قراءة و تعليق وزير التربية الأسبق الدكتور علي ين محمد
تحدث الدكتور عبد الحميد عباسي عن خلفيات الإستيطان الفرنسي في الجزائر في كتابه الجديد "استقلال لم يكتمل.. أو حين تتمادى فرنسا في فرض وصايتها الأبدية على الجزائر"، و ما تميز به من ظلم و استعباد وتعذيب و قتل لكن الشعب تمكن من تحقيق الإستقلال ، غير أنه ير أن هذا الاستقلال غير مكتمل في الكثير من مضامينه ومعانيه ، ففرنسا حين تأكد لها أنها خسرت الحرب، وأن الجزائر ستخرج من قبضتها لا محالة تركت وراءها عملاء كونتهم ودربتهم وربطت مصيرهم بمصيرها ليحلوا محلها و يحفظوا مصالحها ويكونوا عيونا لها في الجزائر، ما مكنها من الإستمرار في فرض وصايتها على الجزائر
الكتاب يضم خمسة محاور هي عبارة عن مقالات سياسية و تاريخية جمعها الكاتب، و ركز فيها على أهمية اللغة والهوية الوطنية و دور الجامعة و المنظومة التربويىة، دون أن ينسى المحور الخاص بالوضع الإقتصادي و الإجتماعي في الجزائر، و قد تنازل وزير التربية الأسبق علي بن محمد بقراءة و تعليق للكتاب جاءت تحت عنوان: "نوفمبر..والهوية": قال فيها أن نوفمبر هو الأصل وما عداه طارئ، واستـثنائيّ، وعابر، و لا يمكن أن تغيب قِـيَم نوفمبر، ودلالاته الرمزية، عـن معظم المقالات التي أوردها الأستاذ عـبد الحميد عباسي ومع ذلك، نراه أبى إلا أن يخُصّ "سيد الـشهـور"، كما يسميه، بـمقـالـة أخرى، في المحور السابق نفسه، وقد جعل عنوانها" "دروس من ملحمة نوفمبر"، وهي صادرة في أجواء نوفمبـر 1997، وهـو يبدو فـيها طافح الأمل، متوثب النشاط، يغمره التفاؤل بما يحمله نوفمبر، ذلك العام، للشعب الجزائري الذي بـدا له، أنه "بـعـد انقضاء أكثر من أربعة عـقود على اندلاع الثورة المباركة، ما زال يرى في وَهَـج نوفمبر، ومبادئ نوفمـبـر، وأفكار نوفمـبر، وفي المخلصين من رجـال نوفمبر، ما يجمع شمله،( شمل الشعب)، ويفرّج كُرْبَـتَه، ويوحِّد كلمته، ويُـقَوي عزيمته"، و يدافع علي بن محمد في مقدمة هذا الكتاب عن مواقف اليامين زروال بعد تجميده "قـانـون تعميم استـعـمال اللغة العربية"، حيث وصفها بالنكسة، وما أصاب التيار الوطني ـ القومي من إحباط بانتصار الأقلية التغريـبـية فـي إحدى معارك الهوية الحاسمة، وهو ما قد يفسر الاهتمام المتزايد بالدفاع عن الهوية والذاكرة التاريخية.
ويوضح علي بن محمد أن فترة الرئيس زروال لم تشهد أية حرب على ثوابت الهوية. ولم تقع فيها أية ردة من النوع الذي ستعرفه الحقب اللاحقة. وإن كانت قد لاحت في الآفاق المدرسية، مُـنْـذُئِـذٍ، زَوْبَعةٌ لم يَـقرأ الحكام طبيعتها، وتبعاتها، قراءة صحيحة. وظنوها "سحابةَ صَيْفٍ عنْ قريـبٍ تَـقَـشَّعُ". وقد تنبأ العارفـون بأحوالها، منذ عَجاجـها الأول، بما في بطنها من أفاع. وجَـزَمُوا بأن العجاجة المقبلة لن تَضْعُـفَ ولن تَـخِفَّ. وحذّروا، مُـبَكّـرًا، من أن المُبَرْمَج لها، برعاية خبراء العواصف، هو أن تَغـدوَ، ذات يوم، إعصارا عاتيا، يقتلع الجذور، فإذا كان خارجا عن موضوع هذه الفقرات أن نُفَـصِّل كثيرا في مدلولات هذه المقالات التي توقفنا عند خريطتها الزمنية، فإننا نريد أن نقـف عند أهم ملامح ما نُشر منها في فـترة الرئيس لمين زروال؛ ثم في فترة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وقد توقفنا عند ظاهرة تَخُص معظم مقالات الحقبة الزروالية بمحور الهوية والذاكرة الثورية بكل وضوح. بينما كانت مقالات الحقبة البوتفليقية يسيطر عليها محور السلم والمصالحة. وتلك ظاهرة لابد أن تَـسْتَـلْفِت القارئ المتأني. فإنّ الَّلغَط الأكبر حول الهوية واللغة العربية إنما وقع زمنَ بوتفليقة.
و يضيف في قراءته أن المؤلف يُـصِرّ على فكرة أن "الـشعب الجزائري"، هكذا، بأسلوب التعميم نفسه، "ما زال يرى في وَهَـج نوفمبر، ومبادئ نوفمبر، وأفكار نوفمبر، وفي المخلصين من رجال نوفمبر، ما يجمع شمله الخ..." ثم يـؤكد هـذا اليقين الذي لديه، في عمومية الإيمان وشُموليته، باستمرارِ الانحـيازِ الشعبيّ الصريح إلـى ما سماه" وَهجَ نوفـمبر". ويؤكده بكل قوة حين يَجْزِم، بثـقـةٍ عالية، "أنـه لا (يـَـ)عْـتـقـد أنه يوجد، في الجزائر اليوم، من يرى في نوفمبر غير هذا الرأي..."! ثم يشعر بأنه في حاجة ماسة إلى تخفيف ذلك الحكم الـصارم، فيورد بعضا من عناصر المعاني الكفيلة بتعديله، وإدخال شيء من النسبيَّة فيه، فيقول: "صحيح أن رسالة نوفمبر لم تكتمل بعد، وأن تحقيق الكثير من أهداف الثورة ومكتسباتها مازال في بداية الطريق،، خصوصا، ونحن نرى اليوم، أن بعض هذه المكتسبات التي تحـقـقـت بفـضل نوفمبر قد أضحت هـدفا لسهام أعداء نوفمبر،وأن الحُلم الجميل الذي أنتجته الثورة ، وخلاصة القول في هذه النقطة، أن البعد اللغوي في أية هوية هو الإسمنت الذي يربط في ما بين أجزائها، ويجمع بين عناصرها، كيفما كان تنوعها وتعددها. و لذا على النخبة أن تعكف على دراسة حالة الجزائر التي حباها الله لغة، يعترف كل من درسها، وتعمّق في فهم أساليبها، بأنها من أرقى لغات الأرض، المكتملة العُدّة، الجاهزة للتطور والتلاِؤم مع أدق الأوضاع العلمية. وتاريخُها الزاهر شاهد على ذلك وهو الذي يرشحها اليوم بقوة، وبجدارة، لاستعادة مكانتها العالمية، التي كانت لها في السابق، حين كانت الأداةَ العالمية الأولى للتعبير عـن أرقـى العلوم الـبشرية وأدق المشاعر الإنسانية، وأعْـقد المفاهيم الفلسفية، ولكن الشواذ من أبنائها المزعومين، ما فَـتِـئُوا يرمونها بالعاهات التي هي أصلا في نـفوسهم.
يستشهد علي بن محمد بموقف الرئيس الفرنسي (فرانسوا هولند) حينما أخبر شعبه بأنه لن يترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة، واغتنم الفرصة لتقديم حصيلة أولية لما أنْجِـز في عهده، فـشـده القولُ في مَعرِض كلامه عما اتخذه من الإجراءات، والتدابير القانونية، لمحاربة الإرهاب، قال موضحا علة تلك التدابير: "سندافع عن ثقافتنا، وعن نمط حياتنا الذي لن نغيره"، وعندنا، في الجزائر المحروسة، نسمع من المتنطعين، والمتطفلين على الإعلام، والساعين إلى هدم أسس وحدة البلاد، بكل ما أوتُوا من جهد، وما حصلوا عليه من تأييد الأعداء... نسمعهم يبشروننا بمناسبة، وبغير مناسبة، وهم في سعادة غامرة... "بأن بلادنا موزاييك ـ فسيفساء ـ ثقافات" وأنه " من حظها أن فيها هذا التنوع والتعدد في اللغات والثقافات"؟! وهم أعجز مِن أن يَجدوا فـرقا بين الفلكلور، أو بلغـة العوام "الشطيح والرديح"، وبين سُمُوّ الثقافة الأصيلة لـكل شعب وأمة، والتي فيها روحُه وخلاصة إبداعاته، وعبقريتُه التي كيفت وجوده في الزمان والمكان، و في خضم هذه القراءة يضع علي بن محمد نظرية القابلية للإستعمار لمالك بن نبي تحت المجهر إذ يقول : حيث ما يوجد استعمار، توجد قابلية الحُكّام لقبوله، والعمل معه، والسماح له بالتدخل والهيمنة؛ لا بل تَـدعـوه صراحةً لبسط النفوذ، والتدخل في أخص أمورها بها! لأن مصالح الحكام كثيرا ما تندرج، بل تذوب، في مصالح أولئك المهيمنين. ومِـنْ هنا تتحقق نظرية مالك بن نبي. وأحرى بالذين يَألـمُون من هيمنة الأجنبي عليهم، ويَضِجّون من صَوْلته في وطنهم، أن يحاربوا، بجـدية، ما في نفوس، وما في عقول نُخَبهم المستلبة، من بذور "قابلية الاستعمار"، النامية لديهم، الضاربة بجذورها فيهم. فهم، في كل بلد، لْقَطاءُ الوطن، أيتامُ ثقافتهم الوطنية. أفئدتهم مخازنُ الـوَباء القاتل.
و بالعودة إلى مضمون الكتاب، فقد انطلق لدكتور عبد الحميد عباسي من أحداث أكتوبر 1988 االتي تسمت بالإضطراب و الفوضى ، مثّلت أحداثه تاريخا فاصلا ،في مسار البلاد الأمني و السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي ،إلا أن الدارسون كانوا أشد اختلافا بشأن تقييم الأحداث التي جرت في ذلك اليوم الخريفي الكئيب. فمنهم من اعتبرها انتفاضة شعبية هدفها إسقاط النظام وتغييره ، أو محاولة إصلاحه على الأقل ، كما هو الحال بالنسبة للتيارات الراديكالية عامة ، من اليمين إلى اليسار، بما في ذلك القوى ذات النزعة التغريبية،ومنهم من اعتبرها انتكاسةً مدمِّرة، ونقطة تحول حالكة السواد ،ومشروعا تآمريا خطيرا ،هدفه ضرب التوجه الوطني للبلاد ،وترسيخ سياسة الإقصاء والإلغاء ، والقضاء على مبادئ و قيم ثورة نوفمبر 54 .. وأن " الذين خططوا لأحداث الخامس من أكتوبر ،فعلوا ذلك حتى يجرِّدوا ثورة نوفمبر من نبلها وقداستها" كما هو الحال لدى جمهور التيار الوطني ، وفي طليعته أبناء الأسرة الثورية، ثم ينتقل إلى الأحداث الأخيرة التي تعيشه الجزائر في إطا ما يسمى بالحراك الشعبي، مركزا أساسا على مسألة التدخل الفرنسي في شؤون الجزائر الداخلية في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس بوتفليقة و اتساع مجالها ، وزاد من تفاقم هذا الوضع وتعقيده أكثر مرض الرئيس وغيابه أو تغييبه عن تسيير شؤون البلاد لفترة طويلة أدت إلى ترهل مؤسسات الدولة وتعدد مصادر القرار فيها، لولا تدخل الجيش .
المتأمل في الكتاب أن مؤلفه يقدم صورة تعكس لما تطرق إليه من قبل بخصوص عدم تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية للبلاد، ندما قال: "إن اضطلاعنا بالدفاع عن بلدنا و سيادته واستقلال قراره ،انسجاما مع خصوصيتنا الحضارية ،ووفاء لرسالة أسلافنا الأمجاد ،وإرث الآباء والأجداد، لا يعني أبدا أننا نعادي الشعب الفرنسي، أو الدولة الفرنسية ، أو ندعو إلى مقاطعتهما وعدم التعامل معهما في شتى الحقول والمجالات، بل ما ندعو إليه حقيقة، ونناضل من أجله اليوم وغدا ،وسنظل ننادي بأعلى أصواتنا إلى تحقيقه حتى ينقطع النفس، هو إقامة علاقات متنوعة و متوازنة مع فرنسا ، قائمة على الندّية و الاحترام وتبادل المنافع والمصالح، فنحن لا نريد من هذه الدولة أكثر من أن يكون سلوكها معنا سلوكا لائقا بمستوى ما تحب أن يعاملها به الآخرون ، فتحترم لغتنا وهويتنا مثلما ترغب أن تُحترم به لغتها وثقافتها من قِبل الآخـرين ،دون أن نسمح لها بمعاملتنا وفق النظرة الاستعلائية الاستعمارية القديمة ،بفرض إرادتها ،وبسط وصايتها ،وتماديها في التدخل السافر في شؤوننا الداخلية ، فدفاعنا عن لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وسيادتنا ووحدة بلدنا، هو حق طبيعي مشروع لنا تكفله الأعراف، وتحميه قوانين الأرض والسماء ، ولا ينبغي أن يُفهم ذلك بأي حال من الأحوال على أنه دعوة إلى التقوقع والانطواء على الذات ،أو اتخاذ مواقف ما من اللغة والثقافة الفرنسيتين ، بل إننا ندعو ونلح في الدعوة إلى اعتبار اللغة الفرنسية في الجزائر لغة أجنبية مثلها مثل سائر اللغات الأخرى ،دون تمييز أو تفضيل.).
علجية عيش
تحدث الدكتور عبد الحميد عباسي عن خلفيات الإستيطان الفرنسي في الجزائر في كتابه الجديد "استقلال لم يكتمل.. أو حين تتمادى فرنسا في فرض وصايتها الأبدية على الجزائر"، و ما تميز به من ظلم و استعباد وتعذيب و قتل لكن الشعب تمكن من تحقيق الإستقلال ، غير أنه ير أن هذا الاستقلال غير مكتمل في الكثير من مضامينه ومعانيه ، ففرنسا حين تأكد لها أنها خسرت الحرب، وأن الجزائر ستخرج من قبضتها لا محالة تركت وراءها عملاء كونتهم ودربتهم وربطت مصيرهم بمصيرها ليحلوا محلها و يحفظوا مصالحها ويكونوا عيونا لها في الجزائر، ما مكنها من الإستمرار في فرض وصايتها على الجزائر
الكتاب يضم خمسة محاور هي عبارة عن مقالات سياسية و تاريخية جمعها الكاتب، و ركز فيها على أهمية اللغة والهوية الوطنية و دور الجامعة و المنظومة التربويىة، دون أن ينسى المحور الخاص بالوضع الإقتصادي و الإجتماعي في الجزائر، و قد تنازل وزير التربية الأسبق علي بن محمد بقراءة و تعليق للكتاب جاءت تحت عنوان: "نوفمبر..والهوية": قال فيها أن نوفمبر هو الأصل وما عداه طارئ، واستـثنائيّ، وعابر، و لا يمكن أن تغيب قِـيَم نوفمبر، ودلالاته الرمزية، عـن معظم المقالات التي أوردها الأستاذ عـبد الحميد عباسي ومع ذلك، نراه أبى إلا أن يخُصّ "سيد الـشهـور"، كما يسميه، بـمقـالـة أخرى، في المحور السابق نفسه، وقد جعل عنوانها" "دروس من ملحمة نوفمبر"، وهي صادرة في أجواء نوفمبـر 1997، وهـو يبدو فـيها طافح الأمل، متوثب النشاط، يغمره التفاؤل بما يحمله نوفمبر، ذلك العام، للشعب الجزائري الذي بـدا له، أنه "بـعـد انقضاء أكثر من أربعة عـقود على اندلاع الثورة المباركة، ما زال يرى في وَهَـج نوفمبر، ومبادئ نوفمـبـر، وأفكار نوفمـبر، وفي المخلصين من رجـال نوفمبر، ما يجمع شمله،( شمل الشعب)، ويفرّج كُرْبَـتَه، ويوحِّد كلمته، ويُـقَوي عزيمته"، و يدافع علي بن محمد في مقدمة هذا الكتاب عن مواقف اليامين زروال بعد تجميده "قـانـون تعميم استـعـمال اللغة العربية"، حيث وصفها بالنكسة، وما أصاب التيار الوطني ـ القومي من إحباط بانتصار الأقلية التغريـبـية فـي إحدى معارك الهوية الحاسمة، وهو ما قد يفسر الاهتمام المتزايد بالدفاع عن الهوية والذاكرة التاريخية.
ويوضح علي بن محمد أن فترة الرئيس زروال لم تشهد أية حرب على ثوابت الهوية. ولم تقع فيها أية ردة من النوع الذي ستعرفه الحقب اللاحقة. وإن كانت قد لاحت في الآفاق المدرسية، مُـنْـذُئِـذٍ، زَوْبَعةٌ لم يَـقرأ الحكام طبيعتها، وتبعاتها، قراءة صحيحة. وظنوها "سحابةَ صَيْفٍ عنْ قريـبٍ تَـقَـشَّعُ". وقد تنبأ العارفـون بأحوالها، منذ عَجاجـها الأول، بما في بطنها من أفاع. وجَـزَمُوا بأن العجاجة المقبلة لن تَضْعُـفَ ولن تَـخِفَّ. وحذّروا، مُـبَكّـرًا، من أن المُبَرْمَج لها، برعاية خبراء العواصف، هو أن تَغـدوَ، ذات يوم، إعصارا عاتيا، يقتلع الجذور، فإذا كان خارجا عن موضوع هذه الفقرات أن نُفَـصِّل كثيرا في مدلولات هذه المقالات التي توقفنا عند خريطتها الزمنية، فإننا نريد أن نقـف عند أهم ملامح ما نُشر منها في فـترة الرئيس لمين زروال؛ ثم في فترة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وقد توقفنا عند ظاهرة تَخُص معظم مقالات الحقبة الزروالية بمحور الهوية والذاكرة الثورية بكل وضوح. بينما كانت مقالات الحقبة البوتفليقية يسيطر عليها محور السلم والمصالحة. وتلك ظاهرة لابد أن تَـسْتَـلْفِت القارئ المتأني. فإنّ الَّلغَط الأكبر حول الهوية واللغة العربية إنما وقع زمنَ بوتفليقة.
و يضيف في قراءته أن المؤلف يُـصِرّ على فكرة أن "الـشعب الجزائري"، هكذا، بأسلوب التعميم نفسه، "ما زال يرى في وَهَـج نوفمبر، ومبادئ نوفمبر، وأفكار نوفمبر، وفي المخلصين من رجال نوفمبر، ما يجمع شمله الخ..." ثم يـؤكد هـذا اليقين الذي لديه، في عمومية الإيمان وشُموليته، باستمرارِ الانحـيازِ الشعبيّ الصريح إلـى ما سماه" وَهجَ نوفـمبر". ويؤكده بكل قوة حين يَجْزِم، بثـقـةٍ عالية، "أنـه لا (يـَـ)عْـتـقـد أنه يوجد، في الجزائر اليوم، من يرى في نوفمبر غير هذا الرأي..."! ثم يشعر بأنه في حاجة ماسة إلى تخفيف ذلك الحكم الـصارم، فيورد بعضا من عناصر المعاني الكفيلة بتعديله، وإدخال شيء من النسبيَّة فيه، فيقول: "صحيح أن رسالة نوفمبر لم تكتمل بعد، وأن تحقيق الكثير من أهداف الثورة ومكتسباتها مازال في بداية الطريق،، خصوصا، ونحن نرى اليوم، أن بعض هذه المكتسبات التي تحـقـقـت بفـضل نوفمبر قد أضحت هـدفا لسهام أعداء نوفمبر،وأن الحُلم الجميل الذي أنتجته الثورة ، وخلاصة القول في هذه النقطة، أن البعد اللغوي في أية هوية هو الإسمنت الذي يربط في ما بين أجزائها، ويجمع بين عناصرها، كيفما كان تنوعها وتعددها. و لذا على النخبة أن تعكف على دراسة حالة الجزائر التي حباها الله لغة، يعترف كل من درسها، وتعمّق في فهم أساليبها، بأنها من أرقى لغات الأرض، المكتملة العُدّة، الجاهزة للتطور والتلاِؤم مع أدق الأوضاع العلمية. وتاريخُها الزاهر شاهد على ذلك وهو الذي يرشحها اليوم بقوة، وبجدارة، لاستعادة مكانتها العالمية، التي كانت لها في السابق، حين كانت الأداةَ العالمية الأولى للتعبير عـن أرقـى العلوم الـبشرية وأدق المشاعر الإنسانية، وأعْـقد المفاهيم الفلسفية، ولكن الشواذ من أبنائها المزعومين، ما فَـتِـئُوا يرمونها بالعاهات التي هي أصلا في نـفوسهم.
يستشهد علي بن محمد بموقف الرئيس الفرنسي (فرانسوا هولند) حينما أخبر شعبه بأنه لن يترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة، واغتنم الفرصة لتقديم حصيلة أولية لما أنْجِـز في عهده، فـشـده القولُ في مَعرِض كلامه عما اتخذه من الإجراءات، والتدابير القانونية، لمحاربة الإرهاب، قال موضحا علة تلك التدابير: "سندافع عن ثقافتنا، وعن نمط حياتنا الذي لن نغيره"، وعندنا، في الجزائر المحروسة، نسمع من المتنطعين، والمتطفلين على الإعلام، والساعين إلى هدم أسس وحدة البلاد، بكل ما أوتُوا من جهد، وما حصلوا عليه من تأييد الأعداء... نسمعهم يبشروننا بمناسبة، وبغير مناسبة، وهم في سعادة غامرة... "بأن بلادنا موزاييك ـ فسيفساء ـ ثقافات" وأنه " من حظها أن فيها هذا التنوع والتعدد في اللغات والثقافات"؟! وهم أعجز مِن أن يَجدوا فـرقا بين الفلكلور، أو بلغـة العوام "الشطيح والرديح"، وبين سُمُوّ الثقافة الأصيلة لـكل شعب وأمة، والتي فيها روحُه وخلاصة إبداعاته، وعبقريتُه التي كيفت وجوده في الزمان والمكان، و في خضم هذه القراءة يضع علي بن محمد نظرية القابلية للإستعمار لمالك بن نبي تحت المجهر إذ يقول : حيث ما يوجد استعمار، توجد قابلية الحُكّام لقبوله، والعمل معه، والسماح له بالتدخل والهيمنة؛ لا بل تَـدعـوه صراحةً لبسط النفوذ، والتدخل في أخص أمورها بها! لأن مصالح الحكام كثيرا ما تندرج، بل تذوب، في مصالح أولئك المهيمنين. ومِـنْ هنا تتحقق نظرية مالك بن نبي. وأحرى بالذين يَألـمُون من هيمنة الأجنبي عليهم، ويَضِجّون من صَوْلته في وطنهم، أن يحاربوا، بجـدية، ما في نفوس، وما في عقول نُخَبهم المستلبة، من بذور "قابلية الاستعمار"، النامية لديهم، الضاربة بجذورها فيهم. فهم، في كل بلد، لْقَطاءُ الوطن، أيتامُ ثقافتهم الوطنية. أفئدتهم مخازنُ الـوَباء القاتل.
و بالعودة إلى مضمون الكتاب، فقد انطلق لدكتور عبد الحميد عباسي من أحداث أكتوبر 1988 االتي تسمت بالإضطراب و الفوضى ، مثّلت أحداثه تاريخا فاصلا ،في مسار البلاد الأمني و السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي ،إلا أن الدارسون كانوا أشد اختلافا بشأن تقييم الأحداث التي جرت في ذلك اليوم الخريفي الكئيب. فمنهم من اعتبرها انتفاضة شعبية هدفها إسقاط النظام وتغييره ، أو محاولة إصلاحه على الأقل ، كما هو الحال بالنسبة للتيارات الراديكالية عامة ، من اليمين إلى اليسار، بما في ذلك القوى ذات النزعة التغريبية،ومنهم من اعتبرها انتكاسةً مدمِّرة، ونقطة تحول حالكة السواد ،ومشروعا تآمريا خطيرا ،هدفه ضرب التوجه الوطني للبلاد ،وترسيخ سياسة الإقصاء والإلغاء ، والقضاء على مبادئ و قيم ثورة نوفمبر 54 .. وأن " الذين خططوا لأحداث الخامس من أكتوبر ،فعلوا ذلك حتى يجرِّدوا ثورة نوفمبر من نبلها وقداستها" كما هو الحال لدى جمهور التيار الوطني ، وفي طليعته أبناء الأسرة الثورية، ثم ينتقل إلى الأحداث الأخيرة التي تعيشه الجزائر في إطا ما يسمى بالحراك الشعبي، مركزا أساسا على مسألة التدخل الفرنسي في شؤون الجزائر الداخلية في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس بوتفليقة و اتساع مجالها ، وزاد من تفاقم هذا الوضع وتعقيده أكثر مرض الرئيس وغيابه أو تغييبه عن تسيير شؤون البلاد لفترة طويلة أدت إلى ترهل مؤسسات الدولة وتعدد مصادر القرار فيها، لولا تدخل الجيش .
المتأمل في الكتاب أن مؤلفه يقدم صورة تعكس لما تطرق إليه من قبل بخصوص عدم تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية للبلاد، ندما قال: "إن اضطلاعنا بالدفاع عن بلدنا و سيادته واستقلال قراره ،انسجاما مع خصوصيتنا الحضارية ،ووفاء لرسالة أسلافنا الأمجاد ،وإرث الآباء والأجداد، لا يعني أبدا أننا نعادي الشعب الفرنسي، أو الدولة الفرنسية ، أو ندعو إلى مقاطعتهما وعدم التعامل معهما في شتى الحقول والمجالات، بل ما ندعو إليه حقيقة، ونناضل من أجله اليوم وغدا ،وسنظل ننادي بأعلى أصواتنا إلى تحقيقه حتى ينقطع النفس، هو إقامة علاقات متنوعة و متوازنة مع فرنسا ، قائمة على الندّية و الاحترام وتبادل المنافع والمصالح، فنحن لا نريد من هذه الدولة أكثر من أن يكون سلوكها معنا سلوكا لائقا بمستوى ما تحب أن يعاملها به الآخرون ، فتحترم لغتنا وهويتنا مثلما ترغب أن تُحترم به لغتها وثقافتها من قِبل الآخـرين ،دون أن نسمح لها بمعاملتنا وفق النظرة الاستعلائية الاستعمارية القديمة ،بفرض إرادتها ،وبسط وصايتها ،وتماديها في التدخل السافر في شؤوننا الداخلية ، فدفاعنا عن لغتنا وثقافتنا وتاريخنا وسيادتنا ووحدة بلدنا، هو حق طبيعي مشروع لنا تكفله الأعراف، وتحميه قوانين الأرض والسماء ، ولا ينبغي أن يُفهم ذلك بأي حال من الأحوال على أنه دعوة إلى التقوقع والانطواء على الذات ،أو اتخاذ مواقف ما من اللغة والثقافة الفرنسيتين ، بل إننا ندعو ونلح في الدعوة إلى اعتبار اللغة الفرنسية في الجزائر لغة أجنبية مثلها مثل سائر اللغات الأخرى ،دون تمييز أو تفضيل.).
علجية عيش