كنت في العاشرة من عمري، كانت تكلفني أمي بالتناوب مع أخواني الأكبر مني والأصغر بالذهاب للمخبز الذي كنا نسميه وقتها ( الفرّان )، لخبز العجين الذي ربما كان قد صادفني الدور لأعجنه في الليلة السابقة، في الصباح الباكر توقظني أمي قبل الجميع لأنه دوري، فذهبت بذلك العجين المقطع ككرات تملأ الكفين معاً، أحملها بالطبق المصنوع من قصب القمح، فأصل للمخبز وأضع طبقي على الرف بعد آخر طبق وصل قبلي لأحجز دوري بعده، وبقيت أنتظر ريثما وصل دوري وقام الخباز بدوره بفرد كرات العجين البلدي ليتمّ خبزها في الفرن الذي تفوح منه رائحة الخبز التي تفتح النفس في شتى مناطق الحي الذي يقع فيه.
بعد الانتهاء من الخبز وجمع الأرغفة بعد فردها وقتا قصيرا ليتشتت البخار المتصاعد منها الذي يعبق برائحة تشتهيها النفوس مع صحن زيت ترافقهما كأس الشاي تعدّ وجبة شهية لذيذة يتمناها الكبير والصغير والغني والفقير.
حملت طبقي على رأسي باتجاه العودة من حيث أتيت، كانت الساعة حينها السابعة والربع صباحا، وبعدما استدرت للغرب بزاوية قائمة ومسافة لا تزيد على عشرة أمتار، أحسست بيدٍ تداعب أذني اليمنى ثم تمسك خدّي الأيمن وتشدّ عليه بالإبهام والسبابة، ثم مشى ذلك الرجل على يساري حتى رأيت ملامح وجهه، ففوجئت به وخفت لأنه رآني أذهب للفران وأقوم بهذا العمل بهذا الوقت، لقد كان أستاذي الفاضل عبدالكريم شطناوي أبو أنس.
ابتسم بوجهي سائلا: ممكن تعطيني رغيف أفطر؟
أجبته بخجل بالغ وارتباك، حالتان كانتا تترافقان مع كل طالبِ يرى أستاذه في تلك الأيام، تلك الأيام التي كان فيها للأستاذ شأن عظيم، شأن يعود بالنفع على طلابه من علم وتربية ومتابعات بيتيّة بالتعاون ما بين الأستاذ وأهالي طلابه؛ أجبته ولساني لا يقوى على النطق كما هي طبيعتي.
أجبته: ( كل الخبز إلك يا أستاذ ).
ثم تابع بسؤالٍ آخربعد أن اقتطع قطعة صغيرة من رغيف: ماذا ستفطر مع خبزاتك الساخنات؟
وبدأ بأكلها مُظهرا تلذذه بلذة هذا الخبز البلدي.
فأجبته بنفس الحالة السابقة: زيت وزعتر وبيض مقلي يا أستاذ.
فأردف بسؤاله الثالث: تعزمني أفطر معك؟
فصار الخجل يرافقه الخوف عند هذا السؤال يتزاحمان في كل خلية من جسمي، أستغرب كيف يسألني أستاذي الفاضل هذا السؤال؟ وأسأل نفسي رغم صغر سني وقتها: هل يمكن أن يسأل أي أستاذ آخر نفس هذه الأسئلة لو صادفني بنفس الحالة؟ بماذا أجيبه.. كيف سأنطق جوابي له؟ كنت أتلعثم بنطق الحروف للأسئلة السابقات حتى سألني سؤاله الصاعق كما حسبته بنفسي.
فقلت: تـ.. تـ.. تفضل يا أستاذ.
قلتها وكل حرف يتحشرج بحنجرتي وعلى لساني حتى وصلته دعوتي التي كان جوابه عليها: شكرا يا ابني.. سلـّم على أبيك، قالها عند الزاوية التي سأستدير باتجاهها أكمل طريقي لبيتي وبقي هو يسير ذاهبا للمدرسة على استقامة الشارع.
وصلت للبيت وصوت بكائي يسبقني، سمعتني أمي، فتناولتْ الطبقَ عن رأسي، وتوجهتْ به للمطبخ ثم عادت إلي تسألني: ( فيه حدا ضربك يمه )؟
فقلت لها بصوت أشد حدة: لأ، حضر أبي الذي كان وقتها مدرسا في معهد معلمين حوارة المجاور لمدرستي مدرسة التطبيقات.
وأعاد السؤال بأسلوبه التربوي الحميم: شو صار معك يا حبيبي؟ فقهقه قهقة عالية الصوت هو وأمي بعد أن سمعا جوابي بأن الأستاذ عبدالكريم شطناوي قد رآني وأنا عائد من الفرّان وأحمل الخبز على رأسي وهو في طريقه للمدرسة.
ردّ أبي: طيب يابه وين المشكلة؟ وإذا رآك أستاذك ما الذي سيفعله لك؟
فقلت له: أن الأستاذ بدون أن يراني ممكن يعاقبني، فكيف إذا رآني وبالذات أنني احمل الخبز على رأسي عائدا من الفران وقبل دوام المدرسة بقليل.
لن أذهب اليوم إلى المدرسة، قلتها ولم أعد أتذكر إفطاري، مصرّا أن أبقى في البيت لأنجو من عقاب بسبب معونتي لأهلي، ضحك والداي كثيرا حتى شعرت أنهما يستخفان بي.
وقالا معا وبصوت واحد: لا، بدّك تروح غصبٍ عنك، وأستاذك مش رايح يلمسك ولا يعاقبك، ثم قالت أمي: قوم يمّه اِلْحَقْ فطورك وروح على مدرستك.
فقلت وما زلت أشعر برهبة بنفسي من الحوار الطيّب اللطيف الذي حاورني به: بشرط أن يذهب معي أبوي للمدرسة، فردّ أبي: يابه روح أنت لمدرستك وأنا سأذهب بعدك بنصف ساعة، فقبلت رأيه بغير قناعة وذهبت.
بعدما انتهى الطابور الصباحي وبعد دخولنا للصفوف أخذنا الحصة الأولى لتأتي بعدها حصة اللغة العربية، الحصة التي بدأت أخافها رغم اجتهادي البالغ بها، ورغم أنني كنت من أبرز المشاركين في الصف بإجابة الأسئلة التي يسألها الأستاذ عبدالكريم لطلاب الصف، ولم يصدف يوما أن خطـّأني على جواب أجبته قط، بدأت الحصة، دخل الأستاذ الفاضل، مفاجئا الجميع بسؤال: من منكم يحب التعاون؟ وضعت رأسي بين يداي أنظر للأسفل ولا أجرؤ بالنظر إليه، فأجابه أغلب الطلاب أنهم يحبون التعاون، فسأل سؤالا آخر: ما هي وجوه التعاون التي يمكن أن نتعاون بها مع أهلنا؟ فأجيب على سؤاله بأجوبة كثيرة لا داعي لذكرها لكثرتها، ثم اقترب مني وقال هناك وجه من وجوه التعاون لم يُذكر بعد، قف يا جواد، أليس لديك جواب؟ وجه سؤاله لي وأنا ما زلت أتجنب أن تنظر عينه بعيني، لكنني وقفت ولم أجب.
فقال أستاذي الفاضل: ممكن يا جواد تحكي لزملائك كيف قدمت المعونة اليوم لأهلك؟
فخجلت أن أجيب لئلا يعرف زملائي أيضا أنني أقوم بعمل على الأغلب تقوم به النساء، وهو حمل أطباق الخبز على رؤوسهن، فكيف أقوم أنا بذلك؟
ثم ربَتَ على كتفي وقال للطلاب أنا أعرف معونته الرائعة التي قدمها لأهله اليوم، لقد ذهب للفرّان لأجل الخبز، وحينما كان عائدا لقيته عند خروجي من بيتي القريب من الفرّان، وأكلت من خبزاته وأثنيت عليه، وأتمنى أن تكونوا كلكم مثل جواد.
وبعد الانتهاء من هذا السرد الذي أنعش صدري بأسلوب تربوي رائع.
قال لي سائلا: هل كنت تتوقع أنني سأعاقبك لأنك ذهبت للفران؟
فقلت بخجل وابتسامتي تظهر على محياي: نعم يا أستاذ.
فقال: لو لم تكن أنت المعين لأهلك هل سآتي أنا وأقوم بهذه المعونة بدلا منك، قال هذا السؤال مختتما الحوار بضحكة شاركناه فيها أنا وجميع الطلاب الذين غاروا مني على هذه المعاملة الخاصة من أستاذنا الذي لم ولن يُنسى ما حيينا إن شاء الله تعالى.
بعد الانتهاء من الخبز وجمع الأرغفة بعد فردها وقتا قصيرا ليتشتت البخار المتصاعد منها الذي يعبق برائحة تشتهيها النفوس مع صحن زيت ترافقهما كأس الشاي تعدّ وجبة شهية لذيذة يتمناها الكبير والصغير والغني والفقير.
حملت طبقي على رأسي باتجاه العودة من حيث أتيت، كانت الساعة حينها السابعة والربع صباحا، وبعدما استدرت للغرب بزاوية قائمة ومسافة لا تزيد على عشرة أمتار، أحسست بيدٍ تداعب أذني اليمنى ثم تمسك خدّي الأيمن وتشدّ عليه بالإبهام والسبابة، ثم مشى ذلك الرجل على يساري حتى رأيت ملامح وجهه، ففوجئت به وخفت لأنه رآني أذهب للفران وأقوم بهذا العمل بهذا الوقت، لقد كان أستاذي الفاضل عبدالكريم شطناوي أبو أنس.
ابتسم بوجهي سائلا: ممكن تعطيني رغيف أفطر؟
أجبته بخجل بالغ وارتباك، حالتان كانتا تترافقان مع كل طالبِ يرى أستاذه في تلك الأيام، تلك الأيام التي كان فيها للأستاذ شأن عظيم، شأن يعود بالنفع على طلابه من علم وتربية ومتابعات بيتيّة بالتعاون ما بين الأستاذ وأهالي طلابه؛ أجبته ولساني لا يقوى على النطق كما هي طبيعتي.
أجبته: ( كل الخبز إلك يا أستاذ ).
ثم تابع بسؤالٍ آخربعد أن اقتطع قطعة صغيرة من رغيف: ماذا ستفطر مع خبزاتك الساخنات؟
وبدأ بأكلها مُظهرا تلذذه بلذة هذا الخبز البلدي.
فأجبته بنفس الحالة السابقة: زيت وزعتر وبيض مقلي يا أستاذ.
فأردف بسؤاله الثالث: تعزمني أفطر معك؟
فصار الخجل يرافقه الخوف عند هذا السؤال يتزاحمان في كل خلية من جسمي، أستغرب كيف يسألني أستاذي الفاضل هذا السؤال؟ وأسأل نفسي رغم صغر سني وقتها: هل يمكن أن يسأل أي أستاذ آخر نفس هذه الأسئلة لو صادفني بنفس الحالة؟ بماذا أجيبه.. كيف سأنطق جوابي له؟ كنت أتلعثم بنطق الحروف للأسئلة السابقات حتى سألني سؤاله الصاعق كما حسبته بنفسي.
فقلت: تـ.. تـ.. تفضل يا أستاذ.
قلتها وكل حرف يتحشرج بحنجرتي وعلى لساني حتى وصلته دعوتي التي كان جوابه عليها: شكرا يا ابني.. سلـّم على أبيك، قالها عند الزاوية التي سأستدير باتجاهها أكمل طريقي لبيتي وبقي هو يسير ذاهبا للمدرسة على استقامة الشارع.
وصلت للبيت وصوت بكائي يسبقني، سمعتني أمي، فتناولتْ الطبقَ عن رأسي، وتوجهتْ به للمطبخ ثم عادت إلي تسألني: ( فيه حدا ضربك يمه )؟
فقلت لها بصوت أشد حدة: لأ، حضر أبي الذي كان وقتها مدرسا في معهد معلمين حوارة المجاور لمدرستي مدرسة التطبيقات.
وأعاد السؤال بأسلوبه التربوي الحميم: شو صار معك يا حبيبي؟ فقهقه قهقة عالية الصوت هو وأمي بعد أن سمعا جوابي بأن الأستاذ عبدالكريم شطناوي قد رآني وأنا عائد من الفرّان وأحمل الخبز على رأسي وهو في طريقه للمدرسة.
ردّ أبي: طيب يابه وين المشكلة؟ وإذا رآك أستاذك ما الذي سيفعله لك؟
فقلت له: أن الأستاذ بدون أن يراني ممكن يعاقبني، فكيف إذا رآني وبالذات أنني احمل الخبز على رأسي عائدا من الفران وقبل دوام المدرسة بقليل.
لن أذهب اليوم إلى المدرسة، قلتها ولم أعد أتذكر إفطاري، مصرّا أن أبقى في البيت لأنجو من عقاب بسبب معونتي لأهلي، ضحك والداي كثيرا حتى شعرت أنهما يستخفان بي.
وقالا معا وبصوت واحد: لا، بدّك تروح غصبٍ عنك، وأستاذك مش رايح يلمسك ولا يعاقبك، ثم قالت أمي: قوم يمّه اِلْحَقْ فطورك وروح على مدرستك.
فقلت وما زلت أشعر برهبة بنفسي من الحوار الطيّب اللطيف الذي حاورني به: بشرط أن يذهب معي أبوي للمدرسة، فردّ أبي: يابه روح أنت لمدرستك وأنا سأذهب بعدك بنصف ساعة، فقبلت رأيه بغير قناعة وذهبت.
بعدما انتهى الطابور الصباحي وبعد دخولنا للصفوف أخذنا الحصة الأولى لتأتي بعدها حصة اللغة العربية، الحصة التي بدأت أخافها رغم اجتهادي البالغ بها، ورغم أنني كنت من أبرز المشاركين في الصف بإجابة الأسئلة التي يسألها الأستاذ عبدالكريم لطلاب الصف، ولم يصدف يوما أن خطـّأني على جواب أجبته قط، بدأت الحصة، دخل الأستاذ الفاضل، مفاجئا الجميع بسؤال: من منكم يحب التعاون؟ وضعت رأسي بين يداي أنظر للأسفل ولا أجرؤ بالنظر إليه، فأجابه أغلب الطلاب أنهم يحبون التعاون، فسأل سؤالا آخر: ما هي وجوه التعاون التي يمكن أن نتعاون بها مع أهلنا؟ فأجيب على سؤاله بأجوبة كثيرة لا داعي لذكرها لكثرتها، ثم اقترب مني وقال هناك وجه من وجوه التعاون لم يُذكر بعد، قف يا جواد، أليس لديك جواب؟ وجه سؤاله لي وأنا ما زلت أتجنب أن تنظر عينه بعيني، لكنني وقفت ولم أجب.
فقال أستاذي الفاضل: ممكن يا جواد تحكي لزملائك كيف قدمت المعونة اليوم لأهلك؟
فخجلت أن أجيب لئلا يعرف زملائي أيضا أنني أقوم بعمل على الأغلب تقوم به النساء، وهو حمل أطباق الخبز على رؤوسهن، فكيف أقوم أنا بذلك؟
ثم ربَتَ على كتفي وقال للطلاب أنا أعرف معونته الرائعة التي قدمها لأهله اليوم، لقد ذهب للفرّان لأجل الخبز، وحينما كان عائدا لقيته عند خروجي من بيتي القريب من الفرّان، وأكلت من خبزاته وأثنيت عليه، وأتمنى أن تكونوا كلكم مثل جواد.
وبعد الانتهاء من هذا السرد الذي أنعش صدري بأسلوب تربوي رائع.
قال لي سائلا: هل كنت تتوقع أنني سأعاقبك لأنك ذهبت للفران؟
فقلت بخجل وابتسامتي تظهر على محياي: نعم يا أستاذ.
فقال: لو لم تكن أنت المعين لأهلك هل سآتي أنا وأقوم بهذه المعونة بدلا منك، قال هذا السؤال مختتما الحوار بضحكة شاركناه فيها أنا وجميع الطلاب الذين غاروا مني على هذه المعاملة الخاصة من أستاذنا الذي لم ولن يُنسى ما حيينا إن شاء الله تعالى.