية بـ"المفقود": فقد كان غائبًا طوال الوقت، يتجول في الجبل المحاذي للقرية، ولا ينزل إليها إلا ليلاً. وكانت حكاياتٌ تُروى عن صراعه مع الذئاب والخنازير. كان جلول في عقده الثالث، جميل الهيئة، قوي البنية، يتيمًا، توفي والداه وهو صغير، وتركا له حوشًا به ثلاث حجرات في وسط القرية، كان يأوي إليه أحيانًا، ويقضي بعض لياليه عند أقاربه أو أقرانه. وكان لا يحب العجوز المومس، ويرى أنها أشاعت الرذيلة في القرية. ولولا حماية ياكوف وطائفة يهود لها، لكانت منذ زمن في خبر كان. فقد كان جلول يتحرَّق شوقًا إلى ترحيلها عن القرية، أو قتلها إن لزم الأمر.
وعاد بنيامين، أحد الرفاق المتحلِّقين حول الميت، يتساءل:
- أيكون فَعَلَها وأعطى الكنز كلَّه لتلك العجوز الشمطاء؟ فأجابه أحدهم:
- ربما، لأننا لم نترك مكانًا في بيته إلا وبحثنا فيه.
قال الحاخام نعوم – وكان رجل الدين في المنطقة كلِّها:
- حتى البيعة لم يتذكَّرْها بشيء... إني أطعن في تديُّن هذا الشيخ الهرم!
ثم افترق خمستُهم، وقد قرَّروا الاجتماع بعد مراسم الدفن في البيعة للتشاور في أمر التركات: المخزن والبيت والأثاث وفرس بيضاء.
- لا بدَّ من العثور على الصندوق... القرية كلُّها تتكلَّم عنه، بل ويظنون أننا اقتسمناه فيما بيننا. فهل نتحمل وزر الإشاعة فقط؟ قال بنيامين حانقًا.
فردَّ عليه الحاخام:
- بعد كلِّ البحث المضني الذي قمنا به في أثناء مرض ياكوف، لم يبقَ لديَّ أدنى شكٍّ في أن الكنز عند العجوز. يجب أن نذهب إليها، ونستنطقها. فنحن أصحابه وكبار يهود. وإن لزم الأمر أعطيناها نصيبًا منه.
كان جلول، كعادته، نازلاً إلى القرية عند غروب الشمس، حين سمع أنينًا بين أشجار الصنوبر. خفَّ مسرعًا إلى ناحية الصوت، فإذا به يجد العجوز المومس تحتضر. رفع رأسها، وكلَّمها سائلاً إياها عن الفاعل والسبب. فأخبرته أنهم كبار يهود، أصحاب ياكوف، مَن عذَّبوها ورموها في الغابة لتنهشها الذئاب، لأنها رفضت إخبارهم عن مكان الكنز. وكانت في أثناء حديثها تغيب للحظات، ثم تستفيق. و لما أدركت تمام الإدراك أن نهايتها قد حانت، قالت لجلول:
- اذهب إلى بيتي... وابحث تحت الموقد... ستجد ورقة... ذَكَرَ فيها... ياكوف... مكان... الكنز...
ثم أسلمت الروح. فقام جلول وواراها التراب، ونزل إلى القرية.
تقول الورقة التي استخرجها جلول من رماد الموقد: "الصندوق مدفون على يسار ضريح الوليِّ الصالح سيدي عبد الله."
الورقة فتحت شهية "المفقود" للاستيلاء على الكنز كلِّه. لكن المشكلة الكبرى التي صادفتْه هي استحالة الحفر داخل قبة الوليِّ الصالح. فقد كان ذا سطوة روحية على المنطقة كلِّها. ثم إن سادن الضريح يسكن وعائلته إلى جانب القبة، وله جيران. فإذا ما اقترب جلول، ولو ليلاً، فسرعان ما سيسري الخبر في القرية سريان النار في الهشيم. وهو لا يريد أن يدري أحدٌ بسرِّه هذا لأن يهود لن يتركوه، بل سيجدهم أمامه في كلِّ مكان يقصده. إنهم متفرِّقون في الأرض، وهم، على قلَّتهم، يملأون العالم! ثم إن السلطات الحكومية – إن بَلَغَها الخبر – ستعتبر هذا الكنز تراثًا، فتأخذه منه. ولذا وَجَبَ عليه التفكير في حيلة تمكِّنه من أخذ الكنز في سرِّية تامة.
كانت القلاقل السياسية وصراع السلطات فيما بينها قد أدى إلى ظهور متمرِّدين في الجبال. وكانوا يعملون، منذ مدة، على انتزاع الحكم في البلاد والسيطرة عليها. وكانوا فِرَقًا وفيالق عدة، يسطون على القرى والمداشر الآمنة ليلاً، فينهبون، ويقتلون، ويحرقون، ثم يفرون.
كان الهلع يملأ الأجواء، وكانت القرى تتنفس الخوف. ولما كان عهد هذا الخلاف قديمًا، يزيد على السبع سنين، فقد كانت الأخبار تشير إلى احتمالات صُلْح بين الأجنحة المتخاصمة لإنهاء زمن الكابوس، والرجوع إلى الاستقرار والأمن.
في هذه الأثناء كان "المفقود" قد هداه تفكيرُه إلى الانضمام إلى إحدى الفِرَق. وسرعان ما أقنعهم بضرورة وجود فرقة – ولو صغيرة – في جبل قريته. أليس موقعًا استراتيجيًّا، يزيدهم قوة على قوتهم؟ ولأنهم يعرفون تاريخ جلول المفقود ودرايته بالجبال – وخاصة جبل قريته – فقد وافقوا على إعطائه ثلاثة من الجُنْد تحت إمرته ليكوِّنوا فرقة تقوم بنشر الرعب في قرية جلول التي لم تعرف عملية سطو واحدة خلال السنين السبع الطوال.
وهكذا قام "المفقود" بأول عملية – وستكون الأخيرة: لقد فجَّر قبة الوليِّ الصالح، مستخدمًا قارورة غاز، ثم لاذ وجنودَه بالفرار. وبعد بضع ليالٍ، لمَّا وصله نبأ نزع الحراسة التي ضُرِبَتْ حول حطام القبة، وعلم برحيل السادن عنها خوفًا على عائلته وعلى نفسه، عاد المفقود متخفيًا ليلاً، فحفر مكان الكنز، وأخرج الصندوق، وحمله على ظهره خُلسة إلى مكان آمن، إلى بقعة مستوية واسعة، لا يمكن لإنسان أن يشكَّ في كونها تحوي كنزًا، ودَفَنَه هناك، ثم عاد أدراجه، ملتحقًا برفاقه في الجبل. ومن ذلك اليوم لم تعرف القرية عملية أخرى.
كانت الأنباء تصل إلى الجبل بأن الفرقاء على وشك التلاقي والتوافق والتوصل إلى حل. وكان جلول المفقود يتحرَّق شوقًا إلى يوم السلام، كي يستطيع أن يُخرِجَ كنزه المدفون الذي أهدتْه إياه العجوز اليهودية الشمطاء.
ولم تمضِ إلا بضعة أشهر حتى كان قانون عفو شامل قد صدر. وقالت الحكومة للمتمترسين في الجبال إن بإمكانهم وضعَ أسلحتهم والنزول إلى مدنهم وقراهم. فخفَّ جلول مسرعًا، ووضع سلاحه، ويمَّم وجهه شطر قريته، وبات ليلته في حوش والديه، ينتظر متلهفًا بزوغ أولى خيوط الفجر.
وما هي إلا ساعات، حتى كان جلول المفقود يقف مشدوهًا أمام الأرض الواسعة التي دفن فيها الكنز. لم يصدق ما يرى. لقد وجد أن ثكنة عسكرية ضخمة بُنِيَتْ في المكان ذاته!
*** *** ***
* ص ب: 3208، عين الشيح، الجلفة 17000؛ البريد الإلكتروني: kaderhomida@yahoo.fr.
الكنز
عبد القادر حميدة*
- مات ياكوف!
قال ذلك أحد الأصحاب المتحلِّقين حول سرير الميت. جَزَعٌ وحيرة بادية. وراح المتحلِّقون يتبادلون نظرات غاضبة بأعين جاحظة. أطْبَقَ صمتٌ مخيف على الجميع، وملأتْ المكانَ رهبةٌ وغربة. إلى أن قَطَعَها صاحبٌ ثانٍ قائلاً:
- ما كان له أن يموت قبل أن يخبرنا ماذا فعل بكلِّ ثروته الهائلة!
كان المتحلِّقون حول السرير من اليهود، وكانوا يشكِّلون شلَّة أصدقاء تتحكم في كلِّ الجالية اليهودية في تلك المنطقة. فقد كانوا أصحاب الثروة والجاه والنفوذ، لا تُعقَد صفقةٌ تجارية هامة إلا في حضورهم، ولا يتم عقدُ قران إلا بمباركتهم. يفصلون بين المتخاصمين اليهود، ويتولون أمر الميت منهم والمُصاب. كانوا ستة، أغناهم على الإطلاق ياكوف.
وكانت القرية عربية، تنام في حضن جبل عالٍ مغطى بأشجار صنوبر أبية. لا ترضى بالضيم، كريمة سخية، يسكن إليها الغريب ويأنس، وسرعان ما يندمج في أهلها، وينسى وحشته وعزلته. وكان هؤلاء اليهود قد قدموا إليها منذ قرن من الزمن وأزْيَد، فاندمجوا مع أهلها، وازدهرتْ تجارتُهم ونَمَتْ أموالُهم. مارسوا فيها طقوسهم الدينية بكلِّ حرية، بل وأنشأوا بيعة في مرتفع غرب القرية، واختلطوا بسكانها، بل وفيهم من سمَّى أولاده بأسماء عربية. وأضحت لهم، إلى جانب بيعتهم، مقبرةٌ جميلة الطراز، منظَّمة القبور.
وكانت فيهم امرأة جميلة شذَّت عن الصراط القويم في صغرها. ولما كبرت، استقدمت بضع نسوة يهوديات، واحتلت شارعًا ضيقًا مظلمًا، أشرفت فيه على ممارسة أقدم مهنة في التاريخ، وأمست قبلة لليهود من القرى المجاورة، بل وحتى من بعض الأعراب الغرباء عن القرية.
كان ياكوف، أكبر تاجر في القرية، قد جمع ثروة هائلة من تنقُّله – وهو شاب – بين القرى، يتاجر في الحليِّ النادرة. ولما بلغ أشده، أضحى صاحب أكبر مخزن في القرية والقرى المجاورة كلِّها. يعرفه الصغير والكبير، واسمُه يملأ الأسماع والأصقاع. وكانوا يتحدثون عن كنز كبير ونادر جَمَعَه، ووَضَعَه داخل صندوق مزخرف، كأنه مصنوع بأيدي الجن! وبما أنه كان عقيمًا لا ينجب فقد كان الجميع يتساءلون عن مصير ثروته، ومَن سيرثها من بعده.
وكان ياكوف على علاقة خاصة بالمومس العجوز. وقد ازدادت أواصرُ هذه العلاقة متانة بعد وفاة زوجته. وكانت أحاديث غريبة تدور حول هذه العلاقة، وأساطير تُروى عن الهدايا التي كانت تتلقَّاها تلك العجوز من ياكوف.
ولعل من بين غرائب القرية أيضًا شابٌّ عربيٌّ يسمَّى جلول، ويلقبونه في القرية بـ"المفقود": فقد كان غائبًا طوال الوقت، يتجول في الجبل المحاذي للقرية، ولا ينزل إليها إلا ليلاً. وكانت حكاياتٌ تُروى عن صراعه مع الذئاب والخنازير. كان جلول في عقده الثالث، جميل الهيئة، قوي البنية، يتيمًا، توفي والداه وهو صغير، وتركا له حوشًا به ثلاث حجرات في وسط القرية، كان يأوي إليه أحيانًا، ويقضي بعض لياليه عند أقاربه أو أقرانه. وكان لا يحب العجوز المومس، ويرى أنها أشاعت الرذيلة في القرية. ولولا حماية ياكوف وطائفة يهود لها، لكانت منذ زمن في خبر كان. فقد كان جلول يتحرَّق شوقًا إلى ترحيلها عن القرية، أو قتلها إن لزم الأمر.
وعاد بنيامين، أحد الرفاق المتحلِّقين حول الميت، يتساءل:
- أيكون فَعَلَها وأعطى الكنز كلَّه لتلك العجوز الشمطاء؟ فأجابه أحدهم:
- ربما، لأننا لم نترك مكانًا في بيته إلا وبحثنا فيه.
قال الحاخام نعوم – وكان رجل الدين في المنطقة كلِّها:
- حتى البيعة لم يتذكَّرْها بشيء... إني أطعن في تديُّن هذا الشيخ الهرم!
ثم افترق خمستُهم، وقد قرَّروا الاجتماع بعد مراسم الدفن في البيعة للتشاور في أمر التركات: المخزن والبيت والأثاث وفرس بيضاء.
- لا بدَّ من العثور على الصندوق... القرية كلُّها تتكلَّم عنه، بل ويظنون أننا اقتسمناه فيما بيننا. فهل نتحمل وزر الإشاعة فقط؟ قال بنيامين حانقًا.
فردَّ عليه الحاخام:
- بعد كلِّ البحث المضني الذي قمنا به في أثناء مرض ياكوف، لم يبقَ لديَّ أدنى شكٍّ في أن الكنز عند العجوز. يجب أن نذهب إليها، ونستنطقها. فنحن أصحابه وكبار يهود. وإن لزم الأمر أعطيناها نصيبًا منه.
كان جلول، كعادته، نازلاً إلى القرية عند غروب الشمس، حين سمع أنينًا بين أشجار الصنوبر. خفَّ مسرعًا إلى ناحية الصوت، فإذا به يجد العجوز المومس تحتضر. رفع رأسها، وكلَّمها سائلاً إياها عن الفاعل والسبب. فأخبرته أنهم كبار يهود، أصحاب ياكوف، مَن عذَّبوها ورموها في الغابة لتنهشها الذئاب، لأنها رفضت إخبارهم عن مكان الكنز. وكانت في أثناء حديثها تغيب للحظات، ثم تستفيق. و لما أدركت تمام الإدراك أن نهايتها قد حانت، قالت لجلول:
- اذهب إلى بيتي... وابحث تحت الموقد... ستجد ورقة... ذَكَرَ فيها... ياكوف... مكان... الكنز...
ثم أسلمت الروح. فقام جلول وواراها التراب، ونزل إلى القرية.
تقول الورقة التي استخرجها جلول من رماد الموقد: "الصندوق مدفون على يسار ضريح الوليِّ الصالح سيدي عبد الله."
الورقة فتحت شهية "المفقود" للاستيلاء على الكنز كلِّه. لكن المشكلة الكبرى التي صادفتْه هي استحالة الحفر داخل قبة الوليِّ الصالح. فقد كان ذا سطوة روحية على المنطقة كلِّها. ثم إن سادن الضريح يسكن وعائلته إلى جانب القبة، وله جيران. فإذا ما اقترب جلول، ولو ليلاً، فسرعان ما سيسري الخبر في القرية سريان النار في الهشيم. وهو لا يريد أن يدري أحدٌ بسرِّه هذا لأن يهود لن يتركوه، بل سيجدهم أمامه في كلِّ مكان يقصده. إنهم متفرِّقون في الأرض، وهم، على قلَّتهم، يملأون العالم! ثم إن السلطات الحكومية – إن بَلَغَها الخبر – ستعتبر هذا الكنز تراثًا، فتأخذه منه. ولذا وَجَبَ عليه التفكير في حيلة تمكِّنه من أخذ الكنز في سرِّية تامة.
كانت القلاقل السياسية وصراع السلطات فيما بينها قد أدى إلى ظهور متمرِّدين في الجبال. وكانوا يعملون، منذ مدة، على انتزاع الحكم في البلاد والسيطرة عليها. وكانوا فِرَقًا وفيالق عدة، يسطون على القرى والمداشر الآمنة ليلاً، فينهبون، ويقتلون، ويحرقون، ثم يفرون.
كان الهلع يملأ الأجواء، وكانت القرى تتنفس الخوف. ولما كان عهد هذا الخلاف قديمًا، يزيد على السبع سنين، فقد كانت الأخبار تشير إلى احتمالات صُلْح بين الأجنحة المتخاصمة لإنهاء زمن الكابوس، والرجوع إلى الاستقرار والأمن.
في هذه الأثناء كان "المفقود" قد هداه تفكيرُه إلى الانضمام إلى إحدى الفِرَق. وسرعان ما أقنعهم بضرورة وجود فرقة – ولو صغيرة – في جبل قريته. أليس موقعًا استراتيجيًّا، يزيدهم قوة على قوتهم؟ ولأنهم يعرفون تاريخ جلول المفقود ودرايته بالجبال – وخاصة جبل قريته – فقد وافقوا على إعطائه ثلاثة من الجُنْد تحت إمرته ليكوِّنوا فرقة تقوم بنشر الرعب في قرية جلول التي لم تعرف عملية سطو واحدة خلال السنين السبع الطوال.
وهكذا قام "المفقود" بأول عملية – وستكون الأخيرة: لقد فجَّر قبة الوليِّ الصالح، مستخدمًا قارورة غاز، ثم لاذ وجنودَه بالفرار. وبعد بضع ليالٍ، لمَّا وصله نبأ نزع الحراسة التي ضُرِبَتْ حول حطام القبة، وعلم برحيل السادن عنها خوفًا على عائلته وعلى نفسه، عاد المفقود متخفيًا ليلاً، فحفر مكان الكنز، وأخرج الصندوق، وحمله على ظهره خُلسة إلى مكان آمن، إلى بقعة مستوية واسعة، لا يمكن لإنسان أن يشكَّ في كونها تحوي كنزًا، ودَفَنَه هناك، ثم عاد أدراجه، ملتحقًا برفاقه في الجبل. ومن ذلك اليوم لم تعرف القرية عملية أخرى.
كانت الأنباء تصل إلى الجبل بأن الفرقاء على وشك التلاقي والتوافق والتوصل إلى حل. وكان جلول المفقود يتحرَّق شوقًا إلى يوم السلام، كي يستطيع أن يُخرِجَ كنزه المدفون الذي أهدتْه إياه العجوز اليهودية الشمطاء.
ولم تمضِ إلا بضعة أشهر حتى كان قانون عفو شامل قد صدر. وقالت الحكومة للمتمترسين في الجبال إن بإمكانهم وضعَ أسلحتهم والنزول إلى مدنهم وقراهم. فخفَّ جلول مسرعًا، ووضع سلاحه، ويمَّم وجهه شطر قريته، وبات ليلته في حوش والديه، ينتظر متلهفًا بزوغ أولى خيوط الفجر.
وما هي إلا ساعات، حتى كان جلول المفقود يقف مشدوهًا أمام الأرض الواسعة التي دفن فيها الكنز. لم يصدق ما يرى. لقد وجد أن ثكنة عسكرية ضخمة بُنِيَتْ في المكان ذاته!
قال ذلك أحد الأصحاب المتحلِّقين حول سرير الميت. جَزَعٌ وحيرة بادية. وراح المتحلِّقون يتبادلون نظرات غاضبة بأعين جاحظة. أطْبَقَ صمتٌ مخيف على الجميع، وملأتْ المكانَ رهبةٌ وغربة. إلى أن قَطَعَها صاحبٌ ثانٍ قائلاً:
- ما كان له أن يموت قبل أن يخبرنا ماذا فعل بكلِّ ثروته الهائلة!
كان المتحلِّقون حول السرير من اليهود، وكانوا يشكِّلون شلَّة أصدقاء تتحكم في كلِّ الجالية اليهودية في تلك المنطقة. فقد كانوا أصحاب الثروة والجاه والنفوذ، لا تُعقَد صفقةٌ تجارية هامة إلا في حضورهم، ولا يتم عقدُ قران إلا بمباركتهم. يفصلون بين المتخاصمين اليهود، ويتولون أمر الميت منهم والمُصاب. كانوا ستة، أغناهم على الإطلاق ياكوف.
وكانت القرية عربية، تنام في حضن جبل عالٍ مغطى بأشجار صنوبر أبية. لا ترضى بالضيم، كريمة سخية، يسكن إليها الغريب ويأنس، وسرعان ما يندمج في أهلها، وينسى وحشته وعزلته. وكان هؤلاء اليهود قد قدموا إليها منذ قرن من الزمن وأزْيَد، فاندمجوا مع أهلها، وازدهرتْ تجارتُهم ونَمَتْ أموالُهم. مارسوا فيها طقوسهم الدينية بكلِّ حرية، بل وأنشأوا بيعة في مرتفع غرب القرية، واختلطوا بسكانها، بل وفيهم من سمَّى أولاده بأسماء عربية. وأضحت لهم، إلى جانب بيعتهم، مقبرةٌ جميلة الطراز، منظَّمة القبور.
وكانت فيهم امرأة جميلة شذَّت عن الصراط القويم في صغرها. ولما كبرت، استقدمت بضع نسوة يهوديات، واحتلت شارعًا ضيقًا مظلمًا، أشرفت فيه على ممارسة أقدم مهنة في التاريخ، وأمست قبلة لليهود من القرى المجاورة، بل وحتى من بعض الأعراب الغرباء عن القرية.
كان ياكوف، أكبر تاجر في القرية، قد جمع ثروة هائلة من تنقُّله – وهو شاب – بين القرى، يتاجر في الحليِّ النادرة. ولما بلغ أشده، أضحى صاحب أكبر مخزن في القرية والقرى المجاورة كلِّها. يعرفه الصغير والكبير، واسمُه يملأ الأسماع والأصقاع. وكانوا يتحدثون عن كنز كبير ونادر جَمَعَه، ووَضَعَه داخل صندوق مزخرف، كأنه مصنوع بأيدي الجن! وبما أنه كان عقيمًا لا ينجب فقد كان الجميع يتساءلون عن مصير ثروته، ومَن سيرثها من بعده.
وكان ياكوف على علاقة خاصة بالمومس العجوز. وقد ازدادت أواصرُ هذه العلاقة متانة بعد وفاة زوجته. وكانت أحاديث غريبة تدور حول هذه العلاقة، وأساطير تُروى عن الهدايا التي كانت تتلقَّاها تلك العجوز من ياكوف.
ولعل من بين غرائب القرية أيضًا شابٌّ عربيٌّ يسمَّى جلول، ويلقبونه في القرية بـ"المفقود": فقد كان غائبًا طوال الوقت، يتجول في الجبل المحاذي للقرية، ولا ينزل إليها إلا ليلاً. وكانت حكاياتٌ تُروى عن صراعه مع الذئاب والخنازير. كان جلول في عقده الثالث، جميل الهيئة، قوي البنية، يتيمًا، توفي والداه وهو صغير، وتركا له حوشًا به ثلاث حجرات في وسط القرية، كان يأوي إليه أحيانًا، ويقضي بعض لياليه عند أقاربه أو أقرانه. وكان لا يحب العجوز المومس، ويرى أنها أشاعت الرذيلة في القرية. ولولا حماية ياكوف وطائفة يهود لها، لكانت منذ زمن في خبر كان. فقد كان جلول يتحرَّق شوقًا إلى ترحيلها عن القرية، أو قتلها إن لزم الأمر.
وعاد بنيامين، أحد الرفاق المتحلِّقين حول الميت، يتساءل:
- أيكون فَعَلَها وأعطى الكنز كلَّه لتلك العجوز الشمطاء؟ فأجابه أحدهم:
- ربما، لأننا لم نترك مكانًا في بيته إلا وبحثنا فيه.
قال الحاخام نعوم – وكان رجل الدين في المنطقة كلِّها:
- حتى البيعة لم يتذكَّرْها بشيء... إني أطعن في تديُّن هذا الشيخ الهرم!
ثم افترق خمستُهم، وقد قرَّروا الاجتماع بعد مراسم الدفن في البيعة للتشاور في أمر التركات: المخزن والبيت والأثاث وفرس بيضاء.
- لا بدَّ من العثور على الصندوق... القرية كلُّها تتكلَّم عنه، بل ويظنون أننا اقتسمناه فيما بيننا. فهل نتحمل وزر الإشاعة فقط؟ قال بنيامين حانقًا.
فردَّ عليه الحاخام:
- بعد كلِّ البحث المضني الذي قمنا به في أثناء مرض ياكوف، لم يبقَ لديَّ أدنى شكٍّ في أن الكنز عند العجوز. يجب أن نذهب إليها، ونستنطقها. فنحن أصحابه وكبار يهود. وإن لزم الأمر أعطيناها نصيبًا منه.
كان جلول، كعادته، نازلاً إلى القرية عند غروب الشمس، حين سمع أنينًا بين أشجار الصنوبر. خفَّ مسرعًا إلى ناحية الصوت، فإذا به يجد العجوز المومس تحتضر. رفع رأسها، وكلَّمها سائلاً إياها عن الفاعل والسبب. فأخبرته أنهم كبار يهود، أصحاب ياكوف، مَن عذَّبوها ورموها في الغابة لتنهشها الذئاب، لأنها رفضت إخبارهم عن مكان الكنز. وكانت في أثناء حديثها تغيب للحظات، ثم تستفيق. و لما أدركت تمام الإدراك أن نهايتها قد حانت، قالت لجلول:
- اذهب إلى بيتي... وابحث تحت الموقد... ستجد ورقة... ذَكَرَ فيها... ياكوف... مكان... الكنز...
ثم أسلمت الروح. فقام جلول وواراها التراب، ونزل إلى القرية.
تقول الورقة التي استخرجها جلول من رماد الموقد: "الصندوق مدفون على يسار ضريح الوليِّ الصالح سيدي عبد الله."
الورقة فتحت شهية "المفقود" للاستيلاء على الكنز كلِّه. لكن المشكلة الكبرى التي صادفتْه هي استحالة الحفر داخل قبة الوليِّ الصالح. فقد كان ذا سطوة روحية على المنطقة كلِّها. ثم إن سادن الضريح يسكن وعائلته إلى جانب القبة، وله جيران. فإذا ما اقترب جلول، ولو ليلاً، فسرعان ما سيسري الخبر في القرية سريان النار في الهشيم. وهو لا يريد أن يدري أحدٌ بسرِّه هذا لأن يهود لن يتركوه، بل سيجدهم أمامه في كلِّ مكان يقصده. إنهم متفرِّقون في الأرض، وهم، على قلَّتهم، يملأون العالم! ثم إن السلطات الحكومية – إن بَلَغَها الخبر – ستعتبر هذا الكنز تراثًا، فتأخذه منه. ولذا وَجَبَ عليه التفكير في حيلة تمكِّنه من أخذ الكنز في سرِّية تامة.
كانت القلاقل السياسية وصراع السلطات فيما بينها قد أدى إلى ظهور متمرِّدين في الجبال. وكانوا يعملون، منذ مدة، على انتزاع الحكم في البلاد والسيطرة عليها. وكانوا فِرَقًا وفيالق عدة، يسطون على القرى والمداشر الآمنة ليلاً، فينهبون، ويقتلون، ويحرقون، ثم يفرون.
كان الهلع يملأ الأجواء، وكانت القرى تتنفس الخوف. ولما كان عهد هذا الخلاف قديمًا، يزيد على السبع سنين، فقد كانت الأخبار تشير إلى احتمالات صُلْح بين الأجنحة المتخاصمة لإنهاء زمن الكابوس، والرجوع إلى الاستقرار والأمن.
في هذه الأثناء كان "المفقود" قد هداه تفكيرُه إلى الانضمام إلى إحدى الفِرَق. وسرعان ما أقنعهم بضرورة وجود فرقة – ولو صغيرة – في جبل قريته. أليس موقعًا استراتيجيًّا، يزيدهم قوة على قوتهم؟ ولأنهم يعرفون تاريخ جلول المفقود ودرايته بالجبال – وخاصة جبل قريته – فقد وافقوا على إعطائه ثلاثة من الجُنْد تحت إمرته ليكوِّنوا فرقة تقوم بنشر الرعب في قرية جلول التي لم تعرف عملية سطو واحدة خلال السنين السبع الطوال.
وهكذا قام "المفقود" بأول عملية – وستكون الأخيرة: لقد فجَّر قبة الوليِّ الصالح، مستخدمًا قارورة غاز، ثم لاذ وجنودَه بالفرار. وبعد بضع ليالٍ، لمَّا وصله نبأ نزع الحراسة التي ضُرِبَتْ حول حطام القبة، وعلم برحيل السادن عنها خوفًا على عائلته وعلى نفسه، عاد المفقود متخفيًا ليلاً، فحفر مكان الكنز، وأخرج الصندوق، وحمله على ظهره خُلسة إلى مكان آمن، إلى بقعة مستوية واسعة، لا يمكن لإنسان أن يشكَّ في كونها تحوي كنزًا، ودَفَنَه هناك، ثم عاد أدراجه، ملتحقًا برفاقه في الجبل. ومن ذلك اليوم لم تعرف القرية عملية أخرى.
كانت الأنباء تصل إلى الجبل بأن الفرقاء على وشك التلاقي والتوافق والتوصل إلى حل. وكان جلول المفقود يتحرَّق شوقًا إلى يوم السلام، كي يستطيع أن يُخرِجَ كنزه المدفون الذي أهدتْه إياه العجوز اليهودية الشمطاء.
ولم تمضِ إلا بضعة أشهر حتى كان قانون عفو شامل قد صدر. وقالت الحكومة للمتمترسين في الجبال إن بإمكانهم وضعَ أسلحتهم والنزول إلى مدنهم وقراهم. فخفَّ جلول مسرعًا، ووضع سلاحه، ويمَّم وجهه شطر قريته، وبات ليلته في حوش والديه، ينتظر متلهفًا بزوغ أولى خيوط الفجر.
وما هي إلا ساعات، حتى كان جلول المفقود يقف مشدوهًا أمام الأرض الواسعة التي دفن فيها الكنز. لم يصدق ما يرى. لقد وجد أن ثكنة عسكرية ضخمة بُنِيَتْ في المكان ذاته!
*** *** ***
* ص ب: 3208، عين الشيح، الجلفة 17000؛ البريد الإلكتروني: kaderhomida@yahoo.fr.
الكنز
عبد القادر حميدة*
- مات ياكوف!
قال ذلك أحد الأصحاب المتحلِّقين حول سرير الميت. جَزَعٌ وحيرة بادية. وراح المتحلِّقون يتبادلون نظرات غاضبة بأعين جاحظة. أطْبَقَ صمتٌ مخيف على الجميع، وملأتْ المكانَ رهبةٌ وغربة. إلى أن قَطَعَها صاحبٌ ثانٍ قائلاً:
- ما كان له أن يموت قبل أن يخبرنا ماذا فعل بكلِّ ثروته الهائلة!
كان المتحلِّقون حول السرير من اليهود، وكانوا يشكِّلون شلَّة أصدقاء تتحكم في كلِّ الجالية اليهودية في تلك المنطقة. فقد كانوا أصحاب الثروة والجاه والنفوذ، لا تُعقَد صفقةٌ تجارية هامة إلا في حضورهم، ولا يتم عقدُ قران إلا بمباركتهم. يفصلون بين المتخاصمين اليهود، ويتولون أمر الميت منهم والمُصاب. كانوا ستة، أغناهم على الإطلاق ياكوف.
وكانت القرية عربية، تنام في حضن جبل عالٍ مغطى بأشجار صنوبر أبية. لا ترضى بالضيم، كريمة سخية، يسكن إليها الغريب ويأنس، وسرعان ما يندمج في أهلها، وينسى وحشته وعزلته. وكان هؤلاء اليهود قد قدموا إليها منذ قرن من الزمن وأزْيَد، فاندمجوا مع أهلها، وازدهرتْ تجارتُهم ونَمَتْ أموالُهم. مارسوا فيها طقوسهم الدينية بكلِّ حرية، بل وأنشأوا بيعة في مرتفع غرب القرية، واختلطوا بسكانها، بل وفيهم من سمَّى أولاده بأسماء عربية. وأضحت لهم، إلى جانب بيعتهم، مقبرةٌ جميلة الطراز، منظَّمة القبور.
وكانت فيهم امرأة جميلة شذَّت عن الصراط القويم في صغرها. ولما كبرت، استقدمت بضع نسوة يهوديات، واحتلت شارعًا ضيقًا مظلمًا، أشرفت فيه على ممارسة أقدم مهنة في التاريخ، وأمست قبلة لليهود من القرى المجاورة، بل وحتى من بعض الأعراب الغرباء عن القرية.
كان ياكوف، أكبر تاجر في القرية، قد جمع ثروة هائلة من تنقُّله – وهو شاب – بين القرى، يتاجر في الحليِّ النادرة. ولما بلغ أشده، أضحى صاحب أكبر مخزن في القرية والقرى المجاورة كلِّها. يعرفه الصغير والكبير، واسمُه يملأ الأسماع والأصقاع. وكانوا يتحدثون عن كنز كبير ونادر جَمَعَه، ووَضَعَه داخل صندوق مزخرف، كأنه مصنوع بأيدي الجن! وبما أنه كان عقيمًا لا ينجب فقد كان الجميع يتساءلون عن مصير ثروته، ومَن سيرثها من بعده.
وكان ياكوف على علاقة خاصة بالمومس العجوز. وقد ازدادت أواصرُ هذه العلاقة متانة بعد وفاة زوجته. وكانت أحاديث غريبة تدور حول هذه العلاقة، وأساطير تُروى عن الهدايا التي كانت تتلقَّاها تلك العجوز من ياكوف.
ولعل من بين غرائب القرية أيضًا شابٌّ عربيٌّ يسمَّى جلول، ويلقبونه في القرية بـ"المفقود": فقد كان غائبًا طوال الوقت، يتجول في الجبل المحاذي للقرية، ولا ينزل إليها إلا ليلاً. وكانت حكاياتٌ تُروى عن صراعه مع الذئاب والخنازير. كان جلول في عقده الثالث، جميل الهيئة، قوي البنية، يتيمًا، توفي والداه وهو صغير، وتركا له حوشًا به ثلاث حجرات في وسط القرية، كان يأوي إليه أحيانًا، ويقضي بعض لياليه عند أقاربه أو أقرانه. وكان لا يحب العجوز المومس، ويرى أنها أشاعت الرذيلة في القرية. ولولا حماية ياكوف وطائفة يهود لها، لكانت منذ زمن في خبر كان. فقد كان جلول يتحرَّق شوقًا إلى ترحيلها عن القرية، أو قتلها إن لزم الأمر.
وعاد بنيامين، أحد الرفاق المتحلِّقين حول الميت، يتساءل:
- أيكون فَعَلَها وأعطى الكنز كلَّه لتلك العجوز الشمطاء؟ فأجابه أحدهم:
- ربما، لأننا لم نترك مكانًا في بيته إلا وبحثنا فيه.
قال الحاخام نعوم – وكان رجل الدين في المنطقة كلِّها:
- حتى البيعة لم يتذكَّرْها بشيء... إني أطعن في تديُّن هذا الشيخ الهرم!
ثم افترق خمستُهم، وقد قرَّروا الاجتماع بعد مراسم الدفن في البيعة للتشاور في أمر التركات: المخزن والبيت والأثاث وفرس بيضاء.
- لا بدَّ من العثور على الصندوق... القرية كلُّها تتكلَّم عنه، بل ويظنون أننا اقتسمناه فيما بيننا. فهل نتحمل وزر الإشاعة فقط؟ قال بنيامين حانقًا.
فردَّ عليه الحاخام:
- بعد كلِّ البحث المضني الذي قمنا به في أثناء مرض ياكوف، لم يبقَ لديَّ أدنى شكٍّ في أن الكنز عند العجوز. يجب أن نذهب إليها، ونستنطقها. فنحن أصحابه وكبار يهود. وإن لزم الأمر أعطيناها نصيبًا منه.
كان جلول، كعادته، نازلاً إلى القرية عند غروب الشمس، حين سمع أنينًا بين أشجار الصنوبر. خفَّ مسرعًا إلى ناحية الصوت، فإذا به يجد العجوز المومس تحتضر. رفع رأسها، وكلَّمها سائلاً إياها عن الفاعل والسبب. فأخبرته أنهم كبار يهود، أصحاب ياكوف، مَن عذَّبوها ورموها في الغابة لتنهشها الذئاب، لأنها رفضت إخبارهم عن مكان الكنز. وكانت في أثناء حديثها تغيب للحظات، ثم تستفيق. و لما أدركت تمام الإدراك أن نهايتها قد حانت، قالت لجلول:
- اذهب إلى بيتي... وابحث تحت الموقد... ستجد ورقة... ذَكَرَ فيها... ياكوف... مكان... الكنز...
ثم أسلمت الروح. فقام جلول وواراها التراب، ونزل إلى القرية.
تقول الورقة التي استخرجها جلول من رماد الموقد: "الصندوق مدفون على يسار ضريح الوليِّ الصالح سيدي عبد الله."
الورقة فتحت شهية "المفقود" للاستيلاء على الكنز كلِّه. لكن المشكلة الكبرى التي صادفتْه هي استحالة الحفر داخل قبة الوليِّ الصالح. فقد كان ذا سطوة روحية على المنطقة كلِّها. ثم إن سادن الضريح يسكن وعائلته إلى جانب القبة، وله جيران. فإذا ما اقترب جلول، ولو ليلاً، فسرعان ما سيسري الخبر في القرية سريان النار في الهشيم. وهو لا يريد أن يدري أحدٌ بسرِّه هذا لأن يهود لن يتركوه، بل سيجدهم أمامه في كلِّ مكان يقصده. إنهم متفرِّقون في الأرض، وهم، على قلَّتهم، يملأون العالم! ثم إن السلطات الحكومية – إن بَلَغَها الخبر – ستعتبر هذا الكنز تراثًا، فتأخذه منه. ولذا وَجَبَ عليه التفكير في حيلة تمكِّنه من أخذ الكنز في سرِّية تامة.
كانت القلاقل السياسية وصراع السلطات فيما بينها قد أدى إلى ظهور متمرِّدين في الجبال. وكانوا يعملون، منذ مدة، على انتزاع الحكم في البلاد والسيطرة عليها. وكانوا فِرَقًا وفيالق عدة، يسطون على القرى والمداشر الآمنة ليلاً، فينهبون، ويقتلون، ويحرقون، ثم يفرون.
كان الهلع يملأ الأجواء، وكانت القرى تتنفس الخوف. ولما كان عهد هذا الخلاف قديمًا، يزيد على السبع سنين، فقد كانت الأخبار تشير إلى احتمالات صُلْح بين الأجنحة المتخاصمة لإنهاء زمن الكابوس، والرجوع إلى الاستقرار والأمن.
في هذه الأثناء كان "المفقود" قد هداه تفكيرُه إلى الانضمام إلى إحدى الفِرَق. وسرعان ما أقنعهم بضرورة وجود فرقة – ولو صغيرة – في جبل قريته. أليس موقعًا استراتيجيًّا، يزيدهم قوة على قوتهم؟ ولأنهم يعرفون تاريخ جلول المفقود ودرايته بالجبال – وخاصة جبل قريته – فقد وافقوا على إعطائه ثلاثة من الجُنْد تحت إمرته ليكوِّنوا فرقة تقوم بنشر الرعب في قرية جلول التي لم تعرف عملية سطو واحدة خلال السنين السبع الطوال.
وهكذا قام "المفقود" بأول عملية – وستكون الأخيرة: لقد فجَّر قبة الوليِّ الصالح، مستخدمًا قارورة غاز، ثم لاذ وجنودَه بالفرار. وبعد بضع ليالٍ، لمَّا وصله نبأ نزع الحراسة التي ضُرِبَتْ حول حطام القبة، وعلم برحيل السادن عنها خوفًا على عائلته وعلى نفسه، عاد المفقود متخفيًا ليلاً، فحفر مكان الكنز، وأخرج الصندوق، وحمله على ظهره خُلسة إلى مكان آمن، إلى بقعة مستوية واسعة، لا يمكن لإنسان أن يشكَّ في كونها تحوي كنزًا، ودَفَنَه هناك، ثم عاد أدراجه، ملتحقًا برفاقه في الجبل. ومن ذلك اليوم لم تعرف القرية عملية أخرى.
كانت الأنباء تصل إلى الجبل بأن الفرقاء على وشك التلاقي والتوافق والتوصل إلى حل. وكان جلول المفقود يتحرَّق شوقًا إلى يوم السلام، كي يستطيع أن يُخرِجَ كنزه المدفون الذي أهدتْه إياه العجوز اليهودية الشمطاء.
ولم تمضِ إلا بضعة أشهر حتى كان قانون عفو شامل قد صدر. وقالت الحكومة للمتمترسين في الجبال إن بإمكانهم وضعَ أسلحتهم والنزول إلى مدنهم وقراهم. فخفَّ جلول مسرعًا، ووضع سلاحه، ويمَّم وجهه شطر قريته، وبات ليلته في حوش والديه، ينتظر متلهفًا بزوغ أولى خيوط الفجر.
وما هي إلا ساعات، حتى كان جلول المفقود يقف مشدوهًا أمام الأرض الواسعة التي دفن فيها الكنز. لم يصدق ما يرى. لقد وجد أن ثكنة عسكرية ضخمة بُنِيَتْ في المكان ذاته!