"أرسِلي ذكرياتك بالبريد، إذا كنت تودين المرور بأقانيم مطارحاتنا الغرامية التي كنَّا نزاولها متشابكين فوق الحائط."
قرأ هذه الكلمات تحت صورة معلَّقة على الجدار، قبل أن يوقد شمعة عوضًا عن مصباح الغرفة. نظر إلى الزوايا التي بقيت متشحة بانعدام الوضوح. فكَّر باستبدال مصابيح الساحة التي يقطنها منذ أربعة شهور خَلَتْ بغيرها، من تحت قبعات مصابيح الأعمدة المتناثرة هنا وهناك فحسب، كي لا تبدو على ما هي عليه في الوقت الحاضر. بيد أن ما ساوَرَه من أحاسيس خفيَّة بالتغيير هو غَرْسُ شموع تخرُّ أضواؤها أو تشهق مع شهقات الأجساد المتراخية على الأرائك، المنزوية تحت أفياء الأشجار وظلالها الوارفة.
أغرتْه الفكرة، فاستحوذتْ على تصوراته خواطرُ تحويلية للأشياء والخروج عمَّا هو مألوف ومؤثَّث بحسب القياسات والقوانين الهندسية التي تشاد على أساسها المدنُ وتُشَقُّ الطُّرُقُ بحسب ما ترتئيه، دون أيِّ اعتبار لآراء مَن سيسكنونها. أخذ يكوِّن الأشياء بحسب ما تبدو في أحلامه، نابذًا جلَّ المعقولات التي تسيِّر حياةَ المدينة في يسر وانتظام. لم يجد أية غضاضة في الانقياد إلى تخيلاته التي يرى الآخرون بأنها محض أضغاث وتخيلات طوباوية، غير مقدِّرة لجماليات المكان، أو لا تعدو كونها فرضيات تنبذ السائد دون ثمن أو بديل، تبحث عن المتغيِّر وعن إرساء المعقول في اللامعقول، لخَلْق جدل غير متناهٍ حول شكل الأشياء وتشكُّلها، إذ تختلط أحلام الطفولة بتهيؤات الكِبَر، فتتدفق الأشياء بصورة لا تخلو من العبث، حيث يتحول الظل الخاطف إلى وحش هلامي تحمله غيمة قاتمة، وساق الشجرة تنقلب إلى هراوة. وهذا الحيِّز الأخير قد يستميل مخيِّلة الطفولة لنَسْج ارتيابها من ارتجاج شجرة أو تجمُّع غيمة. القمر رأس الحرامي، والنجوم عيناه، وخشخشة أوراق الأشجار كلماته المبهمة. كانت هذه كلمات جدَّتي قبل النوم – "المسامير عظام" – ألم يتخيل ذلك شابلن في غمرة الجوع؟!
- الخيال هو الصانع الحقيقي للأشياء.
- لا أتفق مع العقل إلا بفعل الإرادة... (هذا ما كان يعتقده ضميري من قبل.) لم يَحِنِ الوقت لاستبدال عظة بالقبلة. ومن غير الممكن الاكتفاء بالحوارات الباطنية لِلَصْق شعار معقول على شفة إنسان حالم. أريد أن أسوق بعض الأمثلة إلى المنهمكين – مثلي – بعبث الخيال: تفكَّروا في النجاح الذي أحدَثَه قبحُ الضفدعة التي تحولت إلى "فولكس فاغن" تسير دون لهاث، ودون أيِّ ظمأ، والطير إلى طائرة، والبطة إلى سفينة، وقضيب الرجل إلى صاروخ أو منارة (بحسب فرويد). ضوء السيارة عينا إنسان تغمزان عند الضرورة. الآلة وأعضاؤها المتحركة والمتحسِّسة أيضًا. الفرامل تزعق بعد الضغط عليها بشدة، وكأنها تغضب أو ترفض الإهانة! الإنسان صانع البدائل، يتداولها وهو يشاهد التلفاز، وبمجرَّد إتيانها، يضغط على ريموت كونترول التنفيذ (العقل)، فتصير "مودرن" يغزو الأسواق. هكذا تستعر لعبة التصاميم لخَرْقِ العادة. الجسد الإيطالي الجميل المتمثِّل خارطتَها يتحول، في لحظة خيال شاذة في دماغ مصمِّم، إلى جزمة، نرتديها فيما بعد في الطرق الموحلة والمناطق المغمورة بالمياه الآسنة وغير الآسنة. استعاضوا بالباروكات عن الشعر الطبيعي. لعبة مصمِّمين. خيالهم يدرُّ ربحًا خياليًّا. فان غوخ جسَّد زهرة عباد الشمس بألوانها. كم بلغ سعرها في آخر مزاد عُرِضَتْ فيه؟
- ملايين نسيت عددها!
- أصابع فان غوخ كان لها الدور الأشمل في تحويل الزهرة الحية إلى أخرى متيقِّظة في تراخٍ على القماش.
- أين لحظة التخيل التي حولت الهواء إلى حقيقة؟ ليس في مقدور الأصابع أن تمسك بتلابيب الهواء. الأصابع روافع شوكية لا تخلو من الحسِّية العادية، واليد أداة مادية ليس في إمكانها أن تتعامل خارج ما هو مادي. الأصابع أداة، والأقدام عجلات اليد تقتل، والأقدام وسيلة للهرب. أعضاء الجسد تتواطأ لإخفاء الرذائل. لنأخذ وظيفة أكثر سموًّا للأصابع – تحديدًا أصابع قائد الأوركسترا الذي يستعين بالعصا في يد وأصابع اليد الأخرى من أجل قراءة موسيقية متوافقة مع حركة الموسيقيين، لأنه هو الهادي الوحيد في غابة الحروف وتشابُك الأوتار.
- في هذا الحيِّز أخذت الأصابع طابع اللسان. ليس بإمكان أحد ما أن يقلِّل من شأن أيِّ عنصر أو عضو من أعضاء الجسم البشري، لكن الأدوار والأولويات تختلف. الفم والمؤخرة – لا بدَّ من الاستدلال بهذا، على الرغم من السالب والموجب، يتجسدان هاهنا في صورة بشعة.
- عندما تصدح الموسيقى يكاد الجسد أن يحترق، أو تُعطَبُ أجزاء كثيرة منه، وهي تتناوب مفتعلةً شلالاً هادرًا متمردًا على طابع اليأس والكسل. (هذه أفعال خيالية: الكتابة، صنع الآلات، المقاعد، خياطة بدلات العازفين ودَوْزَنَة أوتارهم.) التصميم نزوع الخيال إلى البحث. خُذْ، مثلاً، التصاميم الإلهية التي تتخذ طابع التنوع وفرادتَه سمةً لها – وأكثر هذه التصاميم فرادةً الإنسانُ الذي يمتاز عن غيره بإدارة تبديد الغرائز.
- الغرائز الإلهية لا تنطوي على عملية الخلق فحسب، وإنما تتعدَّاها إلى الموت وثنائيات الموجودات. فما هي علاقة المرأة والرجل، الليل والنهار، الشمس إزاء القمر؟ القمر نقيضُه الظلام، والمرأة أليفُها الرجل. البحر مياه مالحة، والنهر مياه عذبة. البحر رجل جَلِفٌ، والنهر امرأة فاتنة. الشمس تبعث على الضجر، والقمر يبعث على الحلم. لسان، أذنان، يدان، قدمان، قضيب، مؤخرة. لسان ينطق، أذن تسترق السمع. العيون تصوِّر، والخيال يؤفلم ويؤرشف. الفم يتناول، والمؤخرة [...].
- دعنا في أروقة الروح، لا في زوايا الجسد. لكن ما هو شعور الأعمى في خضمِّ هذا كلِّه؟ – شعوره الطاغي في تخيل النهد والرسم بألوان الرماد. أو قُلْ إن روحه في سبات دائم للبحث عن المجهول في اللذة. تُرى أية غواية تجعل الله يذرف كلَّ هذا السيل من الألوان والرغبة في بثِّ الأرواح، وقتلها فيما بعد؟! خَلْق وتدمير (عبث). من غير الممكن ولوج غائيَّته ومعرفة دوافعه في ظلِّ الإتلاف المطَّرد للموجودات، مهما كانت أساليبُ الاستلهام التي من الممكن استخلاصها من عالم الوهم وصياغتها بخيال عابث، يستجلب أشباحه للحصول على قسط معقول من الفرضيات المريحة.
تذكَّر نتفًا من تلك الحوارات التي دارت في ذاته، والتي أضحى كنهُها مبهمًا، آخذًا في التبدد شيئًا فشيئًا مع ضوء الشمعة الذي خبا، مستسلمًا إلى ستارة الظلام وهي تُسدِل لونها الذي عمَّ أرجاء الغرفة مع انسكاب آخر خفقات الضوء.
* كاتب من العراق.
قرأ هذه الكلمات تحت صورة معلَّقة على الجدار، قبل أن يوقد شمعة عوضًا عن مصباح الغرفة. نظر إلى الزوايا التي بقيت متشحة بانعدام الوضوح. فكَّر باستبدال مصابيح الساحة التي يقطنها منذ أربعة شهور خَلَتْ بغيرها، من تحت قبعات مصابيح الأعمدة المتناثرة هنا وهناك فحسب، كي لا تبدو على ما هي عليه في الوقت الحاضر. بيد أن ما ساوَرَه من أحاسيس خفيَّة بالتغيير هو غَرْسُ شموع تخرُّ أضواؤها أو تشهق مع شهقات الأجساد المتراخية على الأرائك، المنزوية تحت أفياء الأشجار وظلالها الوارفة.
أغرتْه الفكرة، فاستحوذتْ على تصوراته خواطرُ تحويلية للأشياء والخروج عمَّا هو مألوف ومؤثَّث بحسب القياسات والقوانين الهندسية التي تشاد على أساسها المدنُ وتُشَقُّ الطُّرُقُ بحسب ما ترتئيه، دون أيِّ اعتبار لآراء مَن سيسكنونها. أخذ يكوِّن الأشياء بحسب ما تبدو في أحلامه، نابذًا جلَّ المعقولات التي تسيِّر حياةَ المدينة في يسر وانتظام. لم يجد أية غضاضة في الانقياد إلى تخيلاته التي يرى الآخرون بأنها محض أضغاث وتخيلات طوباوية، غير مقدِّرة لجماليات المكان، أو لا تعدو كونها فرضيات تنبذ السائد دون ثمن أو بديل، تبحث عن المتغيِّر وعن إرساء المعقول في اللامعقول، لخَلْق جدل غير متناهٍ حول شكل الأشياء وتشكُّلها، إذ تختلط أحلام الطفولة بتهيؤات الكِبَر، فتتدفق الأشياء بصورة لا تخلو من العبث، حيث يتحول الظل الخاطف إلى وحش هلامي تحمله غيمة قاتمة، وساق الشجرة تنقلب إلى هراوة. وهذا الحيِّز الأخير قد يستميل مخيِّلة الطفولة لنَسْج ارتيابها من ارتجاج شجرة أو تجمُّع غيمة. القمر رأس الحرامي، والنجوم عيناه، وخشخشة أوراق الأشجار كلماته المبهمة. كانت هذه كلمات جدَّتي قبل النوم – "المسامير عظام" – ألم يتخيل ذلك شابلن في غمرة الجوع؟!
- الخيال هو الصانع الحقيقي للأشياء.
- لا أتفق مع العقل إلا بفعل الإرادة... (هذا ما كان يعتقده ضميري من قبل.) لم يَحِنِ الوقت لاستبدال عظة بالقبلة. ومن غير الممكن الاكتفاء بالحوارات الباطنية لِلَصْق شعار معقول على شفة إنسان حالم. أريد أن أسوق بعض الأمثلة إلى المنهمكين – مثلي – بعبث الخيال: تفكَّروا في النجاح الذي أحدَثَه قبحُ الضفدعة التي تحولت إلى "فولكس فاغن" تسير دون لهاث، ودون أيِّ ظمأ، والطير إلى طائرة، والبطة إلى سفينة، وقضيب الرجل إلى صاروخ أو منارة (بحسب فرويد). ضوء السيارة عينا إنسان تغمزان عند الضرورة. الآلة وأعضاؤها المتحركة والمتحسِّسة أيضًا. الفرامل تزعق بعد الضغط عليها بشدة، وكأنها تغضب أو ترفض الإهانة! الإنسان صانع البدائل، يتداولها وهو يشاهد التلفاز، وبمجرَّد إتيانها، يضغط على ريموت كونترول التنفيذ (العقل)، فتصير "مودرن" يغزو الأسواق. هكذا تستعر لعبة التصاميم لخَرْقِ العادة. الجسد الإيطالي الجميل المتمثِّل خارطتَها يتحول، في لحظة خيال شاذة في دماغ مصمِّم، إلى جزمة، نرتديها فيما بعد في الطرق الموحلة والمناطق المغمورة بالمياه الآسنة وغير الآسنة. استعاضوا بالباروكات عن الشعر الطبيعي. لعبة مصمِّمين. خيالهم يدرُّ ربحًا خياليًّا. فان غوخ جسَّد زهرة عباد الشمس بألوانها. كم بلغ سعرها في آخر مزاد عُرِضَتْ فيه؟
- ملايين نسيت عددها!
- أصابع فان غوخ كان لها الدور الأشمل في تحويل الزهرة الحية إلى أخرى متيقِّظة في تراخٍ على القماش.
- أين لحظة التخيل التي حولت الهواء إلى حقيقة؟ ليس في مقدور الأصابع أن تمسك بتلابيب الهواء. الأصابع روافع شوكية لا تخلو من الحسِّية العادية، واليد أداة مادية ليس في إمكانها أن تتعامل خارج ما هو مادي. الأصابع أداة، والأقدام عجلات اليد تقتل، والأقدام وسيلة للهرب. أعضاء الجسد تتواطأ لإخفاء الرذائل. لنأخذ وظيفة أكثر سموًّا للأصابع – تحديدًا أصابع قائد الأوركسترا الذي يستعين بالعصا في يد وأصابع اليد الأخرى من أجل قراءة موسيقية متوافقة مع حركة الموسيقيين، لأنه هو الهادي الوحيد في غابة الحروف وتشابُك الأوتار.
- في هذا الحيِّز أخذت الأصابع طابع اللسان. ليس بإمكان أحد ما أن يقلِّل من شأن أيِّ عنصر أو عضو من أعضاء الجسم البشري، لكن الأدوار والأولويات تختلف. الفم والمؤخرة – لا بدَّ من الاستدلال بهذا، على الرغم من السالب والموجب، يتجسدان هاهنا في صورة بشعة.
- عندما تصدح الموسيقى يكاد الجسد أن يحترق، أو تُعطَبُ أجزاء كثيرة منه، وهي تتناوب مفتعلةً شلالاً هادرًا متمردًا على طابع اليأس والكسل. (هذه أفعال خيالية: الكتابة، صنع الآلات، المقاعد، خياطة بدلات العازفين ودَوْزَنَة أوتارهم.) التصميم نزوع الخيال إلى البحث. خُذْ، مثلاً، التصاميم الإلهية التي تتخذ طابع التنوع وفرادتَه سمةً لها – وأكثر هذه التصاميم فرادةً الإنسانُ الذي يمتاز عن غيره بإدارة تبديد الغرائز.
- الغرائز الإلهية لا تنطوي على عملية الخلق فحسب، وإنما تتعدَّاها إلى الموت وثنائيات الموجودات. فما هي علاقة المرأة والرجل، الليل والنهار، الشمس إزاء القمر؟ القمر نقيضُه الظلام، والمرأة أليفُها الرجل. البحر مياه مالحة، والنهر مياه عذبة. البحر رجل جَلِفٌ، والنهر امرأة فاتنة. الشمس تبعث على الضجر، والقمر يبعث على الحلم. لسان، أذنان، يدان، قدمان، قضيب، مؤخرة. لسان ينطق، أذن تسترق السمع. العيون تصوِّر، والخيال يؤفلم ويؤرشف. الفم يتناول، والمؤخرة [...].
- دعنا في أروقة الروح، لا في زوايا الجسد. لكن ما هو شعور الأعمى في خضمِّ هذا كلِّه؟ – شعوره الطاغي في تخيل النهد والرسم بألوان الرماد. أو قُلْ إن روحه في سبات دائم للبحث عن المجهول في اللذة. تُرى أية غواية تجعل الله يذرف كلَّ هذا السيل من الألوان والرغبة في بثِّ الأرواح، وقتلها فيما بعد؟! خَلْق وتدمير (عبث). من غير الممكن ولوج غائيَّته ومعرفة دوافعه في ظلِّ الإتلاف المطَّرد للموجودات، مهما كانت أساليبُ الاستلهام التي من الممكن استخلاصها من عالم الوهم وصياغتها بخيال عابث، يستجلب أشباحه للحصول على قسط معقول من الفرضيات المريحة.
تذكَّر نتفًا من تلك الحوارات التي دارت في ذاته، والتي أضحى كنهُها مبهمًا، آخذًا في التبدد شيئًا فشيئًا مع ضوء الشمعة الذي خبا، مستسلمًا إلى ستارة الظلام وهي تُسدِل لونها الذي عمَّ أرجاء الغرفة مع انسكاب آخر خفقات الضوء.
* كاتب من العراق.